1-تعريف العولمة :
نلاحظ تضارب كبير للآراء حول المفهوم لهذا أفضل إعتماد تعريف موسوعة أنكارتا عام 1999 الذي جاء كما يلي :"أفضت العولمة عن توسع جغرافي للتبادلات و بالتحديد في تنويع مجالات التبادل، تتضمن العولمة المنتوجات، الأسواق، رؤوس الأموال، اليد العاملة و الشركات، و دور الشركات العابرة للقارات مصيري لأنها تلعب الأدوار الرئيسية في عولمة العلاقات الإقتصادية و هذا لا يقلل من شأن التغييرات المؤسساتية التي واكبت هذا الإتجاه، و إلي حد ما لا تمثل هذه العولمة إمتداد في إنفتاح الإقتصادات المشهود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إنما التحولات الهيكلية التي تمخضت عنها من مدة قصيرة مكنوها من إجتياز مرحلة جديدة في تداخل الإقتصادات العالمية و هذا بشكل لم نعهده من قبل." و للأستاذ قاسم محمد الشريف[1] تحديد آخر للعولمة :"إن الإقتصاد هو المضمون الرئيسي للعولمة إضافة إلي مضامين فكرية و ثقافية و إعلامية أخري لخدمة المضمون الأساسي."
*الإطار التاريخي:
يتصف مصطلح العولمة بطابع الشمولية فنسق التطور العالمي ولد واقعا جديدا متجددا و العولمة ما هي إلا إمتداد لثورة الأفكار التي بدأت في القرنين الثامن و التاسع الميلادي تاريخ نقل الآثار اليونانية إلي اللغة العربية و منها إلي لغات أخري و قد أدت ثورة الأفكار إلي ثورة علمية قادها في مراحلها الأولي علماء مثل إبن الهيثم، أبي بكر الكرجي، الخوارزمي، إبن سينا، علاء بن سهل، أبو كامل شجاع بن أسلم و بعد إنتقال معالم هذه الثورة إلي أوروبا النهضة في القرن السادس عشر ميلادي كانت الثورة الصناعية مما جعل تحرير التبادلات التجارية في تنامي مستمر منذ 1945 و هي وراء نسبة النمو الهامة التي سجلتها العديد من الدول المتقدمة. فالسياسة الإقتصادية المتبعة بعد نهاية 45 لم تستهدف فقط إعادة بناء ما تهدم بل كان التركيز علي كيفية إعادة النظر في النظام الدولي للتبادلات و من المؤسسات المساهمة في تأطير هذا النظام ما يسمي بالغات أي الإتفاقية العامة للتعريفات الجمركية و التجارة و قد كان الهدف من هذه الإتفاقية تأسيس منظمة دولية تشجع توسع التجارة المتعددة الجوانب بالتقليل من الحواجز في وجه التبادلات و هذا علي مستوي التعريفة الجمركية أو الحصص و معالجة مختلف الخلافات التجارية و بالفعل تحولت إتفافية الغاتإلي أداة تحرير التجارة الدولية و قد أضفي تنامي حجم التبادلات التجارية دينامكية حقيقية علي إقتصاديات الدول الموقعة. فالستينات و السبعينات هما فترة إنفتاح علي الأسواق الخارجية و قد تمخض دور الغات عبر لقاء شوط أورغواي في 1986- الذي كان الإجتماع الأخير في سلسلة لقاءات مخصصة للمفاوضات التجارية- و الذي أتبع بلقائين متممين في جنيف و بروكسل بين الدول و ضبط شروط و مقاييس المنافسة و التبادلات العالمية.
2-رسم بياني لطبيعة العولمة:
قدمت العولمة علي أنها علاج فعال للمضاعفات السلبية التي نجمت عن المنافسة العالمية و الظروف التي تجري فيها، طور إنفتاح الأسواق بشكل إيجابي حجم تبادلات السلع[2]، فلم يعد هناك أحد يندهش أمام فرص شراء منتوجات مصنوعة في آسيا و أمريكا بأسعار معقولة. تحرير التبادلات التجارية في تنامي مستمر و هو السبب في إرتفاع معدلات النمو في الدول المتطورة، و طبقا لشروط الغات صاحب التبادل المتعدد الجوانب تركيز إقليمي للأسواق و كمثال عن ذلك تأسيس السوق الأوروبية المشتركة و الغرض منه تشكيل سوق لإتاحة مداخيل جديدة للشركات الأوروبية و رافق حديثا قيام هذه السوق ظهور مناطق إقليمية شاسعة للتعاون مما هيكل التجارة الدولية حول ثلاثة مناطق جديدة: "إتفاقية نفتا" و تضم كندا، الولايات المتحدة الأمريكية و المكسيك، "معاهدة ميركوسور" و تخص دول أمريكا الجنوبية و أنسيا لدول آسيا و كان لحيوية هذا النوع من الإندماج الإقليمي أثار مشجعة علي النمو لدي الدول المعنية و لنتمثل جيدا الإنعكاسات الإيجابية الذي تنجر عن مثل هذا الإنتاج، لنأخذ مثال المكسيك[3] الذي شهد إرتفاع قيمة صادراته من 20 مليار دولار في 1981 إلي 136،7 مليار دولار عام 1999 مع العلم أنه إنضم إلي إتفاقية نفتا في عام 1993.
و قد جعلت شبكة الإتصالات من مفهوم العولمة معطي مباشر يتحسسه المواطن إبتداءا من إجراءه للتحويلات المصرفية علي الخط -أونلاين-، إلي عمليات شراء الكثيرة من البيت علي جهاز الحاسوب المنزلي و ذلك في مساحات كبيرة إلكترونية و قد صار إتخاذ القرارات الدولية مرتبطا أساسا بالبورصات و إدارات الشركات المتعددة الجنسيات و شبكة كبيرة من المتعاملين الإقتصاديين الذين يتوزعون بحسب وزنهم الصناعي و المالي، و قد أدخلت العولمة قيم سلوكية القصد منها مضاعفة فعالية الفرد[4] كالتمسك بالمرونة و الإنفتاح علي الآخرين و المبادرة و الإطلاع علي ما يدور بعالم التكنولوجيا و المعلومات و الإستماع إلي الأخصائيين كل في مجاله مع الإستعداد الآني المتميز بالتحرك السريع المتبوع بالتنفيذ الفوري و هذا ما يفهم من سرعة الإستجابة لكل ما يدور في عالم التكنولوجيا و المعلومات و يتعكس بالتالي في سرعة إتخاذ القرارات، إمكان تبديل و تعديل المسارات الإستراتيجية، تطوير نظم و أساليب العمل و سرعة الإستشفاء من أي أزمة أو مشكلة إدارية مع تفوق تقني و معلوماتي يضمنان السرعة و النجاح في التنفيذ. و من القيم الإيجابية التي تروج لها العولمة علي حد قول الدكتور الجنحاني[5] كونية مباديء حقوق الإنسان، الإعتراف بالآخر، إحترام الخصوصيات الثقافية و تصديها للنظم الإستبدادية. و تسعي العولمة علي إسقاط الحدود الكائنة بين القوميات و الأديان لكي لا يكون هناك مجالا لصراع دموي و إنما يتخذ الصراع محتوي و مجري آخر و قد إنتقل إلي ساحة المضاربات المالية و المصالح الإقتصادية و إحدي سماته تحرير الفعل الإقتصادي من أي تبعية إيديولوجية ليقتصر علي جانبها المنفعي البحت و الملفت للإنتباه أن العولمة التي بدأت في إطار إقتصادي إلتزمت حركيتها المتغيرة بأبعاد فكرية، علمية، عملية تخطت كافة الأنشطة الإنسانية. فنحن نلمس في حياتنا الثقافية آثار الإنفتاح المذهل المتاح فلم يعد هناك مجال لغزو أو صدام أو ذوبان بل يمر فعل التفاعل الثقافي بأطوار التجاذب و التداخل و الإحتكاك و الإنسجام مما يقودنا للقول أن تحديات العولمة تضعنا أمام حتمية التأثير و التأثر إستنادا إلي رصيد آن من التجارب، تتقهقر فيه الخصائص العرقية و القومية ليتقدمها وعي بالهوية متفاعلة متوحدة مع فعل الكينونة، فلا مكان في الثقافة الديمقراطية لذهنية إنعزالية أو إنفاصلية أو عنصرية إثنية. فالعولمة تهتم بالخطوات التي تلي الحوار و ليس بالحوار ذاته الذي هو مسلمة من مسلماتها. تتجه العولمة صوب الهدف بطرح كيفية و وسائل إنجازه و تكرس النتيجة واقع التعامل العيني ذو الأداء الرفيع، بينما ترفض العولمة التعاطي مع السياسات المنكفئة علي نفسها و ما تهدف إليه هو تفاعل نوعي و كيفي علي مستوي الإتصالات و العلاقات الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية و الثقافية.
و المستقبل علي ضوء المعطيات الجديدة التي فرضتها العولمة هو ملك جماعات متحكمة في شبكة إتصالات و أدوات الإنتاج ، فلا تقتصر مهماتها علي إدارة الدورة الصناعية و إنما أيضا في حل مشاكل ناتجة عن التفاوت الإقتصادي و التكنولوجي و الصدامات السياسية. تتحمل معاهد و مكاتب دراسات إستراتيجية جنبا إلي جنب مع منظمات غير حكومية و تكتلات عالمية قدر أكبر من المسؤولية التنفيذية لتتزايد نفوذها و هذا بفعل تكثيف مجهوداتها و ترشيد أعمالها و ستكتفي الدولة بدور الحكم المدير للشؤون الداخلية و كما قال النقابي الفرنسي مارك بلوندال في منتدي دافوس في سنة 1996 :"إن السلطة الرسمية لم تعد تمثل في أحسن الحالات سوي مقاولة داخلية تابعة للمؤسسة، السوق يحكم و الحكومة تسير." فتصبح أعرق الأمم حبيسة درجة تفاعلها مع متحولات و مستجدات الساحة الكونية، لتتمحور عملية الأخذ و العطاء حول الرفع من ج
ودة الأداء و يتحقق ذلك عندما يأخذ الوعي الفردي في تشكيل إنتماء إيجابي أصيل متوافق مع عامل التجديد المرتبط إرتباط وثيق بوتيرة النمو.
فوعي المواطن بذاته لن يلغي ضرورة تفاعله مع محيط كل ما فيه متطور، لهذا يتوجب علينا الإستفادة من العولمة و لا ننسي أننا في تعاملنا معها ننطلق من واقع متخلف و هذا التخلف يحتم علينا ليس فقط ردم الهوة الكائنة بيننا و بين التطور العلمي و التكنولوجي بل أيضا علينا بتقديم إضافات حضارية تسمح لنا بالتعاطي الآمن مع مضامين العولمة و بتعبير الدكتور عبد الخالق عبد الله[6] :"المطلوب فهم العولمة و ليس إفتعال المعارك معها." فمجموع المهارات و الإمكانات و الأموال التي تتكدس دفعة واحدة في خط دائري يربط بين كل أنحاء العالم من المنطقي جدا أن تحدث تغيير جذري في ملامح واقع لم يجنح بعد إلي منهج وحدوي شامل." و بالنظر إلي ما كتبه الأستاذ محمد سيد أحمد[7] :"القضايا الكوكبية سوف تطلب حلولا كوكبية لا بطرق الحماية و لا بالعزلة و لا حتي بالتخطيط كما فهم حتي الآن و إنما بالإنفتاح علي المجتمع الكوكبي كله و معني ذلك التصدي للثنائيات و التغلب علي تناقضات الإنسان مع الإنسان."
فيتعين علي الأفراد و الجماعات كسر حواجز البيروقراطية الإدارية و الحدود القطرية ليتجهوا نحو قبول الآخر كما هو بتكثيف التعامل معه علي المستوي الإقتصادي و الثقافي. و المواكبة الحثيثة و المتبصرة لحركة التطور تخضع نمط الحياة إلي ظروف المعيشة المتغيرة المسايرة لنسق التقدم الحضاري. و يتمثل دور العولمة في تحديد الإطار الذي يسهل عمليات التبادل و التعامل و الإتصال مشكلا بذلك معالم الهوية الكوكبية.
فتبادل الأدوار في ممارسة الريادة هو السمة البارزة للنظام العالمي الجديد و ستكون للغرب حصة الأسد في هذا المجال، إلا أن المضمار مفتوح أمام دول و تكتلات أخري ما دامت العولمة تطرح جانبا لغة السلاح و القوة الوحيدة التي تعترف بها هي لغة الأرقام، فالأرباح التي تجنيها مراكز مالية أو مجموعات إقليمية مثل دول إتفاقية نفتا تمكنها من لعب دور الشريك الفاعل و الطرف النافذ في إدارة العالم و قد تتمكن دول صغيرة كماليزيا، سنغافورة، تايوان، هونغ كنغ، بروناي من تشكيل حلقة مجهرية قادرة بفضل تفوقها الصناعي و التكنولوجي علي إكتساح الأسواق المالية و الإقتصادية في أي منطقة من العالم.
و الأمر الجدير بملاحظته أن القيم السائدة في مجتمعات هذه الدول متشابهة إلي حد بعيد، في سنغافورة شعار" لا إعتراض علي ساعة خامسة و عشرون للعمل"ينسجم مع شعار تايوان ( لا راحة بين الساعات) و برغم غلبة الطابع الآلي علي النسق العام للتطور، تثمن العولمة الجهد الإنساني المبدع، فبه يقاس نجاح أو فشل مجتمع ما في بلوغه للنضج الحضاري. ففي آسيا تتقدم الواجبات الحقوق و تتقدم المصلحة العامة المصلحة الخاصة، فالفرد [8] يعد دائما في الصين جزءا من مجموع. و بالنسبة للكونفوشسية تعد المصلحة الفردية تابعة للمصلحة الإجتماعية. فعلي الفرد أن يضع المصلحة العامة فوق كل إعتبار. و في أمريكا لا حق لمقصر في واجباته، و هذا التقدير الجيد لقيمة العمل يتأتي بفعل حكمة الإنسان و الحكمة في قاموس العولمة ما هي إلا نوايا تمشي علي قوائم إسمها الأفعال مدعومة بالعلم، إن النظم و الوحدات قابلة للتغيير وفق معايير علمية إقتصادية متجددة فجهاز الحاسوب الخاص سمح بإنشاء شركات محدودة لا تتعدي خمسة أشخاص!
فالمناهج المتبعة في الأنظمة الإقتصادية لها تداعياتها و التركيز التقني يقلل من التدخل الإنساني مما يحيل الفرد إلي التقاعد المبكر، غير أن تراكم الخبرات يسهل علي المواطن تحوله من عمل إلي آخر فوتيرة التطور في أي منطقة رهينة قدرتها علي إستغلال جيد و مدروس لفرص الإستثمار لتدعيم قاعدتها الصناعية و الحد من الإنهيار الإجتماعي و في العولمة أدي إختفاء علاقة الوصاية بين الدولة و الفرد إلي خلق نموذج جديد من المواطنة. فقد بات المواطن يحمي نفسه و مستقبل أسرته بالإعتماد علي موارده الذاتية، لم يعد يتوجب علي الدولة أن توفر له الغطاء الإجتماعي، لهذا يدرك المواطن العالمي اليوم أن مصلحته و إستقراره يرتبطان بشكل عضوي بالتغيرات الإقتصادية و بطبيعة السوق المتأرجحة و ما من سبيل لمواجهة تداعياتها السلبية إلا الإعتماد علي النفس. فالعولمة[9] ليست قضاءا و قدرا بل هي من صنع البشر و هم قادرون بنضالهم علي كبح جماحها و تعديل وجهتها و المعضلة الكبري
في حث الإنسان المتخلف علي البحث عن أسباب تخلفه لكي يعمل جادا علي تجاوزها. إن الثورة التي تحدثها العولمة بإزالة مفاهيم سلبية و قناعات خاطئة تتضاعف فاعليتها عندما تتعامل مع ذهنيات ق
ابلة للتأثر الإيجابي و المواطن المتخلف عادة ما تسيره إحتياجاته و هو ملزم في هذا النظام الجديد بإكتساب فاعلية حضارية و إلا سيكون مصيره الإقصاء فمواطن العولمة يجد نفسه بين مطرقة الزمن و سندان الحاجة الملحة. إنه يريد أن يحقق بأقصي سرعة النتائج المرجوة و بأقل التكاليف و ما نتعلمه أثناء كدحنا اليومي أن الثمن باهض و لا نحصل علي المبتغي المنشود كاملا.
هذا و يخفف مفهومي التضامن و إلتزام المصلحة العامة من حدة التنافر و التباين بين المشارب و الأعراق و الديانات و كما شهدت بذلك سيدة أمريكية برتبة ضابط في قوات الحماية المدنية في مدينة سيدار فيل بولاية إلينوي الأمريكية:"أينما توجهت و حيثما وجدت، أجد رجالا و نساءا علي إستعداد لضم جهودهم إلينا لإنقاذ الأرواح و الأملاك."
تتجلي أثار العولمة بوضوح في أبعاد خمسة:
*البعد الأول، الإقتصاد الموحد:
تعتمد العولمة الإقتصادية علي التجارة، حرية إنتقال السلع و العولمة المالية. فعلي المستوي الإقتصادي تظهر تجليات العولمة أساسا في نمو و تعميق عملية الإعتماد المتبادل بين الدول و الإقتصاديات القومية و في وحدة الأسواق المالية و زيادة المبادلات التجارية في إطار نزعت عنه القواعد الحمائية التجارية وفقا لتطبيقات إتفاقيات التجارة الحرة.[2]
لهذا يعتبر الإقتصاد القطب الرئيسي في النظام العالمي الجديد، إنه الموجه و المؤشر علي التقدم و الإزدهار و هو يقوم علي رأسمالية ليبرالية تحرر الإنتاج، تكثف من وتيرة التبادلات التجارية و من إنتقال رؤوس الأموال مما يجعل القرار السياسي رهن النمو الإقتصادي و من الأمثلة البينة عن ذلك عند إرتفاع أسعار النفط تسارع إدارات الشركات العابرة للقارات في الضغط علي الدول المنتجة له قصد الرفع من حصص الإنتاج و التخفيض من الأسعار لتتراجع هكذا مصالح الشعوب أمام النفوذ المتزايد لمدراء و أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات.
و قد سمحت المصالح المشتركة للمتعاملين الإقتصاديين من دخول عدة مشاريع و في مجالات
متخصصة مختلفة و العائد المهم الذي تحصده يحد من نسبة الخسارة الحاصلة عن التوسع في النشاطات و صار ممكنا لمشروع أن يري النور في الفيتنام بتمويل فائض الأرباح لمساهمين في شركة متمركزة برأس الرجاء الصالح، و كما ذكر الدكتور لستروثرو [3] إختفاء الحدود الوطنية أذاب الإقتصادات المحلية في الإقتصاد العالمي و هذا بسبب تحرك الرأس المال إلكترونيا متحررا بذلك من سيطرة الحكومات مما خول الصناعي القطري الخوض في المنافسة الحرة معتمدا علي تفوق قطاعه الملتزم بالشروط المسطرة من طرف المنظمة العالمية للتجارة، التي هي أبرز هياكل العولمة، فالتوسع و الإنتشار الذي تشهده قطاعات عديدة في البرتوكمياويات و الصناعات الدقيقة و قطاع الإعلام غالبا ما يتبعه إمتصاص لليد العاملة و إرتفاع في الجودة و تسمح الليبرالية الرأسمالية لكبار الشركات الخاصة بالتكتل و الإلتحام و قد إرتفع عددها إلي 37 ألف من الشركات العابرة للقارات مع فروعها 170 ألف المنتشرة في جميع أصقاع العالم و الماسكة في مطلع التسعينيات بتلابيب الإقتصاد العالمي، فعلي سبيل المثال يفوق رقم معاملات جنرال موتورز الدخل الوطني الخام للدنمارك و يفوق رقم معاملات فورد الدخل الوطني لجنوب إفريقيا.[4]
تبدد العولمة الإقتصادية مفهوم الإنتاج المحلي لتستبدله بمصنوعات مصممة في اليابان، م
صنعة في كوريا الجنوبية، مركبة في تايوان لتسوق أخيرا في الهند، فتتوزع الأرباح و الفوائد عبر الحدود إبتداءا من المبتكرين إلي البائعين و يكون نصيب الدول المستضيفة للرأس المال و للشركات المتعددة الجنسيات محدودا و هذا بسبب إلغاءها أو تحجيمها للتعريفات الجمركية و تخفبضها لنسب الضرائب إزاء المستثمرين الأجانب و مثل هذه القطاعات الصناعية تخلق نموذج جديد للعامل.
يبقي التكوين العال حكرا علي مجموعة قليلة و الغالبية مضطرة إلي التغيير المنتظم للعمل بموازاة رسكلة، تعين العامل علي مجاراة التطور التقني السريع إلا أن عولمة الإقتصاد تعترضها مشاكل مثل التحايل الضريبي و مضاربات بنوك الواحات الضريبية، تعويم الأسواق بالسلع المقلدة، و التدخل السافر للإستثمار العالمي في صنع القرار السياسي للدول المستضيفة له. فطبيعة تطور العولمة الإقتصادية لا تعود إلي إحتياجات أو قرارات محلية بقدر ما تستجيب لسياسات المؤسسات الدولية و الشركات المتعددة الجنسيات، غير أن النزعة التفاؤلية للخبراء الإقتصاديين تقضي بأن ديناميكية التطور الإقتصادي ستفضي لا محالة إلي ديناميكية في إيجاد حلول.
*البعد الإجتماعي:مكاسب أم...
الإرتباط عضوي بين البعدين الإقتصادي و الإجتماعي، حمل المنهج الليبرالي بين طياته مضامين و آفاق خطت بالفرد نحو توازن دقيق فوق فوهة بركان!
صار المواطن يحتبس أنفاسه أمام النمو السريع الذي يترافق بتوزيع غير عادل للمكاس
ب، إنه يعمل بجد من أجل قدرة شرائية مقبولة و دخل معتبر إلا أن المخرج يبقي بعيد المنال في ظل نظام يضخ الأموال و يقلص بشكل رهيب من مناصب الشغل، فأمام إلتزام الفرد بتسديد فواتيره و دفعه للضرائب و العمل الدؤوب و إعتياده لمستوي معين من المعيشة و أمام إنحسار مهام الدولة و تركز الأموال في أيدي مؤسسات و جماعات محدودة و وتيرة مدهشة للتقدم التقني، بدأ يفهم المواطن أن طبيعة العولمة المتغيرة صارت تهدد وجوده، فحركة التنامي الإقتصادي غيرت الخارطة الإجتماعية أو بالأحري السلم الطبقي لتقسم المجتمع إلي طبقتين أغنياء و فقراء. فلا وجود للطبقة المتوسطة التي كانت تمثل الغالبية، فوجودها كان كفيل بأن يضمن الإستقرار و الإستمرارية، فالأثرياء المسيرون لدواليب الإقتصاد العالمي هم قلة و في المقابل الأغلبية الفقيرة التي تعاني من البطالة و من إنخفاض شديد في القدرة الشرائية و من إرتفاع في نسبة الإجرام.
فالمعايير المتحكمة في إقتصاد السوق همشت أهداف كانت تمثل الأرضية الصلبة للعدالة الإجتماعية، نذكر قضية العمال المسرحين من أحد فروع رينو في بلجيكا و محاولات الدولة البلجيكية لإقناع الشركة الأم في فرنسا بتبني مسلك آخر أكثر إنسانية غير التسريح الفوري دون ضمانات و حتي الحركة النقابية و أمام لامركزية القطاعات الإقتصادية و خضوع الإنتاج و التسويق إلي مستجدات علمية و تجارية بحتة، غدت عاجزة عن الوقوف في وجه مجالس الإدارات و أصحاب رؤوس الأموال المتنقلة أو الدفاع عن مكتسبات شرعية محمية من الدساتير الوطنية كون دولها موقعة لإتفاقيات منظمة التجارة الدولية و ملزمة بها و ببرامج صندوق النقد الدولي. فصاحب المصنع أو المشروع بإستطاعته أن يوظف الآن بواسطة الشبكة العنكبوتية يد عاملة رخيصة ذات كفاءة عالية من أي دولة في العالم دون أن يلزم نفسه بالتوجه أولا إلي مواطنيه. فدائما ما يتقدم الإعتبار المادي ألا و هو الربح علي أي إعتبار آخر. و هكذا يجبر المواطن علي إتخاذ تدابير فردية للحيلولة دون الوقوع ضحية عولمة الإقتصاد و قد بدأ يدرك المواطن العالمي أن مفاهيم كالرخاء العام و العدالة الإجتماعية لم تعد الدولة و شركاؤها الإقتصاديين و الإجتماعيين ملزمين بتحقيقها، لهذا عليه أن يقلل من الإعتماد علي الدعم الحكومي لضمان إحتياجاته الأساسية كالعمل و السكن و الخدمات الصحية و ما إلي ذلك و المثال الآت يدعم ما ذكرته للتو:
في عام 1998 سرح المواطن المكسيكي بيدرو غوميز و هو مهندس في الإعلام الآلي بمدينة إنسينادا في كاليفورنيا من عمله في شركة خاصة تتولي صنع أنظمة حراسة عن بعد و قد جاء تسريحه كنتيجة للتخفيض من ميزانية الشركة ضمن مسرحين آخرين و هذا التوقف عن العمل جعله يعمل لمدة ساعتين في الأسبوع لشركات متفرقة في نواحي إنسينادا و تيجوانا لعدة أشهر و إعطاء ساعات تدريس في جامعة متجولة لقاء مبلغ رمزيي، و الذي أنقذ هذا العامل المبالغ القليلة التي تحصل عليها بموجب مهاراته في عدة مجالات معلوماتية و التي أعانته علي العيش لمدة عامين و بعدها وجد وظيفة قارة في شركة بمكسيكالي و أصبح مشرفا علي فرعها في مدينته. هذا نموذج إيجابي لمواطن عرف كيف يتعامل مع الجوانب السلبية للعولمة الإقتصادية.
في عصرنا تزداد إحتياجات الفرد و أسرته، فهو مطالب بتوفير إلي جانب السكن و مصاريف المأكل و الملبس و أقساط التعليم المكلفة، الخدمات الصحية الإيجار أو شراء البيت العائلي، وسائل الترفيه ضمان حد أدني من المدخرات مع تقدير طيب للطواريء. و لهذا السبب صار العمل الضمان الوحيد الذي يقي الفرد و عائلته شر الفقر و مخاطر الإنحراف إلا أن الأمر يبدو مقلقا و للتصدي للمشاكل الناتجة عن العولمة الإقتصادية يجب التفكير جديا لإيجاد سبل قانونية تحمي حقوق الفرد و الجماعة و الحد من المضاعفات الخطيرة التي تنتج عن التقدم الصناعي و الإقتصادي.
*البعد الإعلامي:القرية الكوكبية.
أدي الإندماج بين وسائل الإعلام الجماهيرية و بين تكنولوجيا الإتصال و المعلومات إلي جانب تطور الحاسبات و شبكة الهاتف و شبكة المعلومات مع إستعمال البث الفضائي إلي ظهور تكنولوجيا الإتصال متعدد الوسائط و تكنولوجيا الإتصال التفاعلي بتطبيقاتها المختلفة و أشهرها حاليا الشبكة العنكبوتية[5]. إن ثورة المعلومات و الإتصالات هي الطاقة المولدة و المحركة للعولمة[6] و قد أزالت هذه الثورة المكان و إختصرت الزمن و فرضت الآنية كقانون تعامل. فتوقيت الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان بثته قناة س.ن.ن الأمريكية ساعتين قبل دخوله حيز التنفيذ و قبل تلقي الحكومة اللبنانية رسميا إشعار الإنسحاب!
فتداول العامة لعدد هائل من المعطيات مكنها من ترتيب أعمالها و قراراتها بناءا علي إحاطتها الشاملة بما يجري في الداخل و الخارج و قد تضاعفت بذلك فاعلية الفرد في موقعه. إلا أن التفوق المعلوماتي غدي سلاح خطير في أيدي الجماعان المالكة لوسائل الإعلام ليصبح دور السلطة الرابعة محوري في صنع القرار و من بين الإيجابيات التي دعمت الممارسة الديمقراطية سقوط الحواجز بين المواطن و المسؤول، فرئيس البلدية ديجونألغي مشروع مطار بعد ما توفرت لديه في إستطلاع رأي نسبة معارضة للمشروع 47% من مواطنيه و في المستقبل لا نستبعد إستعاضة البرلمان بوسائل إتصال مباشرة، فبفضل النمو السريع لتكنولوجيا الإتصالات بات ممكنا علي رجل أعمال أن يدخل مناقصة بواسطة هاتف نقال و صار بإستطاعة الموظف و المسؤول حضور فعاليات ندوة أو مؤتمر من مكتبه و هذا بفضل جهاز تلفزيون و التصويت بمجرد الضغط علي زر في النقال و بتشعب وظائف الأنترنت، إزدادت الحاجة إليه. إنه يتيح لمستخدميه شراء البضائع، حجز تذاكر سفر، إستئجار بيت، العمل عن بعد، المشاركة في مزادات علنية، التعلم عن بعد.
فعملية التواصل الإلكتروني أطاحت بجميع العقبات لتعطي الفرد إمتياز المعرفة الدقيقة و الفورية، و نحن اليوم نشهد بروز نمط جديد من الإتصال و هو ما يسميه الدكتور محمد شومان[7] "بالإتصال التفاعلي القائم علي التفاعل الحر و المباشر بين المرسل و المستقبل و تبادل أدوار الإتصا
ل بين الطرفين علاوة علي إتساع و تنوع حرية المتلقي في إختيار و إنتقاد ما يريد معرفته و توظيفه لصالحه." و من جهة أخري يعتبر الإعلام السند الرئيسي للإقتصاد فتسويق البضائع مرتبط إربتاط وثيق بقطاع الدعاية و الإشهار اللذان فرضا نمط إستهلاك يقولب إحتياجات الفرد و مثل هذا النمط يتعرض لإنتقادات واسعةفتشومسكي[8] يري أن الزيادة الضخمة في الإعلان و الخطاب التوجيهي للمعلن يقابله إنخفاض في التنوع و المعلومات و ما يجدر ذكره أن العولمة الإعلامية تعد أهم أداة للتواصل الإنساني بكل ما يحمل من مضامين و خصوصيات، من ملامح و ميزات من خبرات و مهارات، فتدفق المعلومات و تنوع مصادرها ألغي الخطاب الإعلامي و السياسي الأحادي ليمنح المواطن حق الإطلاع و المتابعة و الممارسة الواعية لمسؤولياته.
*البعد السياسي: المواطن الدولة.
تقود العولمة السياسية البشرية إلي مرحلة جديدة يتم خلالها الإنتقال الحر للقرارات و التشريعات و السياسات و القناعات و الخيارات عبر المجتمعات و القارات و بأقل قدر من القيود و الضوابط متجاوزة بذلك الدول و الحدود الجغرافية[9] ، و بذلك يتراجع مفهوم سيادة الدولة لتقتصر مهمتها علي الجانب الإيداري و السهر علي التطييق الصارم للقوانين و هذا التقلص في نفوذ الدولة سيقلل من تدخلاتها في الميدان الإقتصادي. وفق إتفافية المتعددة الجوانب للإستثمار المتفاوض عليها حاليا، يستطيع المستثمر الأجنبي أن يقاضي الدولة في محكمة خاصة عن أي قانون أو إجراء يعرقل حرية الإستثمار و بإمكانه أيضا مقاضاتها إذا ما أضرب عمال أحد فروع الشركة في دولة مستضيفة. فحق الإضراب المعترف به دستوريا، غير مقبول في عرف الشركات المتعددة الجنسيات و قد باتت السلطة السياسية مهددة بالتهميش أمام تعاظم نفوذ المؤسسات الإقتصادية الدولية و لجوءها المتزايد إلي ممارسة الضغوطات و سياسة التوجيه التي تقضي بأن ينحصر دور الدولة في المراقبة و ليس شريكا كامل الحقوق و قد أوكلت مهمة تجسيد السيادة الوطنية عمليا إلي الفرد ليكتفي رئيس الدولة بمرتبة سفير فوق العادة، ممثلا لمصالح بلده في المنتديات الدولية و قد إكتست المصالح الوطنية بدورها أبعاد جديدة، أخرجتها من دائرة المحلية الضيقة إلي ا
لعالمية بمفهومها الأوسع.
فالتطور الذي لحق مفهوم المدينة الدولة، الدولة الأمة ثم القرية العالمية أحدث تغيير جذري في فهمنا لمضمون السيادة و جاءت الصياغة الجديدة لتحدد مهام الدولة في الحفاظ علي الأمن العام. هذا و الإحاطة بموارد الدولة و حدودها يعد مهما لضبط طبيعة تعاملها مع شركاءها الوطنيين و الدوليين.
فمن الطبيعي أن يؤدي إنحسار القوة العسكرية كعنصر أساسي في تقرير الموقف الإقتصادي إلي تقليل الإعتماد علي القوة التقليدية المتمثلة في كيان الدولة الأمة التي أستخدمت لزمن طويل كثقل مضاد للشمولية العالمية.[10]
و بإنتفاء عنصر الحكم يأتي مفهوم الإدارة المدير الذي يدرك أن عمله هو توضيح "الرؤية" و رسم"السياسة"و"تحديد الأهداف" ثم العمل علي تحقيقها بالمنافسة الواعية لا بالصراع الدموي.[11]
فالمطلوب من الآن و صاعدا إداريين ممتازين ليختفي تدريجيا نموذج المسؤول السياسي المتسلط، فالبقاء مشروط بكفاءة إدارية عالية و الديمقراطية كنظام سياسي تشجع الإدارة المسؤولة القائمة علي الحوار و الشفافية و العمل الجاد و ينتقل بذلك العالم من أسلوب السلطة الهرمية المطلقة إلي أساليب جديدة تفاوضية أفقية تبدو أكثر تحضرا.
[12]
ليقترن الإستقرار السياسي بحجم التبادلات الإقتصادية و بمستوي التقدم الصناعي و العلمي للبلاد.
*البعد الثقافي: المواطن العالمي.
لأول مرة في تاريخ البشرية تتاح للإنسان فعليا فرصة تجاوز فرديته بكل ما تتضمنه من خصائص ذاتية و خصال، من إستعدادات و مواهب لينطلق إلي فضاءات جديدة مستبدلا بطاقة هوية محلية بأخري ذات أبعاد عالمية تمكنه من التفاعل الخلاق مع هويته الجديدة كمواطن عالمي، فيتعلم الإنسان التعايش مع ما هو أصيل ثابت و جديد متغير، معبأ طاقاته، ملتمسا الحوار، مطورا لتجاربه بالنظر إلي معطيات علمية تقنية متجددة. فالثقافة التي تبشر بها العولمة ثقافة أكثر تفتحا و أكثر تواصلا مع الآخر، فتختزل المسافات لتقارب بين الناس و بالتعارف علي بعضنا البعض تنضج رؤيتنا لوحدة العنصر البشري و يتمدد شعورنا بالحياة ليمنح هذا التمدد الجماعة التوازن النفسي الصحي و كما كتب داريوش شايغان[13] " إن المجتمع الأمريكي المكون من مجموعات أو جماعات ذات إنتماءات أو هويات مختلفة في اللون و الثقافة و الدين... لكنها متعايشة تشارك جميعا من ال
داخل رغم إختلافها من الخارج: تسهم في التصويت و إتخاذ القرارات لكن كلا منها يعيش حياته الخاصة من تقاليد و عادات و أزياء و طرق مأكل و مشرب و إجتماع...إلخ".
تبقي العولمة علي الهوية المتميزة من دين و لغة و أصول و ثقافة منمية الشعور بوحدة المصير مزيلة أمراض كالعنصرية، العنف، و التطرف لتوطد علاقة الإنسان بالإنسان، متغلبة علي الرواسب السلبية الكائنة بين الأنا و الآخر و يترتب البعد العالمي للشخصية عن مدي نجاعة تكيفها مع المتغيرات لتظل الخصوصية الثقافية و الروحية عنصر ثراء و جمال و عامل إختلاف بديع.
يعطي السلوك الفاعل محتوي لمفهوم الإنسان الكزمبوليتاني الذي يعرفه مازن حامد كما ي
لي :"الكزمبوليتاني هو العالمي المتحرر من الأحقاد القومية أو المحلية و الذي يعتبر العالم كله وطنا له. و المجموعات الكوزمبوليتانية لا تسلم إحساسها بالهوية العرقية المميزة إلي مذبح التكنولوجيا أو العلم و لكنها تستثمر قيمها و معتقداتها التي صنعها التاريخ للتأقلم بنجاح مع معطيات التغيير."[14]
و تتمثل مقومات النجاح هذه في الشعور بوحدة المصير من جهة، في إيجاد سبل التكامل، في الحفاظ علي الأنا منسجما مع نحن، في الإجتهاد و في السعي إلي تحقيق توازن نفسي و إجتماعي بالحث علي ثقافة التعاون و بالإعتماد علي رافد عظيم و الذي يمثل لوحده مفتاح التقدم و النجاح ألا و هو العلم.
2-رسم بياني لطبيعة العولمة:
قدمت العولمة علي أنها علاج فعال للمضاعفات السلبية التي نجمت عن المنافسة العالمية و الظروف التي تجري فيها، طور إنفتاح الأسواق بشكل إيجابي حجم تبادلات السلع[2]، فلم يعد هناك أحد يندهش أمام فرص شراء منتوجات مصنوعة في آسيا و أمريكا بأسعار معقولة. تحرير التبادلات التجارية في تنامي مستمر و هو السبب في إرتفاع معدلات النمو في الدول المتطورة، و طبقا لشروط الغات صاحب التبادل المتعدد الجوانب تركيز إقليمي للأسواق و كمثال عن ذلك تأسيس السوق الأوروبية المشتركة و الغرض منه تشكيل سوق لإتاحة مداخيل جديدة للشركات الأوروبية و رافق حديثا قيام هذه السوق ظهور مناطق إقليمية شاسعة للتعاون مما هيكل التجارة الدولية حول ثلاثة مناطق جديدة: "إتفاقية نفتا" و تضم كندا، الولايات المتحدة الأمريكية و المكسيك، "معاهدة ميركوسور" و تخص دول أمريكا الجنوبية و أنسيا لدول آسيا و كان لحيوية هذا النوع من الإندماج الإقليمي أثار مشجعة علي النمو لدي الدول المعنية و لنتمثل جيدا الإنعكاسات الإيجابية الذي تنجر عن مثل هذا الإنتاج، لنأخذ مثال المكسيك[3] الذي شهد إرتفاع قيمة صادراته من 20 مليار دولار في 1981 إلي 136،7 مليار دولار عام 1999 مع العلم أنه إنضم إلي إتفاقية نفتا في عام 1993.
و قد جعلت شبكة الإتصالات من مفهوم العولمة معطي مباشر يتحسسه المواطن إبتداءا من إجراءه للتحويلات المصرفية علي الخط -أونلاين-، إلي عمليات شراء الكثيرة من البيت علي جهاز الحاسوب المنزلي و ذلك في مساحات كبيرة إلكترونية و قد صار إتخاذ القرارات الدولية مرتبطا أساسا بالبورصات و إدارات الشركات المتعددة الجنسيات و شبكة كبيرة من المتعاملين الإقتصاديين الذين يتوزعون بحسب وزنهم الصناعي و المالي، و قد أدخلت العولمة قيم سلوكية القصد منها مضاعفة فعالية الفرد[4] كالتمسك بالمرونة و الإنفتاح علي الآخرين و المبادرة و الإطلاع علي ما يدور بعالم التكنولوجيا و المعلومات و الإستماع إلي الأخصائيين كل في مجاله مع الإستعداد الآني المتميز بالتحرك السريع المتبوع بالتنفيذ الفوري و هذا ما يفهم من سرعة الإستجابة لكل ما يدور في عالم التكنولوجيا و المعلومات و يتعكس بالتالي في سرعة إتخاذ القرارات، إمكان تبديل و تعديل المسارات الإستراتيجية، تطوير نظم و أساليب العمل و سرعة الإستشفاء من أي أزمة أو مشكلة إدارية مع تفوق تقني و معلوماتي يضمنان السرعة و النجاح في التنفيذ. و من القيم الإيجابية التي تروج لها العولمة علي حد قول الدكتور الجنحاني[5] كونية مباديء حقوق الإنسان، الإعتراف بالآخر، إحترام الخصوصيات الثقافية و تصديها للنظم الإستبدادية. و تسعي العولمة علي إسقاط الحدود الكائنة بين القوميات و الأديان لكي لا يكون هناك مجالا لصراع دموي و إنما يتخذ الصراع محتوي و مجري آخر و قد إنتقل إلي ساحة المضاربات المالية و المصالح الإقتصادية و إحدي سماته تحرير الفعل الإقتصادي من أي تبعية إيديولوجية ليقتصر علي جانبها المنفعي البحت و الملفت للإنتباه أن العولمة التي بدأت في إطار إقتصادي إلتزمت حركيتها المتغيرة بأبعاد فكرية، علمية، عملية تخطت كافة الأنشطة الإنسانية. فنحن نلمس في حياتنا الثقافية آثار الإنفتاح المذهل المتاح فلم يعد هناك مجال لغزو أو صدام أو ذوبان بل يمر فعل التفاعل الثقافي بأطوار التجاذب و التداخل و الإحتكاك و الإنسجام مما يقودنا للقول أن تحديات العولمة تضعنا أمام حتمية التأثير و التأثر إستنادا إلي رصيد آن من التجارب، تتقهقر فيه الخصائص العرقية و القومية ليتقدمها وعي بالهوية متفاعلة متوحدة مع فعل الكينونة، فلا مكان في الثقافة الديمقراطية لذهنية إنعزالية أو إنفاصلية أو عنصرية إثنية. فالعولمة تهتم بالخطوات التي تلي الحوار و ليس بالحوار ذاته الذي هو مسلمة من مسلماتها. تتجه العولمة صوب الهدف بطرح كيفية و وسائل إنجازه و تكرس النتيجة واقع التعامل العيني ذو الأداء الرفيع، بينما ترفض العولمة التعاطي مع السياسات المنكفئة علي نفسها و ما تهدف إليه هو تفاعل نوعي و كيفي علي مستوي الإتصالات و العلاقات الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية و الثقافية.
و المستقبل علي ضوء المعطيات الجديدة التي فرضتها العولمة هو ملك جماعات متحكمة في شبكة إتصالات و أدوات الإنتاج ، فلا تقتصر مهماتها علي إدارة الدورة الصناعية و إنما أيضا في حل مشاكل ناتجة عن التفاوت الإقتصادي و التكنولوجي و الصدامات السياسية. تتحمل معاهد و مكاتب دراسات إستراتيجية جنبا إلي جنب مع منظمات غير حكومية و تكتلات عالمية قدر أكبر من المسؤولية التنفيذية لتتزايد نفوذها و هذا بفعل تكثيف مجهوداتها و ترشيد أعمالها و ستكتفي الدولة بدور الحكم المدير للشؤون الداخلية و كما قال النقابي الفرنسي مارك بلوندال في منتدي دافوس في سنة 1996 :"إن السلطة الرسمية لم تعد تمثل في أحسن الحالات سوي مقاولة داخلية تابعة للمؤسسة، السوق يحكم و الحكومة تسير." فتصبح أعرق الأمم حبيسة درجة تفاعلها مع متحولات و مستجدات الساحة الكونية، لتتمحور عملية الأخذ و العطاء حول الرفع من ج
ودة الأداء و يتحقق ذلك عندما يأخذ الوعي الفردي في تشكيل إنتماء إيجابي أصيل متوافق مع عامل التجديد المرتبط إرتباط وثيق بوتيرة النمو.
فوعي المواطن بذاته لن يلغي ضرورة تفاعله مع محيط كل ما فيه متطور، لهذا يتوجب علينا الإستفادة من العولمة و لا ننسي أننا في تعاملنا معها ننطلق من واقع متخلف و هذا التخلف يحتم علينا ليس فقط ردم الهوة الكائنة بيننا و بين التطور العلمي و التكنولوجي بل أيضا علينا بتقديم إضافات حضارية تسمح لنا بالتعاطي الآمن مع مضامين العولمة و بتعبير الدكتور عبد الخالق عبد الله[6] :"المطلوب فهم العولمة و ليس إفتعال المعارك معها." فمجموع المهارات و الإمكانات و الأموال التي تتكدس دفعة واحدة في خط دائري يربط بين كل أنحاء العالم من المنطقي جدا أن تحدث تغيير جذري في ملامح واقع لم يجنح بعد إلي منهج وحدوي شامل." و بالنظر إلي ما كتبه الأستاذ محمد سيد أحمد[7] :"القضايا الكوكبية سوف تطلب حلولا كوكبية لا بطرق الحماية و لا بالعزلة و لا حتي بالتخطيط كما فهم حتي الآن و إنما بالإنفتاح علي المجتمع الكوكبي كله و معني ذلك التصدي للثنائيات و التغلب علي تناقضات الإنسان مع الإنسان."
فيتعين علي الأفراد و الجماعات كسر حواجز البيروقراطية الإدارية و الحدود القطرية ليتجهوا نحو قبول الآخر كما هو بتكثيف التعامل معه علي المستوي الإقتصادي و الثقافي. و المواكبة الحثيثة و المتبصرة لحركة التطور تخضع نمط الحياة إلي ظروف المعيشة المتغيرة المسايرة لنسق التقدم الحضاري. و يتمثل دور العولمة في تحديد الإطار الذي يسهل عمليات التبادل و التعامل و الإتصال مشكلا بذلك معالم الهوية الكوكبية.
فتبادل الأدوار في ممارسة الريادة هو السمة البارزة للنظام العالمي الجديد و ستكون للغرب حصة الأسد في هذا المجال، إلا أن المضمار مفتوح أمام دول و تكتلات أخري ما دامت العولمة تطرح جانبا لغة السلاح و القوة الوحيدة التي تعترف بها هي لغة الأرقام، فالأرباح التي تجنيها مراكز مالية أو مجموعات إقليمية مثل دول إتفاقية نفتا تمكنها من لعب دور الشريك الفاعل و الطرف النافذ في إدارة العالم و قد تتمكن دول صغيرة كماليزيا، سنغافورة، تايوان، هونغ كنغ، بروناي من تشكيل حلقة مجهرية قادرة بفضل تفوقها الصناعي و التكنولوجي علي إكتساح الأسواق المالية و الإقتصادية في أي منطقة من العالم.
و الأمر الجدير بملاحظته أن القيم السائدة في مجتمعات هذه الدول متشابهة إلي حد بعيد، في سنغافورة شعار" لا إعتراض علي ساعة خامسة و عشرون للعمل"ينسجم مع شعار تايوان ( لا راحة بين الساعات) و برغم غلبة الطابع الآلي علي النسق العام للتطور، تثمن العولمة الجهد الإنساني المبدع، فبه يقاس نجاح أو فشل مجتمع ما في بلوغه للنضج الحضاري. ففي آسيا تتقدم الواجبات الحقوق و تتقدم المصلحة العامة المصلحة الخاصة، فالفرد [8] يعد دائما في الصين جزءا من مجموع. و بالنسبة للكونفوشسية تعد المصلحة الفردية تابعة للمصلحة الإجتماعية. فعلي الفرد أن يضع المصلحة العامة فوق كل إعتبار. و في أمريكا لا حق لمقصر في واجباته، و هذا التقدير الجيد لقيمة العمل يتأتي بفعل حكمة الإنسان و الحكمة في قاموس العولمة ما هي إلا نوايا تمشي علي قوائم إسمها الأفعال مدعومة بالعلم، إن النظم و الوحدات قابلة للتغيير وفق معايير علمية إقتصادية متجددة فجهاز الحاسوب الخاص سمح بإنشاء شركات محدودة لا تتعدي خمسة أشخاص!
فالمناهج المتبعة في الأنظمة الإقتصادية لها تداعياتها و التركيز التقني يقلل من التدخل الإنساني مما يحيل الفرد إلي التقاعد المبكر، غير أن تراكم الخبرات يسهل علي المواطن تحوله من عمل إلي آخر فوتيرة التطور في أي منطقة رهينة قدرتها علي إستغلال جيد و مدروس لفرص الإستثمار لتدعيم قاعدتها الصناعية و الحد من الإنهيار الإجتماعي و في العولمة أدي إختفاء علاقة الوصاية بين الدولة و الفرد إلي خلق نموذج جديد من المواطنة. فقد بات المواطن يحمي نفسه و مستقبل أسرته بالإعتماد علي موارده الذاتية، لم يعد يتوجب علي الدولة أن توفر له الغطاء الإجتماعي، لهذا يدرك المواطن العالمي اليوم أن مصلحته و إستقراره يرتبطان بشكل عضوي بالتغيرات الإقتصادية و بطبيعة السوق المتأرجحة و ما من سبيل لمواجهة تداعياتها السلبية إلا الإعتماد علي النفس. فالعولمة[9] ليست قضاءا و قدرا بل هي من صنع البشر و هم قادرون بنضالهم علي كبح جماحها و تعديل وجهتها و المعضلة الكبري
في حث الإنسان المتخلف علي البحث عن أسباب تخلفه لكي يعمل جادا علي تجاوزها. إن الثورة التي تحدثها العولمة بإزالة مفاهيم سلبية و قناعات خاطئة تتضاعف فاعليتها عندما تتعامل مع ذهنيات ق
ابلة للتأثر الإيجابي و المواطن المتخلف عادة ما تسيره إحتياجاته و هو ملزم في هذا النظام الجديد بإكتساب فاعلية حضارية و إلا سيكون مصيره الإقصاء فمواطن العولمة يجد نفسه بين مطرقة الزمن و سندان الحاجة الملحة. إنه يريد أن يحقق بأقصي سرعة النتائج المرجوة و بأقل التكاليف و ما نتعلمه أثناء كدحنا اليومي أن الثمن باهض و لا نحصل علي المبتغي المنشود كاملا.
هذا و يخفف مفهومي التضامن و إلتزام المصلحة العامة من حدة التنافر و التباين بين المشارب و الأعراق و الديانات و كما شهدت بذلك سيدة أمريكية برتبة ضابط في قوات الحماية المدنية في مدينة سيدار فيل بولاية إلينوي الأمريكية:"أينما توجهت و حيثما وجدت، أجد رجالا و نساءا علي إستعداد لضم جهودهم إلينا لإنقاذ الأرواح و الأملاك."
فحلقة المحلية الضيقة تزول أمام هيمنة الضمير الجمعي الهادف إلي خلق وجود إنساني مؤثر و مفيد، ففي عصر ما بعد الحرب الباردة حيث تلاشت العقائدية (الإيديولوجية) و سعت الشعوب إلي التعرف علي نفسها من خلال تراكمات الماضي، بدت المجموعات مهيأة للنجاح في إطار النظام الإقتصاد العالمي الواسع و ال
أكثر تكاملا."[1]
و من بين أهم روافد العولمة، الثورة العلمية التي حملت الفرد إلي آفاق جديدة بحيث أتاح
ت له أن يعيش ضمن نسق علمي متجدد، منميا معرفته بنفسه و بمحيطه و قد غدي التحدي العلمي غاية الغايات عند جميع الشعوب المتحضرة و المراهنة علي العلم تكاد تكون الضمانة الوحيدة لأي مجتمع يرغب في إحتلال مكانة مرموقة بين الأمم و لا يكتفي بوجود ظل.
أكثر تكاملا."[1]
و من بين أهم روافد العولمة، الثورة العلمية التي حملت الفرد إلي آفاق جديدة بحيث أتاح
ت له أن يعيش ضمن نسق علمي متجدد، منميا معرفته بنفسه و بمحيطه و قد غدي التحدي العلمي غاية الغايات عند جميع الشعوب المتحضرة و المراهنة علي العلم تكاد تكون الضمانة الوحيدة لأي مجتمع يرغب في إحتلال مكانة مرموقة بين الأمم و لا يكتفي بوجود ظل.
تتجلي أثار العولمة بوضوح في أبعاد خمسة:
*البعد الأول، الإقتصاد الموحد:
تعتمد العولمة الإقتصادية علي التجارة، حرية إنتقال السلع و العولمة المالية. فعلي المستوي الإقتصادي تظهر تجليات العولمة أساسا في نمو و تعميق عملية الإعتماد المتبادل بين الدول و الإقتصاديات القومية و في وحدة الأسواق المالية و زيادة المبادلات التجارية في إطار نزعت عنه القواعد الحمائية التجارية وفقا لتطبيقات إتفاقيات التجارة الحرة.[2]
لهذا يعتبر الإقتصاد القطب الرئيسي في النظام العالمي الجديد، إنه الموجه و المؤشر علي التقدم و الإزدهار و هو يقوم علي رأسمالية ليبرالية تحرر الإنتاج، تكثف من وتيرة التبادلات التجارية و من إنتقال رؤوس الأموال مما يجعل القرار السياسي رهن النمو الإقتصادي و من الأمثلة البينة عن ذلك عند إرتفاع أسعار النفط تسارع إدارات الشركات العابرة للقارات في الضغط علي الدول المنتجة له قصد الرفع من حصص الإنتاج و التخفيض من الأسعار لتتراجع هكذا مصالح الشعوب أمام النفوذ المتزايد لمدراء و أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات.
و قد سمحت المصالح المشتركة للمتعاملين الإقتصاديين من دخول عدة مشاريع و في مجالات
متخصصة مختلفة و العائد المهم الذي تحصده يحد من نسبة الخسارة الحاصلة عن التوسع في النشاطات و صار ممكنا لمشروع أن يري النور في الفيتنام بتمويل فائض الأرباح لمساهمين في شركة متمركزة برأس الرجاء الصالح، و كما ذكر الدكتور لستروثرو [3] إختفاء الحدود الوطنية أذاب الإقتصادات المحلية في الإقتصاد العالمي و هذا بسبب تحرك الرأس المال إلكترونيا متحررا بذلك من سيطرة الحكومات مما خول الصناعي القطري الخوض في المنافسة الحرة معتمدا علي تفوق قطاعه الملتزم بالشروط المسطرة من طرف المنظمة العالمية للتجارة، التي هي أبرز هياكل العولمة، فالتوسع و الإنتشار الذي تشهده قطاعات عديدة في البرتوكمياويات و الصناعات الدقيقة و قطاع الإعلام غالبا ما يتبعه إمتصاص لليد العاملة و إرتفاع في الجودة و تسمح الليبرالية الرأسمالية لكبار الشركات الخاصة بالتكتل و الإلتحام و قد إرتفع عددها إلي 37 ألف من الشركات العابرة للقارات مع فروعها 170 ألف المنتشرة في جميع أصقاع العالم و الماسكة في مطلع التسعينيات بتلابيب الإقتصاد العالمي، فعلي سبيل المثال يفوق رقم معاملات جنرال موتورز الدخل الوطني الخام للدنمارك و يفوق رقم معاملات فورد الدخل الوطني لجنوب إفريقيا.[4]
تبدد العولمة الإقتصادية مفهوم الإنتاج المحلي لتستبدله بمصنوعات مصممة في اليابان، م
صنعة في كوريا الجنوبية، مركبة في تايوان لتسوق أخيرا في الهند، فتتوزع الأرباح و الفوائد عبر الحدود إبتداءا من المبتكرين إلي البائعين و يكون نصيب الدول المستضيفة للرأس المال و للشركات المتعددة الجنسيات محدودا و هذا بسبب إلغاءها أو تحجيمها للتعريفات الجمركية و تخفبضها لنسب الضرائب إزاء المستثمرين الأجانب و مثل هذه القطاعات الصناعية تخلق نموذج جديد للعامل.
يبقي التكوين العال حكرا علي مجموعة قليلة و الغالبية مضطرة إلي التغيير المنتظم للعمل بموازاة رسكلة، تعين العامل علي مجاراة التطور التقني السريع إلا أن عولمة الإقتصاد تعترضها مشاكل مثل التحايل الضريبي و مضاربات بنوك الواحات الضريبية، تعويم الأسواق بالسلع المقلدة، و التدخل السافر للإستثمار العالمي في صنع القرار السياسي للدول المستضيفة له. فطبيعة تطور العولمة الإقتصادية لا تعود إلي إحتياجات أو قرارات محلية بقدر ما تستجيب لسياسات المؤسسات الدولية و الشركات المتعددة الجنسيات، غير أن النزعة التفاؤلية للخبراء الإقتصاديين تقضي بأن ديناميكية التطور الإقتصادي ستفضي لا محالة إلي ديناميكية في إيجاد حلول.
*البعد الإجتماعي:مكاسب أم...
الإرتباط عضوي بين البعدين الإقتصادي و الإجتماعي، حمل المنهج الليبرالي بين طياته مضامين و آفاق خطت بالفرد نحو توازن دقيق فوق فوهة بركان!
صار المواطن يحتبس أنفاسه أمام النمو السريع الذي يترافق بتوزيع غير عادل للمكاس
ب، إنه يعمل بجد من أجل قدرة شرائية مقبولة و دخل معتبر إلا أن المخرج يبقي بعيد المنال في ظل نظام يضخ الأموال و يقلص بشكل رهيب من مناصب الشغل، فأمام إلتزام الفرد بتسديد فواتيره و دفعه للضرائب و العمل الدؤوب و إعتياده لمستوي معين من المعيشة و أمام إنحسار مهام الدولة و تركز الأموال في أيدي مؤسسات و جماعات محدودة و وتيرة مدهشة للتقدم التقني، بدأ يفهم المواطن أن طبيعة العولمة المتغيرة صارت تهدد وجوده، فحركة التنامي الإقتصادي غيرت الخارطة الإجتماعية أو بالأحري السلم الطبقي لتقسم المجتمع إلي طبقتين أغنياء و فقراء. فلا وجود للطبقة المتوسطة التي كانت تمثل الغالبية، فوجودها كان كفيل بأن يضمن الإستقرار و الإستمرارية، فالأثرياء المسيرون لدواليب الإقتصاد العالمي هم قلة و في المقابل الأغلبية الفقيرة التي تعاني من البطالة و من إنخفاض شديد في القدرة الشرائية و من إرتفاع في نسبة الإجرام.
فالمعايير المتحكمة في إقتصاد السوق همشت أهداف كانت تمثل الأرضية الصلبة للعدالة الإجتماعية، نذكر قضية العمال المسرحين من أحد فروع رينو في بلجيكا و محاولات الدولة البلجيكية لإقناع الشركة الأم في فرنسا بتبني مسلك آخر أكثر إنسانية غير التسريح الفوري دون ضمانات و حتي الحركة النقابية و أمام لامركزية القطاعات الإقتصادية و خضوع الإنتاج و التسويق إلي مستجدات علمية و تجارية بحتة، غدت عاجزة عن الوقوف في وجه مجالس الإدارات و أصحاب رؤوس الأموال المتنقلة أو الدفاع عن مكتسبات شرعية محمية من الدساتير الوطنية كون دولها موقعة لإتفاقيات منظمة التجارة الدولية و ملزمة بها و ببرامج صندوق النقد الدولي. فصاحب المصنع أو المشروع بإستطاعته أن يوظف الآن بواسطة الشبكة العنكبوتية يد عاملة رخيصة ذات كفاءة عالية من أي دولة في العالم دون أن يلزم نفسه بالتوجه أولا إلي مواطنيه. فدائما ما يتقدم الإعتبار المادي ألا و هو الربح علي أي إعتبار آخر. و هكذا يجبر المواطن علي إتخاذ تدابير فردية للحيلولة دون الوقوع ضحية عولمة الإقتصاد و قد بدأ يدرك المواطن العالمي أن مفاهيم كالرخاء العام و العدالة الإجتماعية لم تعد الدولة و شركاؤها الإقتصاديين و الإجتماعيين ملزمين بتحقيقها، لهذا عليه أن يقلل من الإعتماد علي الدعم الحكومي لضمان إحتياجاته الأساسية كالعمل و السكن و الخدمات الصحية و ما إلي ذلك و المثال الآت يدعم ما ذكرته للتو:
في عام 1998 سرح المواطن المكسيكي بيدرو غوميز و هو مهندس في الإعلام الآلي بمدينة إنسينادا في كاليفورنيا من عمله في شركة خاصة تتولي صنع أنظمة حراسة عن بعد و قد جاء تسريحه كنتيجة للتخفيض من ميزانية الشركة ضمن مسرحين آخرين و هذا التوقف عن العمل جعله يعمل لمدة ساعتين في الأسبوع لشركات متفرقة في نواحي إنسينادا و تيجوانا لعدة أشهر و إعطاء ساعات تدريس في جامعة متجولة لقاء مبلغ رمزيي، و الذي أنقذ هذا العامل المبالغ القليلة التي تحصل عليها بموجب مهاراته في عدة مجالات معلوماتية و التي أعانته علي العيش لمدة عامين و بعدها وجد وظيفة قارة في شركة بمكسيكالي و أصبح مشرفا علي فرعها في مدينته. هذا نموذج إيجابي لمواطن عرف كيف يتعامل مع الجوانب السلبية للعولمة الإقتصادية.
في عصرنا تزداد إحتياجات الفرد و أسرته، فهو مطالب بتوفير إلي جانب السكن و مصاريف المأكل و الملبس و أقساط التعليم المكلفة، الخدمات الصحية الإيجار أو شراء البيت العائلي، وسائل الترفيه ضمان حد أدني من المدخرات مع تقدير طيب للطواريء. و لهذا السبب صار العمل الضمان الوحيد الذي يقي الفرد و عائلته شر الفقر و مخاطر الإنحراف إلا أن الأمر يبدو مقلقا و للتصدي للمشاكل الناتجة عن العولمة الإقتصادية يجب التفكير جديا لإيجاد سبل قانونية تحمي حقوق الفرد و الجماعة و الحد من المضاعفات الخطيرة التي تنتج عن التقدم الصناعي و الإقتصادي.
*البعد الإعلامي:القرية الكوكبية.
أدي الإندماج بين وسائل الإعلام الجماهيرية و بين تكنولوجيا الإتصال و المعلومات إلي جانب تطور الحاسبات و شبكة الهاتف و شبكة المعلومات مع إستعمال البث الفضائي إلي ظهور تكنولوجيا الإتصال متعدد الوسائط و تكنولوجيا الإتصال التفاعلي بتطبيقاتها المختلفة و أشهرها حاليا الشبكة العنكبوتية[5]. إن ثورة المعلومات و الإتصالات هي الطاقة المولدة و المحركة للعولمة[6] و قد أزالت هذه الثورة المكان و إختصرت الزمن و فرضت الآنية كقانون تعامل. فتوقيت الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان بثته قناة س.ن.ن الأمريكية ساعتين قبل دخوله حيز التنفيذ و قبل تلقي الحكومة اللبنانية رسميا إشعار الإنسحاب!
فتداول العامة لعدد هائل من المعطيات مكنها من ترتيب أعمالها و قراراتها بناءا علي إحاطتها الشاملة بما يجري في الداخل و الخارج و قد تضاعفت بذلك فاعلية الفرد في موقعه. إلا أن التفوق المعلوماتي غدي سلاح خطير في أيدي الجماعان المالكة لوسائل الإعلام ليصبح دور السلطة الرابعة محوري في صنع القرار و من بين الإيجابيات التي دعمت الممارسة الديمقراطية سقوط الحواجز بين المواطن و المسؤول، فرئيس البلدية ديجونألغي مشروع مطار بعد ما توفرت لديه في إستطلاع رأي نسبة معارضة للمشروع 47% من مواطنيه و في المستقبل لا نستبعد إستعاضة البرلمان بوسائل إتصال مباشرة، فبفضل النمو السريع لتكنولوجيا الإتصالات بات ممكنا علي رجل أعمال أن يدخل مناقصة بواسطة هاتف نقال و صار بإستطاعة الموظف و المسؤول حضور فعاليات ندوة أو مؤتمر من مكتبه و هذا بفضل جهاز تلفزيون و التصويت بمجرد الضغط علي زر في النقال و بتشعب وظائف الأنترنت، إزدادت الحاجة إليه. إنه يتيح لمستخدميه شراء البضائع، حجز تذاكر سفر، إستئجار بيت، العمل عن بعد، المشاركة في مزادات علنية، التعلم عن بعد.
فعملية التواصل الإلكتروني أطاحت بجميع العقبات لتعطي الفرد إمتياز المعرفة الدقيقة و الفورية، و نحن اليوم نشهد بروز نمط جديد من الإتصال و هو ما يسميه الدكتور محمد شومان[7] "بالإتصال التفاعلي القائم علي التفاعل الحر و المباشر بين المرسل و المستقبل و تبادل أدوار الإتصا
ل بين الطرفين علاوة علي إتساع و تنوع حرية المتلقي في إختيار و إنتقاد ما يريد معرفته و توظيفه لصالحه." و من جهة أخري يعتبر الإعلام السند الرئيسي للإقتصاد فتسويق البضائع مرتبط إربتاط وثيق بقطاع الدعاية و الإشهار اللذان فرضا نمط إستهلاك يقولب إحتياجات الفرد و مثل هذا النمط يتعرض لإنتقادات واسعةفتشومسكي[8] يري أن الزيادة الضخمة في الإعلان و الخطاب التوجيهي للمعلن يقابله إنخفاض في التنوع و المعلومات و ما يجدر ذكره أن العولمة الإعلامية تعد أهم أداة للتواصل الإنساني بكل ما يحمل من مضامين و خصوصيات، من ملامح و ميزات من خبرات و مهارات، فتدفق المعلومات و تنوع مصادرها ألغي الخطاب الإعلامي و السياسي الأحادي ليمنح المواطن حق الإطلاع و المتابعة و الممارسة الواعية لمسؤولياته.
*البعد السياسي: المواطن الدولة.
تقود العولمة السياسية البشرية إلي مرحلة جديدة يتم خلالها الإنتقال الحر للقرارات و التشريعات و السياسات و القناعات و الخيارات عبر المجتمعات و القارات و بأقل قدر من القيود و الضوابط متجاوزة بذلك الدول و الحدود الجغرافية[9] ، و بذلك يتراجع مفهوم سيادة الدولة لتقتصر مهمتها علي الجانب الإيداري و السهر علي التطييق الصارم للقوانين و هذا التقلص في نفوذ الدولة سيقلل من تدخلاتها في الميدان الإقتصادي. وفق إتفافية المتعددة الجوانب للإستثمار المتفاوض عليها حاليا، يستطيع المستثمر الأجنبي أن يقاضي الدولة في محكمة خاصة عن أي قانون أو إجراء يعرقل حرية الإستثمار و بإمكانه أيضا مقاضاتها إذا ما أضرب عمال أحد فروع الشركة في دولة مستضيفة. فحق الإضراب المعترف به دستوريا، غير مقبول في عرف الشركات المتعددة الجنسيات و قد باتت السلطة السياسية مهددة بالتهميش أمام تعاظم نفوذ المؤسسات الإقتصادية الدولية و لجوءها المتزايد إلي ممارسة الضغوطات و سياسة التوجيه التي تقضي بأن ينحصر دور الدولة في المراقبة و ليس شريكا كامل الحقوق و قد أوكلت مهمة تجسيد السيادة الوطنية عمليا إلي الفرد ليكتفي رئيس الدولة بمرتبة سفير فوق العادة، ممثلا لمصالح بلده في المنتديات الدولية و قد إكتست المصالح الوطنية بدورها أبعاد جديدة، أخرجتها من دائرة المحلية الضيقة إلي ا
لعالمية بمفهومها الأوسع.
فالتطور الذي لحق مفهوم المدينة الدولة، الدولة الأمة ثم القرية العالمية أحدث تغيير جذري في فهمنا لمضمون السيادة و جاءت الصياغة الجديدة لتحدد مهام الدولة في الحفاظ علي الأمن العام. هذا و الإحاطة بموارد الدولة و حدودها يعد مهما لضبط طبيعة تعاملها مع شركاءها الوطنيين و الدوليين.
فمن الطبيعي أن يؤدي إنحسار القوة العسكرية كعنصر أساسي في تقرير الموقف الإقتصادي إلي تقليل الإعتماد علي القوة التقليدية المتمثلة في كيان الدولة الأمة التي أستخدمت لزمن طويل كثقل مضاد للشمولية العالمية.[10]
و بإنتفاء عنصر الحكم يأتي مفهوم الإدارة المدير الذي يدرك أن عمله هو توضيح "الرؤية" و رسم"السياسة"و"تحديد الأهداف" ثم العمل علي تحقيقها بالمنافسة الواعية لا بالصراع الدموي.[11]
فالمطلوب من الآن و صاعدا إداريين ممتازين ليختفي تدريجيا نموذج المسؤول السياسي المتسلط، فالبقاء مشروط بكفاءة إدارية عالية و الديمقراطية كنظام سياسي تشجع الإدارة المسؤولة القائمة علي الحوار و الشفافية و العمل الجاد و ينتقل بذلك العالم من أسلوب السلطة الهرمية المطلقة إلي أساليب جديدة تفاوضية أفقية تبدو أكثر تحضرا.
[12]
ليقترن الإستقرار السياسي بحجم التبادلات الإقتصادية و بمستوي التقدم الصناعي و العلمي للبلاد.
*البعد الثقافي: المواطن العالمي.
لأول مرة في تاريخ البشرية تتاح للإنسان فعليا فرصة تجاوز فرديته بكل ما تتضمنه من خصائص ذاتية و خصال، من إستعدادات و مواهب لينطلق إلي فضاءات جديدة مستبدلا بطاقة هوية محلية بأخري ذات أبعاد عالمية تمكنه من التفاعل الخلاق مع هويته الجديدة كمواطن عالمي، فيتعلم الإنسان التعايش مع ما هو أصيل ثابت و جديد متغير، معبأ طاقاته، ملتمسا الحوار، مطورا لتجاربه بالنظر إلي معطيات علمية تقنية متجددة. فالثقافة التي تبشر بها العولمة ثقافة أكثر تفتحا و أكثر تواصلا مع الآخر، فتختزل المسافات لتقارب بين الناس و بالتعارف علي بعضنا البعض تنضج رؤيتنا لوحدة العنصر البشري و يتمدد شعورنا بالحياة ليمنح هذا التمدد الجماعة التوازن النفسي الصحي و كما كتب داريوش شايغان[13] " إن المجتمع الأمريكي المكون من مجموعات أو جماعات ذات إنتماءات أو هويات مختلفة في اللون و الثقافة و الدين... لكنها متعايشة تشارك جميعا من ال
داخل رغم إختلافها من الخارج: تسهم في التصويت و إتخاذ القرارات لكن كلا منها يعيش حياته الخاصة من تقاليد و عادات و أزياء و طرق مأكل و مشرب و إجتماع...إلخ".
تبقي العولمة علي الهوية المتميزة من دين و لغة و أصول و ثقافة منمية الشعور بوحدة المصير مزيلة أمراض كالعنصرية، العنف، و التطرف لتوطد علاقة الإنسان بالإنسان، متغلبة علي الرواسب السلبية الكائنة بين الأنا و الآخر و يترتب البعد العالمي للشخصية عن مدي نجاعة تكيفها مع المتغيرات لتظل الخصوصية الثقافية و الروحية عنصر ثراء و جمال و عامل إختلاف بديع.
يعطي السلوك الفاعل محتوي لمفهوم الإنسان الكزمبوليتاني الذي يعرفه مازن حامد كما ي
لي :"الكزمبوليتاني هو العالمي المتحرر من الأحقاد القومية أو المحلية و الذي يعتبر العالم كله وطنا له. و المجموعات الكوزمبوليتانية لا تسلم إحساسها بالهوية العرقية المميزة إلي مذبح التكنولوجيا أو العلم و لكنها تستثمر قيمها و معتقداتها التي صنعها التاريخ للتأقلم بنجاح مع معطيات التغيير."[14]
و تتمثل مقومات النجاح هذه في الشعور بوحدة المصير من جهة، في إيجاد سبل التكامل، في الحفاظ علي الأنا منسجما مع نحن، في الإجتهاد و في السعي إلي تحقيق توازن نفسي و إجتماعي بالحث علي ثقافة التعاون و بالإعتماد علي رافد عظيم و الذي يمثل لوحده مفتاح التقدم و النجاح ألا و هو العلم.
مما لا شك فيه هو أن للعولمة تداعياتها السلبية و الإيجابية، و أول ما علينا التسليم به أن الهدف من العولمة ليس العدوان علي سائر الثقافات أو هدر السيادة الثقافية أو ضرب للهوية الوطنية للشعوب أو طمس خصوصيتها الحضارية كما يدعي البعض، فالعولمة تتعامل مع ثقافات و هويات قوية و إحدي أقوي الهويات في عالمنا اليوم هي الهوية الإسلامية، فإذا البعض يري بأن العولمة تهدد هويتنا فهذا من جراء ضعفنا الحضاري و ليس قوتنا العقائدية.
فما ينبغي أن نفهمه بأن العولمة كإتجاه شامل للتطور الحضاري تستند أولا و أخيرا علي قيم روحية و أخلاقية و مثل هذه القيم هي التي من شأنها أن تحدد مسيرة هذه العولمة و ليس العكس. فأن نعادي العولمة، هذا موقف الضعفاء بل ما يتوجب علينا فعله و القيام به هو توظيف قيمنا الإسلامية في سبيل إلإعلاء من شأن الفكرة المولدة للحضارة.
العولمة نتاج فكر إنساني مبدع، أما أن نزعم بغلبة الطابع الغربي علي هذا التوجه العولمي فهذا قفز علي واقع الريادة الحضارية فيه، هي ريادة تتقاسمها آسيا، أمريكا الشمالية و الجنوبية و أوروبا و ألتحق بالركب مؤخرا دول العالم العربي و إفريقيا. و الإشكالية التي يجب أن نثيرها هي في كيفية تفعيل هويتنا المسلمة ليكتسي حضورنا في نظام العولمة طابع الإبداع الحضاري أكثر منه إستسلام المغلوب علي أمره. و هذا ما قاله المفكر المسلم طارق رمضان في كتابه و أترجم لكم هنا الجملة التي تدلل علي ذلك و التي جاءت في مقدمة كتابه من اللغة الإنجليزية إلي اللغة العربية :" تتضمن العولمة مفارقة، فهي في نفس الوقت التي تتسبب في إختفاء المراجع التقليدية القديمة، إنها تبعث من جديد أو لنقل تحي تأكيدات متحمسة للهوية التي أحيانا كثيرة تتجه إلي الإنسحاب و إلي عزل نفسها."[1]
فالتقدم العلمي و التكنولوجي لشعوب الغرب تم بفضل تفاعلها الإيجابي مع قيم روحية و أخلاقية إستمدوها من الدين المسيحي و هذا ما أكده الدكتور حيدر إبراهيم [2] عندما يقول "أن التطور العلمي يتطلب قدرا من الإنضباط و الصبر و المثابرة و التضحية و الصدق، كل هذه قيم روحية لا بد من توافرها في العالم أو المخترع، كذلك الحديث عند بعض المسلمين عن غياب الأخلاق في المجتمعات الغربية فيه الكثير من الشطط و المبالغة في تقليل الغير." فأن يصطبغ موقفنا من العولمة بالعداء و الرفض أو بالحذر الشديد، لنقيد تعاملنا معها برسم خط أحمر تجاوزه يعني السقوط في اللاإنتماء، هذه كلها ردود أفعال تنم عن خوف و عن قلة ثقة بمناعة روحية و أخلاقية و فكرية، منحنا إياها الإسلام.
ما يدعو للإستغراب أن منظومة القيم التي ندافع عنها لم نتفاعل معها بذلك الزخم الذي يؤدي بنا إلي النهضة الحضارية المنشودة، و العيب هنا ليس في القيم و إنما فينا نحن. فتشبثنا بخصوصيتنا و معتقداتنا لم يتجاوز التعامل الفولكلوري، و كما حلل الموقف بنجاح الدكتور حيدر إبراهيم بقوله[3] :" فالمسلمون حين يخشون إختراق العولمة لهويتهم حينئذ لن يكون الإختراق بسبب قوة العولمة الكاسحة، بل يعود ذلك في كثير إلي ضعف هوية المسلمين، او بالأصح ضعف في قدرتهم علي تسجيد محاسن الهوية المدعاة." و هذا الضعف مؤداه الإنفصام الرهيب الذي تشكوه الذهنية المسلمة، فالبراغماتية المنفعية تشوب علاقتنا بقيمنا، و هذه المنفعية المادية قضت علي حظوظنا في الإرتقاء حضاريا، فمفاهيم كالعدل و الحرية و المساواة و التسامح و طلب العلم نعتد بها و لا نترجمها إلي واقع. بينما لغة العولمة حولتها إلي واقع ملموس، فالنجاح الحقيقي في الدول المتقدمة يتمثل في بناءها للفرد المتوافق مع ذاته و صيرورته الحضارية.[4]
حطمت الحرب أحلام قادة اليابان القدماء، و بددت حوالي ربع الثروة الوطنية، لكنها لم تدمر العوامل الثقافية الأكثر الأهمية، و الكامنة في لب النجاح الياباني، و التي من بينها التصميم علي تطوير المهارات، و الحفاظ علي التجذر الثقافي، فاليابان حمل قيمه و أفكاره إلي معترك الحياة، و أستطاع أن يطور بفضل ذلك واقعه إنطلاقا من قناعة بسيطة:" يحق لي أن أخطأ، و لكن علي أن لا أكف من التعلم و التجريب و التفكير الإيجابي."
و الصيني مثله مثل الياباني، تمكن من الإلتحاق بركب الحضارة بثقة كبيرة في الذات و بتعبير"كو لانغ" و هو صناعي صيني من كاليفورنيا،"فقد كان من السهل علينا التعامل مع متطلبات الحضارة، فهويتنا لن تعيقنا، بل بلورت مجموعة المباديء التي مكنتنا من توظيف ذكاءنا و مهاراتنا من أجل إنبعاث حضاري جديد."
إذن بماذا نفسر سلبية الذات المسلمة ؟ تجد الذهنية المسلمة مكللة بالتخلف، ملفعة بالمثالية و التهويم، عاجزة عن التماس مع الواقع و قاصرة عن إدراك ما يجري علي المستوي العالمي...[5]
مصدر هذا العجز واضح، فعقل المسلم لم ينعتق بعد، و قد بقي أسير القمقم، و هذا الأسر الذي طال أمده بات يهدد الذات المسلمة بالإستلاب و اللافاعلية، فالمواطن ينشأ في المدارس و الجامعات علي الحفظ، يحفظ الموروث آنا و يحفظ الوافد من الغرب آنا آخر، أما أن يبدع و أن يبتكر و أن يشارك في موكب الحضارة فهذا لم يحدث[6] و لن يحدث ، لأن القرار السياسي لم ينضج بعد كي يتيح تغييرا يطيح لا محالة بإمتيازاته و سلطانه، و كما جاء علي لسان الأستاذ حسن حنفي:" السياسي يريد أن يترك الواقع كما هو، لا يغيره للدفاع عن كرسي الحكم،" فنجاح الدول المتقدمة في بناء الفرد قابله فشلنا الذريع في بناء الفرد المسلم المجسد لقيم الحق و الخير و الفضيلة و العدل و الصدق و الجد و العلم.
و المخاوف التي ترافق نظرتنا إلي العولمة سببها الرئيس إهمالنا لدراسة المتغيرات الذي أدي بنا إلي جهل القوانين المتحكمة في هاته المتغيرات. عقل الإنسان عاجز عن الإستنباط من الواقع رموز و مكونات و أدوات صيرورته الحضارية، و يعود سبب ذلك إلي عدم إلتزامه بالبعد الرسالي لقيمنا و تمسكنا الظاهري بها، لم نتعلم كيف نكون عمليين في تعاملنا مع الواقع. فنحن لا نبحث في مشاكل الإنسان من حيث هو مشروع حضارة، بينما قيمة العولمة تفرض علينا فكرا لصيقا بوجود الإنسان، فكر يمسك دون مقدمات بالفكرة ليضعها موضع التجربة و الملاحظة. فكر لا يضيع وقته في الرد علي لماذا بل في البحث عن "كيف"، و الإنتقال مباشرة إلي التنفيذ، ففي العولمة محكوم علي الفرد بالفاعلية، فذلك التصور الذي يؤمن[7]بأن العولمة تحطم قدرات الإنسان و تجعله إنسانا مستهلكا غير منتج ينتظر ما يجود به الغرب و مراكز العالم من سلع جاهزة الصنع تصور قاصر، لأننا بالفعل، سنبقي إلي مدة طويلة أقرب إلي موقع المقتبس و الناقل و المقلد منا إلي موقع المبدع و المؤثر في مسيرة العلم الحديث،[8] إذا ما لم نبادر في وضع الإبداع شرطا لتصور المصير، بحسب توفيق باكر، و إذا لم يقترن هذا الإبداع بإحاطة واعية بمسببات الفاعلية الحضارية، فعلي مدي نصف قرن لم نحسن إلا الأخذ من الشرق و الغرب طرق و مناهج حياتية، لم تقدمنا خطوة واحدة نحو المصير السيد.
و عوض أن نستلهم من إنتماءنا الحضاري و من واقعنا أسالبينا الخاصة بنا لتحقيق وجود مبدع و خلاق، فضلنا علاقة التبعية البغيظة للغرب، فإذا ما لم نكف من النظر إلي الكون و الحياة و الإنسان و مهامه و قدراته و حدوده بتصور الإنسان المسلوب الإرادة و الفكر، فمن الطبيعي جدا أن يصطبغ موقفنا من العوملة بالسلبية و الجمود و اللافاعلية. فالقدرة علي المواجهة تستدعي إستنفار جميع مقومات المناعة الروحية و الأخلاقية، و هذا لن يتم ما لم نبطل التعامل النفعي مع قيمنا لنحصرها في حدود ضيقة، مغلقين أمامها جميع المنافذ التي من شأنها تخليص الإنسان من هامشيته و ركوده.
ففي ظل العولمة، ستبقي الهوية الوطنية، بل ربما ستتعزز، و ربما ستترسخ، و إلي جانب الهوية الوطنية ستنمو الهوية الإنسانية و المواطنة العالمية، فيكون هناك إرتقاء في تخيل الأفراد لوجودهم علي الكرة الأرضية. حيث ستشعر البشرية و كأنها وحدة سكانية و ما سيتهددها من مخاطر حياتية داخلية و خارجية يستوجب عليها مواجهتها بخطة واحدة[9]. فالعولمة تعني أن الأقدام ستظل ثابتة في أرض الوطن، بيد أن الهامات ستزداد طولا و الرؤية ستمتد إلي مساقات بعيدة ببعد الأفق، و لن تتمكن الشجرة المحلية بعد اليوم من أن تحجب رؤية الغابة، العالمية[10] و ليكون وجودنا ذا مغزي، علي النخب و الشعوب أن تقلع عن التمسك العاطفي بالقيم و الإنتقال إلي طور تجسيدها الفعلي الذي يدفع السلوك الإنساني مفضيا به إلي واقع متطور منسجم مع مكونات و خصائص هويته الأصيلة، فحالة التخلف الإقتصادي و السياسي و الإعلامي التي يشكوها العالم الإسلامي مع عدم قدرته علي مجاراة المستجدات العالمية مرتبطة بقدر كبير، بموقفه من قيمه و إنتماءه الحضاري، فموقفه ذاك يتسم بالريبة و التحفظ إذا لم أقل بالنفور، فقيمنا المستمدة من مثل و مباديء الإسلام تلزم الفرد و الجماعة بإنضباط أخلاقي و فكري صارمين .
تبني قيم ديننا معالم الإنسان الكامل و مسؤولية البناء، تعود بالأساس إلي الفرد، و الخيار الحضاري يقتضي بأن يرتقي الفرد بالجوانب الأخلاقية لشخصيته و في إرتقاءه ذاك يؤمن علي وجوده داخل نظام العولمة، ليغادر دائرة الإنهزامية، ملتحقا بدائرة الفعالية القصوي.
فقيم العولمة تضعنا أمام تحد كبير، أن نسارع في الحسم بين إنتماءنا الحضاري و بين خطر الذوبان و التلاشي، الذي سيحصل من جراء الإنفتاح المذهل الذي هو نتيجة العولمة الإعلامية علي ثقافات العالم، فالدول التي تشهد تقدما إقتصاديا و تكنولوحيا مطردا تملك ثقافاتها قدرة رهيبة في التأثير و في الإختراق، و هذا التهديد نلامسه في سيطرة المذهب العلماني و إنتشار قيمه التي تتمتع بنفوذ قوي داخل الأنظمة و النخب. بينما لسان حال "جويل كوتكن" يقول :"إن المشاعر الدينية مازالت، و نحن علي أعتاب القرن الحادي و العشرين، قابلة للتكيف في إطار الفروع الإنسانية المختلفة، بدل أن تخبو بسبب التقدم العلمي العالمي."[11]
و كما ذكر الدكتور سلميان العسكري" للعولمة تناقضاتها التي لا يجب أن نغفلها، لكن ليس أمامنا من طريق لتحقيق أية نهضة منشودة سوي التفاعل مع هذا العام، لأن حركة التاريخ هي علي الدوام حركة إلي الأمام، لا تعترف بالكسالي المتخاذلين و المتقوقعين علي ذاتهم."[12]
إلا أن هذا التفاعل مشروط بتفاعل آخر، و هو التفاعل الإيجابي مع قيمنا الذي يمكن الفرد و الجماعة من الإنفتاح علي ثقافات بقية العالم دون خشية الوقوع ضحية عملية غسل دماغ، و هكذا يبقي الإندماج في النسق القيمي الجديد مقيدا بتوظيفنا الناجع لمقومات هويتنا الحضارية. فالمسلم علي أعتاب الألفية الميلادية الثالثة مفروض عليه الإنبعاث، و لكي يتحقق ذلك، فعليه تجاوز موقع المتلقي المستورد لأنماط حياة من صنع و إبداع عقول و أفهام أبناء الشمال و أمام بلوغ [13]البشرية مرحلة الحرية الكاملة لإنتقال الأفكار و الإتجاهات و المعلومات و البيانات و الأذواق و إنتشارها فيما بين الثقافات، و بأقل قدر من القيود السياسية و الجغرافية التقليدية، نحن مطالبون بالتعامل مع العولمة بواقعية شديدة، فيجب أن نحيط بإمكاناتنا و قدراتنا، لنبلور فلسفة حياة، قوامها العمل و الإبتكار، مجسدين نموذج الشخصية الواثقة من نفسها، المتوافقة مع قيمها، المتجاوبة مع الآخرين، المقبلة علي الحياة من موقع الإقتدار.
بقلم عفاف عنيبة
الهوامش:
العولمة نتاج فكر إنساني مبدع، أما أن نزعم بغلبة الطابع الغربي علي هذا التوجه العولمي فهذا قفز علي واقع الريادة الحضارية فيه، هي ريادة تتقاسمها آسيا، أمريكا الشمالية و الجنوبية و أوروبا و ألتحق بالركب مؤخرا دول العالم العربي و إفريقيا. و الإشكالية التي يجب أن نثيرها هي في كيفية تفعيل هويتنا المسلمة ليكتسي حضورنا في نظام العولمة طابع الإبداع الحضاري أكثر منه إستسلام المغلوب علي أمره. و هذا ما قاله المفكر المسلم طارق رمضان في كتابه و أترجم لكم هنا الجملة التي تدلل علي ذلك و التي جاءت في مقدمة كتابه من اللغة الإنجليزية إلي اللغة العربية :" تتضمن العولمة مفارقة، فهي في نفس الوقت التي تتسبب في إختفاء المراجع التقليدية القديمة، إنها تبعث من جديد أو لنقل تحي تأكيدات متحمسة للهوية التي أحيانا كثيرة تتجه إلي الإنسحاب و إلي عزل نفسها."[1]
فالتقدم العلمي و التكنولوجي لشعوب الغرب تم بفضل تفاعلها الإيجابي مع قيم روحية و أخلاقية إستمدوها من الدين المسيحي و هذا ما أكده الدكتور حيدر إبراهيم [2] عندما يقول "أن التطور العلمي يتطلب قدرا من الإنضباط و الصبر و المثابرة و التضحية و الصدق، كل هذه قيم روحية لا بد من توافرها في العالم أو المخترع، كذلك الحديث عند بعض المسلمين عن غياب الأخلاق في المجتمعات الغربية فيه الكثير من الشطط و المبالغة في تقليل الغير." فأن يصطبغ موقفنا من العولمة بالعداء و الرفض أو بالحذر الشديد، لنقيد تعاملنا معها برسم خط أحمر تجاوزه يعني السقوط في اللاإنتماء، هذه كلها ردود أفعال تنم عن خوف و عن قلة ثقة بمناعة روحية و أخلاقية و فكرية، منحنا إياها الإسلام.
ما يدعو للإستغراب أن منظومة القيم التي ندافع عنها لم نتفاعل معها بذلك الزخم الذي يؤدي بنا إلي النهضة الحضارية المنشودة، و العيب هنا ليس في القيم و إنما فينا نحن. فتشبثنا بخصوصيتنا و معتقداتنا لم يتجاوز التعامل الفولكلوري، و كما حلل الموقف بنجاح الدكتور حيدر إبراهيم بقوله[3] :" فالمسلمون حين يخشون إختراق العولمة لهويتهم حينئذ لن يكون الإختراق بسبب قوة العولمة الكاسحة، بل يعود ذلك في كثير إلي ضعف هوية المسلمين، او بالأصح ضعف في قدرتهم علي تسجيد محاسن الهوية المدعاة." و هذا الضعف مؤداه الإنفصام الرهيب الذي تشكوه الذهنية المسلمة، فالبراغماتية المنفعية تشوب علاقتنا بقيمنا، و هذه المنفعية المادية قضت علي حظوظنا في الإرتقاء حضاريا، فمفاهيم كالعدل و الحرية و المساواة و التسامح و طلب العلم نعتد بها و لا نترجمها إلي واقع. بينما لغة العولمة حولتها إلي واقع ملموس، فالنجاح الحقيقي في الدول المتقدمة يتمثل في بناءها للفرد المتوافق مع ذاته و صيرورته الحضارية.[4]
حطمت الحرب أحلام قادة اليابان القدماء، و بددت حوالي ربع الثروة الوطنية، لكنها لم تدمر العوامل الثقافية الأكثر الأهمية، و الكامنة في لب النجاح الياباني، و التي من بينها التصميم علي تطوير المهارات، و الحفاظ علي التجذر الثقافي، فاليابان حمل قيمه و أفكاره إلي معترك الحياة، و أستطاع أن يطور بفضل ذلك واقعه إنطلاقا من قناعة بسيطة:" يحق لي أن أخطأ، و لكن علي أن لا أكف من التعلم و التجريب و التفكير الإيجابي."
و الصيني مثله مثل الياباني، تمكن من الإلتحاق بركب الحضارة بثقة كبيرة في الذات و بتعبير"كو لانغ" و هو صناعي صيني من كاليفورنيا،"فقد كان من السهل علينا التعامل مع متطلبات الحضارة، فهويتنا لن تعيقنا، بل بلورت مجموعة المباديء التي مكنتنا من توظيف ذكاءنا و مهاراتنا من أجل إنبعاث حضاري جديد."
إذن بماذا نفسر سلبية الذات المسلمة ؟ تجد الذهنية المسلمة مكللة بالتخلف، ملفعة بالمثالية و التهويم، عاجزة عن التماس مع الواقع و قاصرة عن إدراك ما يجري علي المستوي العالمي...[5]
مصدر هذا العجز واضح، فعقل المسلم لم ينعتق بعد، و قد بقي أسير القمقم، و هذا الأسر الذي طال أمده بات يهدد الذات المسلمة بالإستلاب و اللافاعلية، فالمواطن ينشأ في المدارس و الجامعات علي الحفظ، يحفظ الموروث آنا و يحفظ الوافد من الغرب آنا آخر، أما أن يبدع و أن يبتكر و أن يشارك في موكب الحضارة فهذا لم يحدث[6] و لن يحدث ، لأن القرار السياسي لم ينضج بعد كي يتيح تغييرا يطيح لا محالة بإمتيازاته و سلطانه، و كما جاء علي لسان الأستاذ حسن حنفي:" السياسي يريد أن يترك الواقع كما هو، لا يغيره للدفاع عن كرسي الحكم،" فنجاح الدول المتقدمة في بناء الفرد قابله فشلنا الذريع في بناء الفرد المسلم المجسد لقيم الحق و الخير و الفضيلة و العدل و الصدق و الجد و العلم.
و المخاوف التي ترافق نظرتنا إلي العولمة سببها الرئيس إهمالنا لدراسة المتغيرات الذي أدي بنا إلي جهل القوانين المتحكمة في هاته المتغيرات. عقل الإنسان عاجز عن الإستنباط من الواقع رموز و مكونات و أدوات صيرورته الحضارية، و يعود سبب ذلك إلي عدم إلتزامه بالبعد الرسالي لقيمنا و تمسكنا الظاهري بها، لم نتعلم كيف نكون عمليين في تعاملنا مع الواقع. فنحن لا نبحث في مشاكل الإنسان من حيث هو مشروع حضارة، بينما قيمة العولمة تفرض علينا فكرا لصيقا بوجود الإنسان، فكر يمسك دون مقدمات بالفكرة ليضعها موضع التجربة و الملاحظة. فكر لا يضيع وقته في الرد علي لماذا بل في البحث عن "كيف"، و الإنتقال مباشرة إلي التنفيذ، ففي العولمة محكوم علي الفرد بالفاعلية، فذلك التصور الذي يؤمن[7]بأن العولمة تحطم قدرات الإنسان و تجعله إنسانا مستهلكا غير منتج ينتظر ما يجود به الغرب و مراكز العالم من سلع جاهزة الصنع تصور قاصر، لأننا بالفعل، سنبقي إلي مدة طويلة أقرب إلي موقع المقتبس و الناقل و المقلد منا إلي موقع المبدع و المؤثر في مسيرة العلم الحديث،[8] إذا ما لم نبادر في وضع الإبداع شرطا لتصور المصير، بحسب توفيق باكر، و إذا لم يقترن هذا الإبداع بإحاطة واعية بمسببات الفاعلية الحضارية، فعلي مدي نصف قرن لم نحسن إلا الأخذ من الشرق و الغرب طرق و مناهج حياتية، لم تقدمنا خطوة واحدة نحو المصير السيد.
و عوض أن نستلهم من إنتماءنا الحضاري و من واقعنا أسالبينا الخاصة بنا لتحقيق وجود مبدع و خلاق، فضلنا علاقة التبعية البغيظة للغرب، فإذا ما لم نكف من النظر إلي الكون و الحياة و الإنسان و مهامه و قدراته و حدوده بتصور الإنسان المسلوب الإرادة و الفكر، فمن الطبيعي جدا أن يصطبغ موقفنا من العوملة بالسلبية و الجمود و اللافاعلية. فالقدرة علي المواجهة تستدعي إستنفار جميع مقومات المناعة الروحية و الأخلاقية، و هذا لن يتم ما لم نبطل التعامل النفعي مع قيمنا لنحصرها في حدود ضيقة، مغلقين أمامها جميع المنافذ التي من شأنها تخليص الإنسان من هامشيته و ركوده.
ففي ظل العولمة، ستبقي الهوية الوطنية، بل ربما ستتعزز، و ربما ستترسخ، و إلي جانب الهوية الوطنية ستنمو الهوية الإنسانية و المواطنة العالمية، فيكون هناك إرتقاء في تخيل الأفراد لوجودهم علي الكرة الأرضية. حيث ستشعر البشرية و كأنها وحدة سكانية و ما سيتهددها من مخاطر حياتية داخلية و خارجية يستوجب عليها مواجهتها بخطة واحدة[9]. فالعولمة تعني أن الأقدام ستظل ثابتة في أرض الوطن، بيد أن الهامات ستزداد طولا و الرؤية ستمتد إلي مساقات بعيدة ببعد الأفق، و لن تتمكن الشجرة المحلية بعد اليوم من أن تحجب رؤية الغابة، العالمية[10] و ليكون وجودنا ذا مغزي، علي النخب و الشعوب أن تقلع عن التمسك العاطفي بالقيم و الإنتقال إلي طور تجسيدها الفعلي الذي يدفع السلوك الإنساني مفضيا به إلي واقع متطور منسجم مع مكونات و خصائص هويته الأصيلة، فحالة التخلف الإقتصادي و السياسي و الإعلامي التي يشكوها العالم الإسلامي مع عدم قدرته علي مجاراة المستجدات العالمية مرتبطة بقدر كبير، بموقفه من قيمه و إنتماءه الحضاري، فموقفه ذاك يتسم بالريبة و التحفظ إذا لم أقل بالنفور، فقيمنا المستمدة من مثل و مباديء الإسلام تلزم الفرد و الجماعة بإنضباط أخلاقي و فكري صارمين .
تبني قيم ديننا معالم الإنسان الكامل و مسؤولية البناء، تعود بالأساس إلي الفرد، و الخيار الحضاري يقتضي بأن يرتقي الفرد بالجوانب الأخلاقية لشخصيته و في إرتقاءه ذاك يؤمن علي وجوده داخل نظام العولمة، ليغادر دائرة الإنهزامية، ملتحقا بدائرة الفعالية القصوي.
فقيم العولمة تضعنا أمام تحد كبير، أن نسارع في الحسم بين إنتماءنا الحضاري و بين خطر الذوبان و التلاشي، الذي سيحصل من جراء الإنفتاح المذهل الذي هو نتيجة العولمة الإعلامية علي ثقافات العالم، فالدول التي تشهد تقدما إقتصاديا و تكنولوحيا مطردا تملك ثقافاتها قدرة رهيبة في التأثير و في الإختراق، و هذا التهديد نلامسه في سيطرة المذهب العلماني و إنتشار قيمه التي تتمتع بنفوذ قوي داخل الأنظمة و النخب. بينما لسان حال "جويل كوتكن" يقول :"إن المشاعر الدينية مازالت، و نحن علي أعتاب القرن الحادي و العشرين، قابلة للتكيف في إطار الفروع الإنسانية المختلفة، بدل أن تخبو بسبب التقدم العلمي العالمي."[11]
و كما ذكر الدكتور سلميان العسكري" للعولمة تناقضاتها التي لا يجب أن نغفلها، لكن ليس أمامنا من طريق لتحقيق أية نهضة منشودة سوي التفاعل مع هذا العام، لأن حركة التاريخ هي علي الدوام حركة إلي الأمام، لا تعترف بالكسالي المتخاذلين و المتقوقعين علي ذاتهم."[12]
إلا أن هذا التفاعل مشروط بتفاعل آخر، و هو التفاعل الإيجابي مع قيمنا الذي يمكن الفرد و الجماعة من الإنفتاح علي ثقافات بقية العالم دون خشية الوقوع ضحية عملية غسل دماغ، و هكذا يبقي الإندماج في النسق القيمي الجديد مقيدا بتوظيفنا الناجع لمقومات هويتنا الحضارية. فالمسلم علي أعتاب الألفية الميلادية الثالثة مفروض عليه الإنبعاث، و لكي يتحقق ذلك، فعليه تجاوز موقع المتلقي المستورد لأنماط حياة من صنع و إبداع عقول و أفهام أبناء الشمال و أمام بلوغ [13]البشرية مرحلة الحرية الكاملة لإنتقال الأفكار و الإتجاهات و المعلومات و البيانات و الأذواق و إنتشارها فيما بين الثقافات، و بأقل قدر من القيود السياسية و الجغرافية التقليدية، نحن مطالبون بالتعامل مع العولمة بواقعية شديدة، فيجب أن نحيط بإمكاناتنا و قدراتنا، لنبلور فلسفة حياة، قوامها العمل و الإبتكار، مجسدين نموذج الشخصية الواثقة من نفسها، المتوافقة مع قيمها، المتجاوبة مع الآخرين، المقبلة علي الحياة من موقع الإقتدار.
بقلم عفاف عنيبة
الهوامش:
[1] الفقرة مأخوذة عن مقالة"العرب و تحديات القرن القادم" لقاسم محمد الشريف مجلة"معلومات دولية" العدد 60 ربيع 1999.
[2] أنكارتا 1999
[3] فقرة مأخوذة من الخطاب الذي القاه المدير العالم لبنك التجارة الخارجية المكسيكي في 4 ابريل 2000.
[4] مأخوذة الفقرة بتصرف من مقالة:"الإدارة بالمعرفة(التكنولوجيا تقود العالم) الدكتور عبد الرحمان توفيق مجلة العربي عدد 452، فبراير 1996.
[5] الفقرة مأخوذة من مقالة:"ظاهرة العولمة الواقع و الآفاق" الدكتور الحبيب الجنحاني منجلة عالم الفكر المجلد 28 عدد 2 أكتوبر-ديسمبر 1999.
[6] الفقرة مأخوذة من مقالة "العولمة جذورها و نوعها و كيفية التعامل معها د. عبد الخالق عبد الله، مجلة عالم الفكر المجلد 28، عدد 2،1999.
[7]الفقرة مأخوذة من مقالة"أين نقف في بداية الألفية الثالثة؟"الأستاذ محمد سيد أحمد. مجلة العربي عدد 437 أبريل 2000.
[8]الفقرة مأخوذة من مقالة :" نعم للعوملة... لا للغربنة" بقلم لاوسي مجلة الثقافة العاليمة العدد 85. نوفمبر ديسمبر 1997.
[9]الفقرة مأخوذة من مقالة"ظاهرة العولمة الواقع و الآفاق" للدكتور الحبيب الجنحاني مجلة عالم الفكر المجلد 28، العدد 2. اكتوبر-ديسمبر1999.
10بتصرف فقرة مأخوذة من كتاب:" القبال دور العرق و الدين و الهوية في نجاح الإقتصاد العالمي لجويل كوتكن، ترجمة مازن حماد.
فقرة مأخوذة بتصرف من مقالة:" العوملة و تهميش الثقافة الوطنية" للدكتور أحمد مجدي حجازي، مجلة عالم الفكر المجلد 28 عدد 2، 1999.[2]
فقرة مأخوذة بتصرف من مقالة لمكز افمارات للبحوث الإستراتيجية أبو ظبي، مجلة العربي عدد 463ن عام 1997.[3]
فقرة مأخوذة من مقالة :"ظاهرة العولمة الواقع و الآفاق.د الحبيب الجنحاني مجلة عالم الفكر، المجلد 28 عدد 2 عام 1999.[4]
الفقرة مأخوذة من مقالة "عولمة الإعلام و مستقبل النظام الإعلامي العربي للدكتور محمد شومان، مجلة عالم الفكر الع
دد 2 ،1999.[5
]
دد 2 ،1999.[5
]
// // // //.[6]
فقرة مأخوذة من مقالة عولمة الإعلام و مستقبل النظام الإعلامي العربي" د. محمد شومان، مجلة عالم الفكر، المجلد 28، العدد 2، 1999.[7]
فقرة مأخوذة من مقالة" العولمة جذورها و فروعها و كيفية التعامل معها"د. عبد الخالق عبد الله مجلة عالم الفكر، المجلد 28، عدد2،1999.[8]
فقرة مأخوذة من مقالة"العولمة[9]
الفقرة مأخوذة من كتاب " القبائل دور العرق و الدين و الهوية في نجاح الإقتصاد العالمي "للمؤلف جويل كوتكن، ترجمة مازن حامد.[10]
فقرة مأخوذة بتصرف من مقالة "الإدارة بالمعرفة(التكنولوجيا تقود العالم)" د. عبد الرحمان توفيق مجلة العربي، عدد 452 فبراير 1996.[11]
فقرة مأخوذة بتصرف من مقالة" العولمة الواقع و الآفاق"د. الحبيب الجنحاني مجلة عالم الفكر المجلد 28، عدد 2، 1999.[12]
الفقرة مأخوذة من مقالة "الهوية، الجماعة و الجماعات" داريوش شايغان مجلة ماقف العدد 65، خريف 1991.[13]
فقرة مأخوذة من كتابة " القبائل دور العرق و الدين و الهوية في نجاح الإقتصاد العالمي" جويل كوتكن دار البشير طبعة 1995.[14]
[1] « Globalization contains the paradox that at the same time that it causes the old traditional points of reference to disappear, it reawekens passionate affirmations of identity that often verge on withdrawal and self-exclusion.” Tarik Ramadan author of Western Muslims and The future of Islam.” أرجو من القراء الكرام المتكنين من اللغتين العربية و الإنجليزية ان يصححوا لي في حالة ما أخطأت في الترجمة..
[2] الفقرة مأخوذة من مقالة "العولمة و جدل الهوية الثقافية" الدكتور حيدر إبراهيم، مجلة عالم الفكر المجلد 23 العدد2، اكتوبر/ديسمبر 1998.
[3] الفقرة مأخوذة من المقالة السابقة الذكر للدكتور حيدر إبراهيم.
[4][4] "القبائل" دور العرق و الدين و الهوية في نجاح الإقتصاد العالمي، جويل كوتكن، دار البشير طبعة 1995.
[5] فقرة مأخوذة من مقالة" أي افق للثقافة العربية و ادبها في عصر الإتصال و العوملة" للدكتور حسام الخطيب، مجلة عالم الفكر العدد2 عام 1999.
[6] المصدر السابق.
[7] الفقرة مأخوذة بتصرف من مقالة" العولمة و تهميش الثقافة الوطنية للدكتور احمد مجدي الحجازي، مجلة عالم الفكر، المجلد 28 العدد 2عام 1999.
[8] فقرة مأخوذوة عن مقالة أي افق للثقافة العربية و أدبها في عصر الإتصال و العولمة، دكتور حسام الخطيب، مجلة عالم الفكر، العدد 2، عام 1999.
[9] الفقرة مأخوذة من مقالة بعنوان " العولمة جذورها و فروعها و كيفية التعامل معها الدكتور عبد الخالق عبد الله، مجلة عالم الفكر العدد 2، عام 1999.
[10] فقرة مأخوذة عن مقالة " العولمة، جذورها و فروعها، و كيفية التعامل معا" الدكتور عبد الخالق عبد الله، مجلة عالم الفكر.
[11] فقرة مأخوذة من كتاب "القبائل دور العرق و الدين و الهوية في نجاح الإقتصاد العالمي" جويل كوتكن المترجم مازن حامد دار البشير، طبعة 1995م.
[12] فقرة مأخوذة من إفتتاحية المجلة الثقافية العالمية للدكتور سليمان العسكري، العدد 85، نوفمبر/دسيمبر 1997م.
الفقرة مأخوذة من مقالة " العولمة، جذورها و فروعها و كيفية التعامل معها" الدكتور عبد الخالق عبد، مجلة عالم الفكر.[13]