قراءة تحليلية لنص " بضَمِيــرٍ هَــادِئْ " للشاعر / منصور أصبحي . ت/ إبراهيم القيسي " بضَمِيــرٍ هَــادِئْ " فضَاءَاتُ ما بيني وبينكِ شائِكَةْ وهذا الذي أضنَى وأعيَا الملائِكَةْ أعرِّي بها الذِّكرَى لذكرَى عشقتُها ولكنَّها للنَّفي تبدُو مشارِكَةْ خياﻻتُها استقصَتْ خيالِي..وربَّمَا فؤادِيَ أقصَى كالخيالِ تماسُكَهْ وعمَّدَ بالمنفَى هُنَاكَ هوِّيتِي بعزمِ الذي بالنَّفِي أرسَى ممالكَهْ وأضمرَ شرَّ اﻷمسِ كي ﻻ أخونَني كما خانَ في ظلِّ الصِّراعِ مناسِكَهْ أتمتمُ كالظَّمآنِ بالدَّمعِ حافياً عسَى ذلكَ الظمآنُ يروِي مسالِكَهْ ويستقرئُ التَّأكيدُ حمّالةَ السُّهَى ﻷدركَ أنَّ الرُّوحَ أعيَا مدارِكَهْ هو اﻵخرُ المنفيُّ ما دمتَ مثلَهُ وذا الآخرُ المنفيُّ مثل "السَّكاسِكَةْ فلستُ كـ "أهلِ الكهفِ" أستعصفُ المدَى وﻻ بالذي يغفُو لينسَى معارِكَهْ وﻻ عنصريُّ الهمِّ أستوقدُ الضُّحَى وﻻ أُوقدُ الشَّيءَ الذي صاغَ مالكَهْ ففي أحسنِ اﻷحوالِ فالنَّفيُ قدرتِي وفي عمقيَ المكسورِ أبني أرائكَهْ سأنسجُ من ذكراكِ أقدارَ بسمتِي ﻷنَّكِ ﻻ خيطٌ وﻻ أنتِ حائِكَةْ وﻻ روحيَ المَسرَى وﻻ همزةَ الصَّدَى كما الضُّوءُ لي بالحلمِ عذراءُ ناسَكَةْ ولي مسرحٌ يومي ويحتاجُ سطوتِي ﻷبرأَ من غيَّاتِ " أنصارِ عاتِكَةْ " وأحتاجُ بالمنفَى ﻷقدارِ سافِكِي ليختبرَ النَّفيُّ المطوّرُ سافِكَهْ سأمضِي بلا فوضَى ولستُ أديرُها وﻻ منتهىً ليْ كالوفودِ المشارِكَةْ أنا الموعدُ اﻷشهَى ﻹشهارِ غربتِي برغمِ الخطايَا للخطايَا مبارِكَةْ تبارُكُهَا روحاً بروحٍ تسوقُهَا فتمنحُهَا مثلَ القراراتِ"بارَكَةْ" مسافاتُها أخرَى وأخرَى بوعينَا وأخرَى ترَى بعضَ الوجوهِ "برامِكَةْ" سأبدأُ باللَّا شيءِ حتَّى أعيدُهَا ليالٍ أزاحتْ وجهَ أخرَى وحالِكَةْ كأنِّيْ أنَا المنفيُّ بالصَّمتِ ﻻحقاً وأعدُو بلا جيشٍ تعَدَّى سنابَكَهْ وإني كمَا المنفَيِّ بالصَّمتِ حابساً بقايَايَ في مثلِ الرُّؤَى متدارِكَةْ فحسبِي منَ اﻷوجاعِ نفياً ومحنةً بأقصَى وأقصَى ما الزَّمانُ تدارَكَهْ فلو خانَهُ صلَّى وأسرعَ خطوةً تجاهِيَ كيْ أهوي خُطَىً متضَاحِكَةْ منصور الأصبحي \\\\\\\\ ______________________________ مقدمة يولج الشاعر إلى نصه بوعي الملهم وإدراك الخريت وانسجام الحالم يركب براق الخيال ويجدف قارب الحرف يطير في الفضاء المفتوح يقارب بين الأبعاد بوشائج أسطورية ترفرف في أفق النص بأسراب المضامين . يقف في بؤرة الحدث يشد كل الخيوط بسحره المغناطيسي فتنثال إليه الرؤى بأطياف ساحرة يرسم من خلالها لوحات الطيف بألوان تنسجم بتداخل يعزز من قدرة اليراع الهاضب وسعة الخيال الخالق . يقف في زوايا النص ينحت الحروف مسارا تعبر الأفق تقارب أبعاد المسافات في مرايا الزمكان . فالشاعر يمتلك موهبة الشعر بيقين خالص يحدو في مسرح القوافي بإيقاع ساحر يجمع بين سلاسة التعبير وعمق التجربة يهاصر الخيال كأفنان وارفة يمزج بين الجد والهزل والتهكم والسخرية والحب والكره والألم والحسرة . يجدف قارب الغربة في بحر التشرد يركب المدى باحترار الأزمات يطير في أفق التشرد زوبعة وفي طقس الفتن عاصفا حزينا ما بين مقلتيه أشواق أسطورية تبحر نحو الحب تبحث عن الأمن والسلام تحاصره المتاهة بديجور غاسق رغم اليأس مازال يحمل الأمل يبحث عن مصدر النور بإرادة المؤمن وبيقين الواثق من النصر . ______________________________//////////////////////////////////////////// أولا : عنوان النص ______________________________ عنوان النص " بضَمِيــرٍ هَــادِئْ " يتكون من كلمتين "ضمير / هادئ" مع دخول حرف الجر على كلمة ضمير حيث تعتبر شبه الجملة "بضمير" متعلقة بفعل محذوف تقديره أكتب أو أصوغ وهادئ صفة تابعة لكلمة ضمير فالعنوان جملة غير تامة دلت على محذوف متعلق بالذهن في حال التلفظ حيث تم اختيار الشاعر للعنوان من خلفية سيكلوجية تتعاكس مع الموضوع من خلال إيحاءات معتقة في حنايا الشعور تهمس بظلال وارفة يهرق الشاعر من جداولها وابل النص بثجات متوالية تصب غوادي القوافي بيقين مدروس . حيث تتهامس الألفاظ والموسيقى في أفق النص مع جوقة العنوان باتحاد اعتباري يعزز من مثالية الخيال في رحلة شعرية وارفة تتناغى فيها المفردات كعصافير غردة تخبو وتظهر في جميم الدلالات برشاقة الفراشة وأناقة الزهر الراقي . ______________________________ \\\\\\\\ ثانيا : محور الفضاءات ______________________________ فضَاءَاتُ ما بيني وبينكِ شائِكَةْ وهذا الذي أضنَى وأعيَا الملائِكَةْ أعرِّي بها الذِّكرَى لذكرَى عشقتُها ولكنَّها للنَّفي تبدُو مشارِكَةْ خياﻻتُها استقصَتْ خيالِي..وربَّمَا فؤادِيَ أقصَى كالخيالِ تماسُكَهْ وعمَّدَ بالمنفَى هُنَاكَ هوِّيتِي بعزمِ الذي بالنَّفِي أرسَى ممالكَهْ وأضمرَ شرَّ اﻷمسِ كي ﻻ أخونَني كما خانَ في ظلِّ الصِّراعِ مناسِكَهْ ______________________________ فضَاءَاتُ ما بيني وبينكِ شائِكَةْ وهذا الذي أضنَى وأعيَا الملائِكَةْ يبدأ الشاعر النص بخطاب مفتوح يتوجه به إلى المحبوبة بتنكير المبتدأ "فضاءات" والذي زال إبهامه بإضافته إلى اسم الموصول المشترك "ما" الدال على غير العاقل الأمر الذي سوغ الابتداء بالنكرة من خلال إضافة المبهم إلى المبهم والشاعر هنا يضخم المسافة الفاصلة بينه وبين المحبوبة حيث يقف ظرف المكان "بين" محتضنا ضميري المتكلم والمخاطبة يقارب بين طرفي المبتدأ "فضاءات" وخبره "شائكة" بإيحاءات صوفية تقدر المنحى الفلسفي بسبر العمق الروحي لدى الشاعر . فتأويل الفضاء هنا يتمحور بين مسافتين المسافة المكانية على الأرض و المسافة الروحية بين الشاعر ومحبوبته وفي كلا الحالتين نسقط المعنى باطراد لأن الشاعر ينأى عن المحبوبة بثنائية الروح والمكان . ولهذا جاء في الشطر الثاني بالجملة الاسمية المكونة من اسم الإشارة "هذا" واسم الموصول " ما " مع جملة الصلة "أضنى" حيث جاءت الجملة الخبرية تفيد التعجب والدهشة من تلك المسافة المجسدة للبعد الروحي والمكاني عن المحبوبة حيث جاء المفعول به "الملائكة" رمزا يحمل الإثارة والمفارقة كنوع من البهارات المشهية كأسلوب خاص يعكس خفة الشاعر وبهلوانيته لشد القارئ إليه من الاستهلال إلى الخاتمة . أعرِّي بها الذِّكرَى لذكرَى عشقتُها ولكنَّها للنَّفي تبدُو مشارِكَةْ إذا اعتبرنا الضمير المجرور في " بها" يعود إلى المخاطبة في البيت الأول نكون قد أزلنا الإبهام حيث نصل خطاب الشاعر بمجرى الحدث حيث تكشف الأنا الشاعرة ثنائية الذكرى في مستهل الحدث ما بين مؤلمة وجميلة فالذكرى الحزينة هي ذكرى النفي والذكرى الجميلة هي ذكرى فراق المحبوبة الحقيقية أو الوطن . فالأنا الشاعرة تمزج من خلال إلهامها على التداخلات الدلالية في سطح النص تنسج الحروف بقالب متقارب يذيب الفواصل في زحام الدقة التعبيرية والتعميم المراد حيث ندرك من الحرف الناسخ "ولكنَّها" إعادة الضمير إلى المحبوبة "الوطن" ليستدرك الشاعر من خلال مأساة نفيه مشاركتها حقيقة أو مضمونا في نفي ذاته بدليل تسليمها للعدو وطردها للحبيب من قبيل هرق المشاعر وتوظيف الإسقاطات الروحية والتقمص الإجرائي للأحداث حيث يجسد الشاعر من خلال هذه التهمة للمحبوبة عتبا يحتر مع بعد المسافة الروحية والمكانية التي أطلقها في استهلال النص . حيث تؤكد الجملة الفعلية الواقعة خبرا للحرف الناسخ " لكنَّ " "تبدُو مشارِكَة" . شك الشاعر وعدم يقينه من تهمة المحبوبة في المشاركة في النفي فالفعل " تبدو " يدل على مقاربة غير جازمة الأمر الذي يوحي بالشك والتردد . حيث نسبر من خلال هذا المنحى سيكلوجية الشاعر وإدارة أزمته الروحية المتسمة بالقلق والتمرد حيث ضاعفت الأزمة الكارثية من خلط المفاهيم وفقد الثقة في إطار الانفصام الروحي ما بين الشاعر ومحبوبته نتيجة السبي الطارئ من غول الأوادم الغائرة حيث نلمس الغيرة الطارئة بلا حدود تنفث في وعي الشاعر ردة الأفعال الآنية . خياﻻتُها استقصَتْ خيالِي..وربَّمَا فؤادِيَ أقصَى كالخيالِ تماسُكَهْ يقف الشاعر في بؤرة الحدث يهاتف الخيالات في الفضاء المفتوح حيث يلتقي مع المحبوبة في عالم الافتراض الروحي يستقصي التهاتف الوامض من خلف الحقيقة بامتزاج تلباثي يستدعي الأبعاد المتباينة في إطار التحضير الروحي . فالثنائيتان - "خياﻻتُها / خيالِي" - المسنودتان إلى ذاتي الحبيبة الغائبة والشاعر الحاضر أبرزتا الأبعاد الروحية السارحة في الفضاء المطلق بتآزر الرؤى الصوفية العاملة كأثير ناقل للحدث في الأفق الراهن . ثم يأتي الشاعر بالأداة "ربَّمَا" على سبيل الافتراض المؤكد لحالة الشاعر المتداعية حيث يقابل استقصاء خيال المحبوبة بإقصاء فؤاده عن التماسك أمام الحدث الراهن . فؤادِيَ أقصَى كالخيالِ تماسُكَه فالمشهد المرسوم يعمل بتداخل فلسفي يمازج بين الاستقصاء والإقصاء في أفق الشاعر المأزوم بإجراء روحي يستدعي الحنين الهاضب بين ذاتي الشاعر والمحبوبة . وعمَّدَ بالمنفَى هُنَاكَ هوِّيتِي بعزمِ الذي بالنَّفِي أرسَى ممالكَهْ مازال الضمير في الفعل " عمَّدَ " يتوامض مع الفؤاد في البيت السابق يعود إليه عن قرب حيث جعل منه الشاعر رئيس مكتب شئون المنفى يختم الجوازات لإثبات الهوية . فالشاعر بخياله المحلق قارب المشهد بصورة تمثيلية تعبر عن حال الشاعر في ثنائية الصراع الداخلي والخارجي حيث جعل القلب عميد الصراع الداخلي يعمل على تطبيع المشاعر المتمردة مع الواقع الجديد في المنفى بالتزام الصبر والاستكانة وهو في هذا السلوك يتوازى مع حال الشاعر الخارجي في وطن المنفى لتعميد أوراقه من أجل منحه الإقامة ليأمن من الملاحقة القانونية . حيث نجد البعد الاستراتيجي للشاعر يضخم المفارقة والدهشة في الشطر الثاني بانخراط بهلواني يعمل على اللف والنشر . " بعزمِ الذي بالنَّفِي أرسَى ممالكَهْ " حيث يصور الشاعر استعارة القلب للعزم من النافي : "بعزمِ الذي " . كون الباء تدل على الاستعانة على سبيل السخرية والتهكم بتعلق استبطاني يوحي بخلفية التضاد الذي يجسد بناء مملكتين بثنائية النافي والمنفي وهي فلسفة عميقة يسعى من خلالها الشاعر ترسيخ مبدأ السببية والمسببية اللتان عملتا على تمكين النافي من بناء مملكته بإبعاد المنفي عنه والمنفي يعمد هويته بسبب إبعاد النافي له . وأضمرَ شرَّ اﻷمسِ كي ﻻ أخونَني كما خانَ في ظلِّ الصِّراعِ مناسِكَهْ في البيت الآنف فلسفة ذات أبعاد استراتيجية تضخمت فيها الأنا الشاعرة بانفصام التفاتي جسم القلب بضمير الغائب والشاعر بضمير المتكلم . " أضمرَ / أخونَني " . وكأن الشاعر وقلبه شيئان متباينان أو ثنائية مفترقة حيث يجعل من القلب معادلا موضوعيا ينصبه للمحاكمة وإلقاء كل التبعات عليه في خضم الأحداث المتصارعة . كما خانَ في ظلِّ الصِّراع مناسِكَة في هذا الشطر أغرق الشاعر في إبهام المضمون لكن من خلال استنطاق الدلالة اللفظية تتم القراءة بتأويل منطقي يقارب المعنى على ضوء علاقات النص من حيث الترابط النحوي حيث جاءت لفظة " كما " تتكون من كاف التشبيه الجارة وما الموصولة الدالة على اسم الموصول المشترك لغير العاقل لكن جاز استخدامها هنا لسببين : الأول : لأن الشاعر أراد هنا صفة من يفعل مثل قوله تعالى : " وانكحوا ما طاب لكم من النساء ... " . السبب الثاني : جاء بها لغرض بلاغي حيث أنزل الشاعر العدو منزلة غير العاقل نتيجة خيانة مبادئ الخلاف وتجاوز العهود والمواثيق وانتهاك حرمة الوطن حيث رمز بكلمة مناسك للمبادئ والقيم الأخلاقية التي تنظم طبيعة الصراع بين الأضداد . وكأن الشاعر يريد إضمار الانتقام ورد الصاع بصاعين لمن سبب له النفي والتشرد من خلال الثورة والتمرد لاسترداد الحقوق والحريات وهو بهذا يضمر الجزم والتصميم حيث لا يخون ما عزم عليه كما خان العدو شرف المبدأ والعهود والمواثيق . _____________________________ \\\\\\\\ ثالثا : محور اجترار الألم ______________________________ أتمتمُ كالظَّمآنِ بالدَّمعِ حافياً عسَى ذلكَ الظمآنُ يروِي مسالِكَهْ ويستقرئُ التَّأكيدُ حمّالةَ السُّهَى ﻷدركَ أنَّ الرُّوحَ أعيَا مدارِكَهْ هو اﻵخرُ المنفيُّ ما دمتَ مثلَهُ وذا الآخرُ المنفيُّ مثل "السَّكاسِكَة ______________________________\\\\\\\\ يستبطن الشاعر الألم من خلال اجترار مظاهر الرحلة الضانية حيث يختصر أبعاد المسافة في تحضير استغراقي يجمع أطراف الكارثة في مظاهرة ذاتية تبسط الإيحاء والتكثيف . "أتمتمُ كالظَّمآنِ بالدَّمعِ حافيا" هذا المشهد الآهل بالحسرات يعكس الحواضن العانية في ضمير الشاعر حيث يظهر الحوار الداخلي يجسد اللوعة والحزن من خلال التمتمة الباكية في ظرف الرحلة الظامئ المشتبك مع فيض الدموع الجارية في مظهر حاف يتجرد من الزاد والنعل والراحلة . حيث يأتي الحال " حافياً " يضخم البعد الكارثي الذي يعيشه الشاعر في طريق الوحدة والظمأ وتدفق الدموع نتيجة القهر والاستبداد . حيث نلحظ بوادر الأمل تومض من خلال التعبير بالفعل " عسى " في معرض استدعاء الرجاء حيث يأتي الفعل " يروي " باثا جوا من الأمل الهاضب يتجدد بتجدد الزمن تجاه المستقبل . حيث تأتي كلمة " مسالكة " ترمز لأبعاد المسافة الشائكة لاختلاف وجهة الطريق المتعدد . ثم يأتي الفعل " يستقرئ " يحدد استشراف الشاعر لمسار الرحلة حيث يجمع العلامات والشواهد حسب الحدث لاستنتاج التوجه الاحترافي في رسم خارطة الطريق حيث تأتي كلمة " ﻷدركَ " في الشطر الثاني تعبر عن تعليل استدراكي يسبر الصراع المستبطن بين روح الشاعر وطموحاته في مسار رحلة المنفى القاسية . تلك الرحلة التي تجمع اللفيف من الدهشة والتناقض وتحتفل بأجناس متعددة من المنفيين تتضخم بروافد المسئولين وقيادات الدولة ومشائخ القبائل وتيارات الأحزاب والكثير من الشخصيات . هو اﻵخرُ المنفيُّ ما دمتَ مثلَهُ وذا الآخرُ المنفيُّ مثل "السَّكاسِكَة استخدم الشاعر مصطلح "الآخر" حيث يريد به التعدد النوعي للمنفيين كما استخدم كلمة "السَّكاسِكَة" لترمز لقبائل اليمن العريقة مثل قبائل السكاسك والسكون وهي رمزية لا تقف عند المنصوص عليهم بل تتعدد بشمول استطرادي لكل قبائل اليمن . وكأن الشاعر بهذا الاستطراد يعزي نفسه باستقصاء الآخر من خلال تعدد مظاهر المحنة وتفرعاتها . ______________________________ \\\\\\\\ رابعا : محور الأنا الشاعرة ______________________________ فلستُ كـ "أهلِ الكهفِ" أستعصفُ المدَى وﻻ بالذي يغفُو لينسَى معارِكَهْ وﻻ عنصريُّ الهمِّ أستوقدُ الضُّحَى وﻻ أُوقدُ الشَّيءَ الذي صاغَ مالكَهْ ففي أحسنِ اﻷحوالِ فالنَّفيُ قدرتِي وفي عمقيَ المكسورِ أبني أرائكَهْ سأنسجُ من ذكراكِ أقدارَ بسمتِي ﻷنَّكِ ﻻ خيطٌ وﻻ أنتِ حائِكَةْ وﻻ روحيَ المَسرَى وﻻ همزةَ الصَّدَى كما الضُّوءُ لي بالحلمِ عذراءُ ناسَكَةْ ولي مسرحٌ يومي ويحتاجُ سطوتِي ﻷبرأَ من غيَّاتِ " أنصارِ عاتِكَةْ " ______________________________ //////////////////////////////////////////// فلستُ كـ "أهلِ الكهفِ" أستعصفُ المدَى وﻻ بالذي يغفُو لينسَى معارِكَهْ يؤكد الشاعر مبادئه من خلال جملة من القيم الثورية تتسم باليقظة والانتباه في إطار التمهيد لإعداد ثورة جامحة تسترد الحقوق والحريات من خلال التعبير الإيحائي المتصف بالمزاوجة بين التصريح والتلميح مع مزج الموضوع باستدعاء بعض الرموز الأسطورية . "فلستُ كـ "أهلِ الكهفِ" فتعلق رمز "أهلِ الكهف" بالفعل الناسخ "لست" يضاعف استبطان النفي الأسطوري للنوم الأمر الذي يترجم إرادة الشاعر نحو التحفز واليقظة من أجل ترجمة فعلية للمواقف من خلال إدراك الشاعر لأبعاد المعركة ورسم خارطة الطريق بعيدا عن غفوة السنة ونوم النسيان . وﻻ بالذي يغفُو لينسَى معارِكَهْ " حيث ينطلق الشاعر من زاوية الاعتدال ليجسد ثورة عامة ذات أبعاد أخلاقية تتكئ على مبادئ الحق والعدل بعيدا عن العنصرية وجرائم الأثرة والأنانية . وﻻ عنصريُّ الهمِّ أستوقدُ الضُّحَى وﻻ أُوقدُ الشَّيءَ الذي صاغَ مالكَهْ حيث جاءت الصورة " أستوقدُ الضُّحَى " . تعبر عن رمز النور عندما يستخدم وقودا للعنصرية والأثرة والأنانية . كما تأتي الصورة العميقة التالية "وﻻ أُوقدُ الشَّيءَ الذي صاغَ مالكَه" حيث تعبر هذه الصورة عن عمق القيم التي يلتزم بها الشاعر من حيث التزامه بالمبادئ وبعده عن قيم الانتهازية وامتصاص الدماء فثورته تتنزه عن استهداف الآخر في ماله وأهله ودمه . ففي أحسنِ اﻷحوالِ فالنَّفيُ قدرتِي وفي عمقيَ المكسورِ أبني أرائكَهْ هنا يكثف الشاعر من دائرة "النفي" ويحد قليلا من طموحه كونه مجرد فرد يجتر الألم في مساحة ضيقة حيث يقف في حدود القدرة التي يتيحها له المنفى وبهذا يقف الشاعر في موجة الجزر مرتدا عن طموحه الثوري في لحظة من لحظات التأمل الصوفي في مسار بناء النص الشعري حيث ستعود الموجة به نحو المد في إطار التسلسل الهرمي لبناء للنص . وفي عمقيَ المكسورِ أبني أرائكَهْ نلحظ في الصورة الآنفة ما يعانيه الشاعر من الألم والضر من جراء المنفى حيث يقرب لنا أعماقه الضانية بآنية من الفخار تعرضت للكسر وهو بهذه الصورة يجسد المعنى بتقريب حسي ليضخم ما يعانيه من الألم والحسرات نتيجة إجراءات المنفى الغاشم . سأنسجُ من ذكراكِ أقدارَ بسمتِي ﻷنَّكِ ﻻ خيطٌ وﻻ أنتِ حائِكَةْ يعود الشاعر هنا إلى المحبوبة يستلهم من أريج ذكراها "يوتوبيا" الحب يبني مدنها الخيالية من لبن الأشواق يتهاصر مع أطياف صباحها الألق يطير في رحابها فتهب عليه نسمات الصبا بهواتف الحنين فتشرق البسمة بأقدار اليقين في رحاب الذكريات الهاضبة . سأنسجُ من ذكراكِ أقدارَ بسمتِي يأتي الفعل "سأنسج" الرؤية المستقبلية لتحديد الأهداف في تجسيد المحبوبة ذاكرة تاريخية تحتفظ بأروع الذكريات السعيدة تختزن الماضي الجميل في شريط يختزل الزمكان في حافظة الزمن حيث يستدعي الشاعر العقل لاسترجاع أحلى الذكريات لينسخ منها أقدار ابتسامته في رحلة المسرى الكئيب في مجال الزمكان . ﻷنَّكِ ﻻ خيطٌ وﻻ أنتِ حائِكَةْ هنا نقف أمام الدهشة والتوهج نقف باحترام وإجلال أمام أنامل الشاعر التي صاغت هذه الصورة العبقرية حيث نلمس جمال الصورة يتوامض مع جمال روح الشاعر حيث تعكس الصورة خلفيات المبادئ الرائدة وروح التسامح ومنحى الحب وأدب الخطاب مع المحبوبة الوطن . على الرغم من العتاب والتهمة التي وجهت للمحبوبة في سياق النص إلا إن الشاعر هنا يبوح ببراءتها بإيحاء راق تم من خلال الصورة الكنائية التي أحكم رسمها بعبقرية واقتدار . فالمحبوبة لم تكن طرفا في نسيج المؤامرة كونها بعيدة عن الحدث اغتصبت بتغلب العدو عليها وما أمر النفي إلا خريف قاهر جاء بعنف العواصف وأسقط أوراق الشجر فالمحبوبة لم تكن يوما خيطا في الحدث ولا هي من خاطت الأحداث في مسرح الجريمة . وﻻ روحيَ المَسرَى وﻻ همزةَ الصَّدَى كما الضُّوءُ لي بالحلمِ عذراءُ ناسَكَةْ هنا الشاعر يحلق بخياله بطفرة روحية في إطار سياق النص يستلهم من خلالها التسامي نحو الأحلام الخضراء يركب براق الأشواق في رحاب المسرى يتجاوب مع صدى الأحلام في الأبعاد السحيقة . حيث تأتي صورة التشبيه البليغ في الشطر الثاني تعقد المقارنة بين طرفي الضوء والعذراء بامتزاج روحي وأخلاقي يعملان على رسم مسار التسامي في خارطة مفتوحة تتهاصر مع فلسفة النفس ومنطق الأخلاق . فالإيحاء الذي تضخه الصورة : "عذراءُ ناسَكَة" غير متناه في الجمال والألق والأناقة يهتز بالإضاءة والتوهج يهضب بالإشراق والأشواق يعبق بغضارة الجو وجمال البراءة به همس الظلال ونقاء الطهارة يتخلل الجوانح بلمسات ساحرة تثلج المشاعر وتهز الوجدان . ولي مسرحٌ يومي ويحتاجُ سطوتِي ﻷبرأَ من غيَّاتِ " أنصارِ عاتِكَةْ " جاء تقديم الخبر شبه الجملة "ولي" على المبدأ " مسرحٌ " يؤدي دلالة بلاغية وضرورة نحوية تحتم الوجوب في حال تنكير المبتدإ حيث دلت ياء المتكلم المجرورة على اهتمام الشاعر بتملك المسرح من خلال الإشارة برمز المسرح إلى اشتغال الشاعر بوسيلة فاعلة في سوق المنفى يوظف من خلالها الحدث بثنائية التقمص والإسقاط . حيث جاء الفعلان" يومي " و"يحتاج " يدلان على التجاذب المهني للشاعر نحو المسرح بسطوة واحتراف . فامتهان الشاعر للإخراج المسرحي ولد لديه علاقة إيجابية تنحو به صوب الهدف المراد ليحدث نقلة إعلامية تؤدي الواجب من خلال إعلان البراءة من العدو باستثمار إسقاطات البرامج الإخراجية في التوعية بخطر العدو بإثراء المشاهد بأنماط مهدفة من الفكر المتسارع نحو التغيير .حيث جاء التعبير : " أنصارِ عاتِكَةْ " يحمل قدرا من الدهشة والمفارقة وشيئا من السخرية والتهكم حيث أثرى المشهد بترميز بهلواني يشير إلى العدو من وراء ستار . ______________________________ \\\\\\\\ خامسا : محور إشهار الغربة ______________________________ وأحتاجُ بالمنفَى ﻷقدارِ سافِكِي ليختبرَ النَّفيُّ المطوّرُ سافِكَهْ سأمضِي بلا فوضَى ولستُ أديرُها وﻻ منتهىً ليْ كالوفودِ المشارِكَةْ أنا الموعدُ اﻷشهَى ﻹشهارِ غربتِي برغمِ الخطايَا للخطايَا مبارِكَةْ تبارُكُهَا روحاً بروحٍ تسوقُهَا فتمنحُهَا مثلَ القراراتِ"باركَةْ" مسافاتُها أخرَى وأخرَى بوعينَا وأخرَى ترَى بعضَ الوجوهِ "برامِكَةْ" ______________________________ وأحتاجُ بالمنفَى ﻷقدارِ سافِكِي ليختبرَ النَّفيُّ المطوّرُ سافِكَهْ جاء الفعل " أحتاجُ " يطلق الانفتاح نحو المستقبل في زمكان المنفى يهاصر الاعوجاج الساخر من خلال تضخيم التهكم بإعلان الحاجة إلى أقدار العدو على سبيل استبطان الرفض والتمرد . فالشاعر يناور الذات بمغزى المفارقة لإعلان التضاد بين ظاهر اللفظ وباطنه حيث يجسد من خلال الخطاب البهلواني تورية تسبر استبطان مرايا المضمون بمعكوس استراتيجي يتوامض من خلف ستار السخرية والتهكم . حيث نلحظ طرافة المعنى تمزج ظاهر التعبير بالسخرية والتطرف كما تظهر رسوم الأسلوب العربي من خلال رد العقب على الصدر بإيقاع كلمتي " سافكي/ سافكة " في نهاية الصدر ثم إعادتها في نهاية العجز . سأمضِي بلا فوضَى ولستُ أديرُها وﻻ منتهىً ليْ كالوفودِ المشارِكَةْ يعلن الشاعر الخطاب الجاد من خلال الفعل المضارع بزائدة السين " سأمضِي " حيث نحس الشاعر يخطو بتصميم جاد نحو المستقبل بدالة متزنة حيث يؤكد تنظيم الخطى والأهداف بعيدا الارتجال والعشوائية " بلا فوضَى ولستُ أديرُها" حيث تفيد أداتي النفي "لا / لست " قدر الشاعر في الابتعاد عن الديماغوجية والاستهبال والحماس العاطفي ليؤسس خطوات ثابتة تتجه نحو الهدف بثبات واستمرار . فالشاعر يرنو إلى المستقبل برؤى عميقة وسابرة للأحداث بدون انتهاء أو تردد "وﻻ منتهىً ليْ " حيث ينفي عن أهدافه الانقطاع والتردد بل يندفع بتصميم البطل وثبات المناضل ورؤية الحكيم وسبر الفيلسوف بعيدا عن عشوائية الجماهير المشاركة في الكرنفال الآني على هامش فقاعة الحدث . "كالوفودِ المشارِكَة" حيث يرمز ب"الوفود المشاركة " لحركة تسيير الجماهير بواجهات مختلفة تختزن خلفيات انتهازية تسير الجماهير بصفارة انحراف باستخدام الزعامة الحزبية والقبلية . أنا الموعدُ اﻷشهَى ﻹشهارِ غربتِي برغمِ الخطايَا للخطايَا مبارِكَةْ تأتي الجملة الاسمية " أنا الموعدُ " تعلن البشارة باستمرار وثبات انطلاق الذات نحو حدث إشهار الغربة حيث يزيد اسم التفضيل " اﻷشهَى " الموقف سخرية وتهكما فالشاعر يسعى إلى تبريد الألم من خلال المفارقات الكوميدية حيث يجعل من حدث إشهار الغربة مهرجانا يحتكر مرارة الحسرة بكرنفال احتجاجي يشير إلى بؤر الاحتقان بمظاهرة تستبطن الرفض والتمرد . " برغمِ الخطايَا للخطايَا مبارِكَة " تكرار لفظ الخطايا يحمل أبعادا ديماغوجية تتعلق بفوضى الغربة وعشوائية تنظيمها انطلاقا من انحراف مبدأ الهجرة القصري المنفرط من الضرورة الإنسانية حيث يضخم الشاعر خلفيات الغربة من زوايا اعوجاجها ليرسم لوحة تعبر عن التناقض الواقعي المتوازي مع ردات الداخل السيكلوجي في إطار الظروف الغائمة بدجن القسوة وانفراط سلك الحقوق والحريات . تبارُكُهَا روحاً بروحٍ تسوقُهَا فتمنحُهَا مثلَ القراراتِ"باركَةْ" مازال الضمير يعود إلى الغربة كونها فاعلة المباركة والسوق والمنح فالأفعال المضارعة الآنفة : " تبارُكُهَا / تسوقُهَا / فتمنحُهَا " مسنودة إلى الفاعل الضمير المستتر المقدر بضمير الغائبة " هي " يعود إلى الغربة بدليل تأنيث الفعل بتاء المضارعة في أوله مع إسناد الضمير "ها" العائد إلى "الخطايا" في محل المفعول به حيث يسوق الشاعر الأحداث في البيت الآنف باتصال مع البيت الذي يسبقه . فالشاعر يضخم حدث الغربة وتداعياتها من خلال رسم المحيط الاستراتيجي بكل أبعاده الواقعية من أجل إيصال الصورة إلى المتلقي بأسلوب فنتازي يتسم بإضافة البهارات المشهية بنكهة السخرية والتهكم . مسافاتُها أخرَى وأخرَى بوعينَا وأخرَى ترَى بعضَ الوجوهِ "برامِكَةْ" مازال الشاعر في مشهد إشهار الغربة يضخم أبعاد مكانها بتجريد المسافات باستبطان يجتر الألم والحسرة حيث جاء التكرار المؤكد أخرى / وأخرى / وأخرى يرمز بهذا التنوع لثنائية الداخل والخارج فهناك مسافات تتصل بوعي الشاعر وإدراكه وهناك مسافات خاصة تستقل برؤيتها بعيدا عن وعي الشاعر . حيث نلحظ من تعدد المسافات تعدد أماكن الغربة حيث تختلف باختلاف اتجاهاتها وأيدلوجياتها في مسار خارطة البيئة . فالشاعر يغص ببعض المسافات في خارطة الغربة تتمرد خارج وعيه السيكلوجي حيث تصنع سياجا من المعوقات تحيل دون إشهار غربته . فاستخدام الشاعر للرمز التاريخي لنكبة البرامكة أسقطه بكارزمية على تلك المسافات الآهلة بفيروسات القومية والمناطقية حيث تضع كثيرا من إحباطاتها أمام المهاجر الهارب من الجور والاستبداد . فرمز " برامكة " فيه من التوهج والدهشة ما يجعل المتلقي يرقص طربا وإعجابا من إيقاعه وإيحائه وانسجام دلالته . حيث يتوامض الرمز مع النكبة التاريخية للبرامكة في عهد هارون الرشيد حيث جسد الرمز ثقافة الشاعر التاريخية وكارزميته في الإسقاط والتوظيف في إطار التجربة الباسقة . فالتكثيف والإيحاء جزءان من دلالة الرمز عملا على التوميض والتوهج باستراتيجية تستبطن العمق والغموض . ______________________________\\\\\\\\ سادسا : محور التمرد والثورة ______________________________ سأبدأُ باللَّا شيءِ حتَّى أعيدُهَا ليالٍ أزاحتْ وجهَ أخرَى وحالِكَةْ كأنِّيْ أنَا المنفيُّ بالصَّمتِ ﻻحقاً وأعدُو بلا جيشٍ تعَدَّى سنابَكَهْ وإني كمَا المنفَيِّ بالصَّمتِ حابساً بقايَايَ في مثلِ الرُّؤَى متدارِكَةْ فحسبِي منَ اﻷوجاعِ نفياً ومحنةً بأقصَى وأقصَى ما الزَّمانُ تدارَكَهْ فلو خانَهُ صلَّى وأسرعَ خطوةً تجاهِيَ كيْ أهوي خُطَىً متضَاحِكَةْ هنا الشاعر يعلن ثورة ديناميكية تبدأ من الصفر لتحريك المياه الراكدة في أفق التغيير حيث يأتي الفعل المضارع المسبوق بالسين " سأبدأُ " بمثابة البيان الأول في طفرة التمرد فمزامنة المستقبل تدعو إلى ابتداء نقطة الصفر نحو الثورة حيث يأتي لفظ " باللَّا شيءِ " يدل على إصرار الشاعر على الثورة حتى في حال فقد وسائل المقاومة ويؤكد هذا الإصرار من خلال التعبير "حتَّى أعيدُهَا" فلفظ حتى يدل على حدود الغاية التي يسعى إليها الشاعر في منتهى الهدف المعبر عنه بالفعل المضارع أعيدها المسنود إلى الضمير "ها" الذي يعود إلى الغربة أو المحبوبة الوطن فالحال " ليالٍ " من الضمير "ها" يحدد هيئة صاحبه في زمن حدث الإعادة المتسم بالإزاحة في تعبير الشاعر : "أزاحتْ وجهَ أخرَى وحالِكَة" حيث تكتمل رؤية الشاعر بإزاحة الدياجير المستبدة فالتعبير ب "وجهَ أخرَى" يعطي دلالة عن التضاد النوعي المتجانس بين ثنائية ليلة وليلة فالأولى تعني الحرية التي يريدها الشاعر والثانية تعبر عن الظلم والاستبداد والتأكيد بالتعبير " وحالِكَةْ " تعبير يفيد التأكيد على بؤر الاستبداد ومدى إصرار الشاعر على إزالتها فالشاعر من خلال هذا البيان يعلن الثورة الشاملة بإصرار أسطوري يتصاعد من إرادة صلبة تضغط على نواجذ التصميم من خلال توهج الهدف وانتطام الخطى . يوازي الشاعر تقدير الموقف من خلال التشبيه المعترض في أفق الحدث : " كأنِّيْ أنَا المنفيُّ " . تحتضن الأداة "كأن" أبعاد الشاعر الاستراتيجية في محيط حرج يبدو من خلاله متفردا بالوحدة والنفي وهما سلاحه وجيشه وقوته وعتاده حيث يقدر الشاعر جيش المعركة ووسائل الهجوم من خلال ظاهرة الوحدة والتفرد في ساحل النفي حيث يضع الأمر الواقع أمام فلسفة الذات وانفرادها في خوض المعركة بعيدا عن أي قوة أخرى . حيث تعبر دلالة اللفظ " بالصَّمتِ ﻻحقا " عن الوجوم المخيم على الشاعر من حال انعدام الفرص نتيجة الفقر السياسي والاجتماعي وجدب التعاون في تأسيس توجه ثوري عام يلتزم بالخطى المرسومة في إطار أهداف الشاعر المعلنة . تتضح رؤية الشاعر الفردية في درب التمرد وإعلان الثورة من خلال استبسال البطولي في الشطر التالي : وأعدُو بلا جيشٍ تعَدَّى سنابَكَه فالصورة في الشطر الآنف توضح الممارسة الكيفية في انطلاق الشاعر نحو التغيير بدون استنطاق تأويلي حيث كفانا حرف لا النافية المجرور بالباء مؤنة البحث والاستقصاء حيث أتى الفعل المضارع المسنود إلى الأنا الشاعرة يرسم حدث العدو بفخامة واحتراف كونه جسد حركة الشاعر المتسارعة نحو الهدف باجتهاد فردي يبعد عن تعزيزات الجيش وصولة الزحوف . حيث جاءت الصورة المجازية المتجسدة في الاستعارة المكنية التي جسدت الجيش بفرس حيث حذف المشبه به الفرس وبقي شيء من لوازمه وهي التعدي والسنابك . بلا جيشٍ تعَدَّى سنابَكَه حيث يرسم الشاعر الحدث في الصورة بتداخلات ثقافية ترسم الأبعاد باستراتيجية تجمع بين الحركة وتأثيرها في إطار بيئة المنفى الآهلة بالتناقضات الديمغرافية . وإني كمَا المنفَيِّ بالصَّمتِ حابساً بقايَايَ في مثلِ الرُّؤَى متدارِكَةْ هذا البيت يؤكد مضمون البيت السابق حيث تأتي الأداة "كما" تؤكد مضمون الأداة "كأن" والتعبير "الصمت حابسا" يؤكد التعبير "الصمت لاحقا" فالشاعر يكشف من خلال التعبير بالصمت البعد السيكلوجي لعوامل القلق والاضطراب فالوضع الراهن في بيئة المنفى يرمي بضخامة الضغوطات والتوتر حيث يعمل على تتويه الشاعر بشتى القضايا المصيرية وذلك حين يتصادم مع التيارات المضادة في رحلة الاكتطاظ بالمفارقات من خلال رسم الزوايا ذات القياسات الحرجة وإسقاطاتها المتأزمة بتشويش الهدف في متجه الشاعر الاستراتيجي . فالتعبير بالكلمات : " بقايَايَ " "في مثل" "الرؤى" "متداركة" . تعبيرات مجردة ذات دلالات غامضة تختزن مضامينا غير مصرح لها بالظهور أراد لها الشاعر الاختزان إلا من بعض الإيحاءات الإجمالية في أفق الدلالة المتوامضة في رهان النص الحافل بالغموض . فحسبِي منَ اﻷوجاعِ نفياً ومحنةً بأقصَى وأقصَى ما الزَّمانُ تدارَكَهْ الجار والمجرور "منَ اﻷوجاع" متعلق بالمصدر "فحسبِي" حيث جاء التمييز " نفياً " والمعطوف عليه " ومحنةً " يجسدان نوع تلك الأوجاع في شبه جملة الجارور والمجرور فالربط النحوي يحدد مأساة الشاعر من خلال التمييز والمعطوف عليه فالنفي والمحنة ثنائيتان تعملان بتآزر في رحلة الشاعر الشاقة . فإذا كانت شبه الجملة قد أجملت الوجع فالتمييز والمعطوف عليه قد فصلا الأسباب المتعلقة بذلك الوجع من خلال الإعلان عن الظروف المحيطة حيث جاء المتعاطفان من جنس اسم التفضيل "بأقصَى وأقصَى" يبينان مدى الأوجاع وارتباطها بالزمن حيث جاءت "ما " بمعنى شيء الدالة على النكرة : "ما الزَّمانُ تدارَكَه" تضخم مطلق الأوجاع وامتداد النفي والمحن في مسرى الزمن بغير حدود بدلالة عودة الضمير في الفعل الماضي " تداركه " إلى شيء الذي تضمنته ما . الأمر الذي يضخم المعاناة ويزيد من الألم والحسرة في رحلة المنفى المطلقة بعيدا عن خارطة الطريق التي ترسم مسار الخروج من مغارته الضيقة . فلو خانَهُ صلَّى وأسرعَ خطوةً تجاهِيَ كيْ أهوي خُطَىً متضَاحِكَةْ يختم الشاعر نصه بغموض وعمق جاءا من إشكالية عودة الضمير في : " خانَهُ صلَّى وأسرعَ خطوة " . فإذا كان فاعل خان هو الزمن فالمفعول به هو الضمير المتصل الدال على الغيبة ويقصد به الشاعر على سبيل الالتفات كذلك فاعلا "صلى وأسرع" يدلان أيضا على الزمن بدليل " تجاهِي" التي تضايفت مع الذات الشاعرة بياء المتكلم . فصلاة الزمن رمز توقيتي يتضمن رؤية الشاعر "البهلو - غوجية " في إطار الطرح المتسم بالسخرية والتهكم وهي ظاهرة راسخة في تجربة الشاعر يضفي عليها غيوم الإبهام والعمق من خلال الصياغة الضبابية في رهان الحدث فمسارات الصورة تعبر عن الخذلان والعدوانية تجاه الشاعر بانقضاض الزمن بصورة وحشية تتسارع عن قصد وتعمد . كيْ أهوي خُطَىً متضَاحِكَة التعليل الآنف يرسم القصدية المتعمدة من الزمن تجاه الشاعر لإحداث الضرر بانفراط عقد الخطى الثابتة حيث رمز ب"الخطى" لمسودة الأهداف والمبادئ التي رسمها في خارطة الطريق كونها تجسد مشروع الإنقاذ للخروج من صحراء المنفى المضللة . مازال الشاعر يعزز من أسلوبه "البهلو- ساخر " من خلال ظواهر الشطآن الغائمة بضخات الباروديا والكروتيسك . حيث تعد السخرية من أهم السمات الجوهرية لتجربة الشاعر من خلال توظيف الضحك والتشويه الامتساخي والتعرية الكاريكاتورية والنقد الفكاهي والهجاء اللاذع. فتجربة الشاعر تقدم لنا صورة المثقف الذي يحس بالاغتراب الذاتي والمكاني في منفى الوطن المهجر . 12/2/2018م إبراهيم القيسي