إن الاضطراب الذي نشهده اليوم في الولايات المتحدة ليس مجرد حمى سياسية عابرة، أو صراع حزبي معتاد. إنه عرض لمرض أعمق وأخطر، مرض يمكن تشخيصه بأنه "فقدان العقلانية الإستراتيجية"؛ تلك الحالة التي تبدأ فيها قوة عظمى بالتصرف بشكل ممنهج ضد مصالحها طويلة الأمد، وتفقد قدرتها على تشخيص الواقع بدقة، وتفشل في استخدام قوتها الهائلة لتحقيق أهدافها.
هذا المقال هو بمثابة "تشريح" لهذه الحالة، مستعينا بشهادات وتحليلات مفكرين أميركيين دقوا ناقوس الخطر من داخل أسوار الإمبراطورية نفسها، وهو يجادل بأن هذا الفقدان للعقلانية ليس صدفة، بل هو النتيجة الحتمية لـ"طوفان ثقافي" داخلي عنيف، اختطف "دماغ" الدولة وجعلها تتصرف بطرق انتحارية عبر 5 أعراض رئيسية.
1. عجز القوة العظمى: ليفياثان مقيد الأيدي
العرض الأول والأكثر وضوحا للمرض هو العجز، فالولايات المتحدة اليوم هي أقوى قوة عسكرية في تاريخ البشرية، لكنها تبدو عاجزة، مثل ليفياثان الكائن الأسطوري المذكور في العهد القديم (سفر أيوب)، ويُرمز به إلى الوحش البحري الجبار الهائل القوة.
وكما يوثق المؤرخ العسكري أندرو باسيفيتش، فقد انخرطت أميركا في "حروب أبدية" لم تحقق فيها نصرا إستراتيجيا واضحا، ونرى اليوم عجزها عن حسم الحرب الأوكرانية، وفشلها في فرض إرادتها السياسية في الشرق الأوسط.
هذا العجز هو ما تسميه مدرسة الواقعية، بقيادة مفكرين مثل ستيفن والت، النتيجة الطبيعية لـ"الإفراط في التمدد الإمبراطوري"، فالقوة العسكرية وحدها لم تعد قادرة على حل المشاكل السياسية المعقدة في عالم متعدد الأقطاب.
نستعين بشهادات وتحليلات مفكرين أميركيين دقوا ناقوس الخطر من داخل أسوار الإمبراطورية نفسها، وهم يجادلون بأن هذا الفقدان للعقلانية ليس صدفة، بل هو النتيجة الحتمية لـ"طوفان ثقافي" داخلي عنيف
2. تآكل آلة القرار: عندما يسبق الولاء الكفاءة
إذا كان العجز هو العرض الخارجي، فسببه هو التآكل الداخلي، لقد أصيب "الجهاز العصبي" للدولة بالخلل.
وكما تشهد مسؤولة مجلس الأمن القومي السابقة فيونا هيل، فإن عملية صنع القرار العقلانية، القائمة على الخبرة والبيانات، قد تم استبدالها بمنطق الولاء الشخصي والأهواء المتقلبة، وهذا بالضبط ما يحذر منه أستاذا العلوم السياسية ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات في كتابهما "كيف تموت الديمقراطيات"، حيث لا تموت الديمقراطية بانقلاب، بل بتفريغ مؤسساتها من الكفاءة وتحويلها إلى أدوات شخصية للحاكم. "ولكِنْ يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ".
عندما يعيَّن تاجر عقارات لإدارة ملف الحرب، ويُكلف مذيع سابق بقيادة وزارة الحرب (البنتاغون)، فإن الدولة تكون قد اختارت طوعا أن تصاب بالعمى والغباء الإستراتيجي.
3. التدمير الذاتي للقوة الناعمة: إطفاء المنارة
لطالما كانت قوة أميركا الحقيقية تكمن في جاذبيتها، أو ما أسماه جوزيف ناي "القوة الناعمة"، لقد كان "الحلم الأميركي" هو أقوى أسلحتها، فهو المغناطيس الذي جذب أفضل العقول والمواهب من كل أنحاء العالم لتسهم في بناء التفوق الأميركي.
لكن، وكما يحذر مفكرون مثل فريد زكريا، فإن أميركا تقوم الآن بتدمير هذا الأصل بشكل ممنهج، فالسياسات المعادية للمهاجرين، والهجوم على الجامعات ومراكز الفكر، والخطاب القومي المنغلق، كلها رسائل تقول للعالم "لم نعد نرحب بكم".
إنها حالة "مناعة ذاتية إستراتيجية"، حيث تهاجم الدولة بنفسها الخلايا التي تمنحها الحيوية والتفوق، وتطفئ المنارة التي كانت تجذب إليها العالم.
4. ظل "الحرب على الإرهاب": بناء الجيش الخطأ للحرب الخطأ
لفهم سبب العجز العسكري الحالي أمام القوى الكبرى، يجب العودة إلى "الانحراف الإستراتيجي" الذي دام 20 عاما، فكما يوثق مشروع "تكاليف الحرب" في جامعة براون، أنفقت أميركا تريليونات الدولارات وبنت جيشا مثاليا لمكافحة متمردين غير نظاميين، لقد أتقنت فنون المداهمات والدرونز، لكنها أهملت الاستعداد للحرب التقليدية بين الدول الكبرى.
وكما يشرح الصحفي سبنسر أكرمان، فإن الخطر الأكبر هو أن عقلية وأدوات هذه الحرب بدأت ترتد كـ"بمرنغ" لتُستخدم في الداخل ضد مواطنين أميركيين، لقد بنت أميركا جيشا لاحتلال العالم، لتكتشف اليوم أنه غير مناسب لمنافسة الصين، لكنه مناسب جدا لاحتلال مدنها.
عندما تفقد الإمبراطورية عقلها، فإن قوتها الهائلة لا تختفي، بل تتحول إلى قوة عمياء ومدمرة، توجه لكماتها بشكل عشوائي، وغالبا ما تصيب نفسها، وهذا هو المشهد الذي نراه اليوم: مشهد قوة عظمى في حالة هذيان، تترنح على المسرح العالمي، وتشكل الخطر الأكبر على استقرار العالم
5.الانفصال العظيم: تفكيك النظام الذي صنعته بنفسها
هذا هو العرض الأخطر، لأنه يمثل هجوما مباشرا من الإمبراطورية على مصدر قوتها الاقتصادية، فبعد عقود من بناء ورعاية نظام العولمة القائم على التجارة الحرة، تقوم أميركا الآن بتفكيكه بنفسها عبر الحروب التجارية، وحظر التكنولوجيا، واستخدام الدولار سلاحًا.
هذا التحول الجذري هو فعل غير عقلاني يتعارض مع نظرية الاستقرار الهيمني، التي تقول إن القوة العظمى هي من تضع قواعد النظام وتحميها.
أميركا اليوم هي أول من يكسر هذه القواعد، وهذا الفعل مدفوع مباشرة بمنطق "الطوفان الثقافي" الداخلي؛ فهو استجابة لغضب "معسكر الشعوبية" الذي شعر بخيانة العولمة له.
ولإرضاء هذا المعسكر، يضطر النظام لاتخاذ قرارات قومية مدمرة، مما يدفع بقية العالم، كما تصف نظرية "الاعتماد المتبادل المُسلّح"، إلى بناء أنظمة اقتصادية بديلة ومستقلة لتجنب السلاح الأميركي.
الخاتمة: الطوفان الثقافي وفقدان العقل
ما الذي يربط كل هذه الأعراض الخمسة المدمرة؟ ما الذي يدفع قوة عظمى إلى التصرف بكل هذا القدر من اللاعقلانية والانتحار الإستراتيجي؟
الجواب هو الطوفان الثقافي؛ لقد أصبحت الحرب الأهلية الثقافية في الداخل هي الشاغل الأكبر والمحرك الأساسي لسياسات الدولة، ولم تعد القرارات تُتخذ بناء على المصلحة القومية طويلة الأمد، بل لتحقيق نصر في المعركة الثقافية الداخلية المحتدمة.
يتم تفكيك العولمة لإرضاء القاعدة القومية. يتم تدمير القوة الناعمة لإذلال النخب الليبرالية. يتم تعيين الموالين لسحق "الدولة العميقة".
لقد حدث "عدم توازن" كامل، حيث طغت الاعتبارات الثقافية الداخلية على المنطق الإستراتيجي الخارجي، إن "عقل" الدولة قد تم اختطافه من قبل أطراف الصراع الأهلي.
وعندما تفقد الإمبراطورية عقلها، فإن قوتها الهائلة لا تختفي، بل تتحول إلى قوة عمياء ومدمرة، توجه لكماتها بشكل عشوائي، وغالبا ما تصيب نفسها، وهذا هو المشهد الذي نراه اليوم: مشهد قوة عظمى في حالة هذيان، تترنح على المسرح العالمي، وتشكل الخطر الأكبر على استقرار العالم، وعلى نفسها بالدرجة الأولى.
*نقلاً عن الجزيرة دوت نت