تقوم خريطة الإدراك في الإسلام على جناحين لا ينفصلان:
جناح يعلو بالعقل نحو ضياء المعرفة، وجناح يهبط بالقلب نحو أرض الأخلاق.
يقول الشاعر الرُّصافي:
وما إن فاز أكثرنا علوماً.. ولكن فاز أسلمنا ضميرا
كأن الشاعر يقول: إن المعرفة وحدها لا تكفي، بل لا بد من خلق وضمير حي.
لكن ما علاقة الأخلاق بالمعرفة؟
وهل المعرفة هي الأخلاق نفسها؟
وهل تقوم الأخلاق على المعرفة أم أنَّ لكلٍّ منهما مجراه الخاص؟
بين المعرفة والأخلاق ارتباط وثيق لا ينفصم؛ قال الله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) بُعدٌ معرفي، وقال: (وإنّك لعلى خلق عظيم) بُعدٌ أخلاقي.
إذن؛ لقد أشارت مقدمة سورة القلم إلى النور الذي يسيل من حبر التفكر والسؤال والعلم، وكذلك إلى النور الذي يسيل من صفاء الروح وجمال السيرة.
فإذا التقيا، صار العقل مضيئاً والقلب مستقيماً، وإذا افترقا، تاه العقل في الظنون، وتيبّس القلب في الفراغ.
المعرفة إذن؛ تُغذّي الأخلاق وتُوجِّهها، والأخلاق تُجمّل المعرفة وتُكمِّلها، فلا تنحرف عن مسار الحق ولا تتجرد من معناها الإنساني.
المعرفة شأنٌ عقليٌّ: تقعيد وتأصيل، بحث واستنتاج، إضاءة للعقل وتوسيع لأفق النظر.
الأخلاق شأنٌ عمليٌّ اجتماعيٌّ: ترجمة حيّة، وحضور سلوكيّ، وتجسيد لقيم الحق في واقع الناس.
المعرفة عقلٌ يبحث، وقلمٌ يسطر، وأفقٌ مفتوح على المعاني.
والأخلاق حياةٌ تُترجم، وعدل يمشي على قدمين، ورحمة تسري بين الخلائق.
قال الله تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
فالمعرفة انفتاح للعقل على نور الوحي، واستجابة لنداء الفهم والبحث والتأمل.
وليست الأخلاق كلاماً منمَّقاً ولا شعورا عابراً، بل سلوكٌ حيٌّ يمشي على الأرض، يحيي القلوب ويقيم العدل بين الناس.. صادر عن "قوة في النفس راسخة وقناعة تامة"؛ (محمد عبد الله دراز- كلمات في مبادئ الأخلاق).
لقد كان رسول الله ﷺ أعلمَ الناس بربه وأخشاهم وأعلم بأسرار الحكمة، ومع ذلك لم يقف علمه عند الحدّ النظري للمعرفة، بل تجسّد خُلُقا حيّاً: استشرافاً للنَّقاء، تواضعاً مع الضعيف، إنصافاً للمظلوم.. شهد له عدوه قبل صديقه؛ قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أول ما نزل الوحي: " كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتكسبُ المعدوم، وتُقرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق."
فهكذا امتزج العلم بالخلق، فصار النور الذي في العقل شعلةً تهدي القلوب، والحق الذي في القلب عدلاً يسري في الحياة.
ولا تتحقق ثمار المعرفة إلا حين تُعانق الأخلاق؛ وإلا ظلّت معلّقة على حبال الاحتمالات، وقد تتحول إلى أداة للشر والفساد إن انفصلت عن ميزان القيم.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى أقوام غرَّهم ما أُوتوا من علم ومعرفة؛ فأصيبوا بداء العُجب والغرور؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وفي الغرب .. حين انفصلت المعرفة عن الأخلاق، تحوّل العقل إلى آلة باردة، فاخترعوا القنبلة النووية وأشعلوا بها حروباً عالمية ودماراً شاملا، وقطّعوا أوصال الروح عن العقل، " فانبثق أدبٌ مشوَّه، وفنٌّ مفرغ من القيم العليا، مستهلكٌ، مثيرٌ للغرائز والشر، يلهو بالعقول ولا يسمو بالأرواح "؛ (بتصرف من كتاب: سؤال الأخلاق "الذوق الجمالي" – طه عبد الرحمن)
يقول البردوني في روَّاد الحداثة:
قالوا همُ البشرُ الأرقى؛ وما أكلوا.. شيئاً كما أكلوا الإنسانَ أو شربوا
إن معيار المعرفة الحقّة في التصور الإسلامي هو الأخلاق؛ فالمعرفة التي لا تحمل نورا يهدي، وعدلاً يُقيم، ورحمة تفيض، معرفةٌ ناقصة، أشبه بمصباح ينير العيون ويترك القلوب في عتمتها.
قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾، فجعل رفعة العلم مقرونةً بالإيمان، ليبقى العقل مسكوناً بالهداية، والبحث العلميّ موصولاً بنور القيم.
هذه إلماحة يسيرة حول علاقة المعرفة بالأخلاق في خريطة الإدراك الإسلامية؛ ومهما اتسعت مسالك البحث وتعمّقت جذور العلم، فلن يُؤتيَ العقلُ أُكُلَه إلا إذا سُقِي بماء القيم، ولن يُزهرَ الفكرُ إلا إذا استظلَّ بفيء الأخلاق، فهما في التّصوّر القرآنيّ جناحان لا يفترقان، ولا يكتمل بهما التَّحليق إلا معاً.
جناح يعلو بالعقل نحو ضياء المعرفة، وجناح يهبط بالقلب نحو أرض الأخلاق.
يقول الشاعر الرُّصافي:
وما إن فاز أكثرنا علوماً.. ولكن فاز أسلمنا ضميرا
كأن الشاعر يقول: إن المعرفة وحدها لا تكفي، بل لا بد من خلق وضمير حي.
لكن ما علاقة الأخلاق بالمعرفة؟
وهل المعرفة هي الأخلاق نفسها؟
وهل تقوم الأخلاق على المعرفة أم أنَّ لكلٍّ منهما مجراه الخاص؟
بين المعرفة والأخلاق ارتباط وثيق لا ينفصم؛ قال الله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) بُعدٌ معرفي، وقال: (وإنّك لعلى خلق عظيم) بُعدٌ أخلاقي.
إذن؛ لقد أشارت مقدمة سورة القلم إلى النور الذي يسيل من حبر التفكر والسؤال والعلم، وكذلك إلى النور الذي يسيل من صفاء الروح وجمال السيرة.
فإذا التقيا، صار العقل مضيئاً والقلب مستقيماً، وإذا افترقا، تاه العقل في الظنون، وتيبّس القلب في الفراغ.
المعرفة إذن؛ تُغذّي الأخلاق وتُوجِّهها، والأخلاق تُجمّل المعرفة وتُكمِّلها، فلا تنحرف عن مسار الحق ولا تتجرد من معناها الإنساني.
المعرفة شأنٌ عقليٌّ: تقعيد وتأصيل، بحث واستنتاج، إضاءة للعقل وتوسيع لأفق النظر.
الأخلاق شأنٌ عمليٌّ اجتماعيٌّ: ترجمة حيّة، وحضور سلوكيّ، وتجسيد لقيم الحق في واقع الناس.
المعرفة عقلٌ يبحث، وقلمٌ يسطر، وأفقٌ مفتوح على المعاني.
والأخلاق حياةٌ تُترجم، وعدل يمشي على قدمين، ورحمة تسري بين الخلائق.
قال الله تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
فالمعرفة انفتاح للعقل على نور الوحي، واستجابة لنداء الفهم والبحث والتأمل.
وليست الأخلاق كلاماً منمَّقاً ولا شعورا عابراً، بل سلوكٌ حيٌّ يمشي على الأرض، يحيي القلوب ويقيم العدل بين الناس.. صادر عن "قوة في النفس راسخة وقناعة تامة"؛ (محمد عبد الله دراز- كلمات في مبادئ الأخلاق).
لقد كان رسول الله ﷺ أعلمَ الناس بربه وأخشاهم وأعلم بأسرار الحكمة، ومع ذلك لم يقف علمه عند الحدّ النظري للمعرفة، بل تجسّد خُلُقا حيّاً: استشرافاً للنَّقاء، تواضعاً مع الضعيف، إنصافاً للمظلوم.. شهد له عدوه قبل صديقه؛ قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أول ما نزل الوحي: " كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتكسبُ المعدوم، وتُقرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق."
فهكذا امتزج العلم بالخلق، فصار النور الذي في العقل شعلةً تهدي القلوب، والحق الذي في القلب عدلاً يسري في الحياة.
ولا تتحقق ثمار المعرفة إلا حين تُعانق الأخلاق؛ وإلا ظلّت معلّقة على حبال الاحتمالات، وقد تتحول إلى أداة للشر والفساد إن انفصلت عن ميزان القيم.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى أقوام غرَّهم ما أُوتوا من علم ومعرفة؛ فأصيبوا بداء العُجب والغرور؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وفي الغرب .. حين انفصلت المعرفة عن الأخلاق، تحوّل العقل إلى آلة باردة، فاخترعوا القنبلة النووية وأشعلوا بها حروباً عالمية ودماراً شاملا، وقطّعوا أوصال الروح عن العقل، " فانبثق أدبٌ مشوَّه، وفنٌّ مفرغ من القيم العليا، مستهلكٌ، مثيرٌ للغرائز والشر، يلهو بالعقول ولا يسمو بالأرواح "؛ (بتصرف من كتاب: سؤال الأخلاق "الذوق الجمالي" – طه عبد الرحمن)
يقول البردوني في روَّاد الحداثة:
قالوا همُ البشرُ الأرقى؛ وما أكلوا.. شيئاً كما أكلوا الإنسانَ أو شربوا
إن معيار المعرفة الحقّة في التصور الإسلامي هو الأخلاق؛ فالمعرفة التي لا تحمل نورا يهدي، وعدلاً يُقيم، ورحمة تفيض، معرفةٌ ناقصة، أشبه بمصباح ينير العيون ويترك القلوب في عتمتها.
قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾، فجعل رفعة العلم مقرونةً بالإيمان، ليبقى العقل مسكوناً بالهداية، والبحث العلميّ موصولاً بنور القيم.
هذه إلماحة يسيرة حول علاقة المعرفة بالأخلاق في خريطة الإدراك الإسلامية؛ ومهما اتسعت مسالك البحث وتعمّقت جذور العلم، فلن يُؤتيَ العقلُ أُكُلَه إلا إذا سُقِي بماء القيم، ولن يُزهرَ الفكرُ إلا إذا استظلَّ بفيء الأخلاق، فهما في التّصوّر القرآنيّ جناحان لا يفترقان، ولا يكتمل بهما التَّحليق إلا معاً.