بقلوب مؤمنة وراضية نحتسب وفاة الشيخ الداعية المهندس محمد المقرمي، الذي وافته المنيّة فجر يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 في مكة المكرمة، بعد أداء مناسك العمرة، أثناء استعداده لأداء صلاة الفجر، ليختم رحلة عمر قضاها في خدمة القرآن ونشر أنوار الهداية والدعوة.
سيرته:
بدأ الشيخ المقرمي حياته مهندسًا في مجال الطيران المدني، فأتقن عالم الآلات والمحركات، وساهم في تطوير الجوانب التقنية في مجاله، غير أن عالَم الروح كان يناديه، فقادته تأملاته إلى قرار تفرّغ كامل لكتاب الله، ليدخل في عزلة قرآنية استمرت ست سنوات؛ يتلو ويتدبّر ويخلو بكتاب الله، حتى بلغ من الأنس بالقرآن أن يختمه في يوم واحد، لتصبح هذه المرحلة حجر الأساس لمنهجيته الخاصة في ربط الآيات والنظائر القرآنية وقراءتها “كأنها صفحة واحدة”، وهي منهجية ظل يُدرّسها ويطوّرها طوال سنوات عطائه.
وقد عرف عن الشيخ المقرمي رحمه الله تميزه بأسلوب يجمع بين عمق المعرفة القرآنية وبساطة الروح، وقدرة نادرة على الجمع بين القرآن والحديث في رؤية واحدة تكشف معاني دقيقة ولطائف خفية، وكان حضوره الدعوي مؤثراً، سواء في المساجد أو المنصات الرقمية، وترك دروساً ومحاضرات باتت مرجعاً لطلاب العلم والباحثين.
وامتاز بسكينة روح تشبه أهل الله، متواضعًا في المجالس، لا يتكلم إلا فيما يعلم، ولا يرضى بتعظيم الناس له، بل يردّد: “من وجد الله ما افتقد شيئاً… ومن اعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.”
تحوّل من الهندسة إلى التدبّر:
انتقل الشيخ من عالم المحركات الدقيقة إلى عالم المعاني العميقة حين حوّل نظام الترقية الوظيفية – الذي جمد مهاراته الهندسية – إلى فرصة للتأمل في الكون والسماوات، ومن هنا بدأت رحلته الكبرى نحو القرآن؛ متنقلاً بين المشايخ وكتب التفسير، حتى وصل إلى قناعة بضرورة الغوص المباشر في التدبر.
ووضع ما سمّاه “قانون التدبير العملي” القائم على: النية – التفكير المكتمل – الاستشارة – الاستخارة – السعي المتوكّل، ومن أبرز أفكاره وطروحاته:
علاج الشتات العقلي: ركز على توجيه الشباب إلى وحدة الموضوع والتركيز كمنهج قرآني.
فلسفة الرزق: فصل بين “السعي” كواجب، و“النتيجة” كتدبير إلهي، مصححاً المفاهيم المادية للرزق.
الهندسة الروحية للإنسان: كان يرى أن القرآن يرتقي بالإنسان من الإسلام إلى الإيمان ثم الإحسان والتقوى بخطوات عملية.
تنقل بين المنابر والمساجد، وقدّم دروسًا علمية وأعمالاً خيرية، كما شارك في منصات معرفية مثل “أكاديمية علوم الدولية”، وكان آخر ظهور له في بودكاست نشر بتاريخ 21 نوفمبر 2025م، في حلقة تناولت رحلته الفكرية من عالم الهندسة إلى التدبّر، ومنهجيته في معالجة "شتات العقل" بالعودة إلى القرآن، وشارك المقرمي مؤخراً في برنامج “يمانون حول الرسول”، الذي شهد لقاءات روحانية عميقة ومناقشات إيمانية غنية، وقبيل وفاته كان يشرف على مشروع بناء جامع "فردوس مأرب الكبير" ليكون وقفًا علميًا وروحيًا لأبناء اليمن.
ومع هذا لم تقتصر جهوده على الوعظ التقليدي، بل امتدت إلى مجال الهندسة الفكرية، حيث عُرف بـ"المهندس الروحي" الذي بنى جسور الإيمان وأصلح ما تهدم من النفوس في زحمة الحياة.
كلمات في خلق الشيخ الراحل:
عاش الشيخ حياتَه المهنيّة كما يعيشها كلُّ من يبتغي رزقًا كريمًا؛ عمل مهندسًا للطيران، وطاف البلدان، وتعرّف إلى عوالم الناس، وشهد ما لم نشهده، فلم تُغره الزخارفُ ولا استوقفه بريقُ الدنيا، أمضى عمرًا في مهنته، ثم طوى صفحتها وأقبل على نفسه يروّضها حتى انقادت لأمر الله، اعتزل صخب الحياة ليخلو إلى القرآن ستَّ سنواتٍ كاملة، قضاها منكبًّا على التلاوة والتدبّر، حتى بلغ من الأنس بكتاب الله أن يختمه في يومٍ واحد، وحين منح القرآنَ عمرَه ولبَّه، منحه القرآنُ من أنواره وأسراره ما لا يُعطى إلا لأوليائه. أوتي تدبّراتٍ وهداياتٍ ولطائف لا تُرى في كتاب، وأنوارًا تشرق من ألفاظه إشراق الفجر في ليلٍ مظلم. يقرأ القرآن كأنّه صفحة واحدة، يصل الآية بأختها، ويضمّ النظير إلى نظيره، فيستنبط معاني دقيقة تُدهشك لجمالها وبهائها.
وقد جمع إلى فقه القرآن فهمًا بديعًا للحديث النبوي؛ يتناول الحديث المألوف فيأتيك بفهمٍ نادرٍ، ورؤيةٍ تقرّب البعيد، ويربطه بالآية ربطًا محكمًا يظهر معه اكتمال الصورة حين يلتقي قول الحبيب ﷺ بخطاب الرب جلّ جلاله، ومما خبر فيه أنه لا يتكلّم إلا فيما يُحسن؛ تراه في المجلس الكبير كالتلميذ، يصغي بأدب المريد، فإذا سُئل عمّا يعلم أجاب، وإلا آثر الصمت، لا يتشوّف للكلام ولا يتطلّع إليه. فإذا تحدّث، انفتح له باب من الفهم والبيان، ويقول: «هذا رزقكم!».
وإذا نظرت إلى حاله رأيت مثال التدين الفطريّ المشرق؛ يقصد الله في كل أمر، تدينٌ يجمع رقّة التصوف، وكمال التوحيد، وصفاء التوكل، ولين الجانب، والبعد عن الشكليات التي شوّهت صورة التدين، وقزّمته، وأبعدته عن غايته الكبرى.
بفقد الشيخ محمد المقرمي (رحمه الله) تفقد الأمّة واحداً من أهل القرآن الذين جمعوا بين العلم والعمل، وبين العقل المنظم والروح الشفافة، وبين دعوة الحق وتواضع السالكين، نسأل الله أن يجعل ما قدمه في ميزان حسناته، وأن يرفع درجته في عليين، ويجبر مصاب أسرته ومحبيه، ويرحم اليمن وأهلها، ويجبر الأمة بأمثاله.
سيرته:
بدأ الشيخ المقرمي حياته مهندسًا في مجال الطيران المدني، فأتقن عالم الآلات والمحركات، وساهم في تطوير الجوانب التقنية في مجاله، غير أن عالَم الروح كان يناديه، فقادته تأملاته إلى قرار تفرّغ كامل لكتاب الله، ليدخل في عزلة قرآنية استمرت ست سنوات؛ يتلو ويتدبّر ويخلو بكتاب الله، حتى بلغ من الأنس بالقرآن أن يختمه في يوم واحد، لتصبح هذه المرحلة حجر الأساس لمنهجيته الخاصة في ربط الآيات والنظائر القرآنية وقراءتها “كأنها صفحة واحدة”، وهي منهجية ظل يُدرّسها ويطوّرها طوال سنوات عطائه.
وقد عرف عن الشيخ المقرمي رحمه الله تميزه بأسلوب يجمع بين عمق المعرفة القرآنية وبساطة الروح، وقدرة نادرة على الجمع بين القرآن والحديث في رؤية واحدة تكشف معاني دقيقة ولطائف خفية، وكان حضوره الدعوي مؤثراً، سواء في المساجد أو المنصات الرقمية، وترك دروساً ومحاضرات باتت مرجعاً لطلاب العلم والباحثين.
وامتاز بسكينة روح تشبه أهل الله، متواضعًا في المجالس، لا يتكلم إلا فيما يعلم، ولا يرضى بتعظيم الناس له، بل يردّد: “من وجد الله ما افتقد شيئاً… ومن اعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.”
تحوّل من الهندسة إلى التدبّر:
انتقل الشيخ من عالم المحركات الدقيقة إلى عالم المعاني العميقة حين حوّل نظام الترقية الوظيفية – الذي جمد مهاراته الهندسية – إلى فرصة للتأمل في الكون والسماوات، ومن هنا بدأت رحلته الكبرى نحو القرآن؛ متنقلاً بين المشايخ وكتب التفسير، حتى وصل إلى قناعة بضرورة الغوص المباشر في التدبر.
ووضع ما سمّاه “قانون التدبير العملي” القائم على: النية – التفكير المكتمل – الاستشارة – الاستخارة – السعي المتوكّل، ومن أبرز أفكاره وطروحاته:
علاج الشتات العقلي: ركز على توجيه الشباب إلى وحدة الموضوع والتركيز كمنهج قرآني.
فلسفة الرزق: فصل بين “السعي” كواجب، و“النتيجة” كتدبير إلهي، مصححاً المفاهيم المادية للرزق.
الهندسة الروحية للإنسان: كان يرى أن القرآن يرتقي بالإنسان من الإسلام إلى الإيمان ثم الإحسان والتقوى بخطوات عملية.
تنقل بين المنابر والمساجد، وقدّم دروسًا علمية وأعمالاً خيرية، كما شارك في منصات معرفية مثل “أكاديمية علوم الدولية”، وكان آخر ظهور له في بودكاست نشر بتاريخ 21 نوفمبر 2025م، في حلقة تناولت رحلته الفكرية من عالم الهندسة إلى التدبّر، ومنهجيته في معالجة "شتات العقل" بالعودة إلى القرآن، وشارك المقرمي مؤخراً في برنامج “يمانون حول الرسول”، الذي شهد لقاءات روحانية عميقة ومناقشات إيمانية غنية، وقبيل وفاته كان يشرف على مشروع بناء جامع "فردوس مأرب الكبير" ليكون وقفًا علميًا وروحيًا لأبناء اليمن.
ومع هذا لم تقتصر جهوده على الوعظ التقليدي، بل امتدت إلى مجال الهندسة الفكرية، حيث عُرف بـ"المهندس الروحي" الذي بنى جسور الإيمان وأصلح ما تهدم من النفوس في زحمة الحياة.
كلمات في خلق الشيخ الراحل:
عاش الشيخ حياتَه المهنيّة كما يعيشها كلُّ من يبتغي رزقًا كريمًا؛ عمل مهندسًا للطيران، وطاف البلدان، وتعرّف إلى عوالم الناس، وشهد ما لم نشهده، فلم تُغره الزخارفُ ولا استوقفه بريقُ الدنيا، أمضى عمرًا في مهنته، ثم طوى صفحتها وأقبل على نفسه يروّضها حتى انقادت لأمر الله، اعتزل صخب الحياة ليخلو إلى القرآن ستَّ سنواتٍ كاملة، قضاها منكبًّا على التلاوة والتدبّر، حتى بلغ من الأنس بكتاب الله أن يختمه في يومٍ واحد، وحين منح القرآنَ عمرَه ولبَّه، منحه القرآنُ من أنواره وأسراره ما لا يُعطى إلا لأوليائه. أوتي تدبّراتٍ وهداياتٍ ولطائف لا تُرى في كتاب، وأنوارًا تشرق من ألفاظه إشراق الفجر في ليلٍ مظلم. يقرأ القرآن كأنّه صفحة واحدة، يصل الآية بأختها، ويضمّ النظير إلى نظيره، فيستنبط معاني دقيقة تُدهشك لجمالها وبهائها.
وقد جمع إلى فقه القرآن فهمًا بديعًا للحديث النبوي؛ يتناول الحديث المألوف فيأتيك بفهمٍ نادرٍ، ورؤيةٍ تقرّب البعيد، ويربطه بالآية ربطًا محكمًا يظهر معه اكتمال الصورة حين يلتقي قول الحبيب ﷺ بخطاب الرب جلّ جلاله، ومما خبر فيه أنه لا يتكلّم إلا فيما يُحسن؛ تراه في المجلس الكبير كالتلميذ، يصغي بأدب المريد، فإذا سُئل عمّا يعلم أجاب، وإلا آثر الصمت، لا يتشوّف للكلام ولا يتطلّع إليه. فإذا تحدّث، انفتح له باب من الفهم والبيان، ويقول: «هذا رزقكم!».
وإذا نظرت إلى حاله رأيت مثال التدين الفطريّ المشرق؛ يقصد الله في كل أمر، تدينٌ يجمع رقّة التصوف، وكمال التوحيد، وصفاء التوكل، ولين الجانب، والبعد عن الشكليات التي شوّهت صورة التدين، وقزّمته، وأبعدته عن غايته الكبرى.
بفقد الشيخ محمد المقرمي (رحمه الله) تفقد الأمّة واحداً من أهل القرآن الذين جمعوا بين العلم والعمل، وبين العقل المنظم والروح الشفافة، وبين دعوة الحق وتواضع السالكين، نسأل الله أن يجعل ما قدمه في ميزان حسناته، وأن يرفع درجته في عليين، ويجبر مصاب أسرته ومحبيه، ويرحم اليمن وأهلها، ويجبر الأمة بأمثاله.







