- رؤية لإعادة توجيه البوصلة في العمل الخيري
في مسيرتي وتأملاتي حول واقع العمل الخيري، وما يواجهه من تحديات قد تعيق أحيانًا قدرته على تحقيق أثر عميق ومستدام، وجدتُ أن الكثير من المبادئ التي تحكم تطور المجتمعات يمكن أن تنير طريقنا في هذا القطاع الحيوي. وفي هذا السياق، أستحضر بعمق رؤية المفكر مالك بن نبي، الذي علّمنا أن "مصدر الصعوبات كلها في تكوين الفرد، أعني في عالم الأشخاص".
انطلاقًا من إيماني بهذه الرؤية، أسعى في هذه المقالة لطرح تصوري حول الكيفية التي يمكن للمؤسسات الخيرية من خلالها، بتوجيه بوصلتها نحو "الإنسان" (المستفيد، والعامل، والمتطوع، والقائد) بدلًا من الانغماس في "عالم الأشياء" المجرد، أن تحقق فاعلية أكبر، خاصة في ظل ما أراه "أزمات نمو" تستدعي منا وقفة تأمل ورؤى متجددة، وسنستعين ببعض القصص الرمزية لتوضيح جوانب هذا التصور وجعلها أكثر قربًا للوجدان.
لنا في كتاب الله أعظم تذكرة؛ فقد نزلت سورة كاملة تعاتب النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- عتابًا شديدًا حين ظن أن مجادلة ذوي الجاه والنفوذ قد تكون أولى من الالتفات لفقير أعمى أقبل يسعى
"عالم الأشخاص" في منظماتنا الخيرية.. تشخيصي للتحديات
من خلال ملاحظاتي وتجربتي، أرى أن الكثير من الصعوبات التي تعاني منها مؤسساتنا الخيرية -كضعف الأداء، أو هدر الموارد، أو حتى الابتعاد أحيانًا عن الرسالة الأساسيّة- يمكن إرجاعها، كما أشار بن نبي، إلى خلل ما في "عالم الأشخاص" داخلها، أو في طريقة تعاملها مع هذا العالم خارجها.
لنتخيل "بستان النوايا الطيبة"؛ هذا البستان يمثل مؤسسة خيرية تأسست على نوايا صادقة ورسالة نبيلة! في بداياته، أينع وأثمر بفضل حماس وجهود مؤسسيه الأوائل، الذين كانوا بمثابة البستانيين المخلصين.. لكن مع مرور الزمن، ربما ضعف الاهتمام بهؤلاء البستانيين أنفسهم؛ لم تُصقل مهاراتهم، ولم يتم تأهيل أجيال جديدة منهم بالكفاءة المطلوبة، وربما فترت همم بعضهم بسبب غياب التحفيز أو التقدير. وفي الوقت ذاته، قد يكون فهمهم لطبيعة التربة -أي الاحتياجات الحقيقية والمتغيرة للمستفيدين- لم يتطور بالقدر الكافي.
والنتيجة؟ بدأ البستان يذبل تدريجيًّا، وأزهاره تقل نضارة، وثماره لا تكفي لسد الحاجة، رغم استمرار تدفق الماء (الموارد) ورمي البذور (المشاريع).
هنا، يتضح أن "الخلل في عالم الأشخاص" -أي في كفاءة البستانيين، ورؤيتهم، وفهمهم العميق لعملهم- هو ما أثر على حيوية البستان وإنتاجيته، بغض النظر عن النوايا الطيبة التي زُرع من أجلها.
هذا الخلل في "عالم الأشخاص" داخل منظمتنا الخيرية لا يبقى معزولًا؛ فالفرد هو من يتفاعل مع "عالم الأفكار" -أي رؤيتنا وإستراتيجياتنا وقيمنا المؤسسية- وهو من يتعامل مع "عالم الأشياء"، أي مواردنا المالية والمادية ومشاريعنا المنفذة.
وكما يوضح مالك بن نبي، فـ"إن كان تكوين هذا الفرد قاصرًا أو مشوهًا، فإن علاقته بالأفكار والأشياء ستكون بالضرورة معطوبة".
لذا، أرى أنّ القيادة التي تفتقر إلى الرؤية الملهمة أو القدرة على تحفيز فريقها، أو الموظف الذي يفتقد إلى الشغف أو الكفاءة المهنية أو الوازع الأخلاقي المتين، أو حتى نظرتنا القاصرة للمستفيد ككائن سلبي، كلها مظاهر لخلل في "عالم الأشخاص" تستدعي منا وقفة جادّة وصريحة للمراجعة والتصحيح.
وهنا يكمن الفرق الجوهري؛ فهناك أشياء قد تُقبل في عالم الأعمال التجارية، لكنها تعد خطيئة في عالم العمل الخيري. من الممكن أن تُختزل هوية الموظفين أو العملاء إلى أرقام في الشركات، ولكن من المحرم أن نهين كرامة أفرادنا أو المستفيدين من خدماتنا بالتعامل معهم كأعداد مجردة في تقاريرنا.. إن إهانة الكرامة، بأي شكل من الأشكال، محرمة في عملنا.
ويتجلى هذا الخلل بشكل أشد خطرًا حينما نرى بعض المسؤولين يضعون بينهم وبين الفقير والمحتاج حُجُبًا وأبوابًا، وكأنهم يتهربون من اللقاء الذي هو جوهر عملهم.
وفي هذا، لنا في كتاب الله أعظم تذكرة؛ فقد نزلت سورة كاملة تعاتب النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- عتابًا شديدًا حين ظن أن مجادلة ذوي الجاه والنفوذ قد تكون أولى من الالتفات لفقير أعمى أقبل يسعى.. نزلت آيات "عبس وتولى" كالصاعقة لتعدل البوصلة وتصحح المسار، وتؤكد أن قيمة الإنسان ليست في جاهه، بل في طلبه للحق؛ فكيف بنا نحن اليوم، ونحن لا نستحق الانتماء لهذا العمل النبيل إلا بوجود هذا الفقير المسكين؟
أرى أن "الثقافة المؤسسية" في عملنا الخيري -بقيمها ورسالتها ورؤيتها- هي بمثابة "عالم الأفكار"، وأن "السياسات التشغيلية" -ببرامجها ومشاريعها وإجراءاتها- هي "عالم الأشياء". والتحدي الذي أراه أمامنا هو تحقيق التناغم والانسجام الحيوي بينهما
"الفاعلية" الإنسانية في عملنا الخيري.. دعوتي لتجاوز "الأشياء" إلى الأثر
أومن بشدة، تأثرًا بفكر بن نبي حول "الفاعلية"، بأن نجاح عملنا الخيري لا يُقاس فقط بكمية "الأشياء" الموزعة أو عدد المشاريع المنجزة؛ بل أرى أن "الفاعلية" الحقيقية تكمن في قدرتنا على إحداث تغيير إيجابي ومستدام في حياة "الأشخاص" أنفسهم.
هناك فرق شاسع بين تقديم المساعدة المادية التي تسد حاجة آنية، وبين بناء "فاعلية" الإنسان بتزويده بالمهارات والأدوات، التي تفتح له آفاق المستقبل وتؤسس للاكتفاء الذاتي والكرامة.
وكما ذكر بن نبي، فإن "قيمة الفرد ككائن اجتماعي تتغير وتتطور عبر التاريخ، وتُقاس بمدى قدرته على التأثير الإيجابي في محيطه". من هذا المنطلق، أدعو مؤسساتنا الخيرية إلى أن ترى المستفيد كـ "شخص"، له كرامته وطاقاته الكامنة التي تنتظر من يكتشفها وينميها، وليس مجرد وعاء فارغ نصبّ فيه المساعدات (الأشياء).
إن المؤسسة الخيرية الفعّالة، من وجهة نظري، هي التي تسعى جاهدة لا لتوفير الدعم الآني فقط، بل الأدوات والفرص والتدريب الذي يمكّن "الأشخاص" من الوقوف على أقدامهم، والمساهمة بفاعلية في بناء حياتهم ومجتمعاتهم.
أعتقد أن القيادات الواعية والموظفين الأكفاء والمتطوعين المخلصين (الأشخاص الفاعلين) في مؤسساتنا هم من يملكون القدرة على ضمان ترجمة قيمنا النبيلة ورؤانا الطموحة إلى برامج ومشاريع مؤثرة
الفرد كهمزة وصل بين "الرؤية" و"التنفيذ" في مؤسساتنا
استلهامًا من تأكيد بن نبي على أن الثقافة (الأفكار) والسياسة (الأشياء) تتكاملان من خلال "تضامن" يشبه "بناء الكائن الحي"، أرى أن "الثقافة المؤسسية" في عملنا الخيري -بقيمها ورسالتها ورؤيتها- هي بمثابة "عالم الأفكار"، وأن "السياسات التشغيلية" -ببرامجها ومشاريعها وإجراءاتها- هي "عالم الأشياء". والتحدي الذي أراه أمامنا هو تحقيق التناغم والانسجام الحيوي بينهما.
لنتخيل قصة "المهندس المعماري والبنائين المهرة".. هناك مهندس معماري فذ، صاحب رؤية إبداعية، وضع مخططات هندسية بالغة الدقة والجمال لقصر شامخ (هذه هي الرؤية والقيم المؤسسية).
لكن، ما قيمة هذه المخططات إن لم تجد فريقًا من البنائين المهرة والحرفيين المتقنين، الذين يفهمون بعمق رؤية المهندس، ويؤمنون بها، ويمتلكون الكفاءة لتحويل تلك الخطوط والأرقام إلى واقع ملموس؟ إذا كان البناؤون يفتقرون إلى المهارة، أو الشغف، أو حتى الفهم الصحيح للمخطط، فإن القصر إما أنه لن يُبنى أبدًا، أو سيُبنى بشكل مشوّه يفتقر إلى الجمال والقوة التي أرادها المصمم.
"الأشخاص" هنا -البناؤون والحرفيون- هم همزة الوصل الحيوية، هم من يجسدون "الأفكار" (الرؤية الهندسية) ويحولونها إلى "أشياء" (القصر المشيد) بشكل صحيح ومتكامل.
وكما يؤكد بن نبي، فإن "التوفيق هذا بين الثقافة والسياسة يتحقق عن طريق الفرد، لأنه هو العنصر الواعي الموجه للطاقات الاجتماعية". لذلك، أعتقد أن القيادات الواعية والموظفين الأكفاء والمتطوعين المخلصين (الأشخاص الفاعلين) في مؤسساتنا هم من يملكون القدرة على ضمان ترجمة قيمنا النبيلة ورؤانا الطموحة إلى برامج ومشاريع مؤثرة.. هم الجسر الذي يربط بين ما نؤمن به (الأفكار) وما ننجزه على الأرض (الأشياء)، وضمان أن يكون هذا الإنجاز انعكاسًا صادقًا لتلك الرؤى.
الحاجة ماسة لقيادات خيرية تتمتع بالرؤية الإستراتيجية والكفاءة والنزاهة، قادرة على فهم "عالم الأفكار" وتوظيف "عالم الأشياء" لخدمة الإنسان بشكل أصيل، وقادرة على إلهام فرق عملها نحو هذا الهدف
بناء الإنسان كأولوية قصوى في عملنا الخيري.. رؤيتي لنهضة القطاع
انطلاقًا من تشخيص بن نبي بأن "مصدر الصعوبات كلها في تكوين الفرد"، أرى أن أي مشروع تطويري حقيقي في قطاعنا الخيري يجب أن يضع "بناء الإنسان" على رأس أولوياته. وهذا يشمل في تصوري:
تمكين المستفيدين: يجب أن نوجه جهودنا بشكل حاسم نحو برامج التمكين، وبناء القدرات التي ترفع من "فاعلية" المستفيد، وتحوله من الاعتمادية إلى المساهمة الفاعلة. فبدلًا من الاكتفاء بتوزيع الثمار الذي يمثل إغاثة آنية، علينا أن نركز على تعليمهم كيف يغرسون أشجارهم بأنفسهم، وهو الطريق الأصعب ولكنه الأبقى أثرًا، وهو جوهر الاستثمار في "تكوين الفرد". وهنا يجب أن نتذكر دائمًا موقعنا الحقيقي في هذه المعادلة؛ فالمال مال الله، ونحن وسطاء، والمتلقي عبد لله ساقه القدر إليك. فليكن عطاؤنا كما يحب مولانا، لا كما تشتهيه أنفسنا، فهو سبحانه من لم يغلق بابه عن سائل أو محتاج.تطوير العاملين والمتطوعين: أوْمن بأن الاستثمار في تدريب وتطوير كوادرنا البشرية، وتوفير بيئة عمل محفزة تقدر إنسانيتهم وجهودهم، شرط أساسي لرفع مستوى "فاعليتهم" وجودة ما نقدمه. وجزء أصيل من هذا التطوير هو تذكير أنفسنا وإخواننا دائمًا بأننا في هذا الميدان نقف في مقام العبودية لله، لا في مقام المتفضلين على خلقه. فإن تعيين الموظفين والمديرين في مناصبهم من دون ترسيخ هذا الفهم وتدريبهم على مقتضياته هو خطأ جسيم، يعمق المأساة ويفرّغ العمل من روحه.تأهيل القيادات: الحاجة ماسة لقيادات خيرية تتمتع بالرؤية الإستراتيجية والكفاءة والنزاهة، قادرة على فهم "عالم الأفكار" وتوظيف "عالم الأشياء" لخدمة الإنسان بشكل أصيل، وقادرة على إلهام فرق عملها نحو هذا الهدف.
بهذا التركيز على بناء "الإنسان الجديد" -المستفيد المتمكن، والعامل الكفء، والقائد الملهم- يمكن لقطاعنا الخيري، في رأيي، أن يتجاوز الكثير من "رواسب" الممارسات التقليدية التي قد تحد من فاعليته، وأن يحقق نقلة نوعية في تأثيره.
لتكن مؤسساتنا الخيرية كاليد التي لا تكتفي بتقديم السمكة، بل تسعى جاهدة لتعليم الصيد، مدركة أن بناء الإنسان هو أثمن استثمار وأبقى أثر
دعوتي لعمل خيري محوره الإنسان وقوامه الفاعلية
إن دعوة مالك بن نبي للعودة إلى "الأصل: بناء الإنسان" هي، في اعتقادي، دعوة حيوية لمؤسساتنا الخيرية اليوم. إن تنمية الوعي، وترسيخ القيم، وصقل "الفاعلية" لدى الفرد -سواء كان مستفيدًا من خدماتنا أو عاملًا في صفوفنا- هي المقدمات، التي أراها ضرورية لمؤسسات خيرية قادرة على تحويل "أزمات النمو" التي قد تمر بها إلى فرص حقيقية للتطور والارتقاء.
عندما نوجّه بوصلة عملنا الخيري نحو الإنسان، كقيمة وغاية، وعندما ننظر إليه لا كمجرد هدف للمساعدة، بل كشريك وصانع للتغيير ومحور للفاعلية، حينها فقط -كما أومن- يمكن لهذا القطاع النبيل أن يحقق أثره الأعمق والأكثر استدامة.
فلتكن مؤسساتنا الخيرية كاليد التي لا تكتفي بتقديم السمكة، بل تسعى جاهدة لتعليم الصيد، مدركة أن بناء الإنسان هو أثمن استثمار وأبقى أثر. ولنتذكر دومًا أنه ليس أشد قبحًا من أن نحجب العطاءَ والمالكُ هو الله، ونحن لسنا إلا جسورًا اختارها ليمر من خلالها ذاك العطاء المبارك، وهو الطريق الأمثل لخدمة الإنسان ونهضة المجتمع.
*نقلا عن موقع الجزيرة