د. محمد إبراهيم العشماو
كنت قد كتبت من قبل إيقاظا قلت فيه: لو أفتى عالم فأخطأ لعذرته، ولو أفتى جاهل فأصاب لعزرته!
وكنت أقصد النقاش الدائر في بعض مسائل الفروع، ومنها مسألة عدم وقوع الطلاق الشفهي.
ولقد ساءني ما قرأته وسمعته من بعض المتابعين لمثل هذه النقاشات؛ من سب وقذف ولعن واتهام في الدين، لمن قال بذلك من إخواننا من أهل العلم، وودت لو ترفعت لغة النقد إلى مستوى أكرم من هذا، ولكن هذا شأن من ولج في غير مولج، ومن لم ير للحق إلا وجها واحدا، مع أن الحق ذو وجوه!
ومسألة عدم وقوع الطلاق الشفهي ليست وليدة اليوم، بل إنها قديمة قدم الفقه الإسلامي نفسه، فهي ذاتها مسألة الإشهاد على الطلاق الذي قال به الشيعة والظاهرية، ومن قبلهم جماعة من الصحابة والتابعين، فهل الإشهاد إلا ضرب من التوثيق؟!
وثمت اتجاه في الفقه التشريعي يميل إلى تقييد دائرة الطلاق، بحيث لا يقع إلا في أضيق الحدود.
ومن صور هذا التقييد: اعتبار الطلاق المقترن بعدد لفظا أو إشارة طلقة واحدة، وأن الطلاق المعلق بجميع صوره وأشكاله لا يقع به شيء أصلا ، وأن اليمين بالطلاق لغو ولا يقع به الطلاق، وأن الطلاق في الحيض والنفاس وطهر مسها فيه لا يقع إلا إذا استبان حملها، وأن الطلاق لا يقع إلا بلفظ أو دليل عليه قصد به الإنشاء، وأن المعتدة لا يلحقها الطلاق، وأن الإخبار بالطلاق أو الإقرار به لا يكون طلاقا إلا إذا قصد به الإنشاء، وتحققت شروط صحته حين الإخبار، وأن الطلاق لا يقع إلا بشاهدين، أو ما يجري مجرى الشاهدين من التوثيق أمام القاضي.
وكأن القصد من هذا التقييد أن من يريد الطلاق عليه أن يسلك فيه سبيل الزواج، بالإشهاد عليه أو توثيقه الجاري مجرى الإشهاد، فهذه هي الصورة الوحيدة المتفق عليها بين الفقهاء جميعا بأن صاحبها قاصد حقيقة الطلاق لا محالة، ولا تقبل فيها دعوى الإنكار!
ولا أدري لماذا كل هذا الضجيج والصخب في مسألة قتلت بحثا، وتجدد الكلام فيها عبر العصور، وليس المتكلم فيها الآن بأول متكلم، ولا الناقد بأول ناقد، وكان من خير المتكلمين فيها العلامة المحدث الفقيه المفتي القاضي ابن القاضي الشيخ أحمد محمد شاكر، الذي وضع فيها كتابا خاصا سماه (نظام الطلاق في الإسلام)، وقد قال في مقدمته: "هذه الأبحاث ليست من أبحاث الفقهاء الجامدين المقلدين، ولا هي من أبحاث المترددين الذين يبدو لهم الحق ثم يخشون الجهر به، ولا هي من أبحاث المجردين الهدامين الذين لا يفهمون الإسلام، ولا يريدون إلا تجريد الأمم الإسلامية من دينهم ومن الثبات عليه ونصره، ولا هي من أبحاث المجددين العصريين الذين تتبخر المعاني والنظريات في رؤوسهم، ثم تنزو بها عقولهم فهم يطيرون بها فرحا، ويظنون أن الإسلام هو ما يبدو لعقولهم ويوافق أهواءهم، وأنه دين التسامح فيتسامحون في كل شيء من أصوله وفروعه وقواعده.
كلا إنما هي أبحاث علمية حرة على نهج المجددين الصادقين، من السلف الصالح رضوان الله عليهم الذين كانوا يصدعون بالحق، ولا يخافون لومة لائم، وكانوا يخشون ربهم، ولا يخشون أحدا إلا الله"!
وقد قدم الشيخ محمد حامد الفقي لهذا الكتاب، وأثنى عليه، وذكر أن الشيخ مكث في بحث مسائله أكثر من عشرين سنة، ليخرج بأحكام الطلاق من الكتاب والسنة، بعيدا عما استنه الفقهاء الجامدون فيه من سنن جعلته أشبه بالعبث واللعب، أو بالآصار والأغلال.
وقد ذكر الشيخ شاكر أن تقيد المحاكم بالعمل بالراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة وحده، وترك الاختيار من المذاهب الأخرى، فضلا عن إغلاق باب الاجتهاد أمام القضاة؛ قد أوقع الناس في حرج كبير، وأن العلماء ظلوا ينافحون ويقدمون رجلا ويؤخرون أخرى في سبيل إصلاح الوضع القائم آنذاك حتى صدر قانون رقم 25 لسنة 29 في عهد الإمام الأكبر محمد مصطفى المراغي، وقانون رقم 78 لسنة 31 الخاص بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ثم توالت الإصلاحات بعد ذلك.
وقد قيد الشيخ الطلاق بتقييدات كثيرة، على النحو الذي ذكرناه، وكان الشيخ قاضيا نشأ في بيت قاض، والقضاة أدرى الناس بأحوال الناس، من الفقهاء الخالصين، ولذا فاجتهادهم في هذا الباب مقدم على اجتهاد غيرهم!
وقد هوجم الشيخ هجوما شديدا بسبب هذا الكتاب؛ لأنه خرج فيه كثيرا عن المذهب الحنفي، بل عن المذاهب الثلاثة؛ إلى مذاهب الشيعة والظاهرية وابن تيمية وغيرهم، ممن أسعدهم الدليل في بعض المسائل!
وكان ممن رد على الشيخ شاكر؛ الشيخ محمد زاهد الكوثري، في كتابه(الإشفاق على أحكام الطلاق).
ولم يكن الشيخ شاكر هو الوحيد الذي نادى بتضييق دائرة الطلاق بحيث لا يقع إلا موثقا، وإنما شاركه في ذلك من المحدثين الشيخ محمد عبده والشيخ علي عبد الرازق والشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ علي الخفيف والشيخ مصطفى الزرقا والشيخ سيد سابق والشيخ الغزالي والشيخ جاد الحق علي جاد الحق!
على أنه ينبغي ألا تثار هذه المسائل في أوساط العامة، وينبغي للعامة أن ينأوا بأنفسهم عن اللجج فيها، فهي ليست من شأنهم، وإنما هي شأن خاص بالعلماء وحدهم.
وعلى من كان من أهل العلم ألا يبادر بتخطئة المخالف، وإساءة الظن به، والتشنيع عليه، قبل أن يقف على حدود المسائل، ويدرك أبعاد الأمور!
وقد علمت أن هيئة كبار العلماء قد أحالت الأمر إلى لجنة فقهية مختصة للنظر فيها، فعسى أن تحسم الجدل المتكرر فيها منذ قرن من الزمان!