مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2025/05/15 13:08
مجدّدو اليمن : سلالة الفكر أم سلالة النسب ؟ الأمير بين نبض العِرق وأصالة الاجتهاد (ج6)

ثانياً: المرتضى (تلميذ المؤيّدي) ومستنده في تراجع الأمير:

أغرب من قول المؤيّدي ومستنده ما قاله أحد تلامذته، ويُدعى محمد بن إبراهيم المرتضى عن الإمام العلّامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في كتاب للمرتضى، قدّمه العلامة المؤيدي بكل مايعنيه معنى التقديم من إقرار وتأييد للكتاب في جملته – على الأقل-: فقد قال المرتضى:

” وأما البدر الأمير، وإن ثبت أنه خالف أسلافه وآباءه من أهل البيت الطاهر-عليهم السلام- في بعض المسائل، ولكنه لابد من العرق الهاشمي أن ينبض فيه”(1)، ثمّ يورد المرتضى أبياتاً للأمير يستخلص منها اعتزازه فيها بانتمائه إلى السلالة الهاشمية وحبّه للآل(2)، ليكتشف بعد ذلك العِرق الهاشمي الذي لابد له أن ينبض، أما الشوكاني فيجرّده من ذلك كلّه، لا لسبب سوى أنّه لاينتمي إلى السلالة الهاشمية، ومن ثم فلا عِرق ينبض فيه! كما تشير العبارة التالية التي جاءت في هذا السياق. يقول المرتضى:

” أما الشوكاني فليست له آثار تدل على تمسكه بالزيدية أو الولاية ماخلا رسالة أسماها العقد الثمين في وصاية أمير المؤمنين، وكأنها إنما ألفت لإسكات الذين يتهمونه بالزيغ والانحراف عن آل محمد – عليهم السلام-“(3).

وهكذا بتفسير عِرقي سلالي عاطفي، يعتمد فيه صاحبه على عنصر (الجينات) وحدها، يَمنح هذا العالم امتياز حب آل البيت، ويَسلبه عن آخر، لأنه لاينتمي إلى الجينة ذاتها، وبذلك يضرب منهجاً فكرياً كلياً للأمير، فيصادر النزعة الشهيرة التحرّرية المعروفة عنده، تلك التي تمَّت الإشارة إلى طرف منها، حين أوردتُ قصيدة إسحاق بن يوسف، وفيها تلخيص  الجدل الدائر حول تماسك المذهب ومنطقه وحجته، وحاصلها اتهام المذهب الزيدي الهادوي بـ(الهلامية) و(الاضطراب)، والتفاخر بالنسب ! فجاء تأكيد الأمير على ذلك بقصيدة مماثلة ضمَّنها الجواب على من ردّ على قصيدة إسحاق بن يوسف. ثم إنَّ دعوة الأمير في كل مناسبة إلى معايير الحرية والعدالة والمساواة بين العباد تعدّ من السمات الأبرز في شخصيته العلمية والفكرية والتربوية، فأنّى يمكن تغييرها بمجرّد أمنية عنصرية سلالية عاطفية، كل معتمدها توارث (الجينات) في الفكر والسلوك، وليس في الجوانب الحيوية والعضوية فحسب. وثمّة حادثة شهيرة تؤكِّد ذلك المنزع التحرّري التجديدي في فكر الأمير تروى عنه بعد أن ألغى من إحدى خطبه بالجامع الكبير بصنعاء ذكر بعض أئمة اليمن، كما جرت العادة في خطبة الجمعة، فثارت عليه ثائرة بعض عوام، وفيهم بعض أقارب الإمام المهدي العبّاس، مما دفع الإمام للأمر بالقبض عليه، مع المثيرين للفتنة، فخاطب الأمير رسول الله – صلى الله عليه وسلّم بقوله(4):

فإنّي قد أوذيت فيك لنصرتي

لسنّتك الغراء في البرِّ والبحرِ 

وكم رام أقوام وهمّوا بسفكهم

دمي، فأبى الرحمن نيلي بالضرّ

وعلى إثر تلك الخطبة قام علماء من بني العنسي من أهل (بَرَط) ببعث رسالة إلى علماء (حُوث) يستفزّونهم فيها للوقوف ضدّ الأمير. والغريب أنّه رغم التحريض الشديد تجاهه، فقد كان ردّ علماء (حُوث) مفاجئاً، حيث وقفوا إلى جانب الأمير، وأثنوا عليه، بوصفه عالماً مجتهداً نادراً في أهل زمانه، يحق له أن يخرج عن بعض المألوف، بحكم علمه واجتهاده وتأهيله. ورفضوا كل اتهامات علماء بني العنسي. ومما جاء في جواب علماء (حُوث) عليهم قولهم:

” ومن القاعدة الضرورية أنّ من تحصّلت (له) هذه الشروط أّن يحرم عليه التقليد، لأحد من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وهذا الشخص ممن وفّر الله فيه هذه الشروط، فلا ينبغي أن يُعترض عليه في شيء مما أدّى إليه نظره الثاقب. وأراكم[هكذا] منه ماتنقمون منه إلا شرعية الرفع والضمّ التأمين، وشرعية هذه معلومة من السنّة النّيّرة، وقد قال بالرفع كثير من العلماء من أهل البيت وغيرهم”(5).

تُرى: هل كان للإنتاج المعرفي للعلامة الإمام الأمير الصنعاني أو سواه من رجال التجديد في اليمن أن ينتشر على ذلك النطاق في العالم الإسلامي، بما فيه بعض المناطق المشتهرة بالحساسية البالغة من كل رائحة أو بيئة تشيّع، لو ظل فيه ذلك العِرق الذي يباهي به المرتضى؟!

ألم يطّلع صاحب هذا القول على قصيدة الأمير التي يقول فيها(6):

إنّي ومن بيت الإمامِ عصابةٌ

في العدّ قد زادوا على الآلاف

مسترزِقُون من الرعايا ليتهم

قنعوا بأكل فرائض الأصناف

بل يأخذون من الرّعايا كلّ ما

يحوونه كُرها بلا استنكافِ

أتظن من منكم يلي أمر الورى

يلقى قرابته بلا استخفاف

لا بل يقول عطاهُمُ لي لازمٌ

بل ذلك المقصود في استخلافي

أُعطي الصغير مع الكبير مُعَمَّاً

ذات الخِمَار وربّة الأشناف 

وإذا أراد خلاف هذا أشعلوا

في الأرض نَارَى فتنةٍ 

وخلافِ أعني بهم من يزعمون بأنهم

 رأس الورى والنّاس كالأخْفَافِ

وقوله (7):

تسمّى بنور الدّين وهو ظلامه

وهذا بشمس الدِّين وهو له خسفُ 

وذا شرف الإسلام يدعوه قومُه

وقد ناله من جوره كلّهم عسفُ 

رويدك يامسكين سوف ترى غداً

إذا نُصِب الميزان وانتشر الصحفُ 

بماذا تُسمّى هل سعيد فحبّذا

أو اسم شقي بئس ذا ذلك الوصفُ

ولعلّ مثل هذه الصرامة والقوّة في شخصية الأمير، في سبيل الحق والحرّية والكرامة؛ ما دفع ببعض الأئمة المتسمين بطغيان داء العنصرية السلالية، كالإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدِّين (ت:1904م)، ليردّد في بعض مجالسه مقولة” محمد بن إسماعيل الأمير، ليس منّا أهل البيت”، ومقولة:” إن الأمير أفسد ثلاثة بيوت عظيمة في اليمن، بيت المتوكّل بشهارة، وبيت شرف الدِّين بكوكبان، وبيت إسحاق بصنعاء”(8).  ومقصوده بالإفساد هنا بث الفكر السنّي، بين أفراد تلك الأسر وتنويرهم بالدليل، من الكتاب الكريم والسنّة المطهرة، وتحريرهم من ربقة التقليد(9).
 

ولو أن شخصية الأمير الصنعاني كانت على ذلك النحو من المنزع السلالي الذي تمنّاه المرتضى ومن أقرّه ؛ لما اختاره أبرز ثوار اليمن الكبار كالقاضي محمد محمود الزبيري الملقّب بـ(أبي الأحرار) (ت:1965م)، أو القاضي المناضل عبد السلام صبرة (ت:1912م) أو  الشهيد العظيم– على حدّ وصف القاضي صبرة- أحمد المطاع(ت:1948م)، أو الدكتور  الاديب والشاعر عبد العزيز المقالح (ت: 2022م)؛ نبراساً ليستشهدوا به على التحرّر والتجديد ورفض العنصرية الضيّقة، دون سواه،  في سلسلة مجدّدي اليمن، ولاسيما من الهاشميين الأحرار، فوصفه  الزبيري بأنه:” قطب من أقطاب العلماء الهاشميين الأحرار، ويمثِّل النضال النبيل ضدّ النزعة الإمامية المتعصبة، وقد عانى خطوباً كثيرة في عهد المتوكل على الله القاسم بن الحسين، ثم المنصور الحسين بن القاسم، ثم في أيام المهدي العباس بن الحسين””(10)، مشيراً إلى محنة الأمير حين كان خطيباً في الجامع الكبير بصنعاء، ودخول يوسف العجمي القادم من إيران، على خط المؤامرة، بذريعة العداء لآل البيت”(11).

أما القاضي عبد السلام صبرة  فربط بين الأمير والمطاع قائلاً عن الأول:” وفي البدء أقول إنني كلما ذكرت أو قرأت له [ يقصد للأمير]تذكرت معه الشهيد العظيم أحمد بن أحمد المطاع هذا العلامة الكبير الذي يعترف له كل النابهين الذين عاشوا عصر ما قبل الثورة الدستورية 1948م، واشتركوا في أحداثها أنه كان المحرّك الأول للتغيير، وصاحب الدور الكبير في  تحريك العقول الراكدة، وفي إيقاظ الضمائر النائمة… ولا أبالغ إذا قلت إن احمد المطاع كان أستاذي وأستاذ زملائي في التعريف بعظماء التاريخ في فترات متعاقبة من تاريخ اليمن أمثال العَلَم الشامخ والبدر المنير محمّد بن إسماعيل الأمير رحمه الله وطيّب ثراه، وجعل الجنّة مأواه، فقد كان النجم الذي أشرق بنوره على سماء اليمن المظلم، والذي أضاء بنوره الطريق لكثير ممن كتب الله لهم الانعتاق من قيود التقليد الأعمى والتعصّب المقيت…” “(12). وأشار صبرة إلى تلك القصيدة التي أجاب فيها الأمير على من تساءل عن حيرته عن المذهب الزيدي الهادوي، كما أشار إلى مدى الاهتمام الخاص الذي كان يوليه المطاع لها، وحرصه على نشرها وتكرارها والتركيز على بعض أبرز الأبيات فيها، لكشف حقيقة التعصب وخطر التقليد ودحض الخرافة، بسبب ضعف الاهتمام بالعقل”(13).

وأمّا الدكتور عبد العزيز المقالح  فكثيراً ما يشيد بإعجاب بالغ بالأمير الصنعاني ومن قبله الوزير والجلال والمقبلي ومن بعدهم الشوكاني بوصفهم مجدّدين  مستنيرين، وذلك  في كتاباته ذات الصلة، ولعل من أبرزها  بالخصوص كتاب: (قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة)، مصرّحاً بمغادرتهم جميعاً المذهب الزيدي(14).وعن الأمير الصنعاني الذي يصفه بالقمّة الثانية، بعد محمّد إبراهيم الوزير، يقول المقالح:” لقد خرج من نفس صفحات الكتاب الزيدي شاهراً سيف الدِّين والفكر والشعر، في وجوه المتعصبين والظالمين، ودعاة الشعوذة والأباطيل اللاعقلية، وزاد عن سلفه العظيم، ابن الوزير، في اشتداد مقاومته للسلطة المتجبّرة، ولعلّه أول من أطلق على الإمامة في عصره صفة ” الملك العضوض”. وكان في كتاباته وفتاواه الدينية شديد القسوة بالظلم والظالمين، وما تكاد تخلو رسالة من رسائله، ولا كتاب من كتبه من صفحات يندّد فيها بالطغاة والعابثين بالبشر من متسلّطين ومتحكّمين”(15).   ثم نرى المقالح لايبرح  يثني على الأمير  وشجاعته النادرة وجَلَده الخاص في مواجهة طغاة عصره بأساليب الشعر والنثر  (16).

ويبقى السؤال عن سرّ تخلف نبض ذلك العرق بالأمس- وفقاً لتعبير المرتضى سابقاً لدى الإمام يحيى بن الحسين بن القاسم (ت: 1100هـ) – على سبيل المثال- ذاك الذي قاوم كل نزعات الظلم والتسلط باسم الآل في زمنه.

والواقع أن الشيخ محمد بن صالح السماوي المعروف بابن حريوه(ت:1241هـ)؛ ربما بدا أكثر اتساقاً مع منهجه ومنطقه وفقهه، بالنظر إلى  عنفه وعصبيته المشتهرة عنه، خاصة في ردّه المقذع على الشوكاني، على كتاب  الأخير”السيل الجرّار…”، لكن ابن حريوه  كان قد صرّح في كتاب” الغطمطم الزخّار…” الذي خصصه للرد على الشوكاني؛ أن  كل أولئك المجدّدين ومن على شاكلتهم لا يعتد بخلافهم ولا إجماعهم، لا فرق بين شوكاني ووزير وأمير وجلال ونحوهم، إذ العبرة عنده حتى بالنسبة للمنتسبين للسلالة الهاشمية، مدى ثباتهم على منهج من وصفهم بأجدادهم، ليصبحوا أهلاً لوراثتهم، فقال:” وهذا الأمير الممقوت، يرجف على الشيعة، بأنه مذهب محمد بن إبراهيم الوزير، ليوهمهم أنه من أهل البيت، الذين لا ينعقد إجماعهم مع خلافه، ولا يدري أن من أصولنا الحقّة، كما عرّفناك غير مرّة، أنه لا يعتد بخلاف محمد بن إبراهيم، ولا الأمير ولا الجلال، ولا من كان من أمثالهم، وإن انتسبوا إلى أهل البيت، إذ عرّفناك سابقاً، أنهم وإن كانوا من ورثة  الكتاب، لكنهم من الفريق الظالم لنفسه، لأخذهم علم جدّهم من غير أهلهم، بل من أفواه المجبرة الوضاعة، من العامّة، وكما أنه لا يعتد بغير المجتهد في انعقاد إجماع الأمة، كذلك لا يعتد  بخلاف  هؤلاء في  إجماع أهل البيت، عليهم السلام، وانعقاده حاصل بدونهم، إذ المقصود منهم، من كان من قرناء الكتاب،  وأخذ علمه وراثة عن آبائه الكرام، فأمّا من أخذ بأحاديث العامّة، فهو محتذٍ حذوهم، ضال بضلالهم،  فلا يعتدّ بوفاقه ولا خلافه”(17).

الهوامش:

  1. محمد بن إبراهيم المرتضى، مرجع سابق، ص151. 
  2. انظر:  محمد بن إبراهيم المرتضى، المرجع السابق، ص 151.
  3. محمد بن إبراهيم المرتضى، المرجع نفسه، ص 159.
  4. راجع : الأكوع، الزيدية (طبعة مكتبة الجيل)،مرجع سابق، ص 45. 
  5. راجع : رسالة علماء بني العنسي إلى أهل حوث وجواب أهل حوث عليهم في: الأكوع، الزيدية، طبعة مكتبة الجيل، ص 48-52. 
  6.  انظر: قاسم غالب أحمد وآخرون، ابن الأمير وعصره: صورة من كفاح شعب،د.ت، د.ط، د: م، د.ن، ص5. 
  7. قاسم غالب وآخرون، المرجع السابق، ص42. 
  8. قاسم غالب ، ابن الأمير، المرجع نفسه، ص 13.
  9.  قاسم غالب ، ابن الأمير،  نفسه، ص 13.
  10. محمد محمود الزبيري، الإمامة وخطرها على وحدة اليمن،1425هـ-2004م، د.ط، صنعاء: وزارة الثقافة والسياحة، ص 19. 
  11.  الزبيري، الإمامة وخطرها على وحدة اليمن، المرجع السابق، ص 19.
  12. عبد السلام صبرة من مقدّمته لكتاب: محمد عبد الله زبارة، محمد بن إسماعيل الأمير: رائد مدرسة الإنصاف في اليمن، 2007م، د.ط، د: م،د، ن، ص 11.
  13. عبد السلام صبرة، المرجع السابق، ص 12-13.
  14. عبد العزيز المقالح، قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة، 1982م، د.ط، بيروت دار العودة، ص 54.
  15. عبد العزيز المقالح، قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة، المرجع السابق، ص 57.
  16. عبد العزيز المقالح، قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة،  المرجع  نفسه، ص 57-59.
  17. محمد بن صالح السماوي، الغطمطم الزخَّار،  مصدر سابق، جـ 3، ص 54.

    *نقلاً عن موقع حكمة يمنية
أضافة تعليق
آخر مقالات