مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/12/03 17:51
التنمية التائهة: حين يقود المشهد فراغ فكري عميق
في سباقنا نحو التنمية، نبني أعلى الأبراج، ونفتتح أضخم المشاريع، ونحتفي بلغة الأرقام. نرى “التنمية” تتجسد في هياكل خرسانية وتقنيات متسارعة. لكن، وسط هذا الضجيج المادي، يبرز سؤال مقلق: من يقود “فكر” هذه التنمية؟ ومن يرسم بوصلتها الأخلاقية والثقافية؟ إننا نعيش في سياق تتزايد فيه ملامح أزمة الفكر في التنمية.
 
نحن نواجه اليوم مفارقة صارخة: بينما تتضخم مشاريعنا، يبدو أن نخبنا الفكرية تضمر.
 
إننا نشهد ما يمكن تسميته بـ “ضمور النخب الثقافية المستنيرة”. فالمجتمع الذي يطمح إلى تنمية حقيقية ومستدامة لا يبنيها بالمهندسين والتقنيين وحدهم، بل يحتاج إلى العقول التي تطرح الأسئلة الكبرى حول الهوية والغاية والمصير. وهذه العقول لها حاضنة طبيعية تستطيع أن تعالج جذور أزمة الفكر في التنمية بدل الاكتفاء بمعالجة نتائجها..
 
إن العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الحاضنة الطبيعية التي تتشكل فيها النخب الفكرية والثقافية القادرة على قيادة المجتمع، وتوجيه الرأي العام، وتقديم رؤى نقدية وبناءة. التاريخ، الفلسفة، علم الاجتماع، والأدب؛ هذه ليست تخصصات ترفيهية، بل هي المصنع الذي ينتج “ضمير الأمة” وعقلها النقدي. وهي التي يمكنها أن تمنع تفاقم أزمة الفكر في التنمية عبر تكوين وعي يوازن بين المادة والغاية.
 
وعندما تضمر هذه العلوم، وتُهمَّش في جامعاتنا لصالح التخصصات “التي يطلبها السوق” فقط، يضمر معها بالضرورة جيل المفكرين والمثقفين العموميين.
وهذا الفراغ لا يبقى فارغًا. إنه يُملأ حتمًا، ولكن ليس بالأفضل. يُترَك المجال مفتوحاً أمام أنصاف المتعلمين، الذين يقدمون إجابات سطحية لتحديات معقدة، أو الدعاة غير المؤهلين الذين قد يختزلون قضايا المجتمع الكبرى في أبعاد ضيقة، أو النخب السياسية والاقتصادية التي تفتقر إلى العمق الفكري والثقافي اللازم لقيادة مجتمعات معقدة تواجه تحديات مصيرية.
 
وهنا يكمن الخطر الحقيقي على التنمية.
 
فالتنمية التي تقودها نخب تفتقر إلى العمق الفكري، تتحول إلى مجرد “إدارة مشاريع” وليست “بناء مستقبل”. تصبح تنمية بلا روح، تركز على “الكفاءة” وتهمل “الإنسان”، وتقدس “الاستهلاك” وتنسى “القيم”.
نحن لا نريد تنمية تائهة. التنمية المبتغاة هي التي توازن بين عمران الشكل وعمران الروح. وهذا يتطلب قرارًا استراتيجيًا شجاعًا: أن نعيد الاستثمار في العقول التي ستقود هذا العمران. نحتاج أن نعيد الاعتبار لـ “مصانع الفكر” – كليات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية – ليس لأنها توفر وظائف (رغم أنها تفعل)، بل لأنها توفر “الحكمة” و”البصيرة” التي لا غنى عنها لقيادة أي نهضة حقيقية.
 
فبدون نخبة مستنيرة تقود الدفة، سنظل نبني هياكل رائعة، لكنها فارغة من المعنى.

*نقلا عن موقع اسلام اون لاين 
أضافة تعليق