ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
د.محمد إبراهيم العشماوي
الأستاذ في جامعة الأزهر
كنت قديما أستوعب أن طالب الأزهر يناقش في قضايا فرضت بعض الحركات الإسلامية النقاش فيها؛ مثل: التصوف، والتوسل، والصلاة في المساجد التي بها أضرحة، والتصوير، واللحية، والنقاب، وعمل المرأة، وما أشبه ذلك!
لكنني لم ينقض عجبي من تسلل أفكار جديدة في غاية الخطورة، إلى عقول بعض طلاب الأزهر، فقد كنت أشرح لطلاب السنة النهائية؛ أحاديث الجهاد، وشرعت أبين لهم الوجه الحضاري للحرب في الإسلام، فقاطعني طالب ينم مظهره عن مخبره، وطريقة كلامه عن أسلوب تفكيره، فقال لي: لكن الكافر مستباح الدم!!
فأصابتني صدمة شديدة من قوله، لكنني استوعبتها لأبين له خطأ قوله، فقلت له: يا ولدي! أنا أعرفك، وأعرف ما يدور الآن في رأسك، ولو شئت ذكرته لك، وأعرف ما سينتهي إليه أمرك!
فاحمر وجه الطالب، وأصابه الاندهاش!
فقلت له: لا تندهش، البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير!
ولكن اعلم يا ولدي أن الكافر في الأصل معصوم الدم، ولو لم تكن لله حكمة في خلقه ما أوجده أصلا؛ لأنه يعلم كفره أزلا، فلوجوده حكمة في علم الله، ولا يستباح دمه إلا بحق، ومن هذا الحق حالة الحرب، التي تستباح فيها جميع الدماء، حتى دماء المسلمين تستباح من عدوهم!
ولو كان الأمر كما تقول لوجب على كل مسلم أن يقتل كل كافر يجده أمامه، وتحول العالم إلى شلال من الدماء!
فلم يلبث أن قال: لكن لا بد أن يعاملوا بإذلال وإهانة!
فقلت له: ألم أقل لك إنني أعرف ما يدور في رأسك!
وحتى هذه أنت مخطئ فيها؛ لأنه لا وجه لمعاملة المسالمين منهم بهذه الطريقة المذلة المهينة، لأن الله تعالى فرق بين نوعين منهم في طريقة المعاملة، فقال جل شأنه: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم؛ أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم؛ وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون".
فأي بيان أوضح من بيان القرآن؟!
فهل من البر أن نذلهم ونهينهم، ونضطرهم إلى أضيق الطرق، ونلبسهم ملابس مميزة عنا، مع أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا؟!
فقال: لكن عمر قال ذلك!
فقلت: لو قاله عمر لكان من باب السياسة الشرعية، وليس ملزما في جميع الأحوال، بل حيث دعت إليه الحاجة!
ولا أدري لم تذكرت طالبا كان في كلية الهندسة، في إحدى الجامعات المدنية، وكان يحبني، ويصلي خلفي، ويسمع خطبتي، ثم تحول علي فجأة، فكان إذا لقيني لا يسلم علي، وإذا سلمت عليه لم يرد علي السلام!
فاستوقفته مرة، وأمسكت بيده، وقلت له: لم لا ترد علي السلام؟!
فتحشم برهة، ثم قال: لأنك مبتدع، ولا يجوز إلقاء السلام على المبتدع، ولا الرد عليه!
فقلت له: وما وجه ابتداعي؟
فقال: لأنك تذكر كلام الصوفية في خطبك، والصوفية كفار!
قلت: إذن فأنا كافر، ولست بمبتدع!
فقال: لا، لم تصل بعد إلى الكفر، لأن ناقل الكفر ليس بكافر!
فقلت له: وكلام الصوفية الذي أذكره؛ هل هو مخالف للشريعة أم موافق لها؟
فقال: حتى ولو كان موافقا؛ فلا يجوز لك ذكره أصلا!
فتركته لحاله، وقلت: الكلام معك مضيعة للوقت!
ثم عرفت أنه يحضر دروسا لطبيب أو لصيدلاني في بعض المساجد، وهو الذي لقنه هذا الفكر!
ثم عرفت بعد ذلك أنه تعثر في الكلية، وفشل في حياته الدراسية، وأصابه شبه هوس، وكان والده كثير الشكوى لي من عقوقه!
تذكرت طالب الهندسة وأنا أحاور طالب الأزهر، فقلت: قد يكون لطالب الهندسة العذر في اعتناق هاته الأفكار؛ لأنه لا شيوخ له سوى الأطباء والصيادلة!
ولكن أي عذر لطالب الأزهر وقد أكرمه الله بالشيوخ؟!
فأين الخلل يا قوم؟!