د.محمد إبراهيم العشماوي
الأستاذ في جامعة الأزهر
الإشارة فن من فنون الكلام الصامت، وضرب من ضروب البيان العالي، فإذا جرى استعمالها على سنن البلغاء، وانضبطت بقوانين الأداء والإلقاء؛ وقعت من النفس موقعها، وبلغت من البيان غايتها، بل إنها لتغني عن الكلام في كثير من الأحيان، كقول يزيد بن معاوية:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
إشارة محزون ولم تتكلم!
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم!
ومن الإشارات البليغة التي وقعت في كلام سيد البلغاء صلى الله عليه وسلم؛ قوله:" أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى!".
وقد تترك الإشارة في مثل هذا إذا أوهمت معنى مستحيلا، كما في حديث: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"؛ فإنه يوهم الجارحة في حق الباري، لا سيما عند العوام؛ ولهذا أفتى بعضهم بأن من استعمل الإشارة في هذا الموضع قطع الموضع الذي أشار به!
مع أنه قد وقع في بعض طرق الحديث استعمال الإشارة في هذا الموضع من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فعل الأعمش، ومع ثبوته فلا وجه لفتوى القطع!
وهذا ونحوه من الدقائق التي ينبغي الانتباه إليها من ذوي البيان، لا سيما العلماء والدعاة!
كما استعمل أهل الحديث الإشارة في الجرح والتعديل، كتحريك الرأس واليدين، وقبض الأصابع، وتقطيب الوجه، ونحو ذلك!
أقول هذا بمناسبة أنني صليت اليوم عند خطيب أسرف في استعمال الإشارة إلى درجة الإملال، حتى إن كلتا يديه لم تتوقفا عن الحركة طول الخطبة، وكثير من إشاراته في غير موضعها، بل ربما دلت على عكس مراده!
فقلت: هذا لم يدرس علم الخطابة، ولم يكلف نفسه عناء دراستها دراسة ذاتية!
وتذكرت كلاما قديما لبعض شيوخنا، ممن كان يعلمنا الخطابة النظرية والعملية، حين كان يضرب المثل بإشارات بعض العلماء المعاصرين لترسخ في أذهاننا، فيقول: " إن أبلغ من يستعمل الإشارة من العلماء المعاصرين هو الشيخ الشعراوي، سواء أشار بعينيه أو ببعض وجهه أو بيده أو سكت عن تمام الجملة!".
ثم ضرب مثلا آخر للإسراف في استعمال الإشارة، بأحد الأساتذة الأفاضل في(دار العلوم)، وكان يمتاز بهدوء الموعظة، ونفاذها إلى القلوب، حتى قال شيخنا مازحا:" كان النساء يحببن موعظته؛ لعاطفته، وهدوء طبعه، كما يحب سائقو التاكسي سماع سورة يوسف!".
ثم قال:" إلا أنه يسرف في استعمال الإشارة، حتى يبسط يديه ويحركهما من أول قوله(الحمد لله) إلى آخر الكلام، لا يضعهما!
كما قد يستعمل الإشارة في غير حاجة؛ لوضوح الكلام بدونها، مما يجعل استعمال الإشارة معه عبثا". انتهى كلام الشيخ.
وقد استمعت إليه مرة وهو يتكلم عن بر الأم، فقال:" أمك التي حملتك في بطنها تسعة أشهر" - وأشار إلى بطنه، يحكي هيئة الحامل - ثم قال:" وأرضعتك من ثديها حولين كاملين" - وأشار إلى موضع الثديين منه، يحكي هيئة المرضع!