تسيَّدت الدعوة السلفية المعاصرة كثيرًا من المشهد الدعوي لعقود مضت، نشرت فيها التوحيد وأبرزت معالمه، وحذرت من الشرك والبدعة، وعظّمت الدليل، وعرّفت بمنهج السلف الصالح في التلقي والاستدلال، والعلم والعمل، بعيدًا عن أطروحات الغالين، وعبث المفرّطين.
ولكن المراقب في أيامنا هذه يدرك بجلاء أن الدعوة السلفية المعاصرة تعاني حالة من الانكماش في الحضور، والتراجع في الفاعلية، مقرونة بانقسام داخلي وتشظٍ حاد بين تياراتها، وهو ما أفضى إلى انحسار ظاهر لمشروعها في الميدان، وضعف ملموس في تأثيرها العلمي والواقعي.
وهي أزمة تستدعي النظر والمدارسة، لاكتشاف مواضع الخلل، وتحليل أسبابه، واستشراف مخاطره، والتفكير الجاد في سبل معالجته. وفيما يلي عرضٌ لمجمل هذه المحاور، على ضعف بين في الكاتب والمكتوب، رجاء توسع دائرة الحوار البناء والمناقشة الجادة بما يفضي إلى المقصود:
أولًا: مظاهر الأزمة السلفية المعاصرة
يمكن تلخيص أبرز مظاهر الأزمة السلفية المعاصرة وتجلياتها بما يلي:
1.انكماش الصوت السلفي المؤثر في الساحة العلمية والدعوية، وتراجع تأثيره في كثير من جوانب المشهد الدعوي.
2.تفكك التيار السلفي إلى مدارس متمايزة، ومجموعات متصارعة، حتى حول مسائل اجتهادية لا تمس أصول المنهج وقواعده، وبصورة جعل من غالب خطابها: تنازع لا تناصر، وفرقة لا تواصي، وتفكيك لا بناء، وإسقاط وتشويه لا نصح، وبذل للوسع في التقريب من الصواب.
3.انحسار الدور القيادي للدعوة السلفية الراسخة، بعد أن كانت متصدرة لمشهد الأمة العلمي والدعوي والتربوي والبحثي لعقود مضت، وبعد أن كانت عالية الحضور في حث المسلمين على تعميق الاتباع وتعظيم الدليل، وترك التقدم بين يدي الله ورسوله ﷺ، وفي تبيين معالم التوحيد والسنة، وهدم مسارات التقليد بالمطلق وإن صحّ الدليل، ومحاربة مظاهر الغلو والتفريط، وتحولها من مرحلة العرض والدعوة والبيان والبناء إلى مرحلة الدفاع والنقض، في كثير من الساحات والمواقع.
4.شيوع حالة من الانهزام النفسي أمام حملات تشويه الخصوم، مما دفع بعض المنتسبين إلى السلفية إما إلى الانكماش والانطواء، أو المدارة المهملة للبيان، أو التحول لمناهج أخرى، حتى وإن حوفظ على الاسم وبقي الشعار.
5. استشراء الخطاب السلفي الجزئي، الذي يعتني ببعض جوانب المنهج السلفي (عقدية كانت أم علمية أم سلوكية) ويهمل غيرها من الجوانب، وهو ما أدى إلى تجزئة الصورة الكلية للمنهج السلفي، وإلى حدوث اختلال كبير في عرضه عرضا عادلا موضوعيا متوازنا.
6.تصدر بعض المتعالمين -ومن تم توظيف بعضهم من عدة جهات مختلفة- لتمثيله والحديث باسمه، وهو ما ساهم في تشويهه ونفرة الكثيرين منه، ومساعدة خصومه على جمع كل قواهم في مشروع تحجيمه أو حتى إسقاطه، تأسيسًا على تلك الأخطاء المنهجية، والعنف المسلكي، والتجني الكبير الصادر عن بعض التيارات والشخصيات المتصدرة لكثير من المنابر المتحدثة باسمه.
7.تقوقع غالب التيارات السلفية في دائرة الرد والنقض على حساب تمكين الشرعة وترسيخ الأصول والكليات وإقامة المشاريع الحضارية الكبرى التي تحتاجها الأمة، وفق المنطلقات والقواعد المنهجية المعتبرة.
ثانيًا: أسباب الأزمة السلفية المعاصرة
يرجع هذا الواقع السلفي المشكل إلى جملة من الأسباب، منها:
1.انحسار جهود البناء العلمي المنهجي الراسخ، وبخاصة بعد تغيّب كبار علماء التيار السلفي، وانشغال كثير من المنتسبين إليه بالتقارب مع أصحاب المناهج الأخرى، في ظل حملات العداء الصارخ للإسلام، بصورة نجم عنها العودة المتنامية إلى تعلية التقليد المذهبي في سياقيه العقدي والفقهي، على حساب تعظيم الدليل والدوران معه حيث دار، ونجم عنها تصدير رموز تلك المناهج كقيادات علمائية للأمة، دون إشارة إلى مظاهر الخلل المنهجي لدى هذا أو ذاك، بل والتوجه إلى التزكية للكل بالمطلق، بدلًا من الاكتفاء بمعرفة القدر والمنزلة، مع المحافظة على البيان، وبذل النصيحة الرفيقة وبالأسلوب الحكيم تجاه هذا الخطأ أو تلك الزلة.
2.ضعف البناء العلمي والتربوي لكثير من أبناء التيارات السلفية، نجم عنه تمجيد النفس وتجاوز مسلك الفقه والأدب في التعامل مع المخالف، وتفشي ظاهر التعالم، والجرأة على التضليل والتخطئة حتى قبل معرفة وجه قول المخالف وسياقه.
3.. ضغوط الواقع السياسي الإقليمي والدولي، والتي فرضت على بعض التيارات السلفية الانكماش أو الدخول في مساومات فكرية أو المجاراة للحكومات في مواقف خاطئة أو مواقف ملتبسة.
4.حدوث حالة من الخلط الظاهر لدى كثير من السلفيين بين تزكية المنهج المعصوم والممارسة الاجتهادية البشرية، وهو ما أدى في أحيان كثيرة بلا وجه حق إلى تعصيم الاجتهاد البشري وتقديسه تحت أردية عصمة المنهج، بصورة عادت على المنهج السلفي بالتشويه والضعف في ساحتنا اليوم، وساعدت على زيادة حملات خصومه الممنهجة الساعية بكل سبيل لإسقاطه، وتشويه رموزه، كما ومكّنت -في ظل صمت الكبار- صغار الطلاب من التصدّر -قبل التأهّل- لعرضه والذود عنه.
5. الافتراق في الأوليات بين أبناء التيار السلفي، بين عرض المنهج والاستمرار في التأصيل له، وبين ممارسة الاحتساب السياسي، والسعي لجمع كلمة دعاة الأمة وعلمائها في مواجهة موجات التغريب والهيمنة على الأمة، بصورة أدت إلى حدوث ضعف ظاهر في بيان المنهج السلفي، بل وحتى فتور الدعوة إليه من كثير من المحسوبين عليه.
6.غياب المرجعية العلمية والتربوية ذات الخطاب السلفي الجامع القادر على توحيد الكلمة، وتجسير الهوة بين الاتجاهات السلفية المختلفة، والساعية إلى لملمة الصف وتنسيق الجهود دون محو الخصوصيات، ومراعاة الاجتهاد السائغ في ترتيب الأوليات بين تلك المكونات المختلفة.
وهو ما أدى إلى مزيد تفتت وانقسام، وإلى انحسار الخط الجامع بين كافة التيارات السلفية نتيجة وقوع بعضها تحت أسر أصل من أصول المنهج أو جزئية من جزئياته التي ضخمتها تضخيما عاد على بقية الأصول بالنقض، فوالت على ذلك وعادت، وقربت وأبعدت، فاتسعت بسبب ذلك فجوة الثقة بين كثير من أبناء التيار السلفي، بسبب أساليب الخطاب العنيف، القاصر عن التقريب والإقناع.
7.اشتغال كثير من الرموز السلفية بالخطاب السياسي العام على حساب التعليم والتربية، وهو ما أدى إلى غياب البيان الكافي، وقلة الاتسام بالنفسية المتزنة الواقية من الفجور في الخصومة، وأوجب في المقابل حدوث شيء من المداهنة باسم المداراة، وتقديم التوافق الدعوي على حساب البيان العقدي، بصورة يمكن تلخيصها بأن الاتباع لدى بعضهم قد ضُرِب باسم الاجتماع، بصورة أدت إلى تراجع الدور المنشود في الذود عن أصول المنهج أمام موجات تشكيك خصومه الممنهجة به ومسعاهم المتوالي لتعويقه أو إسقاطه.
8.الاستهداف الخارجي الممنهج، عبر كثير من المنصات البحثية والإعلامية والفكرية والسياسية، والتي بدورها ساعدت على توظيف كثير من خصوم المنهج السلفي بوعي أو بغير وعي، بل وجعلت من مهمتهم المركزية هي العمل على تشويهه، وتحميل رموزه كل نقيصة، بما في ذلك ربطه بالتشدد، والتكفير، والانغلاق، والعنف، والإرهاب، مع الإغفال الكامل لمساحات المنهج الواسعة من الرحمة والرفق والحكمة والعدل.
9. استغلال خصوم المنهج السلفي لحالات الانحراف الفردي أو الجماعي داخل بعض التيارات السلفية، واعتبارها -عبر التهاون بالتثبت ومن خلال لغة التعميم الظالمة- ممثلة للسلفية كلها، وتسويق ذلك للبناء عليه في تقويض المنهج من أساسه.
10. تقوقع كثير من أبناء السلفي حول بعض الجوانب تقوقعا أدى إلى انكفائهم الملحوظ على أنفسهم وتأخرهم عن فقه الواقع وفهم المتغيرات والنظر في المآلات، وعن مواكبة بعض التحديات الفكرية والسياسية المعاصرة، كالتحولات في قضايا الهوية، والدولة، والحريات، والغزو الفكري، وقضايا العولمة، وفرض التغريب، والاحتساب السياسي، وهو ما أضعف حضورهم في أوساط كثير من النخب والمراكز المؤثرة.
ثالثًا: مخاطر الأزمة السلفية المعاصرة
إن استمرار هذه الأزمة دون معالجة ينذر بعدد من المخاطر، من أهمها:
1.حدوث نقص ظاهر في تصحيح جوانب الخلل العقدي والتربوي والذي يتركه انكماش المشروع السلفي، فيحل محله خطاب التفلت المنهجي، أو الإقرار بالبدع العقدية تحت رايات التوافق وجمع الكلمة، دون ممارسة لاحتساب أو بذل للنصيحة.
2. استمرار خصوم المنهج السلفي في تشويه المنهجية السلفية في الأصول، وفي منهجيتها في التلقي والاستدلال، عبر الطعن في رموزه ومناهجه، تحت غطاء نقد السلفية وتجاوز أخطائها الواقعية الجسيمة.
3.الخشية من زهد الأجيال الجديدة في الخطاب السلفي، وتحولهم إلى مسارات فكرية بديلة.
4. احتمالية تنافي فقدان الثقة بالمنهج السلفي ورموزه، نتيجة التشظي والاصطفافات الحادة بين تياراته، وضعف التآزر والتناصر، وغياب القيادات العلمية المقنعة للجميع.
5.تحول كثير من المنتسبين للتيارات السلفية من مسلك البيان الراشد إلى العزلة أو الانكماش، أو المبالغة في التبرير والتنازلات، مما يشوه معالم المنهجية السلفية، ويخرجها عن حالة الموضوعية والاتزان.
6.تحول الخلافات الداخلية إلى صراعات تُستثمر خارجيًا في مزيد من التقويض للمشروع الإسلامي برمته، فضل عن السلفي.
رابعًا: سبل معالجة الأزمة السلفية المعاصرة
لعل من أبرز سبل المعالجات الجادة ما يلي:
1.تجديد الطرح العلمي التربوي للمنهج السلفي، بلغة تجمع بين العمق والوضوح، بحيث يتم تقديم الصورة الكلية المتكاملة للمنهج السلفي في عرض الدين وبيان قواعده وأصوله، بعيدا عن مظاهر الغلو والجفاء.
2.إعادة الاعتبار للتأصيل العقدي والتربوي العميق في الوسط السلفي، من خلال برامج تكوينية تعيد بناء العقل السلفي وتجعل من ممارسته العملية محكومة بالأصول العلمية الجامعة والقواعد الأخلاقية الكبرى، غير المختلف عليها.
3.التمييز بين أصول المنهج السلفي ومعالمه الثابتة، وبين ممارسات تياراته ومنتسبيه الاجتهادية، القابلة للصواب والخطأ، والأخذ والرد، دون ما عود على المنهج الأصيل بالتشويه والنقض.
4.تصحيح مفاهيم الانتماء للمنهج السلفي، وبيان أنه منهج لفهم الدين، لا حزب ولا طائفة ولا جماعة ولا انتماء لشيخ أو بلدة، وأن السلفية الصحيحة تسع كل من وافق منهج الصحابة الكرام في النهج، من أي جماعة أو حزب كان، حتى ولو خالف اختيارات بعض المنتسبين لها، ما دام معظِّمًا للدليل، ومراعيًا للأصول السلفية والمنهجية الحاكمة.
5. رد الاعتبار لفقه المقاصد والسياقات داخل المدرسة السلفية، دون ما تفريط في النصوص الثابتة، وافتعال معركة متوهمة بين المقاصد والنصوص، مع العمل على تجديد أدوات الاجتهاد داخل الإطار السلفي، والانفتاح المنضبط والمواكب على المستجدات الفكرية والسياسية في أوساط الأمة بالصورة المأمولة.
6.بناء تحالف علمي سلفي تنسيقي جامع، يُعلي من قدر المشترك، ويدير الخلاف بروح أخوية، ويستعيد لحمة الاتجاهات السلفية الكبرى، عبر اللقاءات العلمية والمبادرات الإصلاحية، والحوارات الموضوعية.
7. تفنيد حملات التشويه الممنهجة، مع إنصاف المخالف وإن زل، والتعاون معه بالمعروف، دون مجاراة له على جوانب الخطأ، مع الرصانة العلمية في الردود على الشبهات، وتسليط الضوء على رموز السلفية المعتدلة، وتجاربها الناجحة في الإصلاح والتعليم والدعوة.
8.الانفتاح على الأمة وبناء تحالفات فكرية راشدة مع أهل القبلة، في مواجهة الحملات التغريبية والإلحادية والعلمانية، مع الحفاظ على ثوابت المنهج، والتعامل مع الآخرين بمنطق الرحمة، والفرح بكل خير، مع البلاغ المبين، لا بمنطق التحامل والتشنيع، ولا المداهنة والسكوت على الباطل الواضح باسم المدارة والحكمة والحرص على تقريب النفوس.
9.إعداد ميثاق تأصيلي–إعلامي متكامل، يعيد إبراز السلفية كمرتكز أصيل في وسط جماعة المسلمين، ويبطل محاولات اختزالها أو شيطنتها وتنفير الأجيال القادمة من الانتساب إليها.
10.التوجه إلى بناء قيادة علمية جماعية داخل التيار السلفي، بحيث تقود المرحلة المقبلة بعلم وتقى وحكمة ووعي، وبطريقة تجمع بين بيان الحق والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وبين جمع الصف وتوحيد الكلمة والتعاون مع كل مسلم على البر والتقوى.
وختامًا، فإن السلفية الحقة ليست أزمة، بل هي الدواء لأزمة الأمة. وما نشهده اليوم من تجاوز وتشظٍّ داخل الخطاب السلفي لا يعود إلى المنهج السلفي نفسه، بل إلى صور من التقصير أو الانحراف في فهمه أو تنزيله. وإذا صدقت العزائم، واستقامت المراجعات، وارتفعت راية العلم والعمل، ومنهجية الدوران مع الحق حيث دار، فسيعود للمشروع السلفي بريقه، وللدليل منزلته، ولمنهج الصحابة الكرام حضوره الكبير في الساحة.
رزقنا الله جميعا العلم النافع والعمل الصالح، وألهمنا التقى والرشد.
والله الهادي.