مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/10/31 03:11
لماذا نخبنا غائبة عن أحداث الفاشر؟!
 
سألتُ أحد المفكرين الكبار عن سبب غياب عامة علماء الأمة ومفكريها وروابطها ومنظماتها، بل وشعوبها في الجملة، عمّا يجري في الفاشر من مأساة إنسانية مروّعة، تُذبح فيها المدينة ببطء تحت حصار طويل وجرائم موثقة، ومع ذلك لا تكاد تُذكر في منابرنا العلمائية ولا تُتداول في مجالس الوعي العام. قلت له: كيف تُباد مدينة علي دينار، حافر أبيار علي بجوار المدينة النبوية، وسلطان أعظم مدن الأمة في عدد حفاظ القرآن، ويُغيب خبرها حتى عن ضمير الأمة وسمعها؟
فأجابني بمرارة: كأنك تسأل عن نخبٍ لم تعد تصنع الفعل، بل تكتفي بردات الفعل. نخبٌ تاهت في زمنٍ لم تعد فيه الأمة تصنع وعيها ولا تقود التأثير. فنحن نرى العالم كما يصوّره لنا خصومنا، ونعرف عن مآسينا بقدر ما يُسمح لنا أن نعرف. لقد صرنا نعيش في ظلال الرواية التي يصوغها الآخر؛ نتحرك حين يوجّهنا إعلامه، ونغضب حين يُؤذن لنا بالغضب، ونصمت حين يُراد لنا الصمت.
ثم قال: تخيّل أننا لا نملك من ينقل لنا الصورة استقلالًا، ولا من يتابع الواقع بعيونٍ حرّة صادقة، ولا من يستشرف الأخطار قبل أن تقع. وعينا ضيق بمقدار ما يبثه العدو من صور ومعلومات، بل أصبحنا نعيش على جدار وعيٍ بناه غيرنا؛ فما استرقناه من أصواتهم نسمع، وما أطللنا عليه من نوافذهم نبصر، وما عدا ذلك فنحن عميٌ عن الواقع، صمٌّ عن المأساة، بكمٌ عن النطق بالحق. ولهذا ترانا غائبين عن الفاشر، لا لأن المأساة أقل هولًا من غيرها، بل لأن شاشات العالم لم تُرِد أن تضعها في بؤرة الضوء.
هذه هي أزمتنا الكبرى: أزمة الوعي قبل أزمة السياسة والاقتصاد. فقد تراجعنا من موقع صناعة المعنى إلى موقع الاستهلاك، ومن قيادة الرواية إلى التفرّج عليها. أصبح وعينا محكومًا بعدسات الآخرين، ومواقفنا تُستدرّ بالصدمة لا بالمعرفة. نحن لا نملك قنوات مستقلة، ولا شبكة معلوماتٍ حرّة، ولا إرادة فكرية منتمية للأمة تصوغ الرواية كما هي. ولهذا نغيب عن الفعل لأننا غبنا عن الرؤية.
لقد كان يمكن أن تكون الفاشر اليوم قضية الأمة الأولى، لو امتلكنا نخبة حية تبادر لا تنتظر، وتقود لا تُقاد، وتبني الوعي لا تستهلكه. لكننا أمة أُنهكت في معاركها، وسطح وعي رموزها، وتُركت تتلقى العالم عبر منافذ خصومها. حتى صارت المآسي الكبرى تمرّ أمامنا باردةً لا تثير فينا سوى دهشةٍ عاجزة أو حزنٍ مؤقتٍ لا يتجاوز حدود الشاشة.
إنّ مأساة الفاشر هي مأساة الأمة نفسها؛ فالمجزرة هناك تكشف وحشية القاتل، أما صمتنا فيكشف عجزنا. وما لم نتحرّر من التبعية في الوعي، فسنظلّ نعيش على هوامش التاريخ، نُستدعى للغضب ساعة ويُعاد بنا إلى الصمت أزمنة. إنّ أول طريق الخلاص هو أن نستعيد حقّنا في الرؤية، وأن نملك روايتنا الخاصة، وأن نعيد بناء مؤسسات الفكر والإعلام والبحث على أساسٍ من الحرية والاستقلال والمصداقية.
إنّ السؤال عن غيابنا عن الفاشر ليس سؤالًا عن مأساةٍ بعينها، بل عن غيابنا نحن عن أنفسنا، وعن ضميرنا الجمعي، وعن موقفنا الديني، وعن موقعنا في العالم. فحين تصبح الأمة عاجزة عن أن تشهد على الظلم في أطرافها، فإنها تُفرّغ من رسالتها قبل أن تُسلب من أرضها.
فيا نخب الأمة وعلماءها ودعاتها ومفكريها، عودوا إلى موقع الفعل لا موقع التبرير، ولا تكونوا صدى لما يصنعه العدو، بل صوتًا لما يمليه الدين والضمير. إنّ من لا يملك وعيه لا يملك نفسه، ومن فقد روايته فقد هويته ورسالته، ومن تخلّى عن الشهادة على الظلم، تخلّى عن شرف الانتماء إلى أمةٍ أرادها الله شاهدةً على الناس. 
 
والله الهادي
 
 
أضافة تعليق