مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/02/11 17:39
جماليات الصورة الفنية في قصيدة: صلاة السبتمبريين
توطئة:
تمرُّ بكل أمة محطة للذكرى، تتخذ منها العبر والدروس، وتشحذ فيها الهمم والعزم، وتجدد العهد والولاء، للوطن تربةً وتاريخاً ولغةً. الوطن الحاضن الأول لكل نشاط ذهني وروحي، أصبح يوماً نظامُ دولة، ومدرسة وجامعة، ومحراب صلاة، ومعهد موسيقى.

وأروع تلك المحطات وأخلدها ذكرى الاستقلال، حيث تتجسد فيها فكرة: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة". هذه الإرادة هي التي تنسجم مع سنن الله في الأفراد والمجتمعات، كما تتجلى في الطبيعة والحياة: "فلا بد أن يستجيب القدر".

وفي سياق المناسبات الوطنية، ونحن نحتفي اليوم بذكرى ثورة: 11 فبراير؛ نقف عند قصيدة "صلاة السبتمبريين" للشاعر علي بن علي صبرة، التي تغنت بها حنجرة أيوب طارش العبسي، فأصبحت نشيداً خالداً في ذاكرة اليمنيين.

سنتناول القصيدة وفق منهج وصفي تحليلي، مسلطين الضوء على الصورة الفنية وما تحمله من قيم فكرية وشعورية، مع تقسيم الأبيات إلى وحدات موضوعية.

1- العنوان: "صلاة السبتمبريين"
العنوان هو العتبة الأولى للنص، وهو مدهش في تركيبه ومثير في دلالته، إذ يوظف الصلاة، وهي مفهوم ديني مقدس، في سياق وطني، مما يخلق مفارقة لغوية عميقة.

لماذا أطلق الشاعر على هذه الذكرى "صلاة"؟ هنا نجد أن سبتمبر عنده ليس مجرد تاريخ، بل طقس روحي، ومحراب للحرية، ووضوءٌ للنضال. فالدماء التي سالت في سبيل الثورة صارت دعاءً مستجابا، وهتافات الأحرار صارت آياتٍ تتلى في معابد الوطنية. وهكذا ينجح الشاعر في تقديس الثورة دون أن يخرجها من إطارها الواقعي.

2- الصورة الاستعارية: "فرحة السماء"
"انثري الشهب حولنا يا سماءُ..واسكبي الضوء والندى يا ذكاءُ"
في هذه الأبيات، يصور الشاعر السماء وكأنها تشاطر الشعب فرحته، فتنثر الشهب والضياء، وكأنها تحتفل معهم. هذه استعارة مكنية تُجسد السماء والشمس على هيئة كائن حيّ يُشارك في العيد الوطني.
المفارقة الأجمل تكمن في قوله: "واسكبي الضوء والندى"، فالضوء طبيعي ومتوقع، لكن الندى؟ هنا الشاعر يخلق صورة شمس روحانية، لا تحرق بل تمنح رحمة وندىً، وكأنها شمس سبتمبر الخاصة، التي تُنير القلوب قبل الأرض. أو الندى بمعناها : "التَّوْرويّ" الجود والكرم، أي: أكرمي هؤلاء الأحرار وارو العطاش للمدنيّة. 

3- الصورة العنقودية: "عودة أيلول"
"عاد أيلول كالصباح جديداً.. سُحقت في طريقه الظلماء"
يبعث الروح في الوجود ويسري.. في دمانا كما يدب الشفاء
"ينشر الحب والسلام ويبني .. نِعْمَ بان لنا ونِعْمَ البناء"
الصورة العنقودية تجمع عدة صور مترابطة حول فكرة مركزية، وهنا يدور المشهد حول عودة سبتمبر، لكنه ليس مجرد شهر، بل هو شمس تشرق بعد ليل طويل، ومخلّصٌ يُحيي الوطن، وشفاءٌ لجراح الأمة.
يشبه الشاعر أيلول بعودة الصباح، وهذا يستدعي ضِمنياً ليلة ظلماء طويلة، كانت الإمامة فيها ليلاً دامساً من الجهل والظلم.

كما أن التشبيه "يبعث الروح في الوجود" يمنح سبتمبر بُعداً أسطورياً، حيث يبدو كما لو كان عيسى الذي يُحيي الموتى بإذن الله، وكأن الشاعر يقول: لقد مات الوطن قروناً، ثم نفخت الثورةُ فيه روحَ الحياة.

4- الصورة المدوّرة: "غُرَّة الدهر"
"عاد أيلول غرة في جبين الدهر.. تزهو به السنين الوضاء"
عثرت خلفه المطامع صرعى.. وتجارت أمامه الأشلاءُ"
هنا، يتجلى مفهوم الصورة المدورة، حيث ترتبط الصورة بالعنوان "صلاة السبتمبريين"، فنجد أيلول غرة في جبين الدهر، أي أنه أصبح علامة فارقة في جبين الزمن، كما يترك الوضوءُ أثره على جبهة المصلين.
أما في البيت الثاني، فالمشهد يتحول من السمو إلى الصراع، حيث تتساقط المطامع والأشلاء تحت ضربات الثورة. وكأن سبتمبر إعصارٌ يُطهِّر الأرض من الأعداء.

5- الصورة الرمزية: "اللواء والخافق"
"نِعْمَ ما أنجبت لنا بنت كربٍ.. توأمان أيلولنا واللواءُ
يا بلادي يا كبرياء جراحٍ.. رضعت من نزيفها الكبرياءُ
فتخِرُّ الأجيالُ تحت سَوَاريهِ.. فداءً له ونِعْمَ الفداء"
خافقاً كالفؤادِ وسْط الحنايا..كيف تجري بدون قلب دماءُ؟"
هنا نرى أن اللواء (العلم الوطني) ليس مجرد قطعة قماش، بل هو كائن حي ينبض بالحياة، كالفؤاد وسط الحنايا. هذا التشخيص يجعل الوطن قلباً نابضاً، تتدفق منه دماء الحرية، كما تتدفق الدماء في عروق الإنسان.
كما أنَّ "يا بلادي يا كبرياء جراحٍ" يعكس أن الألم لا يُضعف الوطن، بل يمنحه شموخاً وكبرياءً، كأن الجراح تُغذِّي عروقه بمزيد من العزة.

6- الصورة الختامية: "عهد سبتمبر"
"قسماً لن ينال منك دخيلٌ.. أو يبيع المكاسب العملاء
للبلاد البقا وللثورة المجدُ.. وللشعب الِّلوَا والولاءُ"
وهنا تبرز جمالية "التجانس الصوتي" بين "اللواء" و"الولاء"، وهو ما يخلق إيقاعاً موسيقيّا متناغماً يعزز المعنى الشعري ويؤكد ارتباط دَلالة اللواء (الراية، العلم، رمز الثورة والسيادة) بالولاء (الإخلاص للوطن والثورة).
أيضاً، تكرار حرف اللام والمدّ " اللوا ، واللواء "في نهاية الكلمتين يمدّ النَّفَس الشعري، مما يمنح الكلمات وقعاً احتفاليّاً ومهيباً، وكأنها هتافٌ أخيرٌ، يملأ الأفق بصوت النصر والانتماء!
الختام يأخذ طابع القسم والعهد، حيث يُعلن الشاعر أن سبتمبر لن يُباع، وأن دماء الشهداء لن تذهب هدراً. وأن الشعب حي لا يموت وهكذا، يختم القصيدة بروح الإصرار والتحدي، ليظل سبتمبر صلاة أبدية في قلوب السبتمبريين.
وكأن البيت الأخير، توقيعٌ موسيقيٌّ على ميثاق " أيلول " والتمسك بعقيدة: النضال.

ختاماً:

"صلاة السبتمبريين" ليست مجرد قصيدة، إنها نصٌّ طقوسيٌّ ثوريٌّ، نشيدٌ خالد، وعهدٌ لا ينتهي، وروح منفعلة باليمن الأبيّ والثورةُ المشروع. رأينا من خلال استعاراتها الحية، وصورها الرمزية، وتوظيفها المدهش للألوان والحركة والضوء، كيف استطاع الشاعر/ علي بن علي صبره رحمه الله، أن يجعل من سبتمبر كائناً حيَّاً يتنفس الحرية وينبض بالفداء.
وكيف لعبت الصورة الفنية دوراً بارزاً في تعزيز فكرة الشاعر، وتجسيد فرحته، بأسلوب معبر ومؤثر، يُشعِر بالجمال الوطني.
مقالات اخرى
أضافة تعليق