د.محمد إبراهيم العشماوي
الأستاذ في جامعة الأزهر
تأملت في قول الله تعالى: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب، قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله، والله بصير بالعباد".
فوجدت أن التعبير بالفعل(زين)، وبناءه لما لم يسم فاعله، تنبيه على حقيقة الدنيا، وأنها قبيحة في نفسها، وإنما زينها الشيطان لأهلها ليفتنهم بها، كما تتزين المرأة القبيحة لتحسن في عيون الناظرين، ليرغبوا فيها، وأما المرأة الجميلة في ذاتها؛ فإنها لا تحتاج إلى زينة، ولذلك يقال لها(الغانية)أي المستغنية بجمالها عن الزينة!
ونبه سبحانه في ختام الآية على هذا المعنى ببيان الحسن الذاتي الجدير بوصف الحسن، المنزه عن القبح، بقوله جل شأنه:" والله عنده حسن المآب"، ثم فسره في الآية التي تعقبها، ووصفه بأنه خير من ذلك المتاع الزائف الزينة؛ لأنه مزدان في نفسه حقيقة لا خداعا(جنات وأزواج مطهرة ورضوان من الله)، فانسجم مطلع الآية وختامها والتي تليها أحسن انسجام، وهذا من أسرار الإعجاز التعبيري في كلام الله!
ولهذه النكتة زهد العارفون في الدنيا؛ لانكشاف قبحها لهم على سبيل المعاينة - كما رآها بعضهم في صورة عجوز شوهاء الخلقة - وبقيت مزينة في عيون طلابها؛ لتتحقق حكمة الله في خلافة الإنسان وعمارة الأرض، ثم عند الموت ينكشف الغطاء، وتبدو الحقائق للجميع، كما قال بعضهم عند موته - وقد أمسك بالذهب والجواهر في يده، وجعل يرمي بها -: يا ليتها كانت بعرا!
وإنما رآها بعرا على الحقيقة، لتعريها من ثياب الزينة التي كانت تغطي قبحها، وهذا تصديق قول الحق تعالى، عن لحظة انكشاف الحق وسقوط الزيف، في دار الحق: "فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد"!
فسبحان من هذا كلامه!