مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/02/16 17:57
العفو فضيلة عظمى
الصفح عن أخطاء الناس وترك لومهم وذمهم، والتجاوز عن إساءة الآخرين وتقصيرهم، وإسقاط حق النفس الثابت، من أخلاق الكبار وأفعال المحسنين، كما جاء في قوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ)، فعدَّ تعالى (الْعَافِينَ) من (الْمُحْسِنينَ)، وكما جاء في قوله سبحانه: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، فجعل سبحانه الصبر على أذية الناس والمغفرة لهم من صفات أولو الهمم العالية، والبصائر النقية، الذين يجاهدون أنفسهم على التخلق بها، ولشرف العفو وعلو منزلته،  كان الحسن البصري يقول: (أفضل أخلاق المؤمن: العفو).
ولكون موضوع العفو طويل ومتشعب، ولمزيد تجلية لهذا الخلق السامي النبيل، فسأتناوله في النقاط التالية:
أولا: العفو في اللغة يأتي بمعنى الفضل الزائد عن الحاجة، ومن هذا قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (العفو: ما فضل من المال عن العيال). ويأتي بمعنى المحو والإزالة، قال خليل: (العفو: تركك إنسانا استوجب عقوبة فعفوت عنه تعفو)، ومن ذلك عفو الله عن عباده، بإزالة ما يستحقونه من عقوبة على آثامهم بجميل مغفرته وكريم صفحه سبحانه.
والعفو في الشرع، هو: التجاوز عن الذنب وترك المعاقبة عليه، قال الراغب: (العفو هو التجافي عن الذنب)، وقال ابن الأثير: (هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس)، وقال الطيبي: (العفو هو التجاوز عن الذنب ومحوه)، وعرفه المناوي بأنه: (التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه).
ثانيا: العفو من صفات الله العليا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)، أي: إنه سبحانه كثير العفو والمحو للخطايا واسع المغفرة، يصون من شاء من عباده من العقاب؛ لأن (عَفُوٌّ)، على وزن فعول من العفو، وهو من أبنية المبالغة، يقول الغزالي: (والعفو صفة من صفات الله تعالى، وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنه أبلغ منه؛ فإن الغفران ينبأ عن الستر، والعفو ينبأ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر. وحظ العبد من ذلك لا يخفى، وهو أن يعفو عن كل من ظلمه، بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسنا في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة. بل ربما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم، وإذا تاب عليهم محا سيئاتهم، إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وهذا غاية المحو للجناية)، وقد قرن تعالى بين العفو والغفران في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)، لأن في العفو إسقاط للعقاب، وفي المغفرة ستر للذنب وصون من عذاب الخزي والفضيحة، وذلك أكمل ما يكون عفوا وتجاوزا، فضلا من ربك ورحمة.
ولولا سعة عفو الله لم يكن للعبد سبيل نجاة، ولكان من الهالكين لا محالة، لأن (كل بني آدم خطاء)، ولا أحد من غير النبيين إلا وله عثرة، ولذا فليس أحد (إلا وهو محتاج إلى عفوه ومغفرته، كما هو محتاج إلى فضله ورحمته).
وعفو الله عن خلقه يراه العبد في انتظام الحياة وتوالي حركات الكون وسكناته، وفي دقات القلوب، وحركات الأجساد، وخروج الأنفاس، مع كثرة الذنوب، والجرأة على انتهاك حدود الله، ومبارزة الله بالكفر والفسوق والعصيان، ولعل من أبرز نماذج عفو الله سبحانه عن عباده، الواردة في القرآن الكريم: قوله تعالى- في الصفح عن سيئات العباد وذنوبهم-: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، وقوله سبحانه – في العفو عن بني إسرائيل بعد أن تابوا من عبادتهم العجل-: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وقوله عز وجل -في العفو عن من انهزم يوم أحد وفر من ميدان المعركة تاركا النبي ﷺ وبقية أصحابه فيه-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). 
ومن عادات الله سبحانه أنه يحب من عباده التخلق بموجب أسمائه وصفاته، فهو غفور يحب من يتجاوز عمن زل في حقه، تواب يحب من يتجاوز عمن أساء إليه، حليم يحب أهل الحلم والأناة، محسن يحب المحسنين، عفو يحب العفو وأهله، قال ابن القيم: (فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح خلق من يغفر له، ويتوب عليه ويعفو عنه).
ثالثا: كان النبي ﷺ أكمل الناس عفوا وأعظمهم صفحا، وأكثرهم تجاوزا عن زلات الآخرين، امتثالا لقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وقوله سبحانه: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، وقوله عز وجل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقوله تقدس اسمه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).
وفي وصف حلمه وصبره، وكثرة صفحه وتسامحه، وعظم عفوه، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى ينتهك من حرمات الله، فينتقم لله)، وفي رواية: (ولا نيل منه شيء قط فينتقمه من صاحبه، إلا أن يكون لله عز وجل، فإن كان لله انتقم له)، وتقول رضي الله عنها: (كان أحسن الناس خلقا، ... ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح).
وعندما قيل له ﷺ: يا رسول الله، ادعُ على المشركين-والذين عظمت أذيتهم له-، قال: (إنِّي لم أبعث لعَّاناً، وإنما بُعِثْتُ رحمة).
وقد أورد عطاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن من صفته ﷺ في التوراة، أنه: (لا يدفع بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويغفر).
وعفوه ﷺ عن الناس كثير، ومن الحوادث التي يظهر فيها كريم عفوه ﷺ، أنه لما فتح مكة ووجد رجالات قريش جالسين مطأطئين الرؤوس، ينتظرون حكمه  فيهم، قال لهم: (يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟)، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال:( فاذهبوا فأنتم الطلقاء)، وعفا عنهم بعدما ارتكبوا من الجرائم ما لا يحصى عده، في حقه ﷺ وحق أصحابه الكرام.
وجاء رجل يريد قتله، فاكتشف أمره وظهر حاله، فقال أصحابه: إن هذا جاء يريد قتلك، فاضطرب الرجل من شدة الخوف وفزع، فقال له النبي : (لن تراع، لن تراع، ولو أردت ذلك- أي: قتلي- لم تسلط عليَّ)، لأن الله أعلمه بعصمته من الناس، فعفا عنه  وقد أراد قتله.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أن يهودية أتت النبي ﷺ بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها فقيل: ألا نقتلها، قال: لا)، وقد جاء أنه ﷺ قتلها، والمختار أنه ﷺ عفا عنها حين ظن أن سمها لم يصب غيره، فلما علم ﷺ يأن بشر بن البراء رضي الله عنه مات من ذلك السم أسلمها لأوليائه فقتلوها، فعفا ﷺ عن حقه أولا، ولم يأذن بقتلها، ولم يسقط حق بشر رضي الله عنه، والذي قتلته بسمها، فأذن لأوليائه بقتلها به، والله أعلم.
وقد كان عفوه ﷺ ممزوجا بحلم وأناة، فقد جاء من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله ﷺ فضحك، ثم أمر له بعطاء).
وجاء ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى رسول الله ﷺ يحكي نبيا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)، قال النووي: (هذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا ﷺ مثل هذا يوم أحد، ... وفيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر والعفو والشفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون).
وقد جعل الله تعالى رسوله ﷺ أسوة صالحة للناس، في أقواله وأفعاله وأحواله، وفي صبره وصفحه وعفوه وحلمه وإحسانه، فقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، فالراشد العاقل، طالب النجاة، من اقتفى أثره ﷺ، وتأسى به، فعفا كعفوه، وصفح كصفحه.
رابعا:  تظافرت النصوص على مشروعية العفو عن الناس والحث على الصفح عن تقصيرهم وزلاتهم، ومن ذلك: قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، فأباح سبحانه الانتصاف من المعتدي بعدل، وحرم ظلمه، وحث على العفو عنه، ومن نفيس السعدي قوله: (وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل).
وقوله سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يعني: وليتركوا وليتجاوزوا وينسوا، ثم رغب على ذلك بأمرين: أحدهما: أن العفو من أسباب مغفرة الله للعافي، إذ معنى: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، أي: ألا تحبون-معاشر المؤمنين أن يغفر الله لكم ذنوبكم-، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم، وثانيهما: ببيان أن العفو والمغفرة من صفات الله اللائق بالعبد تعبده لله به، إذ قال سبحانه: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)،: أي: والله كثير المغفرة، وواسع الرحمة بعباده، فليتأسّ به عباده ويكونوا أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليهم. 
وقوله عز وجل: (وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)، إذ عدَّ تعالى العافين عمن ظلمهم وأساء إليهم من جملة المحسنين، وفي تجلية وجه ذلك يقول طنطاوي:(فإن الله تعالى عقب وصف هؤلاء بالكظم والعفو، بحبه المحسنين. وفي ذلك دليل على أن هؤلاء محسنون، والأوصاف التي وصفوا بها، كلها إحسان إلى من أساء إليهم).
وقوله تقدس اسمه: (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)، قال ابن عباس- في تفسير قوله تعالى: (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ)-:(يريد يأتيك من أخيك المسلم، أو من قريبك، أو من ولدك، أو من زوجتك)، وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا) أي: متجاوزا لمن عفا عن ذنوب غيره، وقوله: (قَدِيرًا) قال الكلبي: (معناه: أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك).
وقوله تبارك وتعالى -في صفات أهل الإيمان-: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، أي: وإذا غضبوا ممن أساء إليهم بالقول أو الفعل يغفرون له زلته، ولا يعاقبونه عليها، عفوا منهم وتفضلا، فسجيتهم وخلقهم وطبعهم -كما يقول ابن كثير-: (تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس).
وقوله ﷺ: (ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)، وفي رواية جاء: (ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا)، ونيل العز إما أن يكون في الآخرة؛ لأنها موطن الجزاء وموضع العز الخالص، وإما أن يكون في الدنيا بما ينال العافي من سيادة ورفعة وسمعة حسنة، وفي تقرير ذلك يقول القاضي عياض: (وقوله: (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا): فيه وجهان، أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه. الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك)، والمرجى أن يجمع الله للعافي العزين، ما دام أراد بعفوه وجه الله ونيل رضاه وثوابه، وقال ابن هبيرة: (وإذا وسوس الشيطان للمسلم بأن هذا يخرجه الناس مخرج الذل؛ فتلك خديعة منه، فكلام رسول الله ﷺ دواء لذلك الداء)، وقال الصنعاني: (لمَّا كان العافي عمَّن ظلمه وهضمه في الظاهر مغلوب، وأنَّ العزة في الانتصاف أخبر ﷺ أنَّ العفو يزداد به العافي عزاً، على عكس ما يتخيل).
وجاء من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (لقيت رسول الله ﷺ فقال لي: يا عقبة بن عامر، صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)، فالصفح عن الزلل، والتجاوز عن المخطئ من جملة الأخلاق الكريمة المجمع عليها، والمأمور بها، في نصوص الكتاب والسنة.
وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟، فصمت، ثم أعاد إليه الكلام، فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفو عنه في كل يوم سبعين مرة)، قال السهارنفوري: (ولا يعصي المملوك مالكه في اليوم سبعين مرة، فإذا أمر بالعفو في اليوم سبعين مرة، فكأنه أمر بأنه يعفو عنه في جميع المرات وجميع الجرائم، لأنها لا تبلغ سبعين مرة).
ويتأكد العفو في حق ذوي المكانة والقدر في الناس؛ لقوله ﷺ: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود)، قال الشافعي: (وذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم: الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة).
ومما جاء في العفو عن ذوي السابقة والفضل، قوله ﷺ: (فإن هذا الحي من الأنصار، يقلون ويكثر الناس، فمن ولي شيئا من أمة محمد ﷺ، فاستطاع أن يضر فيه أحدا أو ينفع فيه أحدا، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيهم)، حفظا منه ﷺ لنصرتهم إياه وإياوئهم.
خامسا: كثرت دعوات السلف إلى العفو وحثهم عليهم، وتطبيقهم له، فمن حثهم عليه، ما جاء عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أنّه قام يوم مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما قال: (استعفوا لأميركم، فإنّه كان يحبّ العفو. ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّي أتيت النّبيّ ﷺ، قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: والنّصح لكلّ مسلم، فبايعته على هذا، وربّ هذا المسجد إنّي لناصح لكم، ثمّ استغفر ونزل)، وقال معاوية رضي الله عنه: (عليكم بالحلم والاحتمال حتّى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصّفح والإفضال)، وقال مالك بن دينار: (أتينا منزل الحكم بن أيّوب ليلا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن، وهو خائف فدخلنا معه عليه، فما كنّا مع الحسن إلّا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصّة يوسف- عليه السّلام- وما صنع به إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النّساء ومن الحبس، ثمّ قال: أيّها الأمير، ماذا صنع الله به؟،أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟، قال: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، يعرّض للحكم بالعفو عن أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم، ولو لم أجد إلّا ثوبي هذا لواريتكم تحته)، وأتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة: ماذا ترى؟، قال: (إنّ الله تعالى قد أعطاك ما تحبّ من الظّفر فأعط الله ما يحبّ من العفو، فعفا عنهم)، ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز فجعل يشكو إليه رجلا ظلمه ويقع فيه، فقال له عمر: (إنّك أن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها)، ومن جميل أقاويل السلف في هذا الباب: (ليس الحليم من ظلم فحلم، حتّى إذا قدر انتقم، ولكنّ الحليم من ظلم فحلم حتّى إذا قدر عفا).
ومن نماذج فعائل كبار السلف في العفو والتجاوز عن الزلة والخطأ، عفو أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قريبه مسطح، وكان ممن خاض في حادثت الإفك، تقول عائشة رضي الله عنها: (لما أنزل الله براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى: (وَلَا يَأتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا).
وقول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه (كلّ النّاس منّي في حلّ)، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النّفر الّذين يدنيهم عمر، -وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبّانا-، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عبّاس: فاستأذن الحرّ لعيينة فأذن له عمر، فلمّا دخل عليه، قال: هي يا ابن الخطّاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتّى همّ به، فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين!، إنّ الله تعالى قال لنبيّه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)، وإنّ هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافا عند كتاب الله).
وما جاء من صنيع حذيفة رضي الله عنه في غزوة أحد، والذي روته عائشة رضي الله عنها، فقالت: (صرخ إبليس يوم أحد في النّاس: يا عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم على أخراهم حتّى قتلوا اليمان، فقال حذيفة: أبي أبي، فقتلوه. فقال حذيفة: غفر الله لكم)
وجلس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في السّوق يبتاع طعاما فابتاع، ثمّ طلب الدّراهم، وكانت في عمامته فوجدها قد حلّت، فقال: لقد جلست وإنّها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهمّ اقطع يد السّارق الّذي أخذها، اللهمّ افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهمّ إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذّنب فاجعله آخر ذنوبه).
وعن قتادة قال: (أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم أو ضمضم؛ كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك).
وعن سعيد بن مسروق، قال: (أصاب الربيع بن خثيم حجر في رأسه فشجه، فجعل يمسح الدم عن رأسه، وهو يقول: اللهم اغفر له، فإنه لم يتعمدني).
ووشى رجل بعامر بن عبد قيس البصري إلى بعض الولاة فأخرج من بلده، ونفي إلى الشام، فسأله بعض أصحابه أن يدعو عليه، فقال لهم عامر: (اللهم من وشى بي وكذب علي وكان سببا في إخراجي من بلدي، والتفريق بيني وبين صحبي، اللهم إني صفحت عنه فاصفح عنه، وهبه العافية في دينه ودنياه، وتغمدني وإياه وسائر المسلمين برحمتك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين).
سادسا: ثمرات العفو: للعفو ثمار وفوائد فوق أن تحصى، في الدنيا والآخرة، ولعل من أبرز ذلك ما يلي:
-    استقامة الحياة، وسكينة النفوس، وتقليل الشرور، فالوقوع في الخطأ طبيعة بشرية، لا محيد من الوقوع فيها، فكل ابن آدم خطاء، ومن دون اعتماد العفو والتصافح والتغافر بين الناس فإن النتيجة ستكون، تنافر النفوس، وتقاطع العلاقات، وشيوع العدوات، وزيادة فشو البغضاء والأحقاد وانتشار الفتن.
-    نبل الأخلاق وتساميها، فالعافي: حسن الخلق، شريف النفس، صبور حليم، صفوح متسامح محسن، رحيم رؤوف، رفيق ذو أناة، عالي الهمة، واسع الصدر، بعيد النظر، قوي الإرادة، متواضع بعيد عن الكبر والجبروت، محبوب بين الخلق، متسامي على الجراح، مقدم للصالح العام على الخاص.
-    القرب من التقى، والتحلي بخصلة شريفة من خصالها، كما قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فالعفو أقرب إلى خشية الله وطاعته، وفي تقرير ذلك يقول السعدي: (رغب في العفو، وأن من عفا، كان أقرب لتقواه، لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة، لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو: أخذ الواجب، وإعطاء الواجب. وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة، أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم، ولهذا قال: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)).
-    عظم الأجر والثواب في الآخرة، فالعافي ينال عفو الله ومغفرته، كما قال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقال سبحانه: (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال (قال ﷺ كان تاجر يداين النّاس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا، فتجاوز الله عنه)، وعنه ﷺ قال: (أتي الله تعالى بعبد من عباده آتاه الله مالا، فقال له: ماذا عملت في الدّنيا؟. قال: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً). قال: يا ربّ آتيتني مالك، فكنت أبايع النّاس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسّر على الموسر وأنظر المعسر. فقال- تعالى: أنا أحقّ بذا منك، تجاوزوا عن عبدي).
والعافي يظفر بمحبة الله تعالى، كما في قوله تعالى: (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، أي المتصفين بذلك، فالعافي من جملة المحسنين، فهو ممن يحبه الله تعالى.
والعافي ينال الشرف الكبير الذي لا يوصف، والثواب الجزيل الذي لا حد له ولا عد، لقوله تعالى: (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، قال أبو السعود: ((فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، عِدَة مبهمة منبئة عن عظم شأن الموعود وخروجه عن الحد المعهود)، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (بلغنا أنّ الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فليقم، فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن النّاس).
-     التعبد بصفات الله تعالى، فالله عفو غفور يحب العفو والعافين، وقد كان ﷺ أعظم من صفح من عباد الله، وأجل من عفا، فالمؤمن العافي من أولياء الله المتقين، ومن أتباع سيد المرسلين، المتأسيين بفعاله الكريمة، والسائرين على نهجه في التحلي بهذا الخلق النبيل.

سابعا: ضوابط العفو: لعل من اهم ضوابط العفو المشروع:
-    أن يبتغي العافي بعفوه رضوان الله، حتى ينيله الله بفضله ثوابه، لأن العافي متقرب بعفوه، وكل قول أو عمل لا يبتغى به وجه الله فليس من عمل الآخرة، وليس بقربة.
-     أن يكون العافي هو صاحب الحق، لا غيره، لأن عفو من لا يملك الحق مضيع للحقوق، ومزيل للعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولذا نجد النبي ﷺ عفا أولا عن اليهودية صاحبة الشاة المسمومة ولم يقتلها تنازلا منه ﷺ عن حقه، فلما مات بشر بن البراء رضي الله عنها بسبب سمها، سلمها لأوليائه الذين طالبوا بالقصاص منها، فقتلوها به، حتى يقام العدل، ولا يضيع الحق بين الناس.
-    ألا ينشأ عن العفو مفسدة، كأن يتمادى الجاني في ظلمه ويجترئ على الناس، فإن أخذ الحق -والحالة هذه- مقدم على العفو، لأن في ذلك إعزاز الحق، وكف للأذى عن الضعفاء، وكسر لشوكة أهل البغي والعدوان، وفي ذلك يقول الخادمي الحنفي: (لكن قد يكون العدل أفضل من العفو بعارض موجب لذلك، مثل كون العفو سببا لتكثير ظلمه -لتوهمه أن عدم الانتقام منه للعجز-، وكون الانتصار سببا لتقليله أو هدمه؛ -إذا كان الحق قصاصا مثلا-، أو نحو ذلك من العوارض، مثل كونه: عبرة للغير).
ويقول السعدي: (وشرط الله في العفو: الإصلاح فيه، -يريد في قوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)-، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به)، ويقول ابن عثيمين: (العفو لا يكون خيرا إلا إذا كان فيه إصلاح، فإذا أساء إليك شخص معروف بالإساءة والتمرد والطغيان على عباد الله، فالأفضل ألا تعفو عنه، وأن تأخذ بحقك، لأنك إذا عفوت ازداد شره، أما إذا كان الإنسان الذي أخطأ عليك قليل الخطأ قليل العدوان، لكن أمر حصل على سبيل الندرة، فهنا الأفضل أن تعفو)، وعليه فالعفو لا يستحب مطلقا، وإنما يستحبّ حيث كان أصلح، فمتى لم يكن أصلح لم يستحب.
-    أن يكون العفو نابع عن جود ورغبة العافي في الإحسان طلبا للأجر، لا عن خوف وإكراه ومهانة، وفي التفريق بين عفو الإحسان وعفو المهانة، يقول ابن القيم: (العفو إسقاط حقك جودا وكرما وإحسانا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل فإن صاحبه يترك الانتقام عجزا وخوفا ومهانة نفس، فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)، فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء مالهم عليه، ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح).
فإن عجز المعتدى عليه عن أخذ حقه، فاللائق في حقه الصبر -حتى يقدر- لا العفو؛ لكيلا يلحقه ذل، فإذا قدر، فإن شاء أن يعفو تفضلا واحتسابا عفا، وفي تقرير ذلك، يقول إبراهيم النخعي -حاكيا حال السلف-: (كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا)، فالممدوح من العفو ما كان بعد قدرَة، لا عفو العجز والذل والمهانة.
-    الحدود متى بلغت الإمام أو نائبه فلا عفو فيها ولا شفاعة، لحديث صفوان بن أمية رضي الله عنه (أن رجلا سرق بردة فرفعه إلى النبي ﷺ، فأمر بقطعه فقال: يا رسول الله، قد تجاوزت عنه. قال: فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا وهب، فقطعه رسول الله ﷺ)، ولقوله ﷺ: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، قال المناوي: (أي: ارفعوا عنهم العقوبة على زلاتهم، فلا تؤاخذوهم بها، (إلا الحدود) إذا بلغت الإمام، وإلا حقوق الآدمي فإن كلا منهما يقام، فالمأمور بالعفو عنه هفوة أو زلة لا حد فيها، وهي من حقوق الحق، والخطاب للأئمة ومن في معناهم).
ثامنا، العفو مأمور به مع كل الخلق، الأقارب والبعداء، المسلمون والكفار، متى لم يكن في الأمر استطالة على الخلق، ولا كسر لشوكة الحق، لأن الغرض منه تربية النفس على التواضع والتسامح والرفق، ونشر الرحمة والإحسان بين الخلق، وطلب الثواب من الرب الجليل سبحانه، كما عفا النبي ﷺ عن اليهودية التي سمته، وقال أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، وهذا وإن كان قبل فرض الجهاد والأمر بمقاومة طغيان المشركين وردعهم، إلا أن ذلك ليس بناف للغفو عن غير المحاربين من غير أهل هذا الدين، فقد كان عفو النبي ﷺ عن اليهودية التي سمته في خيبر، والتي كانت في السنة السابعة من الهجرة، وذلك بعد صلح الحديبية. 
والله الهادي
أضافة تعليق