مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2018/09/05 20:24
قراءة لنص محبة  لإبراهيم الأحمدي،

قراءة لنص " محبَّةٌ واعْتِذَار " للشاعر / إبراهيم الأحمدي .

محبَّةٌ واعْتِذَارْ

حنينٌ في حنايَا الرُّوحِ سارِ 
ودمعٌ من شؤونِ العينِ جارِ

وأشواقٌ يؤجِّجُهَا ادِّكارٌ  
فلا جلدِي يفيدُ ولا اصطبَاريْ

فراقُ أحبَّتِي صعبٌ مريرٌ 
أشقُّ من الفطامِ على الصِّغارِ

أضرَّ بيَ النَّوَى مُذْ غبتُ عنهمْ 
وبيَّتَنِيْ على شوكٍ ونارِ

وعلَّمنِي البُكاءَ وكنتُ قبلاً 
أعدُّ الدَّمعَ من شِيَمِ الجوَارِيْ

فأمَّا إذْ رحلتُ فلا تسلنِيْ 
أعنْسِيٌّ أنَا أمْ زنجبَارِيْ

أنَا منهمْ وإنْ كانُوا بعاداً 
وهمْ منِّيْ وإنْ بعدتْ ديارِيْ

سأحفظُ ودَّهُمْ في القلبِ مهمَا 
يطلْ فوقَ اللَّظَى جمرُ انتظارِيْ

فقدْ كانُوا إلى عينِيْ وقلبِيْ 
أحبَّ من الغمامِ إلى الصَّحارِيْ

وكنتُ بهم أرَى الظَّلماءَ نوراً
فأظلمَ بعد فرقتِهمْ نهارِيْ

سمتْ أخلاقُهمْ شرفاً وقدراً 
كذلكَ قدرُ أخلاقِ الكبَارِ

وشادُوا للإخَا حصناً حصيناً 
وكانُوا في جوانبِه السَّوارِيْ

وأرسُوا للمكارمِ دارَ عزٍّ 
وقد  كانت على شفَا الاْنهيَارِ

وأعْلَوا للعُلا والعلمِ صرحاً 
يذكِّرُكَ ابنَ حنبلَ والبخَارِيْ

فلا عجبٌ إذَا عزُّوا وكانُوا 
قليلاً كاللَّآلِئ في البحَارِ

فإنَّ اﻷرضَ واسعةٌ ولكنْ
تعزُّ بها الجواهرُ والدرَارِيْ

فعذراً أيُّهَا اﻷحبابُ إنِّيْ 
لعمرُ اللَّهِ غبتُ بلا اختيَارِ

يعزُّ عليَّ أنِّي لا أراكُمْ 
وأنِّي صرتُ منكمْ في قفارِ

أساقُ إلى الفراقِ المرِّ كرهاً 
كما سِيْقَ الطليقُ إلى اﻹسَارِ

ولكنْ ليْ بكم قلبٌ شغوفٌ 
وعينٌ لا تكفُّ عن انهمَارِ

إلى أنْ نلتقِيْ في اللَّهِ أخرَى 
وتجبرُ أضلعِي بعدَ انكسَارِ

لكمْ منِّيْ سلامٌ سرمديٌّ 
بحبٍّ  واشتياقٍ  واعتِذَارِ

إبراهيم الأحمدي 
______________________________

إطلالة

الشاعر إبراهيم الأحمدي يطل علينا بسيمفونية شعرية ساحرة توقع العواطف الأخوية بجمال اللفظ وأناقة التركيب حيث جاءت حروفه فارقا في القصيد تغني أغرودة الإخاء في حقل أسطوري تتجاوب معها طيور الحب وعوالم الجمال .

مافتئ يرقص الحروف في أفق النص بإيقاع عذب تتناوح فيه الألفاظ كأسراب العندليب تطير نوارسا في الأفق ثم تغيب في زرقة النص أشواقا من الحب وعواطفا من الحنين .

مابرح يساقط الغيث من ركام غدق يهل غوادي العواطف بشبم مسجم يسقينا ماءً عذباً من سحب ألفاظه الغائمة .

مازلنا نرتشف من كوثر نهره الوارف كؤوس الحب تهرق في أحشائنا وابلاً بارداً من عصارة الروح يختلط بمشاعرنا فيهز فينا نشوة الألق تجتاز بنا عوالم الفجر نحو الألفة والترابط والتآزر .

حيث ظل يطعمنا الرطب الجني ثمارا يانعة من حقل روحه السخي يبث فينا الأشواق ويزرع الأمل يظلنا بغيم دجنه الهاضب .

حل في برج الشعر نجما يتحفنا بدلائل الاهتداء نحو عوالم الأخوة يطير بنا فضاء الحنين لنلتحم بصدر الأشواق لنلتقي بحقل الحب في ظلال الدوح الوارف حيث تعانق الأرواح الأرواح في ألق مطلق من الجمال والجلال .

مافتئنا نسافر معه ثم نرتحل مع الحروف الأنيقة والمبدأ السامي نهتز باهتزاز العواطف الخضلاء مروجاً من الحب وعذوقاً من العطاء يغمرنا بفيض مشاعره الصادقة دفئاً من الحنايا وحرارة من عصارة الروح .
 

أولا : العنوان

يتكون العنوان من كلمتين متعاطفتين "محبَّةٌ واعْتِذَار " حيث تقع كلمة محبة مبتدأ مؤخر وجوبا  لخبر شبه جملة محذوف تقديره " لكم محبة "  حيث عطفت كلمة اعتذار على محبة بعلامة الرفع كون العنوان يحدد الأبعاد الفكرية والعاطفية المتعلقة بالنص المنتمي إلى غرض الإخوانيات .
حيث يقارب الشاعر من خلال ثنائية المحبة والاعتذار  بين الرابط الذاتي والجماعي في حقل الأخوة الآصرة كون الشاعر يفصح عن مكنون الذات ووشائجها المتعالقة من خلال التهاصر القطبي بين الذات ومحبيها في إطار التجربة الشعرية وترجمة أبعادها الفكرية والعاطفية بتأثير البعد المتكئ على ثنائية الغربة والحنين .
حيث مثل العنوان بؤرة النص التي تمسك بالتيمة والموضوع من خلال الجذب المتكامل بين بنية الشكل والمعنى إضافة إلى إشارته إلى الدلالة السيكلوجية المحملة بتيارات النفس وتعالقها مع مجال الحب الواقع في مجال الأخوة الإسلامية بصفتها الخاصة والعامة مجسدا رؤية جديدة في الموضوع تضاف إلى الموضوعات الرائدة التي يمثلها الأدب القيمي في إطار العقيدة والدين . 

ثانيا: عاطفة الأخوة  

أثار الشاعر بمضامينه المحمولة على ألفاظ النص رؤية خاصة تجمع بين الذات والصديق من خلال توظيف تجربته الشعرية لاستيعاب تيارات المشاعر وتجسيدها في سيالات من العواطف السارية تكتنز باللوعة والحنين والحزن والألم والأشواق والدموع والذكرى والبكاء والسفر والبعد .

حيث يمتزج النص بنبل القيم الأخلاقية التي يوظفها الناص من خلال موضوع القصيدة حيث تنصهر عواطف الأخوة بأبعادها التراجيدية في حقل الحروف والكلمات والبنى اللفظية وتركيبات الجمل ولوحات الصور وموجات الموسيقى وروعات الخيال المحلق .

حيث وظف الناص عاطفة الأخوانيات بإرهاف شعوري يمتزج بالصدق الفني يتماهى من خلاله الناص مع أبعاد الموضوع بتجليات روحية تحلق في أفق القصيدة بنبضات عاطفية دفقت شلال الحب بخلجات حزينة تنبثق من عوامل الشوق والحنين في رحلة البعد والاغتراب .

حنينٌ في حنايَا الرُّوحِ سارِ 
ودمعٌ من شؤونِ العينِ جارِ

وأشواقٌ يؤجِّجُهَا ادِّكارٌ  
فلا جلدِي يفيدُ ولا اصطبَاريْ

يربط الشاعر بين عاطفة الحنين والروح بسريان استثنائي ولد الأشجان في الداخل حيث هل رعد الحنين الدموع الهاضبة من عيون قرحها بعد الأحبة فغدت رهينة الأسر تؤججها عواطف الأشواق والادكار في حقل الذكرى العارمة حيث نلحظ تأكيد الشاعر لذلك الغرام الأسطوري تنهار أمامه 
هضاب الجلد وجبال الاصطبار .

فراقُ أحبَّتِي صعبٌ مريرٌ 
أشقُّ من الفطامِ على الصِّغارِ

أضرَّ بيَ النَّوَى مُذْ غبتُ عنهمْ 
وبيَّتَنِيْ على شوكٍ ونارِ

وعلَّمنِي البُكاءَ وكنتُ قبلاً 
أعدُّ الدَّمعَ من شِيَمِ الجوَارِيْ

نقف هنا باحترام أمام محراب الشاعر نسبر عمق العاطفة بدلالات الفراق في رهان الصعوبة والمرارة حيث يجري الشاعر الأمثال في تشخيص الحدث مستخدما أفعل التفضيل "أشق" للمقارنة بين عوامل الفراق وفطام الطفل حيث تجسد المقارنة رصيدا من الدلالات المطلقة التي تضخم صعوبة الفراق ومرارته بمعاناة لا تقل عن معاناة فطام الطفل الذي أولع بثدي أمة ألفةً واعتياداً .     
حيث يضخم الشاعر أحداث الضر والغياب وارتباطها بدكتاتورية النوى الذي يلازم غزوه في البيات على غرة فيتركه نهبة للقلق والأرق  فيحيل فراشه شوكاً وناراً  . 
حيث يسلم حال الشاعر للتداعي والبكاء على الرغم من التجلد والصبر غير أن فراق الأحبة تمرد في حنايا الروح منفجرا بالأشواق والحنين جاعلا من الشاعر سيمفونية الحب وجوقة البكاء .  

ثالثا : العلاقة بين ثنائية اللفظ وبنية النص . 

أجرى الشاعر بنية النص بتعالق لفظي تم من خلال ثنائيات لفظية تترابط في سطح النص بعلاقات معنوية تعزز مضامين التعالق والتضاد والتداعي والظرفية والوصف والرمز . 
فالشاعر ربط بين الألفاظ في سطح النص بروابط فنية تخضع حقل المفردات لمضامين استراتيجية شكلت معجم النص  إلى مجموعات مختلفة ترتبط بنظام الثنائية في متجه المضمون الخاص حيث تم التآزر بين تلك البنى الثنائية في أفق النص لتلبي مطالب الإيقاع بروافده الخارجية والداخلية .     
حيث نلحظ الجمال والأناقة يحتلان شكل النص بنضارة الديباجة وألق الفصاحة من خلال التكامل الثنائي المتآزر في بنية النص سلامةً وتركيباً بعيدا عن تعاظل اللفظ وفساد المعنى .
حيث نلحظ تلك الثنائيات اللفظية  تتشكل في سطح النص من خلال الروابط المعنوية ذات البعد الواحد في متجه المضمون في مجموعات لفظية فيما يأتي : 


1- ثنائية التعالق :

" الغمام - الصحاري "الفطام - الصغار " " البكاء - الدمع " السلام - الحب " " العين - القلب " .

2- ثنائية التضاد :

" الظلماء - النهار " الطليق - الإسار " " الجبر - الانكسار " .

3- ثنائية التداعي :

" حنين - الدمع " " أشواق - ادكار " " القلب - الشغف " " .

4- ثنائية الظرف :

" اللآلئ - البحار " "القلب - الود  " .
" العين - الدمع " .

5- ثنائية الوصف :

" الجواهر - الدراري "   " صعب - مرير " " شوك - نار " .

6- ثنائية الرمز :

" عنسي - زنجباري " ابن حنبل - البخاري " " الحصن - السواري " " البكاء - الجواري " .

7- ثنائية الترادف :

"جلدي - اصطباري " " اللظى - الجمر " الفراق - البعد " " النوى - الغياب " .
 

ثالثا : الإيقاع والنص

وقف الشاعر بين الإيقاع الخارجي والداخي يرقص النص بنفس هادئ يبعد عن الخطابية والصراخ كونه وقع القصيدة باتزان موسيقي - لا ريث ولا عجل - حيث ركب موجات بحر الوافر بكبرياء وحداته الموسيقية :

"مفاعلتن مفاعلتن فعولن" 

مع استخدام قافية الراء بصداها المتردد في أفق المخرج الوارف مضيفاً إليها الألف الممدودة ردفاً يعزز من جمال الإيقاع وتأثيراته الحالمة نتيجة فتح ماقبلها وامتداد حرف الوصل الناتج من إعراب قافية النص المكسورة بعدها حيث جاء الإيقاع متوازناً مع تردد موجات البحر المتأثرة بمشاعر الشاعر وانسيابها .

أما الإيقاع الداخلي في النص فقد نتج من القيم الفنية التي طعم بها الشاعر النص من خلال قدرته على التعبير وإجراء الألفاظ بتناغم في أفق النص إضافة إلى القيم البلاغية والإعرابية التي رشحت القصيدة للإطلاق نحو أفق الفصاحة والبلاغة حيث تبرز تلك القيم الفنية من خلال :

1- القيم الصوتية المتجانسة .

"حنينٌ - حنايَا " " حصناً حصيناً "
"أعْلَوا للعُلا والعلم " .

2 - تنوين التنكير .

" صعبٌ مريرٌ " "قلبٌ شغوفٌ " "سلامٌ سرمديٌّ " .

3 - تكرار لا النافية

"فلا جلدِي - ولا اصطبَاري"

4 - قيم التعاطف .

العطف له دلالته الإيقاعية بين المعطوف والمعطوف عليه على المستوى الإعرابي وعلى مستوى التعريف والتنكير حيث يتولد من العطف إيقاع خاص يعمل على تناغم الألفاظ داخل النص بقيمها المختلفة وذلك ما نلمسه من خلال تعاطف الكلمات :

"شوكٍ ونار" .
"الجواهرُ والدرَارِي" .
"واشتياقٍ  واعتِذَار" .
"أعنْسِيٌّ أنَا أمْ زنجبَارِي " .
"بحبٍّ  واشتياقٍ  واعتِذَار " .

5 - التضاد .

حيث طابق الشاعر بين بعض الكلمات المتضادة في أفق النص فتولد عن ذلك الطباق التضاد فيما يأتي : 

"الظلماء - نهاري " " تجبرُ - انكسَار"
"الطليقُ -  اﻹسَار" .

6 - المقابلة

أنَا منهمْ وإنْ كانُوا بعاداً 
وهمْ منِّيْ وإنْ بعدتْ ديارِيْ

حيث قابل الشاعر بين مجموعة من ألفاظ صدر البيت مع مجموعة من ألفاظ عجزه :

" أنا - هم " " منهم - مني " 
" وإن - وإن " " بعاداً - بعدت "

7- رد العجز على الصدر .

سمتْ أخلاقُهمْ شرفاً وقدراً 
كذلكَ قدرُ أخلاقِ الكبَارِ

حيث نلمس في البيت مجيء كلمتي " أخلاق - قدر " في صدر البيت ثم كررها الشاعر في عجز البيت فنتج عن ذلك التركيب والإعادة إيقاع خاص رشح البيت للخفة والرشاقة وسرعة القراءة بعيدا عن المعاظلة والتنافر . 

رابعا : الجملة والنص

بنى الشاعر النص بأسلوب تتغلب فيه الجمل الخبرية على الجمل الإنشائية بنسبة كبيرة تصل إلى 90% حيث جاءت الجمل الإنشائية  بنسبة ضئيلة 10% في سطح النص وذلك ناتج عن وعي الشاعر وإدراكه لقيمة الخبر في إيصال المضامين بشحناتها العاطفية لدى المتلقي .

فانثيال الأنساق بدلالة الخبر له أبعاده الدلالية المعبرة عن صدق الخطاب المتفق مع الحقيقة في الواقع بعيدا عن التهويم والكذب . 
فالشاعر يربط بين ثنائية الفائدة ولازم الفائدة من خلال الإخبار عن يقين العواطف وانحدارها من عمق المشاعر بدلالة دفء اللفظ وحرارة التعبير .
حيث نجد الجمل الخبرية تشغل فضاء النص بترابط لغوي ينم عن قدرة الشاعر في بناء الأنساق من خلال انثيال الجمل الخبرية  بتصنيفاتها المختلفة المرتبطة بالإسناد مابين المبتدأ والخبر والفعل والفاعل . 
حيث جاءت الجمل الخبرية بدلالات تتكئ على ثنائية الاسم والفعل مع التعدد الزمني ما بين الماضي والحاضر كما نلحظ حذف المبتدأ في كثير من الصيغ الخبرية بدلالة الاسم لأغراض بلاغية تفيد إيجاز اللفظ في بنية النص . 

أشواقٌ يؤجِّجُهَا ادِّكارٌ  
فراقُ أحبَّتِي صعبٌ 
أضرَّ بيَ النَّوَى
علَّمنِي البُكاء َ
سمتْ أخلاقُهمْ
أرسُوا للمكارمِ
تجبرُ أضلعِي
يعزُّ عليَّ
فإنَّ اﻷرضَ واسعةٌ
أنَا منهمْ .

أما الجمل الإنشائية فقد جاءت نادرة ومجيء القليل منها له دلالته البلاغية في تطعيم النص بالتنوع الأسلوبي حيث جاءت جمل الأسلوب الإنشائي تعبر عن النهي والاستفهام والقسم وفعل الأمر المحذوف بدلالة مصدره 
" اعذروا عذراً " .
حيث جاء النهي الحقيقي   " فلا تسلنِيْ "مرتبطا بالاستفهام الدال على التسوية "أعنْسِيٌّ أنَا أمْ زنجبَارِي ؟" في إطار الرفض للانتساب للمناطقية أما القسم 
" لعمرُ اللَّهِ غبتُ بلا اختيَار "
فيدل على الاعتذار أما فعل الطلب المحذوف الدال عليه مصدره 
" فعذراً أيُّهَا اﻷحباب " فيدل على تأكيد الاعتذار .

خامسا : الصورة الشعرية

تتجسد الصورة في سطح النص بتأثير العوامل الخارجية النابعة من ثقافة الشاعر وبيئته المحيطة حيث نلمس توظيف الشاعر للعواطف والمشاعر والمضامين بأسلوب يقارب بين الصورة الشعرية والحدث بثنائية التكامل والالتحام .
حيث تم تشخيص العواطف في مسار الفعل بتأثير الإسناد بين الحدث وفاعله الأمر الذي جسد المعنوي في صورة الحسي من حيث السريان والتأجيج والادكار والتبييت والسمو والجبر .

حنينٌ في حنايَا الرُّوحِ سارِ

تجسد الصورة الحنين في حنايا الشاعر بشيء مادي نلمس سراه بحركة ظاهرية أو مقدرة كسرى الليل والقمر والنجم فالحدث الذي يجسده اسم الفاعل "سار" شخص الحنين بشيء مادي يباشر السرى بالليل من مكان إلى آخر بتأثير الحركة حيث تضمنت الصورة ارتحال مشاعر الشاعر من مكان غربته إلى مساكن أحبته بتلباثي الروح نتيجة الاشتغال بهم عاطفة وفكرا في إطار التوارد الذهني بأبعاده النفسية .

وأشواقٌ يؤجِّجُهَا ادِّكارٌ 

تتكون الصورة من ثلاثي الأشواق والحدث والادكار حيث شخص الشاعر عاطفة الشوق في صورة نار تزداد اشتعالا بعامل الادكار .
حيث جسدت الصورة عاطفة الشوق في نفس الشاعر بتضخيم يجسم عوامل الالتقاء بين الفكر والعاطفة في رفد ديمومة الحب الأخوي بضخ مستمر  نتيجة الاشتغال بهم فكرا وعاطفة . 

أضرَّ بيَ النَّوَى مُذْ غبتُ عنهمْ 
وبيَّتَنِيْ على شوكٍ ونار

جعل الشاعر من "النوى" عدوا متربصا يراقب خطواته ويترصد نقاط الضعف لديه ليتخذ من خلالها فرصة الهجوم والمباغتة .
فالنوى استعارة مكنية لعدو حذف وبقيت لوازمه بدلالة الضر والبيات .حيث تضخم الاستعارة حال الشاعر الممتزج بالألم والحرقة حال سفره وبياته بالليل نتيجة البعد عن أحبته في بلد الغربة للعمل والارتزاق .

سمتْ أخلاقُهمْ شرفاً وقدراً

جعل الشاعر من الفعل " سمتْ " حدثا يشخص أخلاق القوم في صورة نجم مضيء مازال يعلو ويسمو بدلالتي " شرفاً وقدراً " حالاً وتمييزاً . 
حيث أفصحت الصورة عن أخلاقهم سمواً ورفعةً مجسدة ثقة الشاعر بهم وبما يحملون من القيم والمبادئ . 

أساقُ إلى الفراقِ المرِّ كرهاً 
كما سِيْقَ الطليقُ إلى اﻹسَار

صورة تشبيهية تمثيلية تجسد حال الشاعر في كراهته البعد والفراق عن أحبته حيث يحدد  التشبيه التمثيلي في البيت مقارنة حال الشاعر من حيث سوقه عنوة نحو الفراق والغربة بالطليق الذي يساق عنوة نحو الأسر فالتشبيه التمثيلي يحدد حال الشاعر الناشئ من مرارة الفرقة واستبداد الأسر وهي حال يعبر فيها وجه الشبه عن هيئة منتزعة من الضيق والكراهة والاستبداد .

وتجبرُ أضلعِي بعدَ انكسَار

الصورة لاتتحدث عن ظاهر اللفظ فانكسار الأضلع الجسدية غير مراد وإنما المراد مشاعر وعواطف الشاعر التي تتوارى خلف الأضلع حيث جرت العادة بالتعبير عن الشيء بما يجاوره فالفارق بين ظاهر اللفظ ودلالته البلاغية لطف الكناية عن الشيء المراد خلف اللفظ بإيحاء المعنى الذي يفهم من خلال فحوى الخطاب .

وكانُوا في جوانبِه السَّوارِي

بين السيد وسارية البيت علاقة التشابه فالسيد عماد الشرف بتحمله أعباء المسئولية بكفاءة وجدارة والسارية عماد البيت بتحملها سقف المنزل .
حيث جسدت الصورة كفاءة أحبة الشاعر وجدارتهم في تحمل مسئولية الأخوة من خلال البناء الذي يشد بعضه بعضا . 
 

سادسا : ثنائية الحكمة والمثل

يمتلك الشاعر ناصية البيان والفصاحة حيث صاغ النص بكفاءة بيانية تتكئ على أسلوبي الإيجاز والتكثيف على الرغم من بساطة التعبير ووضوح المعنى حيث جاء إلى النص راكبا على قارب البساطة ليلج إلى العمق بإدراك شاعري يتكئ على الخبرة والتجربة حيث نلحظ التعبيرات الوارفة ذات البعد الدلالي تتسامى نحو أفق الحكمة والمثل .
وذلك ناتج من قدرة الشاعر اللغوية في تطويع البيان والفصاحة حسب الأساليب العربية الأصيلة نتيجة الاطلاع والممارسة والطبع والفطرة والقراءة المستمرة في اللغة والأدب .
وحين نسبر النص من زواياه اللغوية وأبعاده البلاغية نحصل على قدر كبير من روعة التعبير وجمال الديباجة وجلال التركيب حيث صيغت الكثير من الجمل بإيجاز ينتحي بها نحو المثل والحكمة بدلالتهما على الكناية والتشبيه وإيجاز اللفظ وقياس الأحداث .

[فلا جلدِي يفيدُ ولا اصطبَاري]

تكرار لا النافية للوحدة عمل على تشريك النفي بين " الجلد - الاصطبار " بدلالة الحدث "يفيد" . حيث يتناص الشاعر مع الموروث اللغوي الذي اعتاد عليه الناس في استعمال العبارة :

" لا جلد لي ولا اصطبار " .

بتوظيف جديد يطل بظلال الحكمة والمثل .

[ أشقُّ من الفطامِ على الصِّغار ] .

جاء الشاعر بأفعل التفضيل " أشقُّ " لتجسيد حدث "الشق" بالمقارنة بين حال فراق الشاعر لأحبته وحال فطام الصغير حيث جر المفضل عليه بمن " من الفطامِ " كون الشاعر استخدم الموروث اللفظي " الفطام - الصغار " بتوظيف جديد لينزلها منزلة المثل والحكمة .

أعدُّ الدَّمعَ من شِيَمِ الجوَارِي

يضخم الحدث  " أعدُّ " صبابة الشاعر وانثيال عواطفه حيال الأحبة بانهمار الدموع حيث يعلن عن انهيار جلده بانصباب عواطفه في مجرى الحنين الأمر الذي جعله يتعجب من أمر ظل يعده من شيم وعادات الجواري .
حيث جرت العبارة مجرى المثل السائر بما تحمله من دلالات التشبيه والإيجاز والقياس . 

أعنْسِيٌّ أنَا أمْ زنجبَارِي

همزة التسوية مع المعادل أم جعلت من ثنائية " عنس - زنجبار " دلالة مطلقة تضخم ذم المناطقية التي تزري بترابط وتآصر الأخوة الإسلامية السامية حيث جرت الجملة مجرى الحكمة والمثل بما تحمل من إيحاء وتكثيف ودلالات مطلقة .

أحبَّ من الغمامِ إلى الصَّحارِي

أفعل التفضيل " أحبَّ " عقد المفاضلة في الحب بين ثنائية الشاعر وأحبته وثنائية الصحاري والغمام حيث جاءت أحبة الشاعر في إطار المفضل والغمام في إطار المفضل عليه .
والجملة تجسد الحب الأخوي بروافده الأسطورية بدلالات مكثفة تعبر عن القيمة المطلقة للمثل والحكمة .  

كذلكَ قدرُ أخلاقِ الكبَار

دلالة اسم الإشارة " كذلكَ " بارتباطه بكاف التشبيه يرشح الجملة لدلالات إيحائية تتوامض في أفق المثل والحكمة . فالتضايف الثلاثي بين "  قدرُ  -   أخلاقِ  -  الكبَار " ولد مضامينا تتضخم بدلالات مطلقة تمتلك التكثيف والإيجاز  .

لعمرُ اللَّهِ غبتُ بلا اختيَار

جلالة القسم في صدر الجملة وارتباطه بالحدث " غبتُ " جعل من لا النافية المرتبطة بحرف الجر الزائد الباء نفياً للقصد حيث جاءت دلالتا القسم والحدث تؤكدان نفي الاختيار بمضمون يتهاصر مع البعد الدلالي المرتبط بجمال التركيب وجلال المعنى .

سابعا : الثقافة والرمز

الكثير من الشعراء مارسوا الشعر بأغراض فقاعية مازالت تجمع بين التقليد والتغريب حيث يدورون في فلك الاجترار قربا وبعدا لا يتجاوزونها نحو الاستحداث والتجديد الأمر الذي استبد بأزمة الشعر بعيدا عن تمثيل البيئة بأبعادها الثقافية  .
فقد وقف الكثير من الشعراء مهزومين أمام الثقافة الأجنبية الوافدة بالارتحال من بيئة ثقافتهم  الأصيلة إلى سراب الثقافات الأجنبية الهجينة الأمر الذي ولد شعراء مشوهين يلبسون مسوح الهجنة في أحراش الهجرة نحو التقليد والانبهار بالغير .

وقلما نجد الشاعر الواعي الذي ينطلق من بيئته العربية وثقافته الإسلامية بمبادئها الخالدة ليجسد الحدث في المحيط الاستراتيجي انطلاقا وتأثيرا ملتزما بمبادئه في توجيه تجربته بيئة وثقافة .
غير أن الشاعر هنا يجمع بين ثنائية الدين والفن تأثيرا وانطلاقا حيث ترجم الأبعاد المنبثقة من ثقافة القيم والمبادئ الإسلامية السامية متمثلا بيئته الوطنية والعربية بعيدا عن تأثير الثقافة الوافدة .
حيث يقدم لنا نموذجا حيا من الأحاسيس والمشاعر الصادقة ترجم من خلالها مسار الشعر بعواطف دافئة جسدت قيم الأخوة الإسلامية بمفهومها الشامل سعيا منه نحو تمتين الروابط والأواصر الاجتماعية المتكئة على المبادئ الإسلامية الراقية .  
حيث وظف كثيرا من الألفاظ في سطح النص لتشير إلى دلالات رمزية مرتبطة بثقافة الشاعر الدينية والوطنية والعلمية واللغوية حيث جاءت تلك الرموز تعبر عن قيم الشاعر وتجربته في الحياة كونها تنبثق عن رصيد كاف من الاطلاع والخبرة تنم عن موهبة وارفة وتجربة في الحياة تسبر الواقع بأبعاده الزمانية والمكانية .

- الجواري : رمز الضعف المناقض لجلد الرجولة .

- ابن حنبل والبخاري : رمزي علم الحديث ونقاده الثقات المعتمد عليهما .

- عنسي وزنجباري : رمزي المناطقية التي هي محل رفض الشاعر وانتقاده .

- الفطام : رمز لجام النفس عن الشهوات .
- الطليق : رمز الحرية 
- الإسار : رمز العبودية 
- النوى : رمز السفر والترحال .
- الغمام : رمز العطاء بلا جزاء .

- الكبار : رمز الوجاهة والشرف .

- الجواهر واللآلي : رمزي الثبات والأصالة . 

- السواري : رمز تحمل المسئولية وتكاليفها بجدارة .

23/7/2018م 
إبراهيم القيسي

أضافة تعليق