المحبة قاعدة العبودية وركيزتها العظمى، ولا تَعبد من دونها، لأن العبودية في الإسلام عبودية اختيارٍ وإقبالٍ، لا عبودية إذلالٍ وإجبارٍ، فالله تعالى يقول: ﴿لَآ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾، ويقول عز اسمه: ﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْۚ﴾.
وأمام ذلك فلا طريق للتعبد الحق إلا العلم بالله تعالى علمًا يقود إلى محبته وتعظيمه، والامتنان له على كرمه وإحسانه، والتشرف بالخضوع له والانقياد لأمره.
وأمام ذلك فمحبة الخلق لإلههم ومربيهم الحق موضع عز وافتخار، فكلٌّ يدّعيها: صادق الناس وكاذبهم، برهم وفاجرهم.
ولذا فقد وضع الشرع المطهّر جملة من الدلائل والعلامات، التي من توفرت فيه مع دعواه قيل له: صادق، ومن لم توجد لديه، قيل له: أنت مجرد مدّعٍ كاذب، ولعل من أبرزها:
أولًا: اتباع النبي ﷺ والتأسي به، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، فجعل ربنا الكريم متابعة نبيه ﷺ عنوان محبته وبرهان وجودها. قال ابن كثير: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله).
وقال السعدي: (وعلامة الصدق في ادعاء محبة الله: اتباع رسوله ﷺ في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله، وغفر له ذنبه، ورحمه، وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبًا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها، وأنه كاذب إن ادعاها).
ثانيًا: كثرة ذكر الله، واللهج بحمده والثناء عليه، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره، والقلوب لا تلهج إلا بما تهوى.
يقول ابن القيم: (محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته؛ فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه فيحتاج إلى من يذكره به، وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه)، ويقول: (نصيبُك من محبة الله على قدرِ ذكرك له، فإنك إن ذكرته ذكرك، وإن نسيته لم يذكرك).
ثالثًا: الاستكثار من طاعة الله، والنفور من معصيته، والاجتهاد في إتيان العمل الصالح، فإن الله يحب التقرب إليه بذلك، ففي الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه).
وعن النبي ﷺ يرويه عن ربه قال: (إذا تقرب العبد إليّ شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربتُ منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة).
فليس بصادق من ادعى محبة الله، وهو لم يمتثل أوامره، ولم يحفظ حدوده.
وقد سئل ذو النون المصري: (متى أحب ربي؟ فقال: إذا كان ما يبغضه أَمرُّ عندك من الصبر).
وقال آخر: (من ادعى محبة الله ولم يوافقه، فدعواه باطلة).
وقال يحيى بن معاذ: (ليس بصادقٍ من ادّعى محبة الله ولم يُوافقه، فالمحب يُطيع محبوبه، ويُفارق هواه لأجله).
ومن جليل قول الطنطاوي: (المحب يطيع محبوبه، وينفذ كل رغبة له، وكذلك يكون المؤمن مع الله. والمحب لا يبالي أن يسخط عليه الناس كلهم إن رضي المحبوب، وكذلك يكون المؤمن مع الله. والمحب يخاف المحبوب، ويخشى غضبه، ويرضى بكل ما يكون منه، وكذلك يكون المؤمن مع الله).
رابعًا: عظم الشوق إلى الله، ومن مظاهر شوق العبد إلى ربه، شوقه إلى لقائه، ففي الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
قال بعض العلماء: (محبة اللقاء: إيثار العبد الآخرة على الدنيا، فلا يحب طول المقام فيها؛ لكن يستعد للارتحال عنها، والكراهة بضد ذلك).
وقال ابن الأثير: (المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت؛ لأن كُلًّا يكرهه، فمن ترك الدنيا، وأبغضها أحب لقاء الله، ومن آثرها، وركن إليها كره لقاء الله).
ومن مظاهر شوقه إليه: شوقه إلى مناجاته والانكسار بين يديه، وأعظم ما يكون ذلك في الخلوات عند صادق المناجاة، فقد جاء في حديث (سبعةٌ يُظلهم الله في ظلّه... ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه).
وقد كان الحسن البصري يقول: (تفقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق).
وفي سجود الصلاة، فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وفي ذلك يقول أحد السلف: (مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والشوق إليه، والأنس به).
خامسًا: العيش مع القرآن تلاوة وتدبرًا وعملاً، قال الراشد: عثمان رضي الله عنه: (لو طهُرت قلوبنا، ما شبعت من كلام الله).
وقال سهل التستري: (علامة حب الله: حب القرآن، وعلامة حب القرآن: حب النبي ﷺ، وعلامة حب النبي: حب السنة، وعلامة حبها: حب الآخرة، وعلامة حبها: بغض الدنيا، وعلامة بغضها: أن لا يتناول منها إلا البلغة).
سادسًا: الرضا عن الله في أقداره، والصبر على تكاليفه، فإن المحبة تُلطِّف الشدائد، وتُخفف الأعباء، وتهوِّن ثقيلات الأحمال، وتُسخي البخيل، وتقوي قلب الجبان، وتزيل الهموم، وتروّض النفس وتطيعها، وتُطيب الحياة على الحقيقة، ولذا فكلما عظمت محبة الله في قلب عبد، عظم احتماله للبلاء، ورضاه بالقضاء.
قال الفضيل: (من أحبّ الله عز وجل، لم يُؤثِر عليه شيئًا). وقال ابن القيم: (المحب لا يجد للطاعات كلفة، ولا للبلاء مرارة؛ لأن المحبة تُذهِب ألم التكاليف وتزيل أوجاع الأقدار)، وقال: (المحب لا يرضى من محبوبه باليسير، ولا يشتغل عنه بشيء، ولا يؤثر عليه غيره، ولا يأنس بسواه).
سابعًا: حبّ ما يحبّه الله، وبغض ما يغضه الله تعالى:
فإن المحب يرى الأمور كما يراها محبوبه، ولا يساكن قلبه أحدا غير الله تعالى، وغير ما يحبه الله عزوجل ، قال تعالى : (وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّٗا لله).
وعليه فمن أحب الله أحب الإيمان والعمل الصالح، ووادَّ المؤمنين، وكره الكفر والكافرين، ولم يُوالِ من يعادي الدين، ولو كان أقرب قريب.
وقد قال النبي ﷺ: (من أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان).
وفال بعض العارفين: (أكمل الناس محبة من كان رضا الله أحب إليه من رضا نفسه).
ثامنًا: الغيرة على دين الله وحرماته، قال ﷺ: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله: أن يأتي المؤمن ما حرَّم عليه).
قال د. السبت: (فالله يغار على عبده أن يعبد غيره، أو أن يتوجه إلى غيره...، ويغار على قلب المؤمن أن يتعلق بغيره، أو يُعجب بعمله، أو يُفتن عن دينه...، فمن أحب الله عظّمت حرماته في نفسه أن تُنتهك، فعظم غضبه، واشتد سخطه، واجتهد وسعه في حفظها ومنع انتهاكها غيرةً لله تعالى).
تاسعًا: كثرة التوبة وملازمة الاستغفار، مخافة أن يراه الله على حالٍ يُبغضه فيها، ويبعده بها عن دائرة لطفه ورحمته.
قال الحسن البصري: (ما زال أهل التقوى يَحزُنون ويَتوبون حتى لحقوا بربهم، وهم في أحسن الأعمال).
عاشرا: الحياء من الله تعالى، أن يراه حيث يغضبه، أو يفقده حيث يود ذلك منه، وقد كان ﷺ يقول: (استحيوا من الله حق الحياء)، وقال أحد السلف: (من عرف الله استحيى منه، فلا ينطق إلا بحق، ولا يعمل إلا بإخلاص).
فاللهم مُنَّ علينا بمحبتك وتعظيمك والشوق إليك، واجعل لنا ودا خالصا منك، محض عفو وكرم ورحمة، يا أرحم الراحمين.
والله الهادي.