في مشهدنا الإسلامي المعاصر تتجلّى ظاهرة مؤلمة لا تخطئها العين، تتمثّل في تراجع الاهتمام بالعلماء والمشايخ وهم أحياء، رغم ما يحملونه من أمانة العلم وما يُمثّلونه من قيمة دينية وفكرية وحضارية للمجتمع. هؤلاء الذين كانوا – عبر التاريخ – قادة الوعي، ومصابيح الهداية، وركائز الإصلاح، أصبح كثير منهم اليوم يعيش في هامش الاهتمام، فلا تحيطهم الرعاية اللازمة، ولا يُقدَّر جهدهم العلمي كما ينبغي، ولا يُمنحون المكانة التي تليق بهم في مؤسسات المجتمع أو في ثقافته العامة.
المؤسف أن هذا التجاهل لا يأتي فقط من بعض الجهات الرسمية، بل يمتد كذلك إلى قطاعات واسعة من الناس، الذين باتوا ينشغلون بفضاءات التواصل والمظاهر الإعلامية على حساب الرموز العلمية والدينية. وحين يغيب العلماء عن الدنيا، تتجه الأنظار فجأة إلى سِيَرهم، وتُفتح سجلات مناقبهم، ويُشاد بأثرهم العلمي والدعوي، وتُستعاد ذكريات عطائهم، وكأن الأمة لا تتذكّر عظماءها إلا عند الفقد!
وقد مثّل رحيل الشيخ محمد المقرمي – رحمه الله – مثالًا جليًّا لهذه الظاهرة. فما إن وافته المنية في مكة المكرمة قبل ليلة البارحة، حتى انهالت الكلمات المؤثرة، والشهادات المعبرة عن جهاده العلمي، وتقواه، وإخلاصه، ونشره للعلم في حياة طلابه ومحبيه. كلمات صادقة ومؤثرة، لكنها جاءت متأخرة؛ جاءت بعد أن طُويت صفحة حياة الرجل، وانتهت سنوات عطائه التي كان فيها أحوج ما يكون إلى الدعم، والتقدير، والوقوف إلى جانبه.
هذه المفارقة تستحق وقفة جادة. فالمجتمعات التي تُهمّش علماءها وهي في أمسّ الحاجة إلى فكرهم وإرشادهم، مجتمعات تحكم على نفسها بفقدان البوصلة. والعلماء ليسوا رموزًا احتفالية تُذكر عند الوفاة، بل هم طاقات حيّة ينبغي رعايتها، والاستفادة منها، وإشراكها في صناعة الوعي العام، وفي ترسيخ قيم الأخلاق والاعتدال، وفي حماية المجتمع من الانزلاق الفكري والديني.
إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب خطوات عملية، تبدأ بإعادة الاعتبار لمكانة العلماء، وتشجيع المؤسسات الرسمية والأهلية على دعمهم، وإبراز جهودهم، وتوفير منابر لهم لتأدية رسالتهم. كما ينبغي للأفراد أن يُعيدوا النظر في علاقتهم بالعلم الشرعي وأهله، وأن يتذكّروا أن هؤلاء العلماء الذين يُشيَّعون بالثناء بعد موتهم، كانوا يستحقون هذا الثناء في حياتهم، يوم كانوا يسهرون على التأليف، أو التعليم، أو الإرشاد، بعيدًا عن ضجيج الشهرة.
إن الوفاء الحقيقي للعلماء لا يكون بمجرد المراثي عند رحيلهم، بل بالوقوف معهم وهم أحياء، وتقدير جهودهم، والتعلم منهم، والعمل بما يحملونه من نور. فالأمة التي تكرّم علمائها في حياتهم، هي أمة تدرك قيمة العلم، وتحفظ جذوة النهضة، وتمسك بمفاتيح مستقبلها.






