إلى قاصدي مكة هل يُذهـب الشوق المشقة؟
إبراهـيم الأزرق
يغفل بعض الناس فيظن أن الحج قد عَسُرَ في هذا العصر لكثرة الزحام، وربما ظن أن المشقة الحاصلة بسببه نازلةٌ من النوازل تقتضي من التيسير والترخيص أموراً لم يقل بها المتقدمون من أهل العلم والبصيرة، ولا عدَّ المحققون منهم القول بها تحقيقاً.
والحق أن المتأمل في واقع الحجيج في عصور الإسلام المختلفة يلمس اليُسْر الذي حدث للناس في هذا الزمن من غير جهة.
فقد كان سفر الحج - قديماً - في أحيانٍ كثيرة طويلاً مخوفاً، تقطع فيه مَهَامِهُ وقِفَار، يتعرض الناس فيه إلى خطر قُطَّاع الطريق والأعداء، حتى تَرَكَ قَصْدَ الحرمَيْن نفرٌ من الكبار مع عظيم شوقهم إلى المناسك والمشاعر والمواقيت والمناحر؛ كابن حزم، والقاضي عياض القائل شوقاً إلى ربوع المدينة (طيبة):
لولا العَوادِيَ والأعَادِيَ زرتُها
أبداً ولو سَحْباً على الوَجَنَاتِ
وأما الزحام الحاصل اليوم فليس هو بالنازلة العصرية، فقد كانت المشاعر قديماً على معالمها في العهد الأول؛ فلم تكن التوسعات الأولى قريبة في مداها من توسعات هذا العصر، بل كان المطاف محدوداً، وربما دخله السيل - قبل أن يُصرَف مجراه عن البيت - فطاف بعض الناس بالكعبة سُبَّحاً، بل حصــل هذا حتى بعــد تــحــويل مجــرى الســيل[1]، وأثبت بعــض أهل العلم في مناقب بعضهم أنه طاف حول البيت سباحة، وذكروه عن ابن الزبير رضي الله عنهما[2]، وقالوا: طاف البدر بن جماعة بالبيت سباحة كلما حاذى الحجــر غطس لتقبيله، وذكروه عن جماعة من المكيين[3]. وقد رأينا صوراً مأخوذة في أواسط القرن الهجري الماضي والماء قد غمر المسجد وبعض الناس حول الكعبة يسبحون.
وأما المسعى فكالمطاف لا طباق لهما، وذَرْع المسعى في حَدِّ الأزرقي خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف الذراع[4]، وفي حدِّ إبراهيم الحربي – كما في منسكه - دون ذلك قليلاً[5]، ومع ذلك تكتنفه البيوتات وربما أخذ بعض البناء من جنباته التي تلي الكعبة، وقد نقل هذا بعض من اعتنى بتأريخ المسجد الحرام، وربما أخذ من عرض المسعى الباعةُ والمارَّةُ، بل حدثنا بعــض مشايخنــا الـذين شهــدوا تلك المعالــم قبــل ما يزيد على نصف قرن بأن بَسْطَ التجار سلعهم في المسعى ولا سيما يوم العيد قد كان أمراً مشهوداً مشهوراً. وأما عرفة فقد كانت عراءً يتحاشى الناس كثبان رملها، ويرغبون في موطن الصخرات أسفل الجبل ويتدافعون عندها، حتى ضَرَب بالازدحام فيها المثالَ بعضُ الشعراء، بل كان التدافع على جبلها عادةً قديمة قبل الإسلام كما في قول نابغة بني ذبيان:
بمُصْطَحِباتٍ من لَصافٍ وثَبْرةٍ
يَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهنَّ التَّدافُعُ
وإلالٌ: ذكر السهيلي وغيره أنه جبلُ عرفة، قال: سُمِّي بذلك لأن الحجيج إذا رأوه ألوا في السير؛ أي: اجتهدوا فيه ليدركوا الموقف[6].
وقد جاء ذكر الوقوف عند إلالٍ في شعر الإسلاميين المخضرمين والمتأخرين، ولا يزال التدافع عنده حاصلاً حتى عصرنا هذا، فالإل هو ما يعرف اليوم بجبل الرحمة كما ذكر شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم)[7] وكثير من الفقهاء[8].
فلا عجب أن تقرأ في كثير من تراجم بعض الأعلام قولهم: مات في الحج، أو مات حاجاً. مع أنهم أعلام هم مَحَطُّ رِعايةٍ ومَحَلُّ عناية. أمّا عموم الناس فما أكثرَ حوادثهم! فتارةً تقرأ في كتب التاريخ: مات ستة آلاف من حجاج كذا بسبب قلة الميرة وحجز مناهل الماء[9]، وتارةً تقرأ خبر مقتل كل حجاج بعض الأصقاع، كما حصل لحجاج أصبهان في بعض الأعوام وكانوا زهاء عشرين ألفاً[10]، وفي حوادث بعض الأعوام يقول ابن كثير - رحمه الله -: «ولم يقف بعرفة عامئذٍ سواه ومن معه من الحرامِيَّةِ، لا تقبَّل الله منهم صرفاً ولا عدلاً»[11]! وتارةً تقرأ عن الموت بسبب التدافع عند باب كذا من المسجد، قال ابن حجر في حوادث سنة أربع وثمانين وسبعمائة من إنباء الغُمْرِ: «وفيها كان الحَاجُّ بمكة كثيراً؛ بحيث مات من الزحام بباب السلام أربعون نفساً، أخبر الشيخ ناصر الدين بن عشائر أنه شاهد منهم سبعة عشر نفساً موتى بعد أن ارتفع الزحام، وأن شيوخ مكة ذكروا أنهم لم يروا الحاج أكثر منهم في تلك السنة»[12]. وذكر ابن الضياء في تاريخ مكة أنه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة مات عند الكعبة أربعة وثلاثون نفراً. وتارة يقول المؤرخ: وفيها مات بالمسعى جماعة من الزحام؛ لكثرة الخلق الذين حجُّوا في هذه السنة من العراق والشام[13].
والأخبار كثيرة شاهدة على أن الحج لم يكن بالأمر اليسير، وأن توسعات الحرم وانبساط الأمن ومخترعات العصر؛ قد سببت كثيراً من التيسير، وأن الزحام ليس بالشيء الجديد، أو النازلة التي ما عرفها الأسلاف، كيف وقد قيل – كما ذكر صاحب القاموس وغيره -: إنما سميت مكة بكَّة لازدحام الناس بها؟! بل لازدحام الناس والدواب والأنعام وأدائهم المناسك بها في العهد الأول، وهذا ما خفَّ كثيراً في هـذه الأزمــان، فــلا أحـد يرمي من على بعيــر أو يطوف به.
ومع ذلك فقد فَقِهت تلك الأجيال أن الحج تكليف وجهاد لا ينفك عن مشقة مقصودة مُطَاقة، أو عارضة فوق الطاقة، وهذه هي التي ينبغي أن تزال إن قدر عليها بغير تحريف التكليف، أما المشقة المطاقة فعليها مدار التكليف، وبها يتحقق الابتلاء الذي من أجله خُلقت الخليقة: {الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: ٢]، وبهـا يظهر بعض كمال عدل الله الذي خلق الخلائق وهو أعلــم بما كانوا عاملين، ولكنه أناط جزاءهم بالتكليف، بعد أن خلقهم في كَبَد.
وقد أدرك من أدرك من العامة في الغابر والحاضر هذه المعاني، فكانوا يحتسبون المشقة الملفية في الحج، بل كانوا يستعذبون تلك الرحلة إلى البقاع المباركة، ويفرحون بالتنقلات بين المشاعر لإقامة الشعائر؛ أُنساً بما يجدونه في أنفسهم من آثار تلك المنازل.
وجدير بمواطنَ عُمرت بالوحي والتنزيل، وتردَّد بها جبرائيل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت أرجاؤها بالتقديس والتسبيح، واشتملت على مشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين، ومتبوأ خاتم النبيين، حيث انفجر معين الرسالة وفاض عبابها، أرض المعجزات المشتهرة منذ زمن الخليل، ومجال الرسالات السماوية من عهد آدم، قصدها الأنبياء والمرسلون، وأَمَّها الشهداء والصِّدِّيقون، وحجَّ إليها الأولياء والصالحون، وضَجَّ بالدعاء فيها إبراهيم، ورتع بين جنباتها إسماعيل، وأحبها من نشأ فيها #؛ جدير بتلك المواطن أن تشتاق النفوس إليها، وتبذل نفائس الأموال راضية بغُنْم الوصول إليها، وحريٌّ أن تُعَظَّم حرماتها، وتُحترم عَرَصاتها. وكيفَ لا تأنس النفوس بها وتطمئن فيها، وتستعذب ما تلقاه في أَمِّها وإن بعدت الشُّقَّة، وتضاعفت المشقة، وشتان.. شتان ما بين الغُنْم والغُرْم!
ولئن تلذَّذ الـمُفَرِّطون بالمعصية، ونشطوا للرقص والطرب، فتجد أحدهم في حركة دؤوبة يصل ليله بنهاره لا يكلُّ ولا يملُّ؛ فإن قلوب المحبين لرب العالمين تجد الأنس واللذة في الطاعة، وتستعذب المشقة العارضة أثناء العبادة.
بل ليــس أثر تلــك المشاعــر ومكــانة ذلــك النسك مما اختصَّــت به نفوس أهل الصلاح والطاعة، بل هو معنى تشهده في أحــوال العــامة؛ فكــم رأيــت نفساً عند بيت الله المعظــم ربما تلبَّــس صاحبها بشيء محرَّم؛ تشق طريقها بعد رحلة مضنيــة بعــزم يحــدوه الشوق نحــو الكعبــة المشــرفة، يركب أحدُهم قَحمة الطريق، ويصابر اللَأْواء والضيق؛ شوقاً إلى البيت العتيــق، فإذا رأى البيــت نَسِي بُعدَ الشُّقَّةِ وما لقيه من عَنَتٍ ومشقة، واستقل ما يستقبله، بل ربما فاضت دمعته، وظهــرت عبــرته، وشهــدت فعــاله وكلماته على استجابة الله لخليله دعوته: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ} [إبراهيم: ٧٣]، قال ابــن كثيــر: (فليــس أحد من أهل الإسلام إلا وهــو يَحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار)، ويتوقون إلى أداء المناســك علــى اختــلاف أصقاعهم وأمصارهم، فمن قائل:
تذكرت أيام الحجـيج فأَسْـبَلَتْ
جُـفُوني دماءً واستـجد بِيَ الوجدُ
وأيامنا بالـمَشْـعَرَيْنِ التي مضـتْ
وبالخَيْفِ إذ حادي الرِّكابِ بنا يحدو
فهذا يقول وذاك يخمِّس قول الآخر:
سَقا الله أَيام الحجـيج عَلى مِـنىً
مُناها ومن لـي لو يَعـود نَظِـيرُها
وَلِلَّه لَيلات الصـفا دام ذِكرُهـا
وَحـقٌّ عَلى حجاج مَكَّة شُـكرُها
وَتِلكَ لَـيالٍ لا يُقَـدَّرُ قَـدرُهـا
فَلَو شُريت لَم يَغلُ في السوقِ سِعْرُها
وَلَو بيع بالعمرِ الطَّـويل قصـيرُها
ومن تشطير غيره قوله:
حَلَّوا مواردَ عنها يُحمدُ الصَّـدْرُ
تَرحَّـلَوا وأقـامتْ عنديَ الفِـكَرُ
وأيُّ قلبٍ على التفريـق يصطبـرُ
زاروا وطافوا وحجوا البيت واعتمروا
هـذا وربـيَ فخرٌ مـا له دركُ
إلى آخر ما قال.
وأحسن غيره إذ قال:
أَيُـتـركُ ربعٌ للرسالةِ سبْسَبُ
تـَجِيءُ به هُوجُ الرياحِ وتذهبُ
ولا تَنْهَمي فيه العيونُ وتَسْكُبُ
وتُـظْلَعُ أعناقُ الذنوبِ وتُنْهَبُ
ومن المشهور قول البُرَعي اليماني في قصيدته التي منها:
يا راحـلينَ إلى مِنىً بغـيابي
هيَّجـتُـمُ يومَ الرحيل فؤادي
حرمتمُ جفني الـمنام لبُعْدكم
يا سالكين الـمنحنى والـوادي
فإذا وصلتم سالـمين فبلِّـغوا
منّي السلامَ أُهـيل ذاك الوادي
وتذكروا عند الطـواف مُتَيَّماً
صـبّاً فَنِي بالشـوق والإبعادِ
لي من ربا أطلالِ مكّةَ مـرغبٌ
فعسى الإلهُ يـجودُ لي بمرادي
ويلوحُ لي ما بـين زمزم والصفا
عند المقام سمعت صوت مـنادي
ويقول لي: يـا نائماً جُدَّ السُّرى
عرفاتُ تـجلو كلَّ قلبٍ صادي
تاللَّه! مـا أحلى المبيتَ على منى
في يوم عـيدٍ أشرفِ الأعـيادِ
إلى آخر ما قال.
ومما ذاع قــول الزمخشري قبيل رحلة الحج والمجاورة:
قامت لتمنعني المسيرَ تُماضرُ
أنَّى لها وغِـرَارُ عزميَ باترُ؟
شامَت عَقِيْقَة عزمتي فحنينها
رَعْدٌ وعيناها السحابُ الماطرُ[14]
حِنِّي رويدك لن يَرِقَّ لظبيةٍ
وبُـغامها ليثُ العرينِ الزائرُ
لو أشبهت عَبَراتُ عينك لُجَّةً
وتَعَرَّضَـت دوني فإني عابرُ
سيري تُماضرُ حيث شئـت وحدِّثي
إني إلى بطحـاءِ مكةَ سائرُ
حتى أُنيخ وبين أطْمَارِي فتىً
للكعبة البيتِ الحرامِ مجـاورُ
يا من يسافرُ في البلادِ مُنَقِّباً
إني إلى الـبلدِ الحرامِ مسافرُ
سأروح بين وفود مكة وافداً
حتى إذا صدروا فما أنا صادرُ
إلى آخر ذكره المناسك والمشاعر.
وتأمَّل حال أحدهــم وقد عــاش فـــي أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، قال يصف أحوالهم أثناء رحلة حج مضنية:
أَخفافُهُنَّ مِـن حَفاً وَمِن وَجى
مَرثـومَةٌ تَخضبُ مُبيَضّ الحَصى[15]
يَحمِلنَ كُلَّ شاحِبٍ مُحقَوقفٍ
مِن طـولِ تدآبِ الغُدُوِّ وَالسُّرى
بَرٍّ بَرى طولُ الطَّـوى جُثمانَهُ
فَهوَ كَقِدحِ النَّبعِ مَحـنِيُّ القَـرا[16]
بعدت عليهم الشُّقَّة، وتجشموا المشقة فجاؤوا من كل فجٍّ عميق، قل لي بربك من أجل ماذا؟ قال:
يَنوي الـتي فَضَّلَها ربُّ العُلى
لَـمّا دَحَـا تُربَتَـها عَلـى البنى
قصدٌ شريفٌ استقلوا فيه ما صنعوا، فجاشت نفوسهم بمشاعرها، وفاضت عيونهم بمدامعها:
حَـتّى إِذا قابَلَها استَعبَـرَ لا
يَملِكُ دَمعَ العَينِ مِن حَيثُ جَرى
ولعلك تعجب إن علمت أن قائلَ هذه الأبيات، الواصفَ لتلك المشاعر والأحاسيس؛ ليس من أفراد الزُّهاد، بل لا يعد في العُبَّاد، بل هو رجل موصوف بالإسراف والتقصير!
ومن الذائع الشهير قول شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة:
بالله قـولي لـه في غـيرِ مَعْتَـبَةٍ
ماذا أردت بطولِ الـمُكْثِ في اليمنِ؟
إن كنتَ حاولتَ دنيا أو ظَفِرْتَ بها
فما أخـذتَ بتركِ الحَجِّ من ثمنِ!
وإن جاء هذا في صدد النسيب فإن مضمونه يشعر بمكانة البيت العتيق عند العامة.
ولهذا يُقال: إن ابن جريج قال: ما ظننت أن الله - عز وجل - ينفع أحداً بشعر عمرَ بنِ أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشداً ينشد قولَه - وذكر البيتين المتقدمين -قال: فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحاج وحججت[17].
بل تأمَّل قول أحدهم وهو موصوف بفسق يجاهر فيقول:
إذا صَلَّيتُ خمساً كلَّ يـومٍ
فإن الله يغفر لـي فسوقـي
ولم أشرك برب الناس شيئاً
فقد أمسكت بالدّين الوثـيقِ
وجاهدت العدو ونلت مالاً
يُبَلِّغُـني إلى البيـت العتيـقِ
فهذا الدين ليس به خفـاءٌ
دَعُونِـي من بُنَيَّات الطريقِ
فانظر إلى هذا مع حاله يــرى الجهــاد لأجـل تحصيل ما يبلغه البيتَ العتيقَ ديناً حقاً عليه.
وإذا علمت هذا عرفت لِمَ طُوِيَتْ عن القوم المشقة، وإذا كانت هذه حال من ذكرنا من المقَصِّرِين؛ فكيف بحال أهل الإيمان واليقين، فلا عجب أن قَلَّت المسائل التي توسَّع فيها وترخَّص من نبتوا في دبر الأيام من متفقهة هذا الزمان بدعوى التيسير وَفْقاً للمشقة النازلة في هذا العصر القاسي بزعمهم!
[1] أعني: بعد تحويل المهدي. وانظر: إنباء الغمر بأنباء العمر، لابن حجر، فقد ذكره في حوادث سنة سبع وثلاثين وثمانمائة: 3/514، وكذلك بعد التحويل من أعلى مكة في القرن الماضي.
[2] عقد الفاكهي في أخبار مكة عنواناً: «ذكر الطواف بالبيت سباحة في السيل العظيم ومن فعله»: 1/250.
[3] حكاه مقرراً في كشف الخفاء: 2/1522.
[4] ينظر: تاريخ مكة، له: 2/95.
[5] ينظر: منسكه المطبوع بعنوان: كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة، بتحقيق: حمد الجاسر، ص502، قال: «وذَرْع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس اثنان وثلاثون ذراعاً».
[6] ينظر: الروض الأنف، فصل في شرح لامية أبي طالب: 1/137، وقد ذكر صاحب اللسان أن اسم الجبل إلالاً وألالاً؛ بالفتح والكسر على وزن بِلال وجَلال، والمشهور الكسر كما ذكر النووي وغيره.
[7] ص428 من طبعة الفقي، ووقع بدلاً من إلال: الأول، ولعله خطأ مطبعي أو تصحيف.
[8] ينظر مثلاً: المجموع للنووي: 8/132، والفروع لابن مفلح: 3/507، تبيين الحقائق للزيلعي: 2/24، ومواهب الجليل للحطاب: 3/92.
[9] تنظر: البداية والنهاية: 13/47؛ حوادث (604)، وانظر: 11/347؛ حوادث (403).
[10] تنظر: البداية والنهاية: 11/101؛ حوادث (294).
[11] البداية والنهاية 11/10؛ سنة (251).
[12] إنباء الغمر بأنباء العمر: 1/260-261.
[13] ينظر: إتحاف الورى بأخبار أم القرى: 3/37، سنة 619، لابن فهد، وقد ساق في حوادث السنين من هذا أضرباً وأشكالاً.
[14] كأن معناه: أغمدت سيف عزيمتي، فشام سيفه تأتي بمعنى: أغمده واستله، والعقائق: ما يبقى في السحاب من شعاع وبه تشبه السيوف.
[15] يصف تشقق أخفاف الرواحل حتى سال الدم فصبغ الأرض.
[16] القدح: السهم لا نصل له ولا أصل، والنبع: شجر تصنع منه السهام، والقَرا: الظهر أو وسطه، ويروى القوى: أي: الظهر.
[17] الأغاني: 1/120.
*عن مجلة البيان
إبراهـيم الأزرق
يغفل بعض الناس فيظن أن الحج قد عَسُرَ في هذا العصر لكثرة الزحام، وربما ظن أن المشقة الحاصلة بسببه نازلةٌ من النوازل تقتضي من التيسير والترخيص أموراً لم يقل بها المتقدمون من أهل العلم والبصيرة، ولا عدَّ المحققون منهم القول بها تحقيقاً.
والحق أن المتأمل في واقع الحجيج في عصور الإسلام المختلفة يلمس اليُسْر الذي حدث للناس في هذا الزمن من غير جهة.
فقد كان سفر الحج - قديماً - في أحيانٍ كثيرة طويلاً مخوفاً، تقطع فيه مَهَامِهُ وقِفَار، يتعرض الناس فيه إلى خطر قُطَّاع الطريق والأعداء، حتى تَرَكَ قَصْدَ الحرمَيْن نفرٌ من الكبار مع عظيم شوقهم إلى المناسك والمشاعر والمواقيت والمناحر؛ كابن حزم، والقاضي عياض القائل شوقاً إلى ربوع المدينة (طيبة):
لولا العَوادِيَ والأعَادِيَ زرتُها
أبداً ولو سَحْباً على الوَجَنَاتِ
وأما الزحام الحاصل اليوم فليس هو بالنازلة العصرية، فقد كانت المشاعر قديماً على معالمها في العهد الأول؛ فلم تكن التوسعات الأولى قريبة في مداها من توسعات هذا العصر، بل كان المطاف محدوداً، وربما دخله السيل - قبل أن يُصرَف مجراه عن البيت - فطاف بعض الناس بالكعبة سُبَّحاً، بل حصــل هذا حتى بعــد تــحــويل مجــرى الســيل[1]، وأثبت بعــض أهل العلم في مناقب بعضهم أنه طاف حول البيت سباحة، وذكروه عن ابن الزبير رضي الله عنهما[2]، وقالوا: طاف البدر بن جماعة بالبيت سباحة كلما حاذى الحجــر غطس لتقبيله، وذكروه عن جماعة من المكيين[3]. وقد رأينا صوراً مأخوذة في أواسط القرن الهجري الماضي والماء قد غمر المسجد وبعض الناس حول الكعبة يسبحون.
وأما المسعى فكالمطاف لا طباق لهما، وذَرْع المسعى في حَدِّ الأزرقي خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف الذراع[4]، وفي حدِّ إبراهيم الحربي – كما في منسكه - دون ذلك قليلاً[5]، ومع ذلك تكتنفه البيوتات وربما أخذ بعض البناء من جنباته التي تلي الكعبة، وقد نقل هذا بعض من اعتنى بتأريخ المسجد الحرام، وربما أخذ من عرض المسعى الباعةُ والمارَّةُ، بل حدثنا بعــض مشايخنــا الـذين شهــدوا تلك المعالــم قبــل ما يزيد على نصف قرن بأن بَسْطَ التجار سلعهم في المسعى ولا سيما يوم العيد قد كان أمراً مشهوداً مشهوراً. وأما عرفة فقد كانت عراءً يتحاشى الناس كثبان رملها، ويرغبون في موطن الصخرات أسفل الجبل ويتدافعون عندها، حتى ضَرَب بالازدحام فيها المثالَ بعضُ الشعراء، بل كان التدافع على جبلها عادةً قديمة قبل الإسلام كما في قول نابغة بني ذبيان:
بمُصْطَحِباتٍ من لَصافٍ وثَبْرةٍ
يَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهنَّ التَّدافُعُ
وإلالٌ: ذكر السهيلي وغيره أنه جبلُ عرفة، قال: سُمِّي بذلك لأن الحجيج إذا رأوه ألوا في السير؛ أي: اجتهدوا فيه ليدركوا الموقف[6].
وقد جاء ذكر الوقوف عند إلالٍ في شعر الإسلاميين المخضرمين والمتأخرين، ولا يزال التدافع عنده حاصلاً حتى عصرنا هذا، فالإل هو ما يعرف اليوم بجبل الرحمة كما ذكر شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم)[7] وكثير من الفقهاء[8].
فلا عجب أن تقرأ في كثير من تراجم بعض الأعلام قولهم: مات في الحج، أو مات حاجاً. مع أنهم أعلام هم مَحَطُّ رِعايةٍ ومَحَلُّ عناية. أمّا عموم الناس فما أكثرَ حوادثهم! فتارةً تقرأ في كتب التاريخ: مات ستة آلاف من حجاج كذا بسبب قلة الميرة وحجز مناهل الماء[9]، وتارةً تقرأ خبر مقتل كل حجاج بعض الأصقاع، كما حصل لحجاج أصبهان في بعض الأعوام وكانوا زهاء عشرين ألفاً[10]، وفي حوادث بعض الأعوام يقول ابن كثير - رحمه الله -: «ولم يقف بعرفة عامئذٍ سواه ومن معه من الحرامِيَّةِ، لا تقبَّل الله منهم صرفاً ولا عدلاً»[11]! وتارةً تقرأ عن الموت بسبب التدافع عند باب كذا من المسجد، قال ابن حجر في حوادث سنة أربع وثمانين وسبعمائة من إنباء الغُمْرِ: «وفيها كان الحَاجُّ بمكة كثيراً؛ بحيث مات من الزحام بباب السلام أربعون نفساً، أخبر الشيخ ناصر الدين بن عشائر أنه شاهد منهم سبعة عشر نفساً موتى بعد أن ارتفع الزحام، وأن شيوخ مكة ذكروا أنهم لم يروا الحاج أكثر منهم في تلك السنة»[12]. وذكر ابن الضياء في تاريخ مكة أنه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة مات عند الكعبة أربعة وثلاثون نفراً. وتارة يقول المؤرخ: وفيها مات بالمسعى جماعة من الزحام؛ لكثرة الخلق الذين حجُّوا في هذه السنة من العراق والشام[13].
والأخبار كثيرة شاهدة على أن الحج لم يكن بالأمر اليسير، وأن توسعات الحرم وانبساط الأمن ومخترعات العصر؛ قد سببت كثيراً من التيسير، وأن الزحام ليس بالشيء الجديد، أو النازلة التي ما عرفها الأسلاف، كيف وقد قيل – كما ذكر صاحب القاموس وغيره -: إنما سميت مكة بكَّة لازدحام الناس بها؟! بل لازدحام الناس والدواب والأنعام وأدائهم المناسك بها في العهد الأول، وهذا ما خفَّ كثيراً في هـذه الأزمــان، فــلا أحـد يرمي من على بعيــر أو يطوف به.
ومع ذلك فقد فَقِهت تلك الأجيال أن الحج تكليف وجهاد لا ينفك عن مشقة مقصودة مُطَاقة، أو عارضة فوق الطاقة، وهذه هي التي ينبغي أن تزال إن قدر عليها بغير تحريف التكليف، أما المشقة المطاقة فعليها مدار التكليف، وبها يتحقق الابتلاء الذي من أجله خُلقت الخليقة: {الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: ٢]، وبهـا يظهر بعض كمال عدل الله الذي خلق الخلائق وهو أعلــم بما كانوا عاملين، ولكنه أناط جزاءهم بالتكليف، بعد أن خلقهم في كَبَد.
وقد أدرك من أدرك من العامة في الغابر والحاضر هذه المعاني، فكانوا يحتسبون المشقة الملفية في الحج، بل كانوا يستعذبون تلك الرحلة إلى البقاع المباركة، ويفرحون بالتنقلات بين المشاعر لإقامة الشعائر؛ أُنساً بما يجدونه في أنفسهم من آثار تلك المنازل.
وجدير بمواطنَ عُمرت بالوحي والتنزيل، وتردَّد بها جبرائيل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت أرجاؤها بالتقديس والتسبيح، واشتملت على مشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين، ومتبوأ خاتم النبيين، حيث انفجر معين الرسالة وفاض عبابها، أرض المعجزات المشتهرة منذ زمن الخليل، ومجال الرسالات السماوية من عهد آدم، قصدها الأنبياء والمرسلون، وأَمَّها الشهداء والصِّدِّيقون، وحجَّ إليها الأولياء والصالحون، وضَجَّ بالدعاء فيها إبراهيم، ورتع بين جنباتها إسماعيل، وأحبها من نشأ فيها #؛ جدير بتلك المواطن أن تشتاق النفوس إليها، وتبذل نفائس الأموال راضية بغُنْم الوصول إليها، وحريٌّ أن تُعَظَّم حرماتها، وتُحترم عَرَصاتها. وكيفَ لا تأنس النفوس بها وتطمئن فيها، وتستعذب ما تلقاه في أَمِّها وإن بعدت الشُّقَّة، وتضاعفت المشقة، وشتان.. شتان ما بين الغُنْم والغُرْم!
ولئن تلذَّذ الـمُفَرِّطون بالمعصية، ونشطوا للرقص والطرب، فتجد أحدهم في حركة دؤوبة يصل ليله بنهاره لا يكلُّ ولا يملُّ؛ فإن قلوب المحبين لرب العالمين تجد الأنس واللذة في الطاعة، وتستعذب المشقة العارضة أثناء العبادة.
بل ليــس أثر تلــك المشاعــر ومكــانة ذلــك النسك مما اختصَّــت به نفوس أهل الصلاح والطاعة، بل هو معنى تشهده في أحــوال العــامة؛ فكــم رأيــت نفساً عند بيت الله المعظــم ربما تلبَّــس صاحبها بشيء محرَّم؛ تشق طريقها بعد رحلة مضنيــة بعــزم يحــدوه الشوق نحــو الكعبــة المشــرفة، يركب أحدُهم قَحمة الطريق، ويصابر اللَأْواء والضيق؛ شوقاً إلى البيت العتيــق، فإذا رأى البيــت نَسِي بُعدَ الشُّقَّةِ وما لقيه من عَنَتٍ ومشقة، واستقل ما يستقبله، بل ربما فاضت دمعته، وظهــرت عبــرته، وشهــدت فعــاله وكلماته على استجابة الله لخليله دعوته: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ} [إبراهيم: ٧٣]، قال ابــن كثيــر: (فليــس أحد من أهل الإسلام إلا وهــو يَحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار)، ويتوقون إلى أداء المناســك علــى اختــلاف أصقاعهم وأمصارهم، فمن قائل:
تذكرت أيام الحجـيج فأَسْـبَلَتْ
جُـفُوني دماءً واستـجد بِيَ الوجدُ
وأيامنا بالـمَشْـعَرَيْنِ التي مضـتْ
وبالخَيْفِ إذ حادي الرِّكابِ بنا يحدو
فهذا يقول وذاك يخمِّس قول الآخر:
سَقا الله أَيام الحجـيج عَلى مِـنىً
مُناها ومن لـي لو يَعـود نَظِـيرُها
وَلِلَّه لَيلات الصـفا دام ذِكرُهـا
وَحـقٌّ عَلى حجاج مَكَّة شُـكرُها
وَتِلكَ لَـيالٍ لا يُقَـدَّرُ قَـدرُهـا
فَلَو شُريت لَم يَغلُ في السوقِ سِعْرُها
وَلَو بيع بالعمرِ الطَّـويل قصـيرُها
ومن تشطير غيره قوله:
حَلَّوا مواردَ عنها يُحمدُ الصَّـدْرُ
تَرحَّـلَوا وأقـامتْ عنديَ الفِـكَرُ
وأيُّ قلبٍ على التفريـق يصطبـرُ
زاروا وطافوا وحجوا البيت واعتمروا
هـذا وربـيَ فخرٌ مـا له دركُ
إلى آخر ما قال.
وأحسن غيره إذ قال:
أَيُـتـركُ ربعٌ للرسالةِ سبْسَبُ
تـَجِيءُ به هُوجُ الرياحِ وتذهبُ
ولا تَنْهَمي فيه العيونُ وتَسْكُبُ
وتُـظْلَعُ أعناقُ الذنوبِ وتُنْهَبُ
ومن المشهور قول البُرَعي اليماني في قصيدته التي منها:
يا راحـلينَ إلى مِنىً بغـيابي
هيَّجـتُـمُ يومَ الرحيل فؤادي
حرمتمُ جفني الـمنام لبُعْدكم
يا سالكين الـمنحنى والـوادي
فإذا وصلتم سالـمين فبلِّـغوا
منّي السلامَ أُهـيل ذاك الوادي
وتذكروا عند الطـواف مُتَيَّماً
صـبّاً فَنِي بالشـوق والإبعادِ
لي من ربا أطلالِ مكّةَ مـرغبٌ
فعسى الإلهُ يـجودُ لي بمرادي
ويلوحُ لي ما بـين زمزم والصفا
عند المقام سمعت صوت مـنادي
ويقول لي: يـا نائماً جُدَّ السُّرى
عرفاتُ تـجلو كلَّ قلبٍ صادي
تاللَّه! مـا أحلى المبيتَ على منى
في يوم عـيدٍ أشرفِ الأعـيادِ
إلى آخر ما قال.
ومما ذاع قــول الزمخشري قبيل رحلة الحج والمجاورة:
قامت لتمنعني المسيرَ تُماضرُ
أنَّى لها وغِـرَارُ عزميَ باترُ؟
شامَت عَقِيْقَة عزمتي فحنينها
رَعْدٌ وعيناها السحابُ الماطرُ[14]
حِنِّي رويدك لن يَرِقَّ لظبيةٍ
وبُـغامها ليثُ العرينِ الزائرُ
لو أشبهت عَبَراتُ عينك لُجَّةً
وتَعَرَّضَـت دوني فإني عابرُ
سيري تُماضرُ حيث شئـت وحدِّثي
إني إلى بطحـاءِ مكةَ سائرُ
حتى أُنيخ وبين أطْمَارِي فتىً
للكعبة البيتِ الحرامِ مجـاورُ
يا من يسافرُ في البلادِ مُنَقِّباً
إني إلى الـبلدِ الحرامِ مسافرُ
سأروح بين وفود مكة وافداً
حتى إذا صدروا فما أنا صادرُ
إلى آخر ذكره المناسك والمشاعر.
وتأمَّل حال أحدهــم وقد عــاش فـــي أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، قال يصف أحوالهم أثناء رحلة حج مضنية:
أَخفافُهُنَّ مِـن حَفاً وَمِن وَجى
مَرثـومَةٌ تَخضبُ مُبيَضّ الحَصى[15]
يَحمِلنَ كُلَّ شاحِبٍ مُحقَوقفٍ
مِن طـولِ تدآبِ الغُدُوِّ وَالسُّرى
بَرٍّ بَرى طولُ الطَّـوى جُثمانَهُ
فَهوَ كَقِدحِ النَّبعِ مَحـنِيُّ القَـرا[16]
بعدت عليهم الشُّقَّة، وتجشموا المشقة فجاؤوا من كل فجٍّ عميق، قل لي بربك من أجل ماذا؟ قال:
يَنوي الـتي فَضَّلَها ربُّ العُلى
لَـمّا دَحَـا تُربَتَـها عَلـى البنى
قصدٌ شريفٌ استقلوا فيه ما صنعوا، فجاشت نفوسهم بمشاعرها، وفاضت عيونهم بمدامعها:
حَـتّى إِذا قابَلَها استَعبَـرَ لا
يَملِكُ دَمعَ العَينِ مِن حَيثُ جَرى
ولعلك تعجب إن علمت أن قائلَ هذه الأبيات، الواصفَ لتلك المشاعر والأحاسيس؛ ليس من أفراد الزُّهاد، بل لا يعد في العُبَّاد، بل هو رجل موصوف بالإسراف والتقصير!
ومن الذائع الشهير قول شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة:
بالله قـولي لـه في غـيرِ مَعْتَـبَةٍ
ماذا أردت بطولِ الـمُكْثِ في اليمنِ؟
إن كنتَ حاولتَ دنيا أو ظَفِرْتَ بها
فما أخـذتَ بتركِ الحَجِّ من ثمنِ!
وإن جاء هذا في صدد النسيب فإن مضمونه يشعر بمكانة البيت العتيق عند العامة.
ولهذا يُقال: إن ابن جريج قال: ما ظننت أن الله - عز وجل - ينفع أحداً بشعر عمرَ بنِ أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشداً ينشد قولَه - وذكر البيتين المتقدمين -قال: فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحاج وحججت[17].
بل تأمَّل قول أحدهم وهو موصوف بفسق يجاهر فيقول:
إذا صَلَّيتُ خمساً كلَّ يـومٍ
فإن الله يغفر لـي فسوقـي
ولم أشرك برب الناس شيئاً
فقد أمسكت بالدّين الوثـيقِ
وجاهدت العدو ونلت مالاً
يُبَلِّغُـني إلى البيـت العتيـقِ
فهذا الدين ليس به خفـاءٌ
دَعُونِـي من بُنَيَّات الطريقِ
فانظر إلى هذا مع حاله يــرى الجهــاد لأجـل تحصيل ما يبلغه البيتَ العتيقَ ديناً حقاً عليه.
وإذا علمت هذا عرفت لِمَ طُوِيَتْ عن القوم المشقة، وإذا كانت هذه حال من ذكرنا من المقَصِّرِين؛ فكيف بحال أهل الإيمان واليقين، فلا عجب أن قَلَّت المسائل التي توسَّع فيها وترخَّص من نبتوا في دبر الأيام من متفقهة هذا الزمان بدعوى التيسير وَفْقاً للمشقة النازلة في هذا العصر القاسي بزعمهم!
[1] أعني: بعد تحويل المهدي. وانظر: إنباء الغمر بأنباء العمر، لابن حجر، فقد ذكره في حوادث سنة سبع وثلاثين وثمانمائة: 3/514، وكذلك بعد التحويل من أعلى مكة في القرن الماضي.
[2] عقد الفاكهي في أخبار مكة عنواناً: «ذكر الطواف بالبيت سباحة في السيل العظيم ومن فعله»: 1/250.
[3] حكاه مقرراً في كشف الخفاء: 2/1522.
[4] ينظر: تاريخ مكة، له: 2/95.
[5] ينظر: منسكه المطبوع بعنوان: كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة، بتحقيق: حمد الجاسر، ص502، قال: «وذَرْع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس اثنان وثلاثون ذراعاً».
[6] ينظر: الروض الأنف، فصل في شرح لامية أبي طالب: 1/137، وقد ذكر صاحب اللسان أن اسم الجبل إلالاً وألالاً؛ بالفتح والكسر على وزن بِلال وجَلال، والمشهور الكسر كما ذكر النووي وغيره.
[7] ص428 من طبعة الفقي، ووقع بدلاً من إلال: الأول، ولعله خطأ مطبعي أو تصحيف.
[8] ينظر مثلاً: المجموع للنووي: 8/132، والفروع لابن مفلح: 3/507، تبيين الحقائق للزيلعي: 2/24، ومواهب الجليل للحطاب: 3/92.
[9] تنظر: البداية والنهاية: 13/47؛ حوادث (604)، وانظر: 11/347؛ حوادث (403).
[10] تنظر: البداية والنهاية: 11/101؛ حوادث (294).
[11] البداية والنهاية 11/10؛ سنة (251).
[12] إنباء الغمر بأنباء العمر: 1/260-261.
[13] ينظر: إتحاف الورى بأخبار أم القرى: 3/37، سنة 619، لابن فهد، وقد ساق في حوادث السنين من هذا أضرباً وأشكالاً.
[14] كأن معناه: أغمدت سيف عزيمتي، فشام سيفه تأتي بمعنى: أغمده واستله، والعقائق: ما يبقى في السحاب من شعاع وبه تشبه السيوف.
[15] يصف تشقق أخفاف الرواحل حتى سال الدم فصبغ الأرض.
[16] القدح: السهم لا نصل له ولا أصل، والنبع: شجر تصنع منه السهام، والقَرا: الظهر أو وسطه، ويروى القوى: أي: الظهر.
[17] الأغاني: 1/120.
*عن مجلة البيان