لطالما ارتبط العمل الإنساني في المخيلة البشرية بصورة من النبل المطلق، كقوة خير عالمية تتجاوز السياسة والدين. لكن على مدى العقدين الماضيين، تشظت هذه الصورة، ووجد قطاع العمل الخيري نفسه في قلب عاصفة من التسييس والاستقطاب.
لفهم هذه الأزمة، لا بد من العودة إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين سعت القوى الغربية جاهدة لفهم الديناميكيات الداخلية للمجتمعات الإسلامية. وتُعد ورقة بحثية مؤثرة صادرة عن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) عام 2005 بعنوان "فكرة وممارسة العمل الخيري في العالم الإسلامي" نموذجاً لهذا التفكير الإستراتيجي. لقد أقرت تلك الوثيقة بالقوة الهائلة لهذا القطاع، مقدرة حجمه آنذاك بما يتراوح بين 250 مليار دولار إلى تريليون دولار سنوياً، وأشارت إلى أنه يتمتع بثقة محلية تفوق بكثير تلك التي تحظى بها المنظمات الغربية.
وينطلق هذا المقال من مقاربة تحليلية سوسيو-سياسية، تسعى إلى تفكيك العلاقة الجدلية بين التحولات الجيوسياسية، والسياسات الحكومية، والديناميكيات الاجتماعية الناتجة عن ذلك داخل قطاع العمل الخيري. سنستعرض كيف كانت التوصيات، التي بدت "مستنيرة" في تلك الفترة، تحمل في طياتها بذور تناقض أفضى -عبر سياسات ممنهجة- إلى الواقع المأساوي الذي نشهده اليوم.
لقد وجدت حركة الكماشة هذه تجسيدها الأكثر دموية في غزة، حيث انهارت المنظومة الإنسانية بشكل كامل. كل ذلك أدى إلى ما يمكن تسميته بـ"انهيار الثقة" المنهجي لدى المجتمعات المستفيدة تجاه نوايا المؤسسات الدولية
تشخيص الماضي: توصيات متناقضة وأجندة احتواء
في ظاهرها، بدت توصيات ورقة USAID -وهي بطبيعة الحال مؤسسة تتبع الحكومة الأميركية، ولا ضير في ذلك بحد ذاته لو التزمت بفصل المسارات- تقدمية، حيث دعت إلى الشراكة مع المنظمات الخيرية الإسلامية، بل والدفاع عن استقلاليتها في مواجهة حكوماتها المحلية. غير أن هذا التوجه -الذي قد يرى في العمل الإنساني أداة يمكن توظيفها ضمن أجندات الدولة، وهو ما قد تعكسه هذه الوثيقة في سياقها الأوسع- هو ما يكمن فيه التناقض الجوهري؛ فجوهر المشكلة في هذه الدعوة يكمن في تجاهلها لحقيقة أن أعظم أصول أي منظمة محلية هو استقلاليتها المتصورة ومصداقيتها. إن "الشراكة" مع قوة عظمى، خاصة في سياق "الحرب على الإرهاب"، كانت بمثابة "قبلة الموت" لهذه المصداقية.
لذا، يمكن قراءة هذه النوايا المعلنة كإستراتيجية "احتواء" ناعمة؛ ونعني بها هنا مجموعة السياسات الهادفة إلى حصر تأثير القطاع الخيري في المجال الخدمي، وتوجيهه نحو أهداف لا تتحدى السلطة القائمة أو السياسات الغربية، مع تحييد أي دور سياسي أو اجتماعي مستقل قد يلعبه. كانت الخطة، على ما يبدو، هي توظيف هذه الطاقة الاجتماعية الهائلة ودمجها ضمن أهداف السياسة الخارجية الأميركية، لا تمكينها كقوة تغيير مستقلة.
الحاضر: ضغوط خارجية وخنق ممنهج
تزايدت الشكوك لدى الجمعيات الخيرية بأن هناك ضغوطاً خارجية منظمة تمارَس على الدول لاحتواء العمل الخيري، وهذه الشكوك ليست مجرد هواجس، بل هي مبنية على حقائق. فبعد أحداث سبتمبر/ أيلول، أنشأت الولايات المتحدة بنية تحتية مالية وأمنية عالمية، تقودها "مجموعة العمل المالي" (FATF)، التي فرضت معايير صارمة لمكافحة تمويل الإرهاب. من الإنصاف القول إن جزءاً من هذه الإجراءات جاء بهدف مشروع، لكن المشكلة تكمن في أن التطبيق العملي لهذه السياسات -كما وثقت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي- اتسم بالتعميم المفرط، ما أدى إلى فرض قيود شاملة على المجتمع المدني تحت شعار الامتثال للمعايير الدولية.
لقد وجدت حكومات عديدة في هذه الضغوط الخارجية الغطاء المثالي لممارسة أجندتها الخاصة في قمع أي نشاط أهلي مستقل؛ وهو ما يمثل استمراراً لنهج تاريخي رصدته ورقة USAID نفسها، حين أشارت إلى أن دولاً مثل مصر قامت منذ عقود بتأميم المؤسسات الدينية للسيطرة عليها. اليوم، أصبح هذا التقييد الداخلي مبرراً بالاستجابة "للمتطلبات الدولية".. والنتيجة كانت حركة كماشة قاتلة: من الخارج، سياسات "إزالة المخاطر" (De-risking)، التي تدفع البنوك لإغلاق حسابات الجمعيات الخيرية.. ومن الداخل، استغلال الحكومات لهذه البيئة لتعزيز قبضتها الأمنية.
غزة: الانهيار الدامي للمنظومة الإنسانية
لقد وجدت حركة الكماشة هذه تجسيدها الأكثر دموية في غزة، حيث انهارت المنظومة الإنسانية بشكل كامل. كل ذلك أدى إلى ما يمكن تسميته بـ"انهيار الثقة" المنهجي لدى المجتمعات المستفيدة تجاه نوايا المؤسسات الدولية.
والمفارقة الأعمق هي أن هذا الانهيار لم يعد يقتصر على المنظمات الأهلية، بل بدأ يطول أذرع القوى الكبرى نفسها. ففي الأشهر القليلة الماضية، شهدنا كيف أن كيانات حكومية غربية، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) نفسها، قد تم إيقاف أو تعليق عملها في مناطق أزمات، كما حدث في النيجر بعد الانقلاب العسكري. هذه الأحداث تحمل رسالة رمزية بليغة؛ فالنظام الذي بُني على الشك، والذي طمس الحدود بين الإنساني والعسكري، قد بدأ يأكل نفسه.
يجب على المنظمات أن تنشر بشكل دوري وواضح قائمة بجميع مصادر تمويلها وشركائها التشغيليين. كما يجب تفعيل "لجان رقابة مجتمعية" حقيقية، مكونة من المستفيدين أنفسهم، ومنحها صلاحيات للاطلاع على خطط المشاريع وميزانياتها
رؤية جديدة: بناء المنعة عبر التنمية الشاملة
إن الأزمة الحالية تتطلب تجاوز النقد إلى طرح بدائل جذرية؛ فلا يمكن إصلاح الثقة ضمن نفس النظام الذي حطمها، بل لا بد من بناء أسس جديدة للاستقلالية والمنعة، ونستلهم تصوراتنا من التصور الحضاري الذي كان يضع للسلطان مكاناً وللقضاء مكاناً، ولا يتعدى أحد على أحد.
هو التصور الذي كان يرى أن حرمة الفرد أهم من حرمة البيت الحرام، وفقا لما جاء في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبا بك من بيت، ما أعظمك، وأعظم حرمتك! ولَلمؤمن أعظم عند الله حرمة منك". إنه التصور الذي يرى أن المجتمع يجب أن يعيل نفسه ويدير أموره بنفسه -وهو قادر- ويدير الوقف الحضاري، وهو أسمى النماذج التي طبقت في الحضارة. ونساهم في اقتراح ما يلي:
- من المؤسسة الاجتماعية إلى نموذج العمل الشامل: ليكون بدلاً من برنامج لتوزيع السلال الغذائية، السعي للبحث عن النماذج التي بها تصبح المؤسسات والجمعيات العاملة "ممكّنة اقتصادياً وذاتياً" لتنفيذ برامجها.
- الارتقاء بالوقف إلى "الوقف الاستثماري الريادي: وذلك بتأسيس "أوقاف استثمارية ريادية" تعمل كصناديق رأس مال استثماري اجتماعي، ما يخلق تأثيراً مضاعفاً ومستداماً.
- بناء "المنعة القانونية" عبر الامتثال الفائق: بدلاً من الدخول في مواجهات قانونية محفوفة بالمخاطر، ويتم ذلك عبر تأسيس "مراكز تميز للحوكمة مستقلة" تساعد المنظمات على تطبيق التشريعات، والحصول على شهادات تدقيق من طرف ثالث محايد، ما يمنحها حصانة قوية ضد أي اتهامات تعسفية.
- إعادة بناء الثقة عبر "الشفافية الجذرية": يجب على المنظمات أن تنشر بشكل دوري وواضح قائمة بجميع مصادر تمويلها وشركائها التشغيليين. كما يجب تفعيل "لجان رقابة مجتمعية" حقيقية، مكونة من المستفيدين أنفسهم، ومنحها صلاحيات للاطلاع على خطط المشاريع وميزانياتها، ما يضمن أن المساءلة تكون للمجتمع أولاً.
- ترسيخ مبدأ الفصل بين المسارات انطلاقاً من الحقوق الأصيلة والمصلحة المشتركة: أخيراً، وبعد استعراض كل الإستراتيجيات العملية، تبقى التوصية الأهم والأكثر إلحاحاً موجهة إلى كافة الأطراف الفاعلة، وفي مقدمتها الدول. إن الأساس الأخلاقي الذي يجب أن يحكم العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الدولة ومؤسساتها الأهلية، يتردد صداه في القول الخالد الذي يُنسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي وإن قيل في سياق حقوق الأفراد، فإنه اليوم يكتسب بعداً أعمق على مستوى الدول وعلاقتها بمجتمعاتها ومؤسساتها الطوعية: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".
هذا السؤال التاريخي يكتسب اليوم بعداً مؤسسياً، مذكراً بأن للمجتمعات حقاً أصيلاً في تنظيم نفسها عبر مؤسساتها الطوعية، دون وصاية أو "استعباد" من السلطة السياسية. وعليه، فإن الالتزام الصارم بالفصل التام بين المسار السياسي-العسكري والمسار الإنساني ليس مجرد خيار سياسي، بل هو واجب أخلاقي وقانوني.
إن بقاء العمل الخيري الحر والفاعل يعتمد اليوم على قدرته على فك هذا الارتباط القاتل، وتبنّي نماذج مبتكرة تبني استقلالية حقيقية، وتعود بالقطاع إلى منبعه الأصلي، وهو خدمة المجتمع وتمكينه من الداخل
والأهم من ذلك، أن هذا الفصل يصب في المحصلة النهائية في مصلحة الطرفين، الدولة والمجتمع على حد سواء؛ فالدولة التي تحترم استقلالية العمل الأهلي، تخفف عن كاهلها عبء الدعم الاجتماعي المباشر حين يفقد المجتمع ثقته في نواياها إذا ما تداخلت الأدوار. كما أن العمل الإنساني الذي ينأى بنفسه عن الارتباط الفاقع بسلطات الدولة يحمي نفسه من الاحتكاكات التي تعيق مهمته. إن الخلط بين هذه المسارات هو تكتيك قصير النظر، فالحق يبقى حقاً، والواجب يبقى واجباً.
إن الرحلة من توصيات 2005 إلى واقع غزة 2025 تكشف عن مسار ثابت من سياسات الاحتواء، والشكوك التي تساور الفاعلين في القطاع الخيري اليوم ليست هواجس، بل هي استنتاج منطقي لتجربة مريرة. ولعل الدرس الأعمق الذي يجب أن تستوعبه الحكومات، هو أن استخدام السلطة في حرف مسار العمل الإنساني والاجتماعي لا بد أن يترك بصماته العميقة على صحة المجتمع وأمنه.
إن بقاء العمل الخيري الحر والفاعل يعتمد اليوم على قدرته على فك هذا الارتباط القاتل، وتبنّي نماذج مبتكرة تبني استقلالية حقيقية، وتعود بالقطاع إلى منبعه الأصلي، وهو خدمة المجتمع وتمكينه من الداخل.