مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/12/21 15:11
الدبلوماسي المفقود ومصانع الأفكار: هل نمتلك الجرأة لإنفاق أموالنا على “العقول” بدلاً من “الأعطيات”؟
في المقالين السابقين، شخصنا الداء: نحن “عمالقة ماليون” ولكننا “أقزام استراتيجيون”. واتفقنا على أن الحل يكمن في التخلي عن عقلية “العمل الفسيفسائي” (كفالة يتيم هنا وهناك) لصالح “هندسة النظم” (صناعة المناهج والسياسات).

ولكن، لكي ننتقل من خانة “الممول” الذي يوقع الشيكات، إلى خانة “الشريك” الذي يشارك في صياغة الحلول الدولية، سنصطدم بعقبة كأداء. عقبة لا يمكن حلها بالمال وحده، لأنها تتعلق بما هو أثمن من المال: “العقول”.

السؤال الصادم الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: لو دُعينا غداً للجلوس على الطاولة المستديرة في جنيف أو نيويورك لتصميم مستقبل التعليم في أفريقيا، فمن سنرسل؟ هل لدينا الكوادر المؤهلة للتفاوض، وفرض رؤيتنا، وصياغة السياسات بلغة يفهمها العالم؟ أم سنرسل موظفين إداريين طيبين، يضيعون في دهاليز البيروقراطية الدولية؟ هنا تظهر الدبلوماسية الإنسانية كمدخل أساسي لتحديد نوع الكادر المطلوب في مستقبل العمل الدولي.

البحث عن “الدبلوماسي الإنساني”
مشكلتنا الكبرى اليوم ليست في “خزائن المال”، بل في “خزائن العقول”. مؤسساتنا الخيرية مليئة بالإداريين والمحاسبين والمنفذين الميدانيين الأكفاء، لكنها تعاني من فقر مدقع في نوعية خاصة جداً من البشر: “الدبلوماسي الإنساني“.

الدبلوماسي الإنساني ليس مجرد موظف إغاثة يوزع البطانيات. إنه شخصية مركبة؛ يمتلك قلباً إنسانياً، وعقلاً سياسياً، ولساناً دبلوماسياً. هو الشخص القادر على فهم تعقيدات القانون الدولي، والتفاوض مع الحكومات، وبناء التحالفات، وتحويل “القيم الإسلامية” إلى “سياسات تنموية” قابلة للتطبيق.

هذا الكادر هو “الحلقة المفقودة” في سلسلتنا. وللأسف، قطاعنا الخيري لا يزال عاجزاً عن استقطاب هذه العقول اللامعة، لأننا ببساطة لا نملك مسارات مهنية واضحة لهم، ولا ننافس القطاعين الحكومي والخاص في المزايا.

الخبر الجيد أن المنطقة بدأت تستيقظ. برامج الماجستير في العمل الإنساني والدبلوماسية بدأت تظهر في جامعاتنا وأكاديمياتنا، لتعزيز مفاهيم الدبلوماسية الإنسانية الحديثة. لكن التعليم وحده لا يكفي؛ يجب أن تفتح مؤسساتنا أبوابها ومناصبها القيادية لهؤلاء الخريجين ليكونوا هم قادة التغيير.

من “مستهلكين” للأفكار إلى “منتجين” لها
إذا كانت الكوادر البشرية هي “الجنود”، فإن المعرفة هي “الذخيرة”. وهنا نأتي للمفارقة الثانية: نحن نمول العالم، لكننا نفكر بـ “عقول مستأجرة”.

حين نريد تقييم الوضع في دولة ما، أو تصميم استراتيجية تدخل، نلجأ فوراً لتقارير البنك الدولي، أو أبحاث المراكز الغربية. نحن “مستهلكون” نهمون للمعرفة التي أنتجها غيرنا، وغالباً ما تكون هذه المعرفة مفصلة لخدمة رؤاهم هم، لا رؤيتنا نحن.

السيادة الحقيقية تبدأ من “السيادة المعرفية”. لكي نكون شركاء، يجب أن نتحول إلى “منتجين” للأفكار. نحن بحاجة ماسة لتأسيس “مصانع أفكار” (Think Tanks) خليجية متخصصة في العمل الإنساني والتنموي.

تخيل لو كان لدينا مراكز دراسات استراتيجية تابعة لمؤسساتنا الكبرى، تصدر أبحاثاً رصينة عن “التمكين الاقتصادي في العالم الإسلامي“، أو “نماذج التعليم في مناطق النزاع”. حينها، سيأتي العالم إلينا ليس لطلب المال فقط، بل لطلب “الرأي” و”الخبرة”. حينها ستتحول مؤسساتنا من “محافظ نقود” إلى “بيوت خبرة”.

الأوقاف الاستراتيجية: الاستثمار في “غير الملموس”
قد يقول قائل: “ولكن، الإنفاق على الأبحاث والتدريب مكلف، وليس له عائد ملموس مثل بناء مسجد أو حفر بئر”. هنا مربط الفرس. وهنا نحتاج لثورة في مفهوم “الوقف”.

تاريخياً، كان الوقف الإسلامي هو الممول الأول للعلماء والمكتبات والمدارس. اليوم، انحصر الوقف في “العقار” (مبنى يؤجر) ويصرف ريعه في “الإعاشة” (طعام وشراب). نحن بحاجة لابتكار “أوقاف استراتيجية” توجه ريعها للاستثمار في “الأصول غير الملموسة“:

وقف المعرفة: يمول المنح البحثية ومراكز الفكر.
وقف تنمية العقول: يمول منحاً دراسية لطلابنا في أرقى جامعات العالم لدراسة التنمية والقانون الدولي.
هذا ليس ترفاً بل هي أدوات تدعم مسار الدبلوماسية الإنسانية في منطقتنا. والضمانة الوحيدة للاستدامة.

حلقة النفوذ المستدام
الصورة التي يجب أن نسعى لها هي خلق “دورة حياة” متكاملة للنفوذ:

وقف استراتيجي يدر عائداً مالياً مستداماً.
يُمول هذا العائد مراكز فكر تنتج معرفة ورؤى.
ويُمول برامج تدريب تصنع “دبلوماسيين إنسانيين”.
يقود هؤلاء الدبلوماسيون مؤسساتنا نحو شراكات دولية مؤثرة، عبر أدوات الدبلوماسية الإنسانية..
هذه هي “هندسة المعرفة” الحقيقية. إنها الجرأة على أن ننفق المليار القادم ليس على الحجارة، بل على البشر. لأن الحجارة قد تتهدم، لكن العقول هي التي تبني الأمم، وهي التي ستضمن لنا مقعداً دائماً على طاولة الكبار.

ولكن، حتى مع وجود المال والعقول، تبقى الساحة الدولية “حقل ألغام” سياسي. كيف نناور فيها؟ وكيف نبني تحالفات ذكية تحمينا من “فزاعة” الإرهاب وتفتح لنا أبواب الجنوب العالمي؟ هذا ما سنرسم خارطته في المقال الرابع والأخير: “لعبة الكبار في الجنوب العالمي”.

*نقلاً عن موقع إسلام أون لاين
أضافة تعليق