د/محمد إبراهيم العشماوي
منَ الأَبياتِ التيْ أحبها، وَأكثرُ منْ ترْدَادِها منْ يوْمِ أنْ حفظتها؛ لما اشتملتْ عليهِ منْ معانيْ الذُّلِّ وَالخضوعِ للهِ سبحانهُ؛ قوْلُ الشاعرِ:
يا منْ ألوذُ بهِ فيما أُوملهُ... وَمنْ أعوذُ بهِ مما أُحاذِرُهُ !
لا يجبرُ الناسُ عظماً أنتَ كاسرُهُ... وَلا يهيضونَ عظماً أَنتَ جابرُهُ!
وَقدْ كنتُ أَحسبُ أَنَّ هذَا الشعرَ لبعضِ العبادِ وَالمتزَهدِينَ فإِذَا هوَ للمتنبيْ، قالهُ يمدَحُ بهِ إِنساناً، وَقدْ وَافقتُ فيْ هذَا الحسبانَ كلامَ الإِمامِ ابنِ تيميةَ رَحمهُ اللهُ؛ فقدْ حكى عنهُ الحافظُ ابنُ كثيرٍ فيْ تارِيخهِ أَنهُ كانَ ينكرُ على المتنبيْ هذِهِ المبالغةَ فيْ مخلوقٍ، وَيقولُ: إِنما يصلحُ هذَا لجنابِ اللهِ سبحانهُ وَتعالى!
وَأَعجبُ منْ هذَا أَنَّ الإِمامَ ابنَ القيمِ حكى عنه أَنهُ قالَ: رُبما قلتُ هذَينِ البيتينِ فيْ السجودِ، أَدْعو اللهَ بما تضمناهُ منْ معانيْ الذُّلِّ والخضوعِ!
قلت: وهذا من فقه النظر إلى المعاني الذي اختص به الكبار كابن تيمية، فلو أنه وقف مع ظاهر اللفظ لم يستجز أن يدعو الله بالشعر في الصلاة، لما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث معاوية بن الحكم السلمي: « إِنَّ صلاَتنا هذِهِ لاَ يصلحُ فيها شيْءٌ منْ كلاَمِ الناسِ، إِنما هوَ التسبيحُ وَالتكبيرُ وَتلاَوَةُ القرْآنِ ».
والشعر من كلام الناس قطعا، مع ما فيه من الأوزان والألحان المنافية للخشوع؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم" عنْ تناشدِ الأَشعارِ في المسجدِ" كما رواه أحمد والترمذي - وحسنه - والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، فكيف في الصلاة؟!
ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف أنه دعا الله بالشعر في صلاته، وإنما جرى ذلك منهم في غير الصلاة!
ولكن بالنظر إلى معناه؛ فهو متضمن معنى الذل والخضوع، وهما لا يليقان إلا بجناب الله سبحانه، فصحَّ استعماله في أدعية السجود من هذا الوجه، وهو بهذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: " أَقرَبُ ما يكونُ العبدُ منْ رَبهِ وَهوَ ساجدٌ، فأَكثرُوا الدُّعاءَ".
وقد جوز بعض الفقهاء استعمال المصلي بعض آيات القرآن في معنى التنبيه حتى لا تبطل الصلاة باستعمال كلام الناس، وهذا أيضا من فقه النظر إلى المعاني، وقد كان الدارقطني يفعله في تنبيه من يقرأ عليه أثناء الصلاة إلى خطئه في أسامي الرواة، ولم أزل متعجبا من ذلك!
إن ابن تيمية فقيه مرنٌ، ومرونته جعلتهُ يستدعي هذه النصوص وهو يفعل شيئا ما أظن فقيها فعله أو استجاز فعله، ولكنه هنا جارٍ على قاعدة الشريعة الكلية في مراعاة المعاني، وهي القاعدة التي تقول:" الأمور بمقاصدها"، وهي منتزعة من حديث "الأعمالُ بالنيات" الذي قال عنه الإمام الشافعي: ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه.
وكذا قال الإمام أحمد: إن أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، هذا أحدها.
وقال إسحاق: أربعة أحاديث.
ونظمها بعضهم في قوله:
عمدةُ الدين عندنا كلماتٌ...مسنداتٌ من قول خير البريةْ!
"اتق الشبهات"، "وازهد"، "ودع ما...ليس يعنيك"، "واعملنَّ بنيةْ"!
رحم الله شيخ الإسلام، فكم له من اجتهادات حيرت العقل، ولكنها تدلُّ على إمامته وتفرُّده!