مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/10/07 02:03
غَزَّةُ الغَد!
بإذنِ الله، ستنتهي هذه الحَربُ الإجراميَّةُ على غَزَّةَ بكلِّ مآسيها؛ فلكلِّ بدايةٍ نهايةٌ، ولكلِّ أولٍ تالٍ. ولكنْ ما واجبُ أمَّتِنا بعد هذه المجازرِ وذاك التدمير؟ سؤالٌ يستحقُّ النظرَ والتفكيرَ.
وحتى نجيبَ بواقعيَّةٍ فلا بُدَّ أن نتحلّى بإنصافٍ وتجردٍ، وبما لنا وما علينا، ولا بُدَّ أن نصدعَ بأن رسمَ الأمر أكبرُ من قدرةِ فردٍ، ولكن لعلَّ من النقاطِ التي يمكن الإشارة إليها:
أولًا:  أفرزتِ الحربُ جملةً من المكتسباتِ داخلَ الأمَّةِ؛ إن من جهةَ تعلية شأن الجهادِ، وتعميقِ الإخاءِ الإسلاميِّ بين المؤمنينَ وتحقيقَ نوعٍ من التعاضدِ المتاحِ بين شعوبِ المسلمينَ بصورةٍ متجاوزةٍ لاتفاقيَّاتِ سايكس-بيكو وحدودِ التمزقِ التي أريدَ تأطيرُها بينَ الشعوبِ، وهو ما يجبُ تعزيزهُ وعدمُ فتِّ العضدِ فيه أو تشويهه، بل والبناءُ عليه بما يلائمُ النهوضَ؛ فنحن أمَّةٌ منصورةٌ ما حفظتِ اللهَ في أمره، وأخلصتِ العملَ له، وقامتْ بالحقِّ وذادتْ عنه بحسبِ الوسعِ.
وإنّ من جهةِ وجودِ فئةٍ من شبابِ الأمَّةِ الأبرار لديهم قدرةٌ على الثَّباتِ والصُّمودِ في وجهِ الأعداءِ وتكالبهم عليهم بكلِّ ما أوتوا من عتادٍ ومن كلِّ حدب وصوبٍ، وهو ما يوجب الحفاظُ عليهم وصيانتُهم والقيامُ بهم بكلِّ سبيلٍ؛ فهم وأمثالهم ركيزةُ النصرِ ومكتسبُه. وإنّ من جهةِ وعيِ كثيرٍ من شعوبِ الأرضِ وأحرارِها بحقيقةِ الإجرامِ وفظاعةِ تآمرِ المعسكرِ الصليبيِّ-الصهيونيِّ على المسلمينَ ومقدساتِهم، وأن ما يرفعونَه من شعاراتٍ: الحرِّيَّةُ والعدالةُ والإنسانيَّةُ والسيادةُ وحقّ الشعوبِ في تقريرِ المصيرِ ما هي إلا أردية ملساء لتمريرِ أجنداتِهم وتمكينِ هيمنتِهم؛ ولذا فهي متى قادتْ إلى ما يخالفُ رغباتِهم ومصالحَهم داسوها وأظهروا وجهَهم القبيحَ. وتعزيز ذاك الوعي مَكسبٌ بلا شكٍّ، ومنعُ تلاشيهِ أو القفزِ عليه يحتاجُ من الأمَّةِ وقادتها رؤيةً وسعيًا وبذلًا كبيرًا.
ثانيًا: أهميَّةُ تعزيزِ الوعيِ بطبيعةِ التَّدافعِ بينَ الأمَّةِ والمشاريعِ المعاديةِ لها، وأنها مَعركةٌ طويلةٌ ممتدَّةٌ، وأنَّ الأمَّةَ في حالةٍ من التَّفكُّكِ والضَّعفِ وغيابِ الرؤيةِ والاختراقِ بصورةٍ لم تكن معهودةً من قبل، وأن حدوثَ انتكاسةٍ لا قدر الله في لحظةٍ من لحظاتِ الصِّراعِ لا يوقفُ الصراع بل يغيّرُ في الأدواتِ والآلياتِ لا أكثرَ. فالمعركة في أساسِه معركة بينَ حقٍّ وباطلٍ، وبينَ عدلٍ وظُلمٍ، وبينَ إسلامٍ وغيرِ إسلامٍ، وأن التَّخلِّي عن مجابهة الأعداء أو قلبَ طبيعةِ المعركةِ هو تولٍّ كبير، واللهُ تعالى يقولُ: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
فالثَّباتُ في ميادين المعركة واجبٌ، كل بحسبه، ونكوصُ القادرين محرَّمٌ، والتدافع مستمر،بعزٍّ عزيزٍ أو بذلٍّ ذليلٍ،  وفي المقابلِ: فاستعجالُ النتائجِ واختزالُ مراحلِ الإعدادِ وحرق المراحل وتصدر غير المؤهلين شَرٌّ وجرٌّ للأمَّةِ إلى مهاوي الهوى والهلكةِ.
ثالثًا: أنَّ الانقسامَ الدَّعويَّ والمنهجيَّ ما يزالُ يعصفُ بالأمَّةِ إضعافًا وتمزيقًا، حتى صارَ حالُنا كما قالَ اللهُ تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ)، وبلا شكٍّ فجزءٌ من استمرارِ الخلافِ علميٌّ يحتاج إلى تأصيل وتحكيم  لنصوص الوحي المطهر، من دون تلفيقِ بين المتناقضات أو قفزِ على الخلافِ، وجزءٌ منه يعودُ إلى تصديرِ غيرِ العلماءِ الراسخينَ، الذين جعلوا من الحبةِ قبةً ومن الذراعِ باعًا، وجزءٌ منه عدمُ تجرّدٍ للحقِّ وركوبُ لموجاتِ الأهواءِ والخوفِ على الرياساتِ والمصالحِ والتَّحزُّبِ البغيضِ، وجزءٌ منه اختراقٌ من الأعداءِ وتوظيفٌ في هذا الطرفِ أو ذاكَ؛ فالمسلكُ الوظيفيُّ إن صحتِ التسميةُ قد صارَ بكلِّ أسى حالةً مشاهدةً، لا تخطئها العينُ.
فكيفَ لو أضفنا إلى ذلك انقساماتِ الأحزابِ والجماعاتِ، التي كان لها دورُها الإيجابيُّ وأثرُها المباركُ في مرحلةٍ من المراحلِ، وكان على رأسِها جماعاتٌ من أهلِ العلمِ والغيرةِ على الأمَّةِ ورسالتِها، ومع تواليِ الأيامِ أُقصِيَ كثيرٌ من أهلِ العلمِ والتجرُّدِ عن المراكزِ القياديَّةِ، وتصدرت جماعاتٌ من أهلِ الإدارةِ الذينَ حوّلوا أحزابَهم إلى موازيةٍ في الحقِّ والوظيفةِ للأمَّةِ، فحصلَ الغلوُّ والإقصاء والتعصُّبُ المقيتُ، وصارت تلكَ الأحزابُ في كثيرٍ من المضايقِ مفتاحَ انقسامٍ لا اجتماعٍ، وبوابةَ فتنةٍ لا رُشدٍ.
وفي ظنّي بأنّ الأمرَ لن يستقيمَ من دونِ سلوكِ دربٍ طويلٍ من العودةِ الصادقةِ إلى النَّهجِ الأوَّلِ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وأهلُ الذكرِ هم أهلُ العلمِ والخشيةِ، وأولئك الذينَ لا يضربونَ الاجتماعَ بالاتِّباعِ، ولا الاتِّباعَ بالاجتماعِ، ولا يقدّمونَ على الحقِّ والأمَّةِ حزبًا أو جماعةً أيا كانتْ، بل يدورونَ مع الحقِّ حيثُ دارَ، ويجتهدونَ في سلوكِ سبيل الحكمةِ ما وسعهم.
اللهم احفظ غَزَّةَ وأهلَها، وعلماءَها، وجُندَها، وارزقهم النصرَ والثَّباتَ والهدايةَ وسدادَ الرأيِ، وأصلحْ شأنَ الأمَّةِ كلَّه، إنك بر رحيم.
واللهُ الهادي.
 
 
أضافة تعليق