الحرية شرط التقدم الحضاري
المقــدمــة:
تعاني البلدان الإسلامية، كغيرها من بلدان العالم الثالث من حالة التخلف السياسي المتمثل بقيام الأنظمة الدكتاتورية الشمولية سواء أنظمة الحزب الواحد أو الأنظمة الفردية، التي يرافقها عادة انتهاك شامل لحقوق الإنسان وسحق للحريات السياسية العامة، فضلا عن التخلف الاقتصادي، وتدني مستوى المعيشة، وارتهان اقتصادات هذه البلدان بالدول الرأسمالية الصناعية الكبرى، وهدر الثروات العامة، وارتفاع معدلات المديونيات الخارجية
والتخلف هو العامل الأكثر إعاقة لتبؤ الإنسان موقع الخلافة في الأرض كما أراد له الله.
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) سورة البقرة: 2/30.
والخلافة حركة في اتجاهين متوازيين ومتكاملين: حركة في داخل الإنسان من أجل تنميته والصعود به، لكي يكون متفوقات دائما على الكائنات، فيكون تفوقه هذا سر سيادته عليها، وحركة في الأرض والطبيعة لاستثمارهما واستخراج كنوزهما المودعة فيهما والمسخرة للإنسان الخليفة، فهي (( حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة، وحركة لا تتوقف))[1].
والنمو الحقيقي حسب المفهوم الإسلامي هو أن (( يحقق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعا في الله عز وجل، الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون، فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين ومن الجور الذي لا حد له هي مؤشرات السلوك في مجتمع الخلافة وأهداف الإنسان الخليفة))[2].
أن على الجماعة البشرية التي تتحمل مسؤولية الخلافة، أن توفر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير، كل الشروط الموضوعية وتحقق لها مناخها اللازم وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس ركائز الخلافة كما يحددها الإسلام[3].
وتدور ركائز الخلافة بشكل أساسي حول الإنسان وعلاقاته الاجتماعية، فالإنسان حر ومسؤول، من جهة وتقوم علاقاته الاجتماعية على أساس الأخوة العامة ومنع الاستغلال والتسلط والاستبداد، حيث السيادة العليا لله وحده من جهة ثانية ويتطلب المفهوم الإسلامي للتنمية بناء المحتوى الداخلي للإنسان على أساس القيم والمعايير التي تؤمن بتوحدهـا بالله، كما يتطلب بناء المجتمع الإنساني على أساس هذه القيم والمعايير، ذلك من أجل إيجاد الإنسان الحضاري، الذي يمتلك القدرة والمؤهلات على دخول العملية الحضارية والتنموية بصورة إيجابية وفعالة وإبداعية بما تتضمنه من علاقات اجتماعية بين الإنسان وأخيه الإنسان، من جهة أولى، وعلاقات مادية بين الإنسان والطبيعة من جهة ثانية.
فالإنسان الجاهل أو غير المسلح بالعلم الذي يعينه على فهم الطبيعة، والإنسان الكسول الذي لا يعمل، والإنسان العبد الفاقد لحريته، أي واحد من هؤلاء، فردا كان أو مجتمعا، لا يستطيع أن يكون طرفا فاعلا في البناء الحضاري، وإذا كان الإنسان هو صانع الحضارة والتنمية فإن حريته هي شرط قدرته على إنجاز هذه المهمة، إن الحرية هي شرط التنمية والخروج من التخلف، إنها شرط التقدم الحضاري والاجتماعي.
فإذا كانت الحرية هي شرط البناء الحضاري، فإن غيابها، أي غياب الإنسان الفاعل الإيجابي، يؤدي إلى تقهقر المجتمع وتراكم بوادر تخلفه التي ستبدأ قليلة وغير محسوسة، حتى ينتهي الأمر بها إلى إسقاط المجتمع في براثن التخلف الحضاري العام، إن لحظة غياب الحرية، بأي درجة وبأي مستوى، تؤشر إلى لحظة بدء تكون التخلف وتراكمه، ذلك أن درجة الغياب في الحرية يقابلها درجة في وجود نقيضها وهو الاستبداد، ولا يمكن تصور الإبداع الحضاري في ظل الاستبداد، ذلك للأسباب التالية على الأقل:
أولا: لأن الاستبداد يقدم للمجتمع مثلا عليا، إما محدودة أو تكرارية، وهذه المثل غير قادرة على مد المجتمع بالطاقة الحرارية الكافية لبدء مسيرة البناء الحضاري ومواصلتها، فلا بد أن يرتكس المجتمع في براثن التخلف الحضاري.
ثانيــا:لأن الاستبداد يحول بين الإنسان وبين الإبداع على مختلف المستويات، لأن الحرية من شروط الإبداع، فالمفكرون لا يشعرون بالأمان، ولا يستطيعون أن يعلموا في بلدان فقدت فيها الحرية، والإرهاب يجعل كل بحث عقيما، ويطفئ هذه الشرارة غير الصلبة التي هي الفكر المبدع[4].
ثالثــا: لأن الاستبداد يؤدي إلى تمزيق المجتمع، لأن من طبيعة النظام المستبد أو الفرعوني بالمصطلح القرآني أن يقسم الناس إلى طبقات وفئات بحسب قربهم أو بعدهم من النظام، وبحسب موقفهم منه، وذلك بوصفة جزءا من آلية السيطرة على المجتمع والتحكم فيه.
وأخيــرا: لأن الاستبداد يحمل أبناء المجتمع الرافضين له إلى التفكير بأساليب عنيفة في مواجهته، وهذا يفتح الباب أمام العنف والعمل المسلح لحل المشكلة السياسية المتمثلة بوجود السلطة الإرهابية التي كان لها السبق في استخدام العنف في التعامل مع الناس، ومجتمع يعيش دوامة العنف والتوتر الداخلي بسبب الاستبداد لا يمكنه أن يسلك الطريق المؤدي إلى نهوضه الحضاري
وقد ترسخ مفهوم الحرية لدى المسلمين الأوائل، وهو مفهوم مرادف لمفهوم العبادة المطلقة لله، ذلك أن معنى أن تكون عبدا لله، هو أن تكون حرا إزاء غيره، سواء كان هذا الغير حاكما أم غير حاكم، لقد رسخ الإسلام في أذهان المسلمين أن الناس يولدون أحرارا، وأن هذه الحرية صفة طبيعية في الإنسان، إنها صفة تكوينية وليست منحة مكتسبة بفعل قانون وضعي إن آدم لم يولد عبدا ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا.
وإذا كانت بذرة الاستبداد ومصادرة حرية الإنسان هي بداية الطريق الذي أدى إلى الانحطاط الحضاري في الإسلام، فإن النهوض الحضاري الجديد لا بد أن يبدأ من العودة إلى تحرير الإنسان المسلم من كلا الأغلال والقيود، بناء على صحة القول القائل بأن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وكان صلاح أول هذه الأمة قد تم عبر إرساء مفهوم الحرية، بمعناه الواسع، حين جاء القرآن إلى الناس بمفهوم: (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) سورة الأعراف :7/157.
إن المعركة التاريخية من أجل القضاء على التخلف والنهوض الحضاري الجديد بحاجة بادئ ذ بدء إلى تبلور ( إرادة النهوض ) لدى جماهير الأمة الإسلامية، وهذه الإرادة من عناصر ثلاثة رئيسية هي:
أولا: الوعي بقضية التخلف وأبعادها المختلفة.
ثانيا: الوعي بضرورة القضاء على التخلف.
ثالثا: الوعي بالأساليب والأدوات اللازمة والضرورية للقضاء على التخلف والنهوض الحضاري بمعناه الشامل[5].
لكن النجاح في هذه المعركة مشروط، من بين أمور أخرى، بقدرة المشروع الحضاري على تعبئة الجماهير حوله وحول الأهداف التي يطرحها، ذلك أن المعركة ضد التخلف تقوم بالإنسان ومن أجل الإنسان، والجماهير هي مادة المعركة وأداتها الرئيسية وهدفها الأعلى.
إن الجماهير، أو المواطنين، هم الذين سوف ينفذون استراتيجية النهوض،بإشراف النخب القائدة في المجتمع، وعزوف الجماهير عن هذه المعركة يقود إلى نتيجة واحدة مؤكدة هي فشل مشروع النهوض الحضاري وعدم قدرة عجلته على الدوران.
إن انخراط الجماهير في معركة النهوض يتوقف، بعد تبلور إرادة التغيير عندها، على مدى مشاركتها السياسية العامة التي تجعلها تشعر إنها معنية بالصميم بهذه المعركة، وليست مجرد ( قطيع من الناس ) تأمره النخبة الحاكمة، وما عليه سوى الانقياد والطاعة، كما أن المشاركة السياسية تؤدي إلى تحقيق الاستقرار السياسي في المجتمع، وهذا الاستقرار هو شرط آخر من شروط نجاح المعركة ضد التخلف وانخراط الجماهير فيها، وقد توصلت الخبرة البشرية بعد تجارب طويلة وعناء كثير إلى أن الديمقراطية، وفي القلب منها مسألة الحرية، توفر الآليات المناسبة لتحقيق المشاركة السياسية العام والاستقرار المجتمعي العام، وبهذا المعنى تكون الآليات الديمقراطية من الضرورات الإجرائية في استراتيجية النهوض الحضاري للمجتمعات المتخلفة.
(( فحين نريد أن نختار منهجا أو إطارا عام للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذه هذه الحقيقة أساسا، ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة، وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولا بد حينئذ أن ندخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة))[6].
إن الله خول الجماعة البشرية الحق في أن تحكم نفسها بنفسها وأناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون وإعماره اجتماعيا وطبيعيا، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم، وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة وحق التشريع من مستلزمات الحكم مع ملاحظة أن التخويل الرباني لا يتضمن معنى تخويل الجماعة البشرية الحق في ابتداع تشريعات وأحكام مناقضة لما شرعه الله في القرآن.
والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ من دون إدراك الكائن أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.
وتعني الحياة السياسية السلمية شعور كل مواطن أنه معنى بالعملية السياسية، وأن الدولة إنما تحكمه برضاه، وأنها أداة تنفيذية بيد الإرادة المجتمعية العامة، وهذا يتطلب توفير عوامل الاطمئنان والأمن لدى المواطنين، وعدم الخوف من مواجهة الدولة حين تسيء أو تخطئ، كما يتطلب توفير آليات ومؤسسات مقنعة للمواطن تؤمن مشاركته السليمة في الحياة السياسية العامة، وهذا ما يمكن أن يندرج تحت عنوان ( حقوق الإنسان ).
وهي تعني أيضا أن وصول الحاكم إلى السلطة هو انعكاس لإرادة المحكومين، وليس بالضد من هذه الإرادة ولا تلفيقا لها، كما أن بقاءه في السلطة هو رهن هذه الإرادة، وأن المحكومين ليس لهم فقط حق انتقاد الحاكم، أو المشاركة في فعاليات الحكم واتخاذ قراراته، وإنما لهم الحق في إقالته وإخراجه من السلطة أيضا، وكل ذلك بطريقة سلمية وإنسيابية لا تدخل المجتمع في صراعات عنيفة ولا تقوده إلى انقسامات حادة تؤدي إلى إحداث الخلل في فعالياته العامة، وهذا أيضا يتطلب توفير آليات ومؤسسات يتم في إطارها وبموجبها تحقيق ذلك كله، وهو ما يطلق عليه التداول السلمي للسلطة.
وتعني أيضا ممارسة الحكم من خلال مؤسسات دستورية مستقرة تتميز فيخت شخصية الحاكم بوضوح عن شخصية الدولة، وتكون الوعاء الذي تصب فيه إرادات المحكومين، وتحقق فيها التسويات السياسية بين الفرقاء المتخلفين في المجتمع.
وقد أثمرت الخبرة البشرية الطويلة عن ابتداع مجموعة أسس وآليات ووسائل وصيغ تنظيمية ودستورية لتحقيق هذه المتطلبات، تعارف الكثيرون على تسميتها بالديمقراطية أو الآليات الديمقراطية تبعا للمصطلح ذي الأصل اليوناني.
وفي العصر الحديث أصبح مصطلح الديمقراطية والآليات الديمقراطية من أكثر الكلمات تداولا في الأدب السياسي في العالم في الديمقراطية شأنا إجرائيا
إن الديمقراطية حسب هذا التعريف هي طريقة منح الأفراد القدرة على أن يكونوا حاكمين، طريقة منحهم صلاحية الحكم، وهذه الطريقة هي ( أصوات الناخبين )، فعبر الفوز بهذه الأصوات، يتحول الفرد العادي إلى فرد مخول بالحكم واتخاذ القرار، وحتى يكون لأصوات الناخبين قيمة حقيقة يجب أن تتاح الفرصة للناخب لأن يختار، فلا قيمة للتصويت إذا لم يكن قائما على أساس الاختيار بين عدة بدائل لا وجود للديمقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية[7]، وهذا يحتم وجود متنافسين للفوز بأصوات الناخبين.
وإذن فيمكن أن نتصور العلمية الديمقراطية باعتبارها منافسة بين عدد من الطامحين للوصل إلى السلطة، يؤمنون جميعا بأن تحقيق هذا الهدف مرتبط بالحصول على القدرة على الحكم، ومنبع هذه القدرة محصور بأصوات الناخبين، فلا القدرة العسكرية التي تتيح لفرد ما أن يستولي على الحكم، ولا الوراثة وولاية العهد، ولا أي من الطرق المتصورة أو غير المتصورة خارج إطار أصوات الناخبين تعتبر وسائل ديمقراطية للوصول بالحكم والإمساك بالسلطة.
وهذا إقرار بأن السلطة، سلطة الحكم واتخاذ القرار، هي في الأساس حق للناخبين وهو حق إلهي من وجهة النظر الإسلامية وفقا لنظرية الاستخلاف فالناس هم الذين يؤمرون من يتولى أمرهم، لبداهة أنهم لا يستطيعون جميعا أن يتولوا الأمر في وقت واحد، فكان لا بد من إيكال الأمر إلى عدد صغيرة وتخويلهم صلاحيات التقرير والحكم، وهذا يتم من خلال الانتخابات، وحتى يكون للتصويت قيمة يجب أن يتمتع الفرد بالحرية، والأمان، ومن هنا ارتبطت منظومة حقوق الإنسان بالعملية الديمقراطية، كما يجب أن يتمتع المرشحون بالقدرة على الترويج لأنفسهم وللبرامج التي ينوون تنفيذها إذا خولهم الناس صلاحية حكمهم، وهذا يحتم إطلاق حرية العمل السياسي لكل الطامحين بالوصول إلى الحكم، وموقع اتخاذ القرار الطريق الديمقراطية، وهذا يعني قبول التعددية الحزبية أيضا.
الديمقراطية مجموعة وسائل لإقامة السلطة ووضعها تحت طائلة المسؤولية، وذلك في مقابل الوسائل الأخرى المعتمدة في الأنظمة السياسية التي تمكن الأفراد من أن يصبحوا حكاما عن طريق الولادة أو الثروة أو الإكراه.
الدولة المعاصرة هي ديمقراطية بقدر ما يتم اختيار صناع القرار فيها من خلال انتخابات حرة ونزيهة وعادلة: يستطيع فيها المرشحون أن يتنافسوا بحرية ويتمتع فيها كل البالغين بحق التصويت، وطبقا للتعريف الإجرائي للديمقراطية فإن الانتخابات هي جوهر الديمقراطية، ومن هذا المفهوم تتفرع الخصائص الأخرى للديمقراطية: مثل حرية التعبير والتجمع والصحافة والنقد بلا خوف.
الحق الذي يملكه كل المواطنين في الانتخاب، وفي المشاركة في الحياة السياسية، والبلد الديمقراطي هو الذي يمنح الشعب حق اختيار حكومته بوساطة انتخابات دورية على أساس التعددية الحزبية وبالاقتراع السري، وذلك على أساس الاقتراع العام المساواة في ذلك بين جميع أفراد المجتمع.
أولا: التعدد التنظيمي المفتوح أي حرية تشكيل الأحزاب والمنظمات والجمعيات السياسية دون قيود، وهذه هي الآلية المتعلقة بالنظام الحزبي.
ثانيا: تداول السلطة السياسية من خلال انتخابات حرة تنافسية تتيح إمكانية انتقال السلطة وفقا لنتائجها، وهذه هي الآلية المتعلقة بالنظام السياسي.
ثالثا: منظومة الحقوق والحريات العامة التي أصبح توافرها مقياسا لاحترام حقوق الإنسان، وهذه هي الآلية المتعلقة بالنظام القانوني[8].
أما منظومة الحقوق والحريات العامة:التي أصبح توفرها مقياسا لمدى احترام حقوق الإنسان في المجتمع، فهي من اليديهيات في الفكر الإسلامي، بل إن للإسلام فضل السبق في إبراز حقوق الإنسان، وفي الدعوة إلى صيانتها وحفظها، والإسلام يثبت جملة من الحقوق التي تتكفل لو احترمت بإقامة حياة سياسية ومدنية سليمة في المجتمع الإنساني.
إن الديمقراطية المعاصرة منهج وليست عقيدة، هي ممارسة دستورية.
فهي منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها وهي ضروري يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي، وتمكن المجتمع بالتالي من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية، وتصل الديمقراطية إلى ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستور يراعي الشروط التي تتراضي عليها القوى الفاعلة في المجتمع وتؤسس عليها الجماعة السياسية إجماعا كافيا.
إن نظام الحكم الديمقراطي نظام تحكمه إجراءات تعبر عن التزامه بعدد من المبادئ الديمقراطية التي تنبثق عنها مؤسسات دستورية، تضمن مشاركة أفراد الجماعة الديمقراطية في اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة.. أما مضمون هذه القرارات الديمقراطية نفسها فإنه أمر يتوقف على اختيار متخذي القرار الديمقراطي في ضوء الثابت من عقائدهم، والذي تنص عليه الدساتير في ظل الشرائع التي يلتزم بها المجتمع المعنى، والقيم الدينية والإنسانية التي يجلها أفراده ويسعون إلى تجسيدها في نظامه الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي...
أن مفهوم الديمقراطية المعاصرة يؤكد على صفة المنهج، ويبعد الديمقراطية عن شبهة العقيدة، التي يستنتجها البعض من ملاحظة نتائج الممارسة الديمقراطية في مجتمع يحمل أفراده في الأصل معتقدات أثرت في تفضيلاتهم، وأدت إلى توجيه إختياراتهم عند إتخاذ القرارات الديمقراطية.
إن الديمقراطية المعاصرة ((لا تدعي أنها تشريع بديلة من غيرها من الشرائع، ولا هي تطمع أن تكون عقيدة منافسة لغيرها من العقائد السياسية الشاملة)).
إنما هي اجراءت: (( إن الممارسة الديمقارطية يمكن تقييدها دستوريا، بالشرائع التي يدين بها المجتمع ويالقيم التي يجلها)) وأما الدستور الديمقراطي فيجب أن ((يراعي الواقع ويأخذ في الاعتبار الضروريات التي يتطلبها تراضي الجماعة السياسية على دستور ديمقراطي، فلكل مجتمع ظروفه الخاصة وأصوله الثقافية)) وعليه فالديمقراطية ((ليست منفلتة من عقالها، يمارس الشعب فيها سلطات مطلقة لا تضبطها شريعة إلهية ولا تحد من غلوائها قيم إنسانية، وإنما يمارس الشعب فيها سلطاته بموجب دستور تقيده ثوابت المجتمع وتضبطه مبادئ الديمقراطية ومؤسساتها)).
أن الديمقراطية عملية وليست برنامجا إن الديمقراطية لا تتدخل بنوعية التشريعات التي تصدر باسمها، لأن العامل الحقيقي هم الناس الذين بمارسون الديمقراطية وجوب التفريق بين النظام الديمقراطي الذي يمثل الإطار للحكم دون أن يمثل التزاما بفكر معين، لأن الأكثرية هي التي تحدد الصورة في داخل الإطار وتمنحها شرعيتها وبين النظام الملتزم كالنظام الإسلامي.
إذا الخلاصة الديمقراطية هي مجموعة من القواعد الأساسية التي تحدد من هول المخول حق اتخاذ القرارات الجماعية ووفقا لأية إجراءات.
إن النظام المعين إنما يتصف بالمزيد من الديمقراطية كلما ازداد عدد الأشخاص الذين يشاركون بصورة مباشرة أو غير مباشرة باتخاذ القرار.
إن ما هو جوهري في الديمقراطية يتمثل في وعي الجميع بكونهم مواطنين مسؤولين عن الشأن المجتمعي العام.
إن العمل الديمقراطي هو العمل على تحرير الإفراد والجماعات الذين يتحكم بهم بمنطق السلطة، بحيث يكون لديهم القدرة على التصرف بحرية، وعلى النقاش مع الذين يقبضون على زمام الموارد الاقتصادية والسياسية والثقافية من باب التساوي معهم في الحقوق والضمانات.
إن الثقافة الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ ما لم يكن هناك فهم وإدراك للمجتمع السياسي بما هو تركيبه مؤسساتية، وترمي بالدرجة الأولى إلى التوفيق بين حرية الأفراد والجمــاعات وبين وحدة النشاط الاقتصادي والقواعد القانونية أن الديمقراطية تقوم على اعتراف مؤسسات المجتمعية بالحرية الفردية والجماعية لا قبل لها بالوجود ما لم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن العدد الأكبر قادرا على المشاركة في إيجاد المؤسسات المجتمعية وفي تغييرها[9].
مكونا الديمقراطية، وهي: احترام الحقوق الأساسية، والمواطنية، والصفة التمثيلية للحكام، والارتباط المتبادل بين هذه المكونات هو الذي يكون الديمقراطية[10].
((الديمقراطية تعني أن الحكومة من الشعب، وفي خدمته، ومسؤولة أمام الناس وتجاههم، وهذا يستلزم حرية التفكير والاعتقاد، وحرية التعبير وحرية الاجتماع، وغير ذلــك من النشاطات)).
((الحرية السياسية تعني أن الناس هم مصدر شرعية الحكومة، وأن لهؤلاء الناس الحكم النهائي لها وعليها، بكلمة أخرى، إن الناس هم أساس الحكومة وفيهم تضرب جذورها وأن بيدهم مصيرها أيضا)).
((إن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لاستقرار النظام السياسي فإن على من يرفض الديمقراطية أن يأتي ببديل لها)).
وإذا كانت الديمقراطية ( آلية ) فهي إذن ليست معروضة في مقابل الإسلام، وإنما في مقابل الدكتاتورية، فنحن لسنا أمام خيارين: إما الإسلام أو الديمقراطية، إنما بين الديمقراطية أو الديكتاتورية، (( إنها الديمقراطية ! وإذا لم نحترم ونرغب في هذا السبيل، فلن يكون أمامنا سوى التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط ... ما من طريق ثالث البتة، والذين يرفضون الديمقراطية سبيلا فإنهم يدعون إلى الدكتاتورية والقهر))، و ((لا أحسب أن عاقلا ينصحنا بترك الديمقراطية للبحث عن بديل آخر)).
وثمة علاقة طردية بين حجم الديمقراطية وحجم الحرية، فلا يمكن أن توجد الديمقراطية دون أن توجد الحرية.
والحرية مشروطة بتحطيم أغلال الجهل والجوع والخوف.
شرط الكفاف، حيث (( لا يستطيع إنسان أن يمارس حقوقه بصفته مواطنا، دون الحصول على حد أدنى من الكفاف، ودون حد أدنى أيضا من إتاحة الفرص للارتياح النفسي والراحة الجسدية))[11].
(( تعليم المواطنين وإعلامهم بصورة كافية)).
(( حرية التعبير والتمكين من الحوار والاختيار في تكوين الرأي ونشره والدفاع عنه))[12].
عن ممكنات تحقيق الانسجام والتكامل بين الإسلام خيارا حضاريا والآليات الديموقراطية خيارا إجرائيا.
لا يوجد في الإسلام سلطة دينية خاصة، ولا سلطة روحية خاصة، وفي الدولة الإسلامية لا سلطة إلا لسلطة الدولة، وهي سلطة مدنية بشرية، وليست سلطة دينية ولا إلهية، وهذا أمر استقر عليه وعي المسلمين منذ عصور الإسلام الأولى، حتى محاولات بعض الخلفاء امتلاك سلطة دينية لم تنجح، ولم يشهد التاريخ الإسلامي توترا بين الدين والدولة رغم كل التوترات التي شهدها بين لدولة والمجتمع لكن مشكلة العلمانيين العرب أنهم لا يعرفون التاريخ العربي الإسلامي أو أنهم بقرؤونه بعيون أوربية، واليوم يقر كل مفكري الحركة الإسلامية بأن الدولة الإسلامية دولة بشرية رغم أنها تطبق الشريعة الإسلامية، وأن الحاكم يستند إلى سلطان بشري، هو سلطان الأمة، رغم أنه مكلف من بين جملة أمور أخرى، بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
المعنى المفترض الثاني، منع رجال الدين ـ أو علماء الدين بالأصح ـ من التدخل في السياسة.
هنا لا بد من التساؤل انطلاقا من مفهومات الديمقراطية: بأي حق يمنع مواطن من دخول المعترك السياسي لا لشيء سوى لنوعية دراسته واختصاصه العلمي؟ أليس رجال الدين مواطنين، فلماذا يسمح للأطباء وأساتذة الجامعة بالتدخل في شؤون السياسة، ولا يسمع للمواطن الذي تخصص في دراسة علوم الشريعة الإسلامية، أن يبدي رأيه في شؤون بلده ومجتمعه؟ بل لماذا تسمح العلمانية لضباط الجيش بالتدخل في شؤون الدولة والاستيلاء عليها؟ لما لا يدعو العلمانيون إلى فصل الجيش عن السياسة؟ أليس هذا أولى؟
إن الفقهاء المسلمين لم يدعوا لأنفسهم سلطة دينية خاصة، نعم كانوا يعبرون عن رأيهم في شؤون الدولة والمجتمع، وما زالوا يفعلون ذلك بوصفهم مواطنين في المجتمع، فعل هذا الأئمة أبو حنيفة وابن حنبل وجعفر الصادق وغيرهم في الماضي، وفعله الإمام الخميني في إيران والإمام موسى الصدر في لبنان، والإمام محمد باقر الصدر في العراق، فهل نقول: إن قيامهم بهذا أمر مخل بالديمقراطية؟ لقد طالب الإمام الصدر في العراق مثلا، وهو عالم الدين المتخصص، النظام العلماني بإطلاق الحريات العامة وإجراء انتخابات عامة، أي طالب بالديمقراطية، فكان جزاؤه أن أعدمه النظام العلماني!.
ثالثا: منع المواطنين من التدخل في السياسة على أساس معتقداتهم الإسلامية، وهذا أمر يناقض الديمقراطية في الصميم، من حيث تأكيدها على حرية الفرد اختيرا أفكاره، ليس في الديمقراطية ما يحدد طبيعة الأفكار التي يحق للفرد أن يؤمن بها، أو أن يحدد موقفه من المجتمع والدولة على أساسها، إن جوهر الديمقراطية هو إعداد الذات الفاعلة، وهذا يقوم بمعزل عن التحديد المسبق، على المستوى الديني وغير الديني.
هل في الديمقراطية ما يمنعني أن المسلم أن أدلي برأيي في الشؤون الاقتصادية لبلادي من وجهة النظر الإسلامية، إنني أتبني المفاهيم الإسلامية في الاقتصاد مثل تعدد أشكال الملكية، والحرية والاقتصادية في نطاق محدد، والعدالة الاجتماعية، على أنها أسس ثلاثة للاقتصاد في مجتمع المسلمين، فإذا جاءت الدولة وتبنت اقتصاد السوق فلا يحق لي طبقا لمبادئ العلمانيين أن أعارض هذه الدولة على أساس هذه الرؤية الإسلامية؛ لأنها ترفض تدخل الدين في شؤون الدولة؟
رابعا: نزع القدسية عن الدولة وإلغاء مبدأ التفويض الإلهي للحكام، وإذا صح هذا المفهوم للعلمانية فهي على وفاق مع الإسلام فيه، لأن الإسلام لا يعترف بأية قدسية للدولة أو الحاكم حتى لو كان رسو الله بوصفة حاكما، وإذا كان الأمر كذلك فنحن لسنا بحاجة إلى القول بشرطية العلمانية للديمقراطية وإنما يكفي أن نقرر مبدأ بشرية الدولة لا قدسيتها، من أجل أن نقيم دولة ديمقراطية.
-------------------------------------------
[1] الإمام الصدر ، الإسلام يقود الحياة 130.
[2] الإمام الصدر ، الإسلام يقود الحياة 139.
[3] المصدر السابق 130 .
[4] موريس دوفرجيه ، في الدكتاتورية، ترجمة هشام تولي، منشورات عويدات، بيروت ط 3، 1989، 156.
[5] د . عمرو محيي الدين، التخلف والتنمية 130ـ 131.
[6] الإمام الصدر، اقتصادنا 13.
[7] ألان تورين، ما هي الديمقراطية؟ 13.
[8] وحيد عبد المجيد ، مصدر سابق 82، 83.
[9] المصدر السابق 13ـ 31.
[10] المصدر السابق 40.
[11] بوتول 175.
[12] بوتول 177.
.ينابيع
المقــدمــة:
تعاني البلدان الإسلامية، كغيرها من بلدان العالم الثالث من حالة التخلف السياسي المتمثل بقيام الأنظمة الدكتاتورية الشمولية سواء أنظمة الحزب الواحد أو الأنظمة الفردية، التي يرافقها عادة انتهاك شامل لحقوق الإنسان وسحق للحريات السياسية العامة، فضلا عن التخلف الاقتصادي، وتدني مستوى المعيشة، وارتهان اقتصادات هذه البلدان بالدول الرأسمالية الصناعية الكبرى، وهدر الثروات العامة، وارتفاع معدلات المديونيات الخارجية
والتخلف هو العامل الأكثر إعاقة لتبؤ الإنسان موقع الخلافة في الأرض كما أراد له الله.
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) سورة البقرة: 2/30.
والخلافة حركة في اتجاهين متوازيين ومتكاملين: حركة في داخل الإنسان من أجل تنميته والصعود به، لكي يكون متفوقات دائما على الكائنات، فيكون تفوقه هذا سر سيادته عليها، وحركة في الأرض والطبيعة لاستثمارهما واستخراج كنوزهما المودعة فيهما والمسخرة للإنسان الخليفة، فهي (( حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة، وحركة لا تتوقف))[1].
والنمو الحقيقي حسب المفهوم الإسلامي هو أن (( يحقق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعا في الله عز وجل، الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون، فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين ومن الجور الذي لا حد له هي مؤشرات السلوك في مجتمع الخلافة وأهداف الإنسان الخليفة))[2].
أن على الجماعة البشرية التي تتحمل مسؤولية الخلافة، أن توفر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير، كل الشروط الموضوعية وتحقق لها مناخها اللازم وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس ركائز الخلافة كما يحددها الإسلام[3].
وتدور ركائز الخلافة بشكل أساسي حول الإنسان وعلاقاته الاجتماعية، فالإنسان حر ومسؤول، من جهة وتقوم علاقاته الاجتماعية على أساس الأخوة العامة ومنع الاستغلال والتسلط والاستبداد، حيث السيادة العليا لله وحده من جهة ثانية ويتطلب المفهوم الإسلامي للتنمية بناء المحتوى الداخلي للإنسان على أساس القيم والمعايير التي تؤمن بتوحدهـا بالله، كما يتطلب بناء المجتمع الإنساني على أساس هذه القيم والمعايير، ذلك من أجل إيجاد الإنسان الحضاري، الذي يمتلك القدرة والمؤهلات على دخول العملية الحضارية والتنموية بصورة إيجابية وفعالة وإبداعية بما تتضمنه من علاقات اجتماعية بين الإنسان وأخيه الإنسان، من جهة أولى، وعلاقات مادية بين الإنسان والطبيعة من جهة ثانية.
فالإنسان الجاهل أو غير المسلح بالعلم الذي يعينه على فهم الطبيعة، والإنسان الكسول الذي لا يعمل، والإنسان العبد الفاقد لحريته، أي واحد من هؤلاء، فردا كان أو مجتمعا، لا يستطيع أن يكون طرفا فاعلا في البناء الحضاري، وإذا كان الإنسان هو صانع الحضارة والتنمية فإن حريته هي شرط قدرته على إنجاز هذه المهمة، إن الحرية هي شرط التنمية والخروج من التخلف، إنها شرط التقدم الحضاري والاجتماعي.
فإذا كانت الحرية هي شرط البناء الحضاري، فإن غيابها، أي غياب الإنسان الفاعل الإيجابي، يؤدي إلى تقهقر المجتمع وتراكم بوادر تخلفه التي ستبدأ قليلة وغير محسوسة، حتى ينتهي الأمر بها إلى إسقاط المجتمع في براثن التخلف الحضاري العام، إن لحظة غياب الحرية، بأي درجة وبأي مستوى، تؤشر إلى لحظة بدء تكون التخلف وتراكمه، ذلك أن درجة الغياب في الحرية يقابلها درجة في وجود نقيضها وهو الاستبداد، ولا يمكن تصور الإبداع الحضاري في ظل الاستبداد، ذلك للأسباب التالية على الأقل:
أولا: لأن الاستبداد يقدم للمجتمع مثلا عليا، إما محدودة أو تكرارية، وهذه المثل غير قادرة على مد المجتمع بالطاقة الحرارية الكافية لبدء مسيرة البناء الحضاري ومواصلتها، فلا بد أن يرتكس المجتمع في براثن التخلف الحضاري.
ثانيــا:لأن الاستبداد يحول بين الإنسان وبين الإبداع على مختلف المستويات، لأن الحرية من شروط الإبداع، فالمفكرون لا يشعرون بالأمان، ولا يستطيعون أن يعلموا في بلدان فقدت فيها الحرية، والإرهاب يجعل كل بحث عقيما، ويطفئ هذه الشرارة غير الصلبة التي هي الفكر المبدع[4].
ثالثــا: لأن الاستبداد يؤدي إلى تمزيق المجتمع، لأن من طبيعة النظام المستبد أو الفرعوني بالمصطلح القرآني أن يقسم الناس إلى طبقات وفئات بحسب قربهم أو بعدهم من النظام، وبحسب موقفهم منه، وذلك بوصفة جزءا من آلية السيطرة على المجتمع والتحكم فيه.
وأخيــرا: لأن الاستبداد يحمل أبناء المجتمع الرافضين له إلى التفكير بأساليب عنيفة في مواجهته، وهذا يفتح الباب أمام العنف والعمل المسلح لحل المشكلة السياسية المتمثلة بوجود السلطة الإرهابية التي كان لها السبق في استخدام العنف في التعامل مع الناس، ومجتمع يعيش دوامة العنف والتوتر الداخلي بسبب الاستبداد لا يمكنه أن يسلك الطريق المؤدي إلى نهوضه الحضاري
وقد ترسخ مفهوم الحرية لدى المسلمين الأوائل، وهو مفهوم مرادف لمفهوم العبادة المطلقة لله، ذلك أن معنى أن تكون عبدا لله، هو أن تكون حرا إزاء غيره، سواء كان هذا الغير حاكما أم غير حاكم، لقد رسخ الإسلام في أذهان المسلمين أن الناس يولدون أحرارا، وأن هذه الحرية صفة طبيعية في الإنسان، إنها صفة تكوينية وليست منحة مكتسبة بفعل قانون وضعي إن آدم لم يولد عبدا ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا.
وإذا كانت بذرة الاستبداد ومصادرة حرية الإنسان هي بداية الطريق الذي أدى إلى الانحطاط الحضاري في الإسلام، فإن النهوض الحضاري الجديد لا بد أن يبدأ من العودة إلى تحرير الإنسان المسلم من كلا الأغلال والقيود، بناء على صحة القول القائل بأن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وكان صلاح أول هذه الأمة قد تم عبر إرساء مفهوم الحرية، بمعناه الواسع، حين جاء القرآن إلى الناس بمفهوم: (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) سورة الأعراف :7/157.
إن المعركة التاريخية من أجل القضاء على التخلف والنهوض الحضاري الجديد بحاجة بادئ ذ بدء إلى تبلور ( إرادة النهوض ) لدى جماهير الأمة الإسلامية، وهذه الإرادة من عناصر ثلاثة رئيسية هي:
أولا: الوعي بقضية التخلف وأبعادها المختلفة.
ثانيا: الوعي بضرورة القضاء على التخلف.
ثالثا: الوعي بالأساليب والأدوات اللازمة والضرورية للقضاء على التخلف والنهوض الحضاري بمعناه الشامل[5].
لكن النجاح في هذه المعركة مشروط، من بين أمور أخرى، بقدرة المشروع الحضاري على تعبئة الجماهير حوله وحول الأهداف التي يطرحها، ذلك أن المعركة ضد التخلف تقوم بالإنسان ومن أجل الإنسان، والجماهير هي مادة المعركة وأداتها الرئيسية وهدفها الأعلى.
إن الجماهير، أو المواطنين، هم الذين سوف ينفذون استراتيجية النهوض،بإشراف النخب القائدة في المجتمع، وعزوف الجماهير عن هذه المعركة يقود إلى نتيجة واحدة مؤكدة هي فشل مشروع النهوض الحضاري وعدم قدرة عجلته على الدوران.
إن انخراط الجماهير في معركة النهوض يتوقف، بعد تبلور إرادة التغيير عندها، على مدى مشاركتها السياسية العامة التي تجعلها تشعر إنها معنية بالصميم بهذه المعركة، وليست مجرد ( قطيع من الناس ) تأمره النخبة الحاكمة، وما عليه سوى الانقياد والطاعة، كما أن المشاركة السياسية تؤدي إلى تحقيق الاستقرار السياسي في المجتمع، وهذا الاستقرار هو شرط آخر من شروط نجاح المعركة ضد التخلف وانخراط الجماهير فيها، وقد توصلت الخبرة البشرية بعد تجارب طويلة وعناء كثير إلى أن الديمقراطية، وفي القلب منها مسألة الحرية، توفر الآليات المناسبة لتحقيق المشاركة السياسية العام والاستقرار المجتمعي العام، وبهذا المعنى تكون الآليات الديمقراطية من الضرورات الإجرائية في استراتيجية النهوض الحضاري للمجتمعات المتخلفة.
(( فحين نريد أن نختار منهجا أو إطارا عام للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذه هذه الحقيقة أساسا، ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة، وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولا بد حينئذ أن ندخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة))[6].
إن الله خول الجماعة البشرية الحق في أن تحكم نفسها بنفسها وأناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون وإعماره اجتماعيا وطبيعيا، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم، وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة وحق التشريع من مستلزمات الحكم مع ملاحظة أن التخويل الرباني لا يتضمن معنى تخويل الجماعة البشرية الحق في ابتداع تشريعات وأحكام مناقضة لما شرعه الله في القرآن.
والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ من دون إدراك الكائن أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.
وتعني الحياة السياسية السلمية شعور كل مواطن أنه معنى بالعملية السياسية، وأن الدولة إنما تحكمه برضاه، وأنها أداة تنفيذية بيد الإرادة المجتمعية العامة، وهذا يتطلب توفير عوامل الاطمئنان والأمن لدى المواطنين، وعدم الخوف من مواجهة الدولة حين تسيء أو تخطئ، كما يتطلب توفير آليات ومؤسسات مقنعة للمواطن تؤمن مشاركته السليمة في الحياة السياسية العامة، وهذا ما يمكن أن يندرج تحت عنوان ( حقوق الإنسان ).
وهي تعني أيضا أن وصول الحاكم إلى السلطة هو انعكاس لإرادة المحكومين، وليس بالضد من هذه الإرادة ولا تلفيقا لها، كما أن بقاءه في السلطة هو رهن هذه الإرادة، وأن المحكومين ليس لهم فقط حق انتقاد الحاكم، أو المشاركة في فعاليات الحكم واتخاذ قراراته، وإنما لهم الحق في إقالته وإخراجه من السلطة أيضا، وكل ذلك بطريقة سلمية وإنسيابية لا تدخل المجتمع في صراعات عنيفة ولا تقوده إلى انقسامات حادة تؤدي إلى إحداث الخلل في فعالياته العامة، وهذا أيضا يتطلب توفير آليات ومؤسسات يتم في إطارها وبموجبها تحقيق ذلك كله، وهو ما يطلق عليه التداول السلمي للسلطة.
وتعني أيضا ممارسة الحكم من خلال مؤسسات دستورية مستقرة تتميز فيخت شخصية الحاكم بوضوح عن شخصية الدولة، وتكون الوعاء الذي تصب فيه إرادات المحكومين، وتحقق فيها التسويات السياسية بين الفرقاء المتخلفين في المجتمع.
وقد أثمرت الخبرة البشرية الطويلة عن ابتداع مجموعة أسس وآليات ووسائل وصيغ تنظيمية ودستورية لتحقيق هذه المتطلبات، تعارف الكثيرون على تسميتها بالديمقراطية أو الآليات الديمقراطية تبعا للمصطلح ذي الأصل اليوناني.
وفي العصر الحديث أصبح مصطلح الديمقراطية والآليات الديمقراطية من أكثر الكلمات تداولا في الأدب السياسي في العالم في الديمقراطية شأنا إجرائيا
إن الديمقراطية حسب هذا التعريف هي طريقة منح الأفراد القدرة على أن يكونوا حاكمين، طريقة منحهم صلاحية الحكم، وهذه الطريقة هي ( أصوات الناخبين )، فعبر الفوز بهذه الأصوات، يتحول الفرد العادي إلى فرد مخول بالحكم واتخاذ القرار، وحتى يكون لأصوات الناخبين قيمة حقيقة يجب أن تتاح الفرصة للناخب لأن يختار، فلا قيمة للتصويت إذا لم يكن قائما على أساس الاختيار بين عدة بدائل لا وجود للديمقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية[7]، وهذا يحتم وجود متنافسين للفوز بأصوات الناخبين.
وإذن فيمكن أن نتصور العلمية الديمقراطية باعتبارها منافسة بين عدد من الطامحين للوصل إلى السلطة، يؤمنون جميعا بأن تحقيق هذا الهدف مرتبط بالحصول على القدرة على الحكم، ومنبع هذه القدرة محصور بأصوات الناخبين، فلا القدرة العسكرية التي تتيح لفرد ما أن يستولي على الحكم، ولا الوراثة وولاية العهد، ولا أي من الطرق المتصورة أو غير المتصورة خارج إطار أصوات الناخبين تعتبر وسائل ديمقراطية للوصول بالحكم والإمساك بالسلطة.
وهذا إقرار بأن السلطة، سلطة الحكم واتخاذ القرار، هي في الأساس حق للناخبين وهو حق إلهي من وجهة النظر الإسلامية وفقا لنظرية الاستخلاف فالناس هم الذين يؤمرون من يتولى أمرهم، لبداهة أنهم لا يستطيعون جميعا أن يتولوا الأمر في وقت واحد، فكان لا بد من إيكال الأمر إلى عدد صغيرة وتخويلهم صلاحيات التقرير والحكم، وهذا يتم من خلال الانتخابات، وحتى يكون للتصويت قيمة يجب أن يتمتع الفرد بالحرية، والأمان، ومن هنا ارتبطت منظومة حقوق الإنسان بالعملية الديمقراطية، كما يجب أن يتمتع المرشحون بالقدرة على الترويج لأنفسهم وللبرامج التي ينوون تنفيذها إذا خولهم الناس صلاحية حكمهم، وهذا يحتم إطلاق حرية العمل السياسي لكل الطامحين بالوصول إلى الحكم، وموقع اتخاذ القرار الطريق الديمقراطية، وهذا يعني قبول التعددية الحزبية أيضا.
الديمقراطية مجموعة وسائل لإقامة السلطة ووضعها تحت طائلة المسؤولية، وذلك في مقابل الوسائل الأخرى المعتمدة في الأنظمة السياسية التي تمكن الأفراد من أن يصبحوا حكاما عن طريق الولادة أو الثروة أو الإكراه.
الدولة المعاصرة هي ديمقراطية بقدر ما يتم اختيار صناع القرار فيها من خلال انتخابات حرة ونزيهة وعادلة: يستطيع فيها المرشحون أن يتنافسوا بحرية ويتمتع فيها كل البالغين بحق التصويت، وطبقا للتعريف الإجرائي للديمقراطية فإن الانتخابات هي جوهر الديمقراطية، ومن هذا المفهوم تتفرع الخصائص الأخرى للديمقراطية: مثل حرية التعبير والتجمع والصحافة والنقد بلا خوف.
الحق الذي يملكه كل المواطنين في الانتخاب، وفي المشاركة في الحياة السياسية، والبلد الديمقراطي هو الذي يمنح الشعب حق اختيار حكومته بوساطة انتخابات دورية على أساس التعددية الحزبية وبالاقتراع السري، وذلك على أساس الاقتراع العام المساواة في ذلك بين جميع أفراد المجتمع.
أولا: التعدد التنظيمي المفتوح أي حرية تشكيل الأحزاب والمنظمات والجمعيات السياسية دون قيود، وهذه هي الآلية المتعلقة بالنظام الحزبي.
ثانيا: تداول السلطة السياسية من خلال انتخابات حرة تنافسية تتيح إمكانية انتقال السلطة وفقا لنتائجها، وهذه هي الآلية المتعلقة بالنظام السياسي.
ثالثا: منظومة الحقوق والحريات العامة التي أصبح توافرها مقياسا لاحترام حقوق الإنسان، وهذه هي الآلية المتعلقة بالنظام القانوني[8].
أما منظومة الحقوق والحريات العامة:التي أصبح توفرها مقياسا لمدى احترام حقوق الإنسان في المجتمع، فهي من اليديهيات في الفكر الإسلامي، بل إن للإسلام فضل السبق في إبراز حقوق الإنسان، وفي الدعوة إلى صيانتها وحفظها، والإسلام يثبت جملة من الحقوق التي تتكفل لو احترمت بإقامة حياة سياسية ومدنية سليمة في المجتمع الإنساني.
إن الديمقراطية المعاصرة منهج وليست عقيدة، هي ممارسة دستورية.
فهي منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها وهي ضروري يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي، وتمكن المجتمع بالتالي من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية، وتصل الديمقراطية إلى ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستور يراعي الشروط التي تتراضي عليها القوى الفاعلة في المجتمع وتؤسس عليها الجماعة السياسية إجماعا كافيا.
إن نظام الحكم الديمقراطي نظام تحكمه إجراءات تعبر عن التزامه بعدد من المبادئ الديمقراطية التي تنبثق عنها مؤسسات دستورية، تضمن مشاركة أفراد الجماعة الديمقراطية في اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة.. أما مضمون هذه القرارات الديمقراطية نفسها فإنه أمر يتوقف على اختيار متخذي القرار الديمقراطي في ضوء الثابت من عقائدهم، والذي تنص عليه الدساتير في ظل الشرائع التي يلتزم بها المجتمع المعنى، والقيم الدينية والإنسانية التي يجلها أفراده ويسعون إلى تجسيدها في نظامه الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي...
أن مفهوم الديمقراطية المعاصرة يؤكد على صفة المنهج، ويبعد الديمقراطية عن شبهة العقيدة، التي يستنتجها البعض من ملاحظة نتائج الممارسة الديمقراطية في مجتمع يحمل أفراده في الأصل معتقدات أثرت في تفضيلاتهم، وأدت إلى توجيه إختياراتهم عند إتخاذ القرارات الديمقراطية.
إن الديمقراطية المعاصرة ((لا تدعي أنها تشريع بديلة من غيرها من الشرائع، ولا هي تطمع أن تكون عقيدة منافسة لغيرها من العقائد السياسية الشاملة)).
إنما هي اجراءت: (( إن الممارسة الديمقارطية يمكن تقييدها دستوريا، بالشرائع التي يدين بها المجتمع ويالقيم التي يجلها)) وأما الدستور الديمقراطي فيجب أن ((يراعي الواقع ويأخذ في الاعتبار الضروريات التي يتطلبها تراضي الجماعة السياسية على دستور ديمقراطي، فلكل مجتمع ظروفه الخاصة وأصوله الثقافية)) وعليه فالديمقراطية ((ليست منفلتة من عقالها، يمارس الشعب فيها سلطات مطلقة لا تضبطها شريعة إلهية ولا تحد من غلوائها قيم إنسانية، وإنما يمارس الشعب فيها سلطاته بموجب دستور تقيده ثوابت المجتمع وتضبطه مبادئ الديمقراطية ومؤسساتها)).
أن الديمقراطية عملية وليست برنامجا إن الديمقراطية لا تتدخل بنوعية التشريعات التي تصدر باسمها، لأن العامل الحقيقي هم الناس الذين بمارسون الديمقراطية وجوب التفريق بين النظام الديمقراطي الذي يمثل الإطار للحكم دون أن يمثل التزاما بفكر معين، لأن الأكثرية هي التي تحدد الصورة في داخل الإطار وتمنحها شرعيتها وبين النظام الملتزم كالنظام الإسلامي.
إذا الخلاصة الديمقراطية هي مجموعة من القواعد الأساسية التي تحدد من هول المخول حق اتخاذ القرارات الجماعية ووفقا لأية إجراءات.
إن النظام المعين إنما يتصف بالمزيد من الديمقراطية كلما ازداد عدد الأشخاص الذين يشاركون بصورة مباشرة أو غير مباشرة باتخاذ القرار.
إن ما هو جوهري في الديمقراطية يتمثل في وعي الجميع بكونهم مواطنين مسؤولين عن الشأن المجتمعي العام.
إن العمل الديمقراطي هو العمل على تحرير الإفراد والجماعات الذين يتحكم بهم بمنطق السلطة، بحيث يكون لديهم القدرة على التصرف بحرية، وعلى النقاش مع الذين يقبضون على زمام الموارد الاقتصادية والسياسية والثقافية من باب التساوي معهم في الحقوق والضمانات.
إن الثقافة الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ ما لم يكن هناك فهم وإدراك للمجتمع السياسي بما هو تركيبه مؤسساتية، وترمي بالدرجة الأولى إلى التوفيق بين حرية الأفراد والجمــاعات وبين وحدة النشاط الاقتصادي والقواعد القانونية أن الديمقراطية تقوم على اعتراف مؤسسات المجتمعية بالحرية الفردية والجماعية لا قبل لها بالوجود ما لم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن العدد الأكبر قادرا على المشاركة في إيجاد المؤسسات المجتمعية وفي تغييرها[9].
مكونا الديمقراطية، وهي: احترام الحقوق الأساسية، والمواطنية، والصفة التمثيلية للحكام، والارتباط المتبادل بين هذه المكونات هو الذي يكون الديمقراطية[10].
((الديمقراطية تعني أن الحكومة من الشعب، وفي خدمته، ومسؤولة أمام الناس وتجاههم، وهذا يستلزم حرية التفكير والاعتقاد، وحرية التعبير وحرية الاجتماع، وغير ذلــك من النشاطات)).
((الحرية السياسية تعني أن الناس هم مصدر شرعية الحكومة، وأن لهؤلاء الناس الحكم النهائي لها وعليها، بكلمة أخرى، إن الناس هم أساس الحكومة وفيهم تضرب جذورها وأن بيدهم مصيرها أيضا)).
((إن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لاستقرار النظام السياسي فإن على من يرفض الديمقراطية أن يأتي ببديل لها)).
وإذا كانت الديمقراطية ( آلية ) فهي إذن ليست معروضة في مقابل الإسلام، وإنما في مقابل الدكتاتورية، فنحن لسنا أمام خيارين: إما الإسلام أو الديمقراطية، إنما بين الديمقراطية أو الديكتاتورية، (( إنها الديمقراطية ! وإذا لم نحترم ونرغب في هذا السبيل، فلن يكون أمامنا سوى التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط ... ما من طريق ثالث البتة، والذين يرفضون الديمقراطية سبيلا فإنهم يدعون إلى الدكتاتورية والقهر))، و ((لا أحسب أن عاقلا ينصحنا بترك الديمقراطية للبحث عن بديل آخر)).
وثمة علاقة طردية بين حجم الديمقراطية وحجم الحرية، فلا يمكن أن توجد الديمقراطية دون أن توجد الحرية.
والحرية مشروطة بتحطيم أغلال الجهل والجوع والخوف.
شرط الكفاف، حيث (( لا يستطيع إنسان أن يمارس حقوقه بصفته مواطنا، دون الحصول على حد أدنى من الكفاف، ودون حد أدنى أيضا من إتاحة الفرص للارتياح النفسي والراحة الجسدية))[11].
(( تعليم المواطنين وإعلامهم بصورة كافية)).
(( حرية التعبير والتمكين من الحوار والاختيار في تكوين الرأي ونشره والدفاع عنه))[12].
عن ممكنات تحقيق الانسجام والتكامل بين الإسلام خيارا حضاريا والآليات الديموقراطية خيارا إجرائيا.
لا يوجد في الإسلام سلطة دينية خاصة، ولا سلطة روحية خاصة، وفي الدولة الإسلامية لا سلطة إلا لسلطة الدولة، وهي سلطة مدنية بشرية، وليست سلطة دينية ولا إلهية، وهذا أمر استقر عليه وعي المسلمين منذ عصور الإسلام الأولى، حتى محاولات بعض الخلفاء امتلاك سلطة دينية لم تنجح، ولم يشهد التاريخ الإسلامي توترا بين الدين والدولة رغم كل التوترات التي شهدها بين لدولة والمجتمع لكن مشكلة العلمانيين العرب أنهم لا يعرفون التاريخ العربي الإسلامي أو أنهم بقرؤونه بعيون أوربية، واليوم يقر كل مفكري الحركة الإسلامية بأن الدولة الإسلامية دولة بشرية رغم أنها تطبق الشريعة الإسلامية، وأن الحاكم يستند إلى سلطان بشري، هو سلطان الأمة، رغم أنه مكلف من بين جملة أمور أخرى، بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
المعنى المفترض الثاني، منع رجال الدين ـ أو علماء الدين بالأصح ـ من التدخل في السياسة.
هنا لا بد من التساؤل انطلاقا من مفهومات الديمقراطية: بأي حق يمنع مواطن من دخول المعترك السياسي لا لشيء سوى لنوعية دراسته واختصاصه العلمي؟ أليس رجال الدين مواطنين، فلماذا يسمح للأطباء وأساتذة الجامعة بالتدخل في شؤون السياسة، ولا يسمع للمواطن الذي تخصص في دراسة علوم الشريعة الإسلامية، أن يبدي رأيه في شؤون بلده ومجتمعه؟ بل لماذا تسمح العلمانية لضباط الجيش بالتدخل في شؤون الدولة والاستيلاء عليها؟ لما لا يدعو العلمانيون إلى فصل الجيش عن السياسة؟ أليس هذا أولى؟
إن الفقهاء المسلمين لم يدعوا لأنفسهم سلطة دينية خاصة، نعم كانوا يعبرون عن رأيهم في شؤون الدولة والمجتمع، وما زالوا يفعلون ذلك بوصفهم مواطنين في المجتمع، فعل هذا الأئمة أبو حنيفة وابن حنبل وجعفر الصادق وغيرهم في الماضي، وفعله الإمام الخميني في إيران والإمام موسى الصدر في لبنان، والإمام محمد باقر الصدر في العراق، فهل نقول: إن قيامهم بهذا أمر مخل بالديمقراطية؟ لقد طالب الإمام الصدر في العراق مثلا، وهو عالم الدين المتخصص، النظام العلماني بإطلاق الحريات العامة وإجراء انتخابات عامة، أي طالب بالديمقراطية، فكان جزاؤه أن أعدمه النظام العلماني!.
ثالثا: منع المواطنين من التدخل في السياسة على أساس معتقداتهم الإسلامية، وهذا أمر يناقض الديمقراطية في الصميم، من حيث تأكيدها على حرية الفرد اختيرا أفكاره، ليس في الديمقراطية ما يحدد طبيعة الأفكار التي يحق للفرد أن يؤمن بها، أو أن يحدد موقفه من المجتمع والدولة على أساسها، إن جوهر الديمقراطية هو إعداد الذات الفاعلة، وهذا يقوم بمعزل عن التحديد المسبق، على المستوى الديني وغير الديني.
هل في الديمقراطية ما يمنعني أن المسلم أن أدلي برأيي في الشؤون الاقتصادية لبلادي من وجهة النظر الإسلامية، إنني أتبني المفاهيم الإسلامية في الاقتصاد مثل تعدد أشكال الملكية، والحرية والاقتصادية في نطاق محدد، والعدالة الاجتماعية، على أنها أسس ثلاثة للاقتصاد في مجتمع المسلمين، فإذا جاءت الدولة وتبنت اقتصاد السوق فلا يحق لي طبقا لمبادئ العلمانيين أن أعارض هذه الدولة على أساس هذه الرؤية الإسلامية؛ لأنها ترفض تدخل الدين في شؤون الدولة؟
رابعا: نزع القدسية عن الدولة وإلغاء مبدأ التفويض الإلهي للحكام، وإذا صح هذا المفهوم للعلمانية فهي على وفاق مع الإسلام فيه، لأن الإسلام لا يعترف بأية قدسية للدولة أو الحاكم حتى لو كان رسو الله بوصفة حاكما، وإذا كان الأمر كذلك فنحن لسنا بحاجة إلى القول بشرطية العلمانية للديمقراطية وإنما يكفي أن نقرر مبدأ بشرية الدولة لا قدسيتها، من أجل أن نقيم دولة ديمقراطية.
-------------------------------------------
[1] الإمام الصدر ، الإسلام يقود الحياة 130.
[2] الإمام الصدر ، الإسلام يقود الحياة 139.
[3] المصدر السابق 130 .
[4] موريس دوفرجيه ، في الدكتاتورية، ترجمة هشام تولي، منشورات عويدات، بيروت ط 3، 1989، 156.
[5] د . عمرو محيي الدين، التخلف والتنمية 130ـ 131.
[6] الإمام الصدر، اقتصادنا 13.
[7] ألان تورين، ما هي الديمقراطية؟ 13.
[8] وحيد عبد المجيد ، مصدر سابق 82، 83.
[9] المصدر السابق 13ـ 31.
[10] المصدر السابق 40.
[11] بوتول 175.
[12] بوتول 177.
.ينابيع