محمدسيف العديني
الدولة المدنية التي هي خلاصة تطور الأداء السياسي عالمياً ومعالمها في ديننا الإسلامي
1. الدولة المدنية معنى مقارنة بالدولة الدينية .
معنى الدولة المدنية لغة :
(أ) معنى الدَّوْلَةُ لغةً :
ترجعُ مادَّتِهَا لدورانِ الحالِ وانتقالِهِ ، وتَختصُّ «الدُولَةُ» ـ بضمِّ الدَّالِ ـ بالانتقالِ والتعاقبِ في أمورِ الدُّنيا كالمالِ والجاهِ ،و«الدَّوْلَةُ» ـ بالفتحِ ـ بالانتقالِ في الحربِ كأن ينتقلَ النَّصرُ من فئةٍ إلى فئةٍ ، وَقِيلَ : «هما سواء» . [«معجمُ المقاييسِ» لابنِ فارسٍ «بابُ الدَّال ، والواوِ ، وما يُثلِّثُهَا» ، و«لسانُ العربِ» «حرفُ الدَّالِ فصلُ اللَّامِ» ، و«الكلياتُ» للكفويِّ (ص/450)] .
* والدَّوْلَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ السِّيَاسِيِّ : «مجموعٌ كبيرٌ مِنَ الْأفرادِ ، يقطُنُ بصفةٍ دائمةٍ إِقليمًا مُعيَّنًا ، ويتمتعُ بالشخصيةِ المعنويَّةِ ، بنظامٍ حكوميٍّ ، واستقلالٍ سياسيٍّ» .المعجمُ الوسيطُ» مَادَّةُ : «دال»].
وَتُسْتَخْدَمُ كَلِمَةُ «دَوْلَةٍ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَدْلُولَيْنِ :
1 ـ كلُّ الأشخاصِ والمؤسساتِ الذين ينتظمُهُمُ الْإطارُ السياسيُّ للمجتمعِ.
2 ـ مؤسسةُ الحكومةِ ، فيستعملُ المصطلحُ هنا في مقابلِ الشعبِ .
ولم تُستعملْ هذه الكلمةُ للدَّلالةِ على هذا المعنَى إلَّا في مراحلَ متأخرةٍ سواءٌ في اللغاتِ الغربيةِ أو اللغةِ العربيةِ ، وكانت بدائلَهَا في العربيةِ ألفاظٌ ، مثلُ : «الدَّارُ ـ الخِلافةُ ـ السَّلطنةُ ـ المملكةُ ـ البلادُ .
(ب) معنى الْـمَدَنِيَّةُ :
نسبةٌ إلى المدينةِ وتدلُّ على نمطِ الحياةِ في المدينةِ ، مُعبرةً - في رأي بعضهم - عَنِ الْعناصرِ الظاهرةِ الفعالةِ الْـمُحركةِ من بينِ عناصرِ حضارةِ المدينةِ ، وهي مرادفة للحضارة عند الأكثر، وتُستعملُ هذه اللَّفظةُ في كثير من الأوساطِ الثقافيَّةِ في مقابلِ عِدَّةِ كلماتٍ ، تتضحُ دلالتُهَا ببيانِهَا ، وهي :
الْـمَدَنِيَّةُ : كمقابلٍ للبداوةِ ، فهي هنا بمعنَى : «الحضارةِ والعمرانِ .
الْـمَدَنِيَّةُ : كمقابلٍ للعسكريةِ ، فيُقالُ : «لباسٌ مدنيٌّ ، ولباسٌ عسكريٌّ .
الدَّوْلَةُ الْـمَدَنِيَّةُ : بمعنَى الدولةِ المتحضرةِ التي تُنتشرُ فيها مظاهرُ الحضارةِ العمرانيَّةِ والثقافيَّةِ في مقابلِ : «القريةِ ، أو الباديةِ ، أو الدُّولِ المتخلفةِ حضاريًّا.
الدَّوْلَةُ الْـمَدَنِيَّةُ القائمة على عقد مدني بين الشعب ومن سيحكمه وهي : بمعنَى الدولةِ غيرِ العسكريَّةِ ، والتي يتولَى الحُكْمَ فيهَا رجلٌ مدنيٌّ بنُظُمٍ مدنيَّةٍ ؛ لتوليَةِ الحُكْمِ ، وليسَ عن طريقِ الِانْقلاباتِ العسكريَّةِ والاستيلاءِ على الحكمِ بقوَّةِ السِّلَاحِ أو بالتوريث أو بمرجعية سلالية .
والإسلامُ بهذا الاعتبارِ إنَّمَا يدعُو لإقامةِ الدَّولةِ على أسسٍ مِنَ الْـمدنيَّةِ والتحضُّرِ والعمرانِ ، وترتيبُ نُظُمِ تدابيرِ الحُكْمِ ، والإسلامُ يدعُو لأنْ يتولَّى أمورَ المسلمينَ مَنْ يرضَوْنَهُ هُمْ ، ويمنعُ اغتصابَ السُّلطةِ والقفزِ عليهَا علَى غيرِ إرادةٍ من الشعبِ ؛ ولذلكَ لم يجيب الوحي ممثلاً بالقرآن وصحيح السنة التي لا تخالف القرآن على أسئلة آليات الحكم ، من يعطي الشرعية للحاكم ؟ وكيف يصل إلى الحكم ؟ وكيف يحكم ؟ وكم مدة حكمه ؟ وكيف يُراقب ويُحاسب ؟ وكيف يُحاكم ؟ وكيف تنتقل السلطة إلى الحاكم الجديد ؟
إن الدولة المدنية هي المقابلِة للدولةِ الدينيَّةِ وليسَ لمصطلحِ «الدولَةِ الدينية » مفهومٌ واحدٌ ، بَلْ تعدَّدَتْ مفاهيمُهُ بحسبِ مستعمليهِ ، وبحسبِ نوعِ الدَّولةِ الدِّينيَّةِ التي استعمل مدعوها المصطلحَ ، وهذا يتطلب أن نفهم الدولةِ الدينيَّةِ ، وأن نفهم الدولة المدنية كمقابل للدولة الدينية .
الدولة الدينية لها ثَلَاثِ نظرياتٍ :
1ـ نظريَّةُ الطبيعةِ الإلهيَّةِ للحاكمِ:
هذه النظريَّةُ تقولُ : «إنَّ اللهَ موجودٌ على الأرضِ يعيشُ وسطَ البشرِ ويحكمُهُمْ ، ويجبُ على الأفرادِ تقديسَ الحاكمِ ، وعدمَ إِبْدَاءِ أَيِّ اعْتِرَاضٍ » . هذه النظريَّةُ كانت سائدةً في المماليكِ الفرعونيَّةِ ، والإمبراطورياتِ القديمةِ ، وبعضِ مراحلِ الدولةِ الفاطميَّةِ .
[انْظُرِ : «الأنظمةُ السياسيَّةُ المعاصرةُ » للدكتورِ يحيَى الجملِ (ص/58 .
2ـ نظريَّةُ الحقِّ الإلهيِّ المباشرِ:
هذه النظريَّةُ تقولُ : «إنَّ الحاكمَ يُخْتَارُ وبشكلٍ مباشرٍ مِنَ اللهِ » ، أَيْ : إِنَّ الاختيارَ بعيدًا عَنْ إرادةِ الأفرادِ ، وأَنَّهُ أمرٌ إلهيٌّ خارجٌ عن إرادتِهِمْ ، وهذه النظرية تقول : الحُكَّامُ يستمدونَ سلطانَهُمْ مِنَ اللهِ مباشرةً ، ولَا يجوزُ للأفرادِ مسألةَ الحاكمِ عن أيِّ شيءٍ .
وهذه النظريَّةُ هي التي تبنتْهَا الكنيسةُ في فترةِ صراعِهَا مع السُّلطةِ الزمنيَّةِ ، كمَا استخدمَهَا بعضُ ملوكِ أوروبَا ـ خاصَّةً فرنسا ـ ؛ لتدعيمِ سُلطانَهُمْ على الشعبِ . انظر النُّظُمُ السِّياسيَّةُ » للدكتورِ ثروت بدوي (1/6.
3ـ نظريَّةُ الحقِّ الإلهيِّ غيرِ المباشرِ:
الحاكمُ مِنَ البشرِ ، لكنْ في هذه النَّظريَّةِ يقومُ اللهُ باختيارِ الحاكمِ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ من خلال النصوص ، وتكونُ الأمة مُسَيَّرَةٌ لا مُخَيَّرَةٌ في اختيارِ الحاكمِ ـ أَيْ : مُسَيَّرَةٌ مِنَ النصوص .النُّظُمُ السِّياسيَّةُ» لمحسن خليل (ص/20)] .
وهنا نسأل سؤال : هل عرف تاريخ المسلمين نموذج الدولة الدينية في الحكم ؟ الجواب قطعاً لا ، فلا يوجد حاكم من حكام المسلمين ادعى أنه معين من قبل الله أو أنه مشرع عن الله ورسوله. نعم كانت هناك أنظمة حكمت بالقوة والجبر ، واستعانت أحياناَ بأحاديث عن رسول الله ، واستعانت بتأويلات لنصوص شرعية لكنها ، حتما لم تكن دولة دينية بالمعنى الغربي للكلمة ، وإنما هي دولة تسلطية حكمت وفق الأهواء وليس وفق أصول الدين ، بدليل تسجيل التاريخ لقيام العلماء بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه هذه الأنظمة وأمام تجاوزات السلاطين والملوك الظلمة ، ولم نجد في خطاب الإسلاميين عموماً من دعا إلى الدولة الدينية بل يعتبرونها وثنية جديدة.
2. الدولة المدنية تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية وهي مطلب في الفكر الإسلامي السياسي :
“الدولة المدنية بتعريفها وأقسامها مطلب إسلامي أصيل ، لا يشوش عليه رفض البعض للمصطلح باعتباره مصطلحا غريباً نشأ في بيئة غير بيئتنا ونحن نتعامل مع المضمون و لا مشاحة في الاصطلاح ، والعبرة بالمسميات لا بالأسماء ، ويظل اسم المدينة هو الاسم الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول وأقدم عاصمة لدولة إسلامية على وجه الأرض .
وأصبح إسماً له دلالته واعتباره ، فإذا ذكرت كلمة المدينة مجردة ، فلا تعني في الأذهان والعقول سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي أسسها على صحيفة (دستور) تحدد الحقوق والواجبات ، وتوزع الأدوار بين فئات المجتمع المختلفة من مسلمين ويهود وعرب مشركين لم يسلموا بعد وغيرهم ” .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام دولة المدينة على أصول المؤسسية التي هي أهم أسس الدولة المدنية ، فقد نجح الرسول الكريم محمد - صلى الله علية وسلم - فى أن يرسخ دولة المؤسسات ، وأن يهيكل حكومته على اختيار الأصلح ، ورسخ مبدأ الشورى المُلزمة التي لا تختلف مع معاني الديمقراطية الحالية ، وخلّص العرب من العشوائية السياسية والقبلية التي تتنازع على أتفه الأسباب ، وكلنا يعلم كيف كانت أحوال العرب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا قبل بعثة الرسول الكريم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع نظاما متكاملا لأسس الحياة ، ووضع الخطوط العريضة للتعاملات ، ورسخ المبادئ والأخلاقيات التى ترتفع وتسمو بالإنسانية ، وأعطى الفرص للبشر أن ينظموا حياتهم بما يتناسب مع تطورات العصر ، فالتشريعات الملزمة مثل الحدود والفرائض والحلال والحرام لا تزيد على نسبة 40 % من مجريات الحياة ، بينما نجد أن هناك 60 % من تنظيمات الحياة البشرية ، تقع تحت مظلة المصالح المرسلة التي ترك الله لعباده تنظيمها بالطبع بما لا يخالف مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ، مع العلم أن الأصل فى كل أمور الحياة الإباحة إلا ما جاء فيه نص قطعي الثبوت والدلالة .
وأقر الإسلام الحرية الشخصية بمختلف درجاتها ، لكنها مشروطة بالحفاظ على حرية الآخرين ، ومبادئ المجتمع التي يتبناها ، كما يقر المشروع المدني الإسلامي حرية الاعتقاد ومبدأ المواطنة ، فها هو النبى الكريم منذ الوهلة الأولى يحافظ على النسيج الوطني لدولته بالمدينة ويوقع وثيقة مدنية من الطراز الأول ، أقرت حقوق المخالفين له فى الاعتقاد ، ووقع معاهدات مع اليهود من أجل دمجهم فى المشروع المدني الإسلامي الذي تمتعوا من خلاله بكل مبادئ المواطنة ، وظل المسلمون محافظين على عهودهم حتى نقض اليهود عهودهم.
كما أقر المشروع المدني الإسلامي الحرية العلمية بل أقر النبي الكريم هذه الحرية بموقفه من أمر النخيل فى المدينة ؛ حيث استشاروه وأمرهم الرسول بمعالجة للنخيل تخالف معالجتهم المعتادة ، وعندما لم تأت الثمار المطلوبة ؛ علمهم النبي درسا مهمَّا أقر به الحرية العلمية ؛ حيث أطلق الرسول كلمته المشهورة «أنتم أعلم بشؤون دنياكم » أي فتح باب الاجتهاد العلمي على مصراعيه أمام المسلمين ، وطالبهم بتفعيل نعمة العقل .
كما أقر المشروع المدني الإسلامي مبدأ أصيلاً من مبادئ الدولة المدنية وهو مبدأ المحاسبة لكل من تولى منصبا عامًّا ، فنجد الرسول الكريم يحاسب عماله على الأمصار، ويرفض أن يقبلوا الهدايا ، ويعزل من يتكسب من منصبه ، ولعل موقفه مع أحد عماله عندما قبل الهدايا كان واضحًا وضوح الشمس عندما قال الرجل للرسول : هذا المال لكم ، وهذا المال لي ؛ فقد أُهدى إلى. فما كان من النبي إلا أن زجره ، وقال : «هلا جلست فى بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً»، وعلى هذا الدرب سار الخلفاء وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ، فكان سنويا يقوم بمحاسبة أمراء الولايات فى موسم الحج ، إنها الشفافية والعدالة التي تمتعت بها الدولة المدنية الإسلامية .
يقولُ الشيخُ القرضاويُّ : “إنَّمَا الدولةُ الإسلاميَّةُ إذا نظرنَا إلى المضمونِ لا الشَّكلِ ، وإلى الْـمُسمَّى لا الاسمِ «دولةٌ مدنيَّةٌ مرجعُهَا الإسلامُ » ، وهي تقومُ على أساسِ الاختيارِ والبيعةِ والشورَى ، ومسؤوليَّةُ الحاكمِ أمامَ الأمَّةِ ، وحقِّ كلِّ فردٍ في الرعيةِ أن ينصحَ لهذَا الحاكِمِ ، يأمرُهُ بالمعروفِ ، وينهاهُ عن المنكرِ’’ .
اسم الدولة المدنية من الاسماء المعاصرة :
أنه لا يوجد في علم السياسة ما يسمى أصلاً بالدولة المدنية ، ومصطلح الدولة المدنية لا وجود له في المراجع السياسية كمصطلح سياسي ، ولكن استخدام المصطلح إعلاميا يعني قيام دولة يكون الحكم فيها للشعب بطريقة ديمقراطية.
وعدم ممارسة الدولة ومؤسساتها أي تمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية .
ومؤسسات الدولة وسلطاتها التشريعية (مجلس النواب)، والتنفيذية (الحكومة)، يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة ، ولا تدار الدولة بواسطة عسكريين أو علماء دين. واستبعاد علماء الدين لا يعني استبعاد المتدينين ، ولكن المقصود أن لا يكون المتخصص بعلوم الدين الذي يفتي بمسائل الدين والحياة مستنداً إلى القرآن والسنة ، حتى لا يتحول إلى شخص فوق القانون والمحاسبة ، لأن المسئول يدير مؤسسات الدولة بحسب القانون ، ويحاسب على ضوء القانون ولا يدير مؤسسات الدولة بفهمة واجتهاده .
وفي الدولة المدنية يمنع تحويل السياسة إلى صراع حول المذاهب الدينية أو الشرائع السماوية أو تحكم بمذهب ديني ، بل يكون الصراع تدافع رؤى وأفكار وتدافع برامج أحزاب بهدف اختيار الأفضل للدولة والمجتمع.
وفي الدولة المدنية وجود الشفافية ، و إمكانية الطرح العلني لجميع الرؤى والأفكار والبرامج الهادفة لتحقيق الصالح العام فى ظل قبول التعددية واحترام الرأي الآخر.
إن الحكم الوحيد في الدولة المدنية التي ننشدها والمراجع في اختيار الآليات البرامج هو مجتمع المواطنين الذي عادة ما يغلب بعض الرؤى والأفكار والبرامج على بعضها الآخر.
وهنا سؤال لماذا في الدولة المدنية لا يحكم علماء الدين أو العسكريين ؟ السبب أن عالم الدين يحمل دائما للناس رسائل الدين ، ويشرح لهم كيفية إرضاء الله ، وهذا يمثل سلطة كبيرة للغاية في أي مجتمع لأن المجتمعات تخلط بين قداسة النصوص والمواعظ والأشخاص ولا تفرق بين النصوص والأشخاص ، وإذا تولى عالم الدين الحكم يكون من المستحيل رقابته ، أو معارضته في حال سلوكه سلوك الفساد السياسي بسبب اعتبار الناس له شارحاً لنصوص الدين ، وهو أمر يفتح باب الفساد والاستبداد باسم الدين ، أما العسكر فهم يملكون بحكم عملهم قوة السيطرة ، وتوليهم الحكم وامتلاكهم للسلاح في الوقت ذاته يعني إمكانية تحولهم إلى مستبدين ، يضاف الى ذلك احتمال أن يكون ولاء الجيش في الدولة لهم وليس للوطن ومؤسساته.
*صفحة الكاتب على الفيس بوك
الدولة المدنية التي هي خلاصة تطور الأداء السياسي عالمياً ومعالمها في ديننا الإسلامي
1. الدولة المدنية معنى مقارنة بالدولة الدينية .
معنى الدولة المدنية لغة :
(أ) معنى الدَّوْلَةُ لغةً :
ترجعُ مادَّتِهَا لدورانِ الحالِ وانتقالِهِ ، وتَختصُّ «الدُولَةُ» ـ بضمِّ الدَّالِ ـ بالانتقالِ والتعاقبِ في أمورِ الدُّنيا كالمالِ والجاهِ ،و«الدَّوْلَةُ» ـ بالفتحِ ـ بالانتقالِ في الحربِ كأن ينتقلَ النَّصرُ من فئةٍ إلى فئةٍ ، وَقِيلَ : «هما سواء» . [«معجمُ المقاييسِ» لابنِ فارسٍ «بابُ الدَّال ، والواوِ ، وما يُثلِّثُهَا» ، و«لسانُ العربِ» «حرفُ الدَّالِ فصلُ اللَّامِ» ، و«الكلياتُ» للكفويِّ (ص/450)] .
* والدَّوْلَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ السِّيَاسِيِّ : «مجموعٌ كبيرٌ مِنَ الْأفرادِ ، يقطُنُ بصفةٍ دائمةٍ إِقليمًا مُعيَّنًا ، ويتمتعُ بالشخصيةِ المعنويَّةِ ، بنظامٍ حكوميٍّ ، واستقلالٍ سياسيٍّ» .المعجمُ الوسيطُ» مَادَّةُ : «دال»].
وَتُسْتَخْدَمُ كَلِمَةُ «دَوْلَةٍ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَدْلُولَيْنِ :
1 ـ كلُّ الأشخاصِ والمؤسساتِ الذين ينتظمُهُمُ الْإطارُ السياسيُّ للمجتمعِ.
2 ـ مؤسسةُ الحكومةِ ، فيستعملُ المصطلحُ هنا في مقابلِ الشعبِ .
ولم تُستعملْ هذه الكلمةُ للدَّلالةِ على هذا المعنَى إلَّا في مراحلَ متأخرةٍ سواءٌ في اللغاتِ الغربيةِ أو اللغةِ العربيةِ ، وكانت بدائلَهَا في العربيةِ ألفاظٌ ، مثلُ : «الدَّارُ ـ الخِلافةُ ـ السَّلطنةُ ـ المملكةُ ـ البلادُ .
(ب) معنى الْـمَدَنِيَّةُ :
نسبةٌ إلى المدينةِ وتدلُّ على نمطِ الحياةِ في المدينةِ ، مُعبرةً - في رأي بعضهم - عَنِ الْعناصرِ الظاهرةِ الفعالةِ الْـمُحركةِ من بينِ عناصرِ حضارةِ المدينةِ ، وهي مرادفة للحضارة عند الأكثر، وتُستعملُ هذه اللَّفظةُ في كثير من الأوساطِ الثقافيَّةِ في مقابلِ عِدَّةِ كلماتٍ ، تتضحُ دلالتُهَا ببيانِهَا ، وهي :
الْـمَدَنِيَّةُ : كمقابلٍ للبداوةِ ، فهي هنا بمعنَى : «الحضارةِ والعمرانِ .
الْـمَدَنِيَّةُ : كمقابلٍ للعسكريةِ ، فيُقالُ : «لباسٌ مدنيٌّ ، ولباسٌ عسكريٌّ .
الدَّوْلَةُ الْـمَدَنِيَّةُ : بمعنَى الدولةِ المتحضرةِ التي تُنتشرُ فيها مظاهرُ الحضارةِ العمرانيَّةِ والثقافيَّةِ في مقابلِ : «القريةِ ، أو الباديةِ ، أو الدُّولِ المتخلفةِ حضاريًّا.
الدَّوْلَةُ الْـمَدَنِيَّةُ القائمة على عقد مدني بين الشعب ومن سيحكمه وهي : بمعنَى الدولةِ غيرِ العسكريَّةِ ، والتي يتولَى الحُكْمَ فيهَا رجلٌ مدنيٌّ بنُظُمٍ مدنيَّةٍ ؛ لتوليَةِ الحُكْمِ ، وليسَ عن طريقِ الِانْقلاباتِ العسكريَّةِ والاستيلاءِ على الحكمِ بقوَّةِ السِّلَاحِ أو بالتوريث أو بمرجعية سلالية .
والإسلامُ بهذا الاعتبارِ إنَّمَا يدعُو لإقامةِ الدَّولةِ على أسسٍ مِنَ الْـمدنيَّةِ والتحضُّرِ والعمرانِ ، وترتيبُ نُظُمِ تدابيرِ الحُكْمِ ، والإسلامُ يدعُو لأنْ يتولَّى أمورَ المسلمينَ مَنْ يرضَوْنَهُ هُمْ ، ويمنعُ اغتصابَ السُّلطةِ والقفزِ عليهَا علَى غيرِ إرادةٍ من الشعبِ ؛ ولذلكَ لم يجيب الوحي ممثلاً بالقرآن وصحيح السنة التي لا تخالف القرآن على أسئلة آليات الحكم ، من يعطي الشرعية للحاكم ؟ وكيف يصل إلى الحكم ؟ وكيف يحكم ؟ وكم مدة حكمه ؟ وكيف يُراقب ويُحاسب ؟ وكيف يُحاكم ؟ وكيف تنتقل السلطة إلى الحاكم الجديد ؟
إن الدولة المدنية هي المقابلِة للدولةِ الدينيَّةِ وليسَ لمصطلحِ «الدولَةِ الدينية » مفهومٌ واحدٌ ، بَلْ تعدَّدَتْ مفاهيمُهُ بحسبِ مستعمليهِ ، وبحسبِ نوعِ الدَّولةِ الدِّينيَّةِ التي استعمل مدعوها المصطلحَ ، وهذا يتطلب أن نفهم الدولةِ الدينيَّةِ ، وأن نفهم الدولة المدنية كمقابل للدولة الدينية .
الدولة الدينية لها ثَلَاثِ نظرياتٍ :
1ـ نظريَّةُ الطبيعةِ الإلهيَّةِ للحاكمِ:
هذه النظريَّةُ تقولُ : «إنَّ اللهَ موجودٌ على الأرضِ يعيشُ وسطَ البشرِ ويحكمُهُمْ ، ويجبُ على الأفرادِ تقديسَ الحاكمِ ، وعدمَ إِبْدَاءِ أَيِّ اعْتِرَاضٍ » . هذه النظريَّةُ كانت سائدةً في المماليكِ الفرعونيَّةِ ، والإمبراطورياتِ القديمةِ ، وبعضِ مراحلِ الدولةِ الفاطميَّةِ .
[انْظُرِ : «الأنظمةُ السياسيَّةُ المعاصرةُ » للدكتورِ يحيَى الجملِ (ص/58 .
2ـ نظريَّةُ الحقِّ الإلهيِّ المباشرِ:
هذه النظريَّةُ تقولُ : «إنَّ الحاكمَ يُخْتَارُ وبشكلٍ مباشرٍ مِنَ اللهِ » ، أَيْ : إِنَّ الاختيارَ بعيدًا عَنْ إرادةِ الأفرادِ ، وأَنَّهُ أمرٌ إلهيٌّ خارجٌ عن إرادتِهِمْ ، وهذه النظرية تقول : الحُكَّامُ يستمدونَ سلطانَهُمْ مِنَ اللهِ مباشرةً ، ولَا يجوزُ للأفرادِ مسألةَ الحاكمِ عن أيِّ شيءٍ .
وهذه النظريَّةُ هي التي تبنتْهَا الكنيسةُ في فترةِ صراعِهَا مع السُّلطةِ الزمنيَّةِ ، كمَا استخدمَهَا بعضُ ملوكِ أوروبَا ـ خاصَّةً فرنسا ـ ؛ لتدعيمِ سُلطانَهُمْ على الشعبِ . انظر النُّظُمُ السِّياسيَّةُ » للدكتورِ ثروت بدوي (1/6.
3ـ نظريَّةُ الحقِّ الإلهيِّ غيرِ المباشرِ:
الحاكمُ مِنَ البشرِ ، لكنْ في هذه النَّظريَّةِ يقومُ اللهُ باختيارِ الحاكمِ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ من خلال النصوص ، وتكونُ الأمة مُسَيَّرَةٌ لا مُخَيَّرَةٌ في اختيارِ الحاكمِ ـ أَيْ : مُسَيَّرَةٌ مِنَ النصوص .النُّظُمُ السِّياسيَّةُ» لمحسن خليل (ص/20)] .
وهنا نسأل سؤال : هل عرف تاريخ المسلمين نموذج الدولة الدينية في الحكم ؟ الجواب قطعاً لا ، فلا يوجد حاكم من حكام المسلمين ادعى أنه معين من قبل الله أو أنه مشرع عن الله ورسوله. نعم كانت هناك أنظمة حكمت بالقوة والجبر ، واستعانت أحياناَ بأحاديث عن رسول الله ، واستعانت بتأويلات لنصوص شرعية لكنها ، حتما لم تكن دولة دينية بالمعنى الغربي للكلمة ، وإنما هي دولة تسلطية حكمت وفق الأهواء وليس وفق أصول الدين ، بدليل تسجيل التاريخ لقيام العلماء بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه هذه الأنظمة وأمام تجاوزات السلاطين والملوك الظلمة ، ولم نجد في خطاب الإسلاميين عموماً من دعا إلى الدولة الدينية بل يعتبرونها وثنية جديدة.
2. الدولة المدنية تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية وهي مطلب في الفكر الإسلامي السياسي :
“الدولة المدنية بتعريفها وأقسامها مطلب إسلامي أصيل ، لا يشوش عليه رفض البعض للمصطلح باعتباره مصطلحا غريباً نشأ في بيئة غير بيئتنا ونحن نتعامل مع المضمون و لا مشاحة في الاصطلاح ، والعبرة بالمسميات لا بالأسماء ، ويظل اسم المدينة هو الاسم الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول وأقدم عاصمة لدولة إسلامية على وجه الأرض .
وأصبح إسماً له دلالته واعتباره ، فإذا ذكرت كلمة المدينة مجردة ، فلا تعني في الأذهان والعقول سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي أسسها على صحيفة (دستور) تحدد الحقوق والواجبات ، وتوزع الأدوار بين فئات المجتمع المختلفة من مسلمين ويهود وعرب مشركين لم يسلموا بعد وغيرهم ” .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام دولة المدينة على أصول المؤسسية التي هي أهم أسس الدولة المدنية ، فقد نجح الرسول الكريم محمد - صلى الله علية وسلم - فى أن يرسخ دولة المؤسسات ، وأن يهيكل حكومته على اختيار الأصلح ، ورسخ مبدأ الشورى المُلزمة التي لا تختلف مع معاني الديمقراطية الحالية ، وخلّص العرب من العشوائية السياسية والقبلية التي تتنازع على أتفه الأسباب ، وكلنا يعلم كيف كانت أحوال العرب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا قبل بعثة الرسول الكريم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع نظاما متكاملا لأسس الحياة ، ووضع الخطوط العريضة للتعاملات ، ورسخ المبادئ والأخلاقيات التى ترتفع وتسمو بالإنسانية ، وأعطى الفرص للبشر أن ينظموا حياتهم بما يتناسب مع تطورات العصر ، فالتشريعات الملزمة مثل الحدود والفرائض والحلال والحرام لا تزيد على نسبة 40 % من مجريات الحياة ، بينما نجد أن هناك 60 % من تنظيمات الحياة البشرية ، تقع تحت مظلة المصالح المرسلة التي ترك الله لعباده تنظيمها بالطبع بما لا يخالف مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ، مع العلم أن الأصل فى كل أمور الحياة الإباحة إلا ما جاء فيه نص قطعي الثبوت والدلالة .
وأقر الإسلام الحرية الشخصية بمختلف درجاتها ، لكنها مشروطة بالحفاظ على حرية الآخرين ، ومبادئ المجتمع التي يتبناها ، كما يقر المشروع المدني الإسلامي حرية الاعتقاد ومبدأ المواطنة ، فها هو النبى الكريم منذ الوهلة الأولى يحافظ على النسيج الوطني لدولته بالمدينة ويوقع وثيقة مدنية من الطراز الأول ، أقرت حقوق المخالفين له فى الاعتقاد ، ووقع معاهدات مع اليهود من أجل دمجهم فى المشروع المدني الإسلامي الذي تمتعوا من خلاله بكل مبادئ المواطنة ، وظل المسلمون محافظين على عهودهم حتى نقض اليهود عهودهم.
كما أقر المشروع المدني الإسلامي الحرية العلمية بل أقر النبي الكريم هذه الحرية بموقفه من أمر النخيل فى المدينة ؛ حيث استشاروه وأمرهم الرسول بمعالجة للنخيل تخالف معالجتهم المعتادة ، وعندما لم تأت الثمار المطلوبة ؛ علمهم النبي درسا مهمَّا أقر به الحرية العلمية ؛ حيث أطلق الرسول كلمته المشهورة «أنتم أعلم بشؤون دنياكم » أي فتح باب الاجتهاد العلمي على مصراعيه أمام المسلمين ، وطالبهم بتفعيل نعمة العقل .
كما أقر المشروع المدني الإسلامي مبدأ أصيلاً من مبادئ الدولة المدنية وهو مبدأ المحاسبة لكل من تولى منصبا عامًّا ، فنجد الرسول الكريم يحاسب عماله على الأمصار، ويرفض أن يقبلوا الهدايا ، ويعزل من يتكسب من منصبه ، ولعل موقفه مع أحد عماله عندما قبل الهدايا كان واضحًا وضوح الشمس عندما قال الرجل للرسول : هذا المال لكم ، وهذا المال لي ؛ فقد أُهدى إلى. فما كان من النبي إلا أن زجره ، وقال : «هلا جلست فى بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً»، وعلى هذا الدرب سار الخلفاء وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ، فكان سنويا يقوم بمحاسبة أمراء الولايات فى موسم الحج ، إنها الشفافية والعدالة التي تمتعت بها الدولة المدنية الإسلامية .
يقولُ الشيخُ القرضاويُّ : “إنَّمَا الدولةُ الإسلاميَّةُ إذا نظرنَا إلى المضمونِ لا الشَّكلِ ، وإلى الْـمُسمَّى لا الاسمِ «دولةٌ مدنيَّةٌ مرجعُهَا الإسلامُ » ، وهي تقومُ على أساسِ الاختيارِ والبيعةِ والشورَى ، ومسؤوليَّةُ الحاكمِ أمامَ الأمَّةِ ، وحقِّ كلِّ فردٍ في الرعيةِ أن ينصحَ لهذَا الحاكِمِ ، يأمرُهُ بالمعروفِ ، وينهاهُ عن المنكرِ’’ .
اسم الدولة المدنية من الاسماء المعاصرة :
أنه لا يوجد في علم السياسة ما يسمى أصلاً بالدولة المدنية ، ومصطلح الدولة المدنية لا وجود له في المراجع السياسية كمصطلح سياسي ، ولكن استخدام المصطلح إعلاميا يعني قيام دولة يكون الحكم فيها للشعب بطريقة ديمقراطية.
وعدم ممارسة الدولة ومؤسساتها أي تمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية .
ومؤسسات الدولة وسلطاتها التشريعية (مجلس النواب)، والتنفيذية (الحكومة)، يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة ، ولا تدار الدولة بواسطة عسكريين أو علماء دين. واستبعاد علماء الدين لا يعني استبعاد المتدينين ، ولكن المقصود أن لا يكون المتخصص بعلوم الدين الذي يفتي بمسائل الدين والحياة مستنداً إلى القرآن والسنة ، حتى لا يتحول إلى شخص فوق القانون والمحاسبة ، لأن المسئول يدير مؤسسات الدولة بحسب القانون ، ويحاسب على ضوء القانون ولا يدير مؤسسات الدولة بفهمة واجتهاده .
وفي الدولة المدنية يمنع تحويل السياسة إلى صراع حول المذاهب الدينية أو الشرائع السماوية أو تحكم بمذهب ديني ، بل يكون الصراع تدافع رؤى وأفكار وتدافع برامج أحزاب بهدف اختيار الأفضل للدولة والمجتمع.
وفي الدولة المدنية وجود الشفافية ، و إمكانية الطرح العلني لجميع الرؤى والأفكار والبرامج الهادفة لتحقيق الصالح العام فى ظل قبول التعددية واحترام الرأي الآخر.
إن الحكم الوحيد في الدولة المدنية التي ننشدها والمراجع في اختيار الآليات البرامج هو مجتمع المواطنين الذي عادة ما يغلب بعض الرؤى والأفكار والبرامج على بعضها الآخر.
وهنا سؤال لماذا في الدولة المدنية لا يحكم علماء الدين أو العسكريين ؟ السبب أن عالم الدين يحمل دائما للناس رسائل الدين ، ويشرح لهم كيفية إرضاء الله ، وهذا يمثل سلطة كبيرة للغاية في أي مجتمع لأن المجتمعات تخلط بين قداسة النصوص والمواعظ والأشخاص ولا تفرق بين النصوص والأشخاص ، وإذا تولى عالم الدين الحكم يكون من المستحيل رقابته ، أو معارضته في حال سلوكه سلوك الفساد السياسي بسبب اعتبار الناس له شارحاً لنصوص الدين ، وهو أمر يفتح باب الفساد والاستبداد باسم الدين ، أما العسكر فهم يملكون بحكم عملهم قوة السيطرة ، وتوليهم الحكم وامتلاكهم للسلاح في الوقت ذاته يعني إمكانية تحولهم إلى مستبدين ، يضاف الى ذلك احتمال أن يكون ولاء الجيش في الدولة لهم وليس للوطن ومؤسساته.
*صفحة الكاتب على الفيس بوك