ثنائية الاستبداد/الحرية في نظر الكواكبي
سمير أبو حمدان
إن أحداً من مصلحي القرن التاسع عشر ومفكريه لم يبارز الاستبداد مثلما بارزه عبد الرحمن الكواكبي...كيف لا وهو الذي عانى،كما لم يعان أحد غيره،من الاستبداد الحميدي (نسبة الى السلطان عبد الحميد)!غير أن فلسفة عبد الرحمن في الاستبداد لم تصدر عن تجربته الذاتية بقدر ماصدرت عن نظر عقلاني هاديء يتمحور حول أقطاب ثلاثة:الفرد والمجتمع والدولة.إن هذه الأقطاب الثلاثة يرتبط بعضها بالبعض الآخر
وفق علاقة جدلية لايمكن تفكيكها.من هنا سعي الكواكبي الى نهضة الدولة بواسطة التقيد بالقوانين والدساتير.والكواكبي لم يجد ما هو أكثر استبداداً من حاكم مطلق الصلاحية ولاحدود لتصرفه في شؤون الدولة والرعية.فمثل هذا الحاكم،وهو مستبد بحكم يده الطليقة من أي قيد أو قانون،’’يتحكم في شوؤن الناس بارادته لابارادتهم ويحكمهم بهواه لابشريعتهم ،ويعلم من نفسه أنه الغاضب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته’’.على أي حال فانه ينبغي أن نتفق على أن (فلسفة الاستبداد)التي وضع عبد الرحمن مبادئها رمت،من وجه أول،الى هدم النظام السياسي العثماني الذي كان المعوق الأساس لنهضة العرب والمسلمين.وإذ طالب بالأخذ من المدنية الغربية بكل مايمكن أن ينهض بحياة العرب والمسلمين،السياسة والاجتماعية والاقتصادية،دعا في الوقت نفسه الى سن قوانين ’’مبنية على العدالة الاجتماعية’’.فالعدالة والحرية والمساواة والديمقراطية،إن هذه المفاهيم مجتمعة،اختفت من المجتمعات العربية - الاسلامية.وسبب ذلك هو (الاسلام العثماني )،كما يمكن أن نعبر،الذي أطلق يد الحاكم المستبد الذي لايردعه قانون ولايقيده دستور.وهذا (الاسلام)الذي شهد
بفضل العثمانيين عدداً من (الاضافات والمزيدات)،يختلف عن الاسلام الأول،البعيد عن البدع والخرافات،والذي يعتبر الشورى(=الديمقراطية)والحرية والعدل والمساواة من مقوماته الأساسية التي لايجوز التخلي عنها.ومن هنا رؤية الكواكبي بأن نهضة العرب والمسلمين يمكن لها أن تتأسس من جديد على (المشرب السلفي المعتدل)أي على الاسلام الأول،اسلام الينابيع،الحضاري،المنفتح على منجزات الآخر وثقافته.إنه -بمعنى آخر-ذلك الاسلام الذي لم تمسه يد العثمانيين.وعلى الرغم من أن الكواكبي رأى الى هذا الاسلام على أنه طاقة يجب الاستفادة منها في فعل النهضة والتقدم غير أنه،وفي موازاة ذلك،دعا الى الأخذ بمنجزات الحضارة الغربية،وهي الحضارة الفتية التي يمكن للعرب والمسلمين ومن طريق الأخذ بالمفاهيم التي أطلقتها (حرية -إخاء-مساواة)،أن يحققوا أمرين:-نهضة مجتمعاتهم وتقدمها،-وتحررهم من نير العثمانيين.إن عبد الرحمن الكواكبي،وكبديل من نمط الحكومات السائد في البقعة العربية-الاسلامية،اقترح نمطاً من الحكم،دستوري النزعة،يخضع لسيطرة الأمة والقانون،وتالياً لاتخضع لارادة الأمة،إنما هي حكومات مستبدة،تقف ضد تطور الشعوب وتقدمها.فالمطلوب،وفق الأنظمة الدستورية،أن يراقب الشعب حكومته،ويحاسبها.وعلى هذا الأساس فان الحكومة ’’لايخرج عن وصف الاستبداد (أي لاتخرج عن كونها مستبدة)مالم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي تسامح فيه’’.ولئن كان ينهد الى الترويج لقيام الحكومات ذات المضمون الديمقراطي،وعلى نمط ما هو سائد في الغرب،لكنه لاينفك يعود الى خزائن المأثور الاسلامي ليستمد منها مفاهيم تصلح أساساً لبناء الدولة الحديثة.فهو دعا -وانطلاقاً من أن (إدارة الدين)اتحدت في المجتمع العربي الاسلامي ب(إدارة الملك)الى الأخذ بنوع من الارستقراطية في الحكم،أي الاعتماد على (الأشراف) في الامساك بزمام الأمور في الدولة الحديثة.فهو يرى أن ’’الاسلامية مؤسسة على أصول الادارة الديمقراطية،أي العمومية،والشورى الارستقراطية،أي شورى الأشراف’’.لكننا هنا يجب ألا نتسرع فنحمل كلام الكواكبي على غير محمله لجهة تفسير كلمة(الأشراف).فهو لايعني بهم اولئك الذين ينتمون الى طبقة اجتماعية معينة،وقد ورثوا هذا اللقب أباً عن جد،وإنما من نتوسم فيهم الشرف والكبرياء والحكمة والأنفة والشهامة وسعة المعرفة وأهليتهم للحكم.بكلمة أخرى فهو لايشير بهذا المصطلح الى أصحاب الحسب والنسب حيث ’’أن اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلان،ولاعجب،فعل المستبد
العادل،أي عنقاء مغرب’’،وإنما يشير-كما نوهنا قبل قليل-الى الذين يعتبرون أهلاً للحكم من جميع الوجوه.أما (الأصلاء)أو (الأشراق)الذين حملوا ألقابهم في ظروف معينة،فهم ’’جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل،لأن آدم داموا اخواناً متساوين الى أن ميزت (الصدفة)بعض أفرادهم بكثرة النسل فنشأ منها القوات العصبية’’.إذن فان الكواكبي لايدعنا في حيرة من أمرنا بالنسبة لتحديد هذا المصطلح،أي مصطلح الأشراف.فهم ينتمون الى سائر طبقات الشعب،وقد حازوا على (شرفهم)بالعلم والمعرفة والنبل والترفع عن الصغائر وأهلية الحكم.ويعمل الكواكبي على التوفيق بين مفاهيم الحداثة الأوروبية والمفاهيم المستمدة من الاسلام،وذلك إبان دعوته الى قيام سلطات تشريعية(مجالس نواب)تراقب الحكومات وتحاسبها.فالأمم المتحضرة،على رأي الكواكبي،’’خصصت منها جماعات باسم مجالس نواب،وظيفتها السيطرة والاحتساب على الادارة العمومية السياسية (أي السلطة التنفيذية)’’.ويقارن بين هذه المجالس وبين ماأمر به القرآن الكريم حيث أن ذلك ’’منطبق تماماً على ماأمر به القرآن الكريم في آية:(ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)وفي كمالة هذه الآية وهي(وأولئك هم المفلحون)من
التبجيل مايحمل نفوس الابرار على تحمل مضض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها،الممقوتة طبعاً عند المستبد وأعوانه’’.إن الديمقراطية الارستقراطية،ديمقراطية (الأشراف)،لهي النظام السياسي الأمثل الذي ينهد إليه الكواكبي،إنه النظام الذي يجعل الدولة في خدمة الرعية،وليس عكس ذلك.ومن هنا فقد بات تحمل هذا العبء والاضطلاع به(وظيفة شريفة في ذاتها)حسب تعبير عبد الرحمن،وهي وظيفة (ممقوتة من المستبد وأعوانه)لالشيء إلا لأنها تحد من سلطتهم وتجعلهم خاضعين للقانون ولارادة الأمة.ومما لايرقي إليه الشك أن الميزة التي وسمت عبد الرحمن الكواكبي،من بين مغكري عصر النهضة كافة،أنه قدم وصفاً متماسكاً،وبل فريداً في أسلوبه لآفة الاستبداد.فبعد أن لاحظ بأن الأمم الحرة والمتمدنة أطلقت حرية القول والكتابة والتأليف والنشر،وحرية التعبير المخالف والمضاد للسلطة،وجد أن أنظمة الاستبداد التي ابتلى فيها المسلمون قيدت الأيدي بسلاسل من حديد وكمت الأفواه عن النطق بالحق.وهذا من طبيعة الاستبداد إذ لاشيء يقض مضجعه غير الحرية.وإذ شخص الكواكبي نحو البقعة العربية-الاسلامية التي تستظل بالاستبداد العثماني،وجد أن لامكان للحرية ولالكرامة الفرد والمجتمع.وقد لاحظ أن
الاستبداد الذي مارسه العثمانيون بأبشع صوره وأساليبه،نهض على رافعتين :الرافعة الأولى تمثلت بالجهل الذي فشا بين الرعية وجعلها لاتدرك حقيقة مايجري حولها ويحاك ضدها،أما الرافعة الثانية فتمثلت في عسكرة الدولة لدرجة أنها باتت تفتقد الى أي طابع مدني،وهو الطابع الذي يسم الدولة الديمقراطية ويميزها.إذن ’’جهالة الأمة،والجنود المنظمة’’هما الأساسان الرئيسان اللذان نهض عليهما الاستبداد في بلدان المشرق العربي والاسلامي،وهما يمثلان،بتعبير عبد الرحمن ’’القوتين الهائلتين المهولتين’’اللتين أفسحتا في المجال أمام المستبد لكي يذهب بعيداً في استبداده.لكن عبد الرحمن الكواكبي يضيف الى هاتين ’’القوتين المهولتين’’قوات،أخرى اعتبرها من ركائز الاستبداد ومنها:’’قوة الارهاب،وقوة المال،وقوة الألفة(التعود)على القسوة،وقوة رجال الدين،وقوة أهل الثروات،وقوة الأنصار من الأجانب’’.ولئن كان الكواكبي قد أسهب في وصف الاستبداد وفي تعريف الأسس التي ينهض عليها،غير أنه لم يقف عند حدود الوصف،وإنما تجاوز ذلك الى اقتراح مايمكن أن ينجي المسلمين والعرب من مخالبه.فقد أكد على ضرورة أن يستبدل نظام الحكم المطلق،حكم الفرد الذي لايقيده قانون ولاشريعة،الى نظام الدولة الحديثة القائمة على الدستور،وعلى الحرية السياسية.وطالما الحديث عن الاستبداد والمستبدين،فان عبد الرحمن الكواكبي،وقف ضداً لذلك(المصطلح الذي انتشر في أواخر القرن التاسع عشر والمؤيد لما أصبح معروفاً ب(المستبد العادل).(فهو لم ير،مثلما رأى غيره،بأن ثمة استبداداً عادلاً وآخر غير عادل،وإنما ذهب الى أن الاستبداد واحد،مع بعض فروق في الشكل.)وفي هذا يقول:’’قد يدخل على الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الادارة الحرة،ويسلمون له بها،فيقولون:الاستبداد يعلم الطاعة والانقياد،والحق أن هذا فيه عن خوف وجبانة لاعن إرادة واختيار!ويقولون :هو يربي النفوس على احترام الكبير وتوقيره،والحق أنه مع الكراهية والبغض،لاعن ميل وحب!ويقولون :الاستبداد يقلل الفسق والفجور،والحق فيه أنه عن فقر وعجز،لاعن عفة ودين!ويقولون:هو يقلل الجرائم،والحق أنه يخفيها فيقلل تعديدها لاعددها’’.
المصدر:عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة الاستبداد.
*عن موقع الموسوعة الإسلامية
سمير أبو حمدان
إن أحداً من مصلحي القرن التاسع عشر ومفكريه لم يبارز الاستبداد مثلما بارزه عبد الرحمن الكواكبي...كيف لا وهو الذي عانى،كما لم يعان أحد غيره،من الاستبداد الحميدي (نسبة الى السلطان عبد الحميد)!غير أن فلسفة عبد الرحمن في الاستبداد لم تصدر عن تجربته الذاتية بقدر ماصدرت عن نظر عقلاني هاديء يتمحور حول أقطاب ثلاثة:الفرد والمجتمع والدولة.إن هذه الأقطاب الثلاثة يرتبط بعضها بالبعض الآخر
وفق علاقة جدلية لايمكن تفكيكها.من هنا سعي الكواكبي الى نهضة الدولة بواسطة التقيد بالقوانين والدساتير.والكواكبي لم يجد ما هو أكثر استبداداً من حاكم مطلق الصلاحية ولاحدود لتصرفه في شؤون الدولة والرعية.فمثل هذا الحاكم،وهو مستبد بحكم يده الطليقة من أي قيد أو قانون،’’يتحكم في شوؤن الناس بارادته لابارادتهم ويحكمهم بهواه لابشريعتهم ،ويعلم من نفسه أنه الغاضب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته’’.على أي حال فانه ينبغي أن نتفق على أن (فلسفة الاستبداد)التي وضع عبد الرحمن مبادئها رمت،من وجه أول،الى هدم النظام السياسي العثماني الذي كان المعوق الأساس لنهضة العرب والمسلمين.وإذ طالب بالأخذ من المدنية الغربية بكل مايمكن أن ينهض بحياة العرب والمسلمين،السياسة والاجتماعية والاقتصادية،دعا في الوقت نفسه الى سن قوانين ’’مبنية على العدالة الاجتماعية’’.فالعدالة والحرية والمساواة والديمقراطية،إن هذه المفاهيم مجتمعة،اختفت من المجتمعات العربية - الاسلامية.وسبب ذلك هو (الاسلام العثماني )،كما يمكن أن نعبر،الذي أطلق يد الحاكم المستبد الذي لايردعه قانون ولايقيده دستور.وهذا (الاسلام)الذي شهد
بفضل العثمانيين عدداً من (الاضافات والمزيدات)،يختلف عن الاسلام الأول،البعيد عن البدع والخرافات،والذي يعتبر الشورى(=الديمقراطية)والحرية والعدل والمساواة من مقوماته الأساسية التي لايجوز التخلي عنها.ومن هنا رؤية الكواكبي بأن نهضة العرب والمسلمين يمكن لها أن تتأسس من جديد على (المشرب السلفي المعتدل)أي على الاسلام الأول،اسلام الينابيع،الحضاري،المنفتح على منجزات الآخر وثقافته.إنه -بمعنى آخر-ذلك الاسلام الذي لم تمسه يد العثمانيين.وعلى الرغم من أن الكواكبي رأى الى هذا الاسلام على أنه طاقة يجب الاستفادة منها في فعل النهضة والتقدم غير أنه،وفي موازاة ذلك،دعا الى الأخذ بمنجزات الحضارة الغربية،وهي الحضارة الفتية التي يمكن للعرب والمسلمين ومن طريق الأخذ بالمفاهيم التي أطلقتها (حرية -إخاء-مساواة)،أن يحققوا أمرين:-نهضة مجتمعاتهم وتقدمها،-وتحررهم من نير العثمانيين.إن عبد الرحمن الكواكبي،وكبديل من نمط الحكومات السائد في البقعة العربية-الاسلامية،اقترح نمطاً من الحكم،دستوري النزعة،يخضع لسيطرة الأمة والقانون،وتالياً لاتخضع لارادة الأمة،إنما هي حكومات مستبدة،تقف ضد تطور الشعوب وتقدمها.فالمطلوب،وفق الأنظمة الدستورية،أن يراقب الشعب حكومته،ويحاسبها.وعلى هذا الأساس فان الحكومة ’’لايخرج عن وصف الاستبداد (أي لاتخرج عن كونها مستبدة)مالم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي تسامح فيه’’.ولئن كان ينهد الى الترويج لقيام الحكومات ذات المضمون الديمقراطي،وعلى نمط ما هو سائد في الغرب،لكنه لاينفك يعود الى خزائن المأثور الاسلامي ليستمد منها مفاهيم تصلح أساساً لبناء الدولة الحديثة.فهو دعا -وانطلاقاً من أن (إدارة الدين)اتحدت في المجتمع العربي الاسلامي ب(إدارة الملك)الى الأخذ بنوع من الارستقراطية في الحكم،أي الاعتماد على (الأشراف) في الامساك بزمام الأمور في الدولة الحديثة.فهو يرى أن ’’الاسلامية مؤسسة على أصول الادارة الديمقراطية،أي العمومية،والشورى الارستقراطية،أي شورى الأشراف’’.لكننا هنا يجب ألا نتسرع فنحمل كلام الكواكبي على غير محمله لجهة تفسير كلمة(الأشراف).فهو لايعني بهم اولئك الذين ينتمون الى طبقة اجتماعية معينة،وقد ورثوا هذا اللقب أباً عن جد،وإنما من نتوسم فيهم الشرف والكبرياء والحكمة والأنفة والشهامة وسعة المعرفة وأهليتهم للحكم.بكلمة أخرى فهو لايشير بهذا المصطلح الى أصحاب الحسب والنسب حيث ’’أن اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلان،ولاعجب،فعل المستبد
العادل،أي عنقاء مغرب’’،وإنما يشير-كما نوهنا قبل قليل-الى الذين يعتبرون أهلاً للحكم من جميع الوجوه.أما (الأصلاء)أو (الأشراق)الذين حملوا ألقابهم في ظروف معينة،فهم ’’جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل،لأن آدم داموا اخواناً متساوين الى أن ميزت (الصدفة)بعض أفرادهم بكثرة النسل فنشأ منها القوات العصبية’’.إذن فان الكواكبي لايدعنا في حيرة من أمرنا بالنسبة لتحديد هذا المصطلح،أي مصطلح الأشراف.فهم ينتمون الى سائر طبقات الشعب،وقد حازوا على (شرفهم)بالعلم والمعرفة والنبل والترفع عن الصغائر وأهلية الحكم.ويعمل الكواكبي على التوفيق بين مفاهيم الحداثة الأوروبية والمفاهيم المستمدة من الاسلام،وذلك إبان دعوته الى قيام سلطات تشريعية(مجالس نواب)تراقب الحكومات وتحاسبها.فالأمم المتحضرة،على رأي الكواكبي،’’خصصت منها جماعات باسم مجالس نواب،وظيفتها السيطرة والاحتساب على الادارة العمومية السياسية (أي السلطة التنفيذية)’’.ويقارن بين هذه المجالس وبين ماأمر به القرآن الكريم حيث أن ذلك ’’منطبق تماماً على ماأمر به القرآن الكريم في آية:(ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)وفي كمالة هذه الآية وهي(وأولئك هم المفلحون)من
التبجيل مايحمل نفوس الابرار على تحمل مضض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها،الممقوتة طبعاً عند المستبد وأعوانه’’.إن الديمقراطية الارستقراطية،ديمقراطية (الأشراف)،لهي النظام السياسي الأمثل الذي ينهد إليه الكواكبي،إنه النظام الذي يجعل الدولة في خدمة الرعية،وليس عكس ذلك.ومن هنا فقد بات تحمل هذا العبء والاضطلاع به(وظيفة شريفة في ذاتها)حسب تعبير عبد الرحمن،وهي وظيفة (ممقوتة من المستبد وأعوانه)لالشيء إلا لأنها تحد من سلطتهم وتجعلهم خاضعين للقانون ولارادة الأمة.ومما لايرقي إليه الشك أن الميزة التي وسمت عبد الرحمن الكواكبي،من بين مغكري عصر النهضة كافة،أنه قدم وصفاً متماسكاً،وبل فريداً في أسلوبه لآفة الاستبداد.فبعد أن لاحظ بأن الأمم الحرة والمتمدنة أطلقت حرية القول والكتابة والتأليف والنشر،وحرية التعبير المخالف والمضاد للسلطة،وجد أن أنظمة الاستبداد التي ابتلى فيها المسلمون قيدت الأيدي بسلاسل من حديد وكمت الأفواه عن النطق بالحق.وهذا من طبيعة الاستبداد إذ لاشيء يقض مضجعه غير الحرية.وإذ شخص الكواكبي نحو البقعة العربية-الاسلامية التي تستظل بالاستبداد العثماني،وجد أن لامكان للحرية ولالكرامة الفرد والمجتمع.وقد لاحظ أن
الاستبداد الذي مارسه العثمانيون بأبشع صوره وأساليبه،نهض على رافعتين :الرافعة الأولى تمثلت بالجهل الذي فشا بين الرعية وجعلها لاتدرك حقيقة مايجري حولها ويحاك ضدها،أما الرافعة الثانية فتمثلت في عسكرة الدولة لدرجة أنها باتت تفتقد الى أي طابع مدني،وهو الطابع الذي يسم الدولة الديمقراطية ويميزها.إذن ’’جهالة الأمة،والجنود المنظمة’’هما الأساسان الرئيسان اللذان نهض عليهما الاستبداد في بلدان المشرق العربي والاسلامي،وهما يمثلان،بتعبير عبد الرحمن ’’القوتين الهائلتين المهولتين’’اللتين أفسحتا في المجال أمام المستبد لكي يذهب بعيداً في استبداده.لكن عبد الرحمن الكواكبي يضيف الى هاتين ’’القوتين المهولتين’’قوات،أخرى اعتبرها من ركائز الاستبداد ومنها:’’قوة الارهاب،وقوة المال،وقوة الألفة(التعود)على القسوة،وقوة رجال الدين،وقوة أهل الثروات،وقوة الأنصار من الأجانب’’.ولئن كان الكواكبي قد أسهب في وصف الاستبداد وفي تعريف الأسس التي ينهض عليها،غير أنه لم يقف عند حدود الوصف،وإنما تجاوز ذلك الى اقتراح مايمكن أن ينجي المسلمين والعرب من مخالبه.فقد أكد على ضرورة أن يستبدل نظام الحكم المطلق،حكم الفرد الذي لايقيده قانون ولاشريعة،الى نظام الدولة الحديثة القائمة على الدستور،وعلى الحرية السياسية.وطالما الحديث عن الاستبداد والمستبدين،فان عبد الرحمن الكواكبي،وقف ضداً لذلك(المصطلح الذي انتشر في أواخر القرن التاسع عشر والمؤيد لما أصبح معروفاً ب(المستبد العادل).(فهو لم ير،مثلما رأى غيره،بأن ثمة استبداداً عادلاً وآخر غير عادل،وإنما ذهب الى أن الاستبداد واحد،مع بعض فروق في الشكل.)وفي هذا يقول:’’قد يدخل على الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الادارة الحرة،ويسلمون له بها،فيقولون:الاستبداد يعلم الطاعة والانقياد،والحق أن هذا فيه عن خوف وجبانة لاعن إرادة واختيار!ويقولون :هو يربي النفوس على احترام الكبير وتوقيره،والحق أنه مع الكراهية والبغض،لاعن ميل وحب!ويقولون :الاستبداد يقلل الفسق والفجور،والحق فيه أنه عن فقر وعجز،لاعن عفة ودين!ويقولون:هو يقلل الجرائم،والحق أنه يخفيها فيقلل تعديدها لاعددها’’.
المصدر:عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة الاستبداد.
*عن موقع الموسوعة الإسلامية