مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
العلاقات الإنسانية في الفقه الإسلامي

العلاقات الإنسانية في الفقه الإسلامي

سليمان السويد

لا يخفى على ذي لبّ اطّلع على هذا الدين العظيم شموليته لمصالح العباد الدينية والدنيوية، وأن جميع تشريعاته وأحكامه تدور مع المصلحة الحقة للإنسان، وأن من المصلحة الكبرى في حياة الإنسان صلاح علاقاته بمن حوله؛ فمن ضرورات حياة الإنسان مخالطته ومعاشرته لبني جنسه، لإشباع حاجات نفسية ومادية عديدة لديه. ومن هنا كانت الحاجة إلى تنظيم هذه المخالطة والحفاظ عليها ضمن مسار سليم أمراً ضرورياً لجميع الأطراف، حتى تنشأ صيغة عادلة لتبادل المصالح. وفي هذا السياق، فقد حاولت جميع التشريعات -بما فيها الوضعية- تحقيق هذه الصيغة، لكنها حققت نجاحاً متفاوتاً في مدى توافق تشريعاتها مع هذا الغرض. هذا التفاوت راجع لمنشئها؛ فالقوانين الوضعية -وأكثر التشريعات المطبقة في عصرنا هي تشريعات وضعية- القصور فيها أمر متوقع لقصور إدراك منشئها (العقل البشري)، بينما جاءت التشريعات السماوية الربانية -لعلم وحكمة مشرعها- ملبية لحاجات البشرية على أكمل وجه.

كمال التشريع الرباني

ومن هذا الكمال مراعاة التشريع الإسلامي ليس فقط لقيمة العدل في تنظيم الحياة الاجتماعية بل وأيضاً لأهمية بقاء العلاقة الإنسانية واستمرارها؛ فقد حافظ التشريع الإسلامي على العلاقة بين أي طرفين من خلال مراعاته لأصل العدل وعدم الظلم لأحد الطرفين، وغالباً ما يكون هذا بتفويت مصلحة أقل في سبيل بقاء العلاقة الإنسانية بين الطرفين، وهذا التوازن العجيب ما كان ليصل إليه العقل البشري حتى لو أدرك أصل فائدته؛ لأنه قد يجحف في حق طرف لصالح آخر، مما يوقعه فيما فر منه. وهنا سأقف مع بعض أحكام التشريع الإسلامي لبيان وجه مراعاتها لهذا الجانب: بداية يمكن تقسيم الأحكام الشرعية التي راعت جانب العلاقات الإنسانية -إما من حيث إيجادها أو المحافظة عليها- إلى قسمين: 1- أحكام شرعية متعلقة بالآداب: كالسلام، الهدية، العيادة، وتشميت العاطس، والإعانة... الخ. 2- أحكام شرعية متعلقة بالمعاملات (مالية أو أحوال شخصية...)، وهذه يمكن تقسيمها إلى نوعين : الأول: ما كان فعله (ومنه الترك) على سبيل الاستحباب ( كالإقالة..). الثاني: ما كان فعله على سبيل الوجوب والحتم.

حق الشفعة

وموضوعنا يتناول النوع الثاني من القسم الثاني (ما كان فعله على سبيل الوجوب والحتم)؛ إذ إنه أكثر تأكيداً على مراعاة الشريعة الإسلامية لجانب العلاقات الإنسانية، ولأن القسم الأول والنوع الأول من القسم الثاني وُجِد الكثير منه في المجتمعات (كعرف اجتماعي). ولهذا ستكون الأمثلة من النوع الثاني، أي الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات، التي يكون الفعل فيها على سبيل الوجوب والحتم. المثال الأول: حق الشفعة . فالشفعة في حقيقتها قصر لحق المالك في التصرف بملكه لتعلقه بالشراكة، وقال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ). [ص:24]، ولذا فقد أعطت الشريعة الحق للشريك في شراء نصيب شريكه، فكان هذا التشريع حسماً لمادة الخصومة قبل نشوئها ولبقاء الأخوة الإسلامية والعلاقة الطيبة بين المسلمين. ومن يتأمل تفاصيل أحكام الشفعة يرى كيف راعت الشريعة حق الشريك البائع، بحيث قيدت مدة حق الشفعة بأجل معلوم.

تنظيم إلهي

المثال الثاني: أحكام متعلقة بالمحرمات للمصاهرة: وهذا الملحظ عجيب قلما تفطن له العقول البشرية، وهو ما يتعلق في بعض المحرمات بالمصاهرة؛ إذ فرقت الشريعة في أحكام المحرمات بالمصاهرة مراعاة للصلة بين أطراف النكاح فكانت على أقسام: وهي: ** المحرمات على التأبيد: كزوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة. فالملاحظ على هذا الصنف يجد أن الخلطة بين أطرافه كثيرة، مما يجعل فكرة الارتباط لو كانت متاحة شرعاً، مثاراً للشك، فجاء الشرع، وقطع الطريق على أية شكوك محتملة بتأبيد الحرمة. وفي أحكام المحرمات على التأبيد نجد تفريقاً عجيباً مبناه على حكمة اللطيف الخبير بنفوس عباده: إذ فرّقت الشريعة بين تحريم أم الزوجة وبنت الزوجة، فاشترطت لتحريم بنت الزوجة الدخول بالأم، بينما لم تشترط هذا الشرط في تحريم أم الزوجة، وهذا -والله أعلم- مبناه على كمال شفقة ومحبة الخير من الأم لبنتها، بينما قد لا يوجد هذا لدى البنت تجاه أمها. ** المحرمات لوقت: كأخت الزوجة أو عمتها أو خالتها. فنجد الشرع هنا راعى القرابة بين الزوجة وأختها أو عمتها أو خالتها، ولأن هذه الصلة أقل من صلة الأبوة أو البنوة كان مراعاة حق الطرف الآخر حاضراً في إنهاء التحريم عند انتهاء العلاقة الأولى. قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا). [النساء :23].

تجنّباً للشقاق

المثال الثالث: العدل بين الأولاد في الهبات: هذا العدل الذي أمرنا به الله سبحانه وتعالى يهدف إلى الحفاظ على رابط الأخوة بين الأبناء، ولذا سمى الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفته (جوراً) مع أن الأصل حق الوالد في التصرف بماله، ولو أعطاه غريباً لما وقع في الجور. المثال الرابع: وهي عدة أحكام راعت حق الأخوة الإيمانية، ونزعت بذور الفتنة والشقاق بين المسلمين ومنها: ** النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه. ** النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه. لأن النفس إذا تعلقت بمال أو امرأة، ثم فاته هذا، فإن هذا الفوات قد يؤدي لحدوث توتر وقطيعة مع الطرف المتسبب في ذلك، ولمّا كان هذا الأمر يقل في بيع السوْم (المزاد) لتوقع حدوثه من البداية، ولتكافؤ الطرفين؛ إذ لم يسبق أحدهما الآخر، فقد أباحته الشريعة.

حماية الأسرة

المثال الخامس: الطلاق؛ إذ إن تشريع الطلاق في أصله هو حماية للأسرة التي وصلت العلاقة بين طرفيها إلى طريق مسدود، ومع هذا فقد جعل الشرع الطلاق الشرعي (السني) يمر عبر مراحل زمنية وشروط تضمن أن يكون قرار الطلاق مدروساً ومبنياً على قناعة وليس عن انفعال مؤقت، وهذه المراحل والشروط جاء تشريعها حفاظاً على هذه الرابطة المقدسة. ومن تشريعات الطلاق التي تحافظ على هذه العلاقة الزوجية: ** الأمر ببقاء المرأة في بيت الزوجية بل وتسمية البيت باسمها قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ). [الطلاق:1]. ** تمكين الرجل حتى بعد قرار الطلاق من الرجعة خلال العدة. ** جعل الطلاق الرجعي مرتين مما يتيح الفرصة لمراجعة القرار. ** إمكانية الزواج مرة أخرى ممن انتهت عدتها في الطلاق الرجعي بعقد جديد. ** إمكانية الزواج حتى بعد الطلاق البائن بشرط زواجها من آخر. والملاحظ أن إبقاء فرص العودة للحياة الزوجية يزداد صعوبة على الرجل كلما طالت المدة من حين وقوع الطلاق، مما يحث الرجل على مراجعة قراره قبل فوات الأوان. ومن الأمثلة العجيبة في الطلاق والتي تراعي العلاقة الإنسانية في مرحلة يظن المرء فيها أنها وصلت لأسوأ الظروف وهي: متعة الطلاق، حيث قال تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). [البقرة:241]. ونلحظ في الخطاب القرآني ’’تطييب نفس’’ المطلقة وإرجاع أصل الأخوة الإسلامية بعد زوال الرابطة الزوجية. المثال السادس: نهْيُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار حتى تزهي. فقيل له: وما تزهي؟. قال: حتى تحمرّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه’’، وفي هذا الحديث فوتت الشريعة على المتابعين فرصة مصلحة الشراء المبكر، مع أن العقد لم يكن فيه تحايل من البائع وكان بعلم المشتري، مما يقوّي أن النهي عن البيع كان مراعاة لجانب نزع فتيل المشاحنات التي تحدث عند فساد الثمرة. وبعض العلماء يقول: إن المصلحة هي المحافظة على مال المشتري ومنعه من تعريض ماله للخسارة، وفي ظني أن لا تعارض بين السببين، والله أعلم.

قواعد عامة

ويمكن تلخيص ما سبق في عدة قواعد عامة، أبرزها:
** مراعاة الشريعة للعلاقات الإنسانية من خلال العديد من أحكام المعاملات المالية والأحوال الشخصية.
** لم تغفل الشريعة أصل حق الفرد عندما راعت الحفاظ على العلاقات الإنسانية.
** المحافظة على العلاقات الإنسانية لم يكن بدرجة واحدة، بل كان يتأثر قوة وضعفاً بقوة الحق للفرد أو لقوة العلاقة الإنسانية المراد المحافظة عليها. وفي الختام فلعل الباحث بتمعن في كتب الفقه ومسائله يجد أمثلة كثيرة قد تكون كافية لإخراج كتاب للمكتبة الإسلامية يظهر –وبجلاء- أحد أوجه الإعجاز التشريعي الذي تتمتع به شريعتنا الغراء.
===نوافذ
أضافة تعليق