إِنَّ التأمُّل في كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي حياة الأمم والشُّعوب تكسب العبد معرفةً أصيلةً بأثر سنن الله في الأنفس، والكون، والآفاق، وكتاب الله تعالى مليءٌ بسننه، وقوانينه المبثوثة في المجتمعات، والدُّول، والشُّعوب، قال تعالى:{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ } [سورة النساء:26].
وسنن الله تتَّضح بالتَّدبُّر في كتاب الله، وفيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقتنص الفرص، ويستفيد من الأحداث ليرشد أصحابه إِلى شيءٍ من السُّنن، ومن ذلك: أنَّ ناقته ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ «العضباء» كانت لا تُسبق، فحدث مرَّةً أن سبقها أعرابيٌّ على قعودٍ له، فشقَّ ذلك على أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ كاشفاً عن سنَّةٍ من سنن الله: «حقٌّ على الله أن لا يرفع شيئاً من الدُّنيا إِلا وضعه».
وقد أرشدنا كتاب الله إِلى تتبُّع آثار السُّنن في الأمكنة بالسَّعي، والسَّيْر، وفي الأزمنة من التَّاريخ، والسِّير، قال تعالى: {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ١٣٧هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ ١٣٨} [آل عمران: 137 ـ 138].
وأرشدنا القرآن الكريم إِلى معرفة السُّنن بالنَّظر، والتَّفكُّر، قال تعالى: {قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١فَهَلۡ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثۡلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ قُلۡ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ ١٠٢} [يونس: 101 ـ 102].
ومن خلال آيات القرآن يظهر لنا: أنَّ السُّنن الإِلهيَّة تختصُّ بخصائص:
أوَّلاً: إِنَّها قدرٌ سابقٌ:
قال تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا ٣٨} [سورة الأحزاب:38].
أي: أنَّ حكم الله تعالى، وأمره الَّذي يقدِّره كائنٌ لا محالة، وواقعٌ لا حياد عنه، ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ثانيًا: إِنَّها لا تتحوَّل، ولا تتبدَّل:
قال تعالى: {لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٠مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا ٦١} [الأحزاب: 60 ـ 61].
وقال تعالى: {وَلَوۡ قَٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٢٢سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا ٢٣} [الفتح: 22 ـ 23].
ثالثًا: إِنَّها ماضية لا تتوقَّف:
قال تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدۡ مَضَتۡ سُنَّتُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٣٨} [سورة الأنفال:38] .
رابعاً: إنَّها لا تُخالَف، ولا تنفع مخالفتُها:
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاق بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 82 ـ 85].
خامساً: لا ينتفع بها المعاندون، ولكن يتَّعظ بها المتَّقون:
قال تعالى: {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ١٣٧هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ ١٣٨} [آل عمران: 137 ـ 138].
سادساً: إنَّها تسري على البَرِّ والفاجر:
فالمؤمنون، والأنبياء أعلاهم قدراً تسري عليهم سنن الله، ولله سننٌ جاريةٌ تتعلَّق بالآثار المترتِّبة على من امتثل أمر الله، أو أعرض عنه، وبما أنَّ العثمانيِّين التزموا بشرع الله في كلِّ شؤونهم، ومرُّوا بمراحل طبيعيَّةٍ في حياة الدُّول، فإِنَّ أثر حكم الله فيهم واضحٌ بيِّن.
وللحكم بما أنزل الله آثار دنيويَّة، وأخرى أخرويَّةٌ. أمَّا الآثار الدُّنيويَّة الَّتي ظهرت لي من خلال دراستي للدَّولة العثمانيَّة؛ فإِنَّها:
أوَّلاً: الاستخلاف، والتَّمكين:
حيث نجد العثمانيِّين منذ زعيمهم الأوَّل عثمان حتَّى محمَّد الفاتح، ومن بعده حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم، وأهليهم، وأخلصوا لله في تحاكمهم إِلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قوَّاهم، وشدَّ أزرهم، واستخلفهم في الأرض، وأقام العثمانيُّون شريعة الله في الأرض الَّتي حكموها، فمكَّن لهم المولى ـ عزَّ وجل ـ الملك، ووطَّأ لهم السُّلطان.
وهذه سنَّةٌ ربَّانيَّةٌ نافذةٌ لا تتبدَّل في الشُّعوب والأمم؛ الَّتي تسعى جاهدةً لإقامة شرع الله.
وقد خاطب تعالى المؤمنين من هذه الأمَّة واعداً إِيَّاهم بما وعد به المؤمنين قبلهم، فقال سبحانه في سورة النُّور: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ } [سورة النور:55] من بني إِسرائيل.
ولقد حقَّق العثمانيُّون الإِيمان، وتحاكموا إِلى شريعة الرَّحمن، فأتتهم ثمرة ذلك، وأثره الباقي: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ } [سورة النور:55]فحقَّقوا التَّحاكم إِلى الدِّين، فتحقَّق لهم التَّمكين.
ثانياً: الأمن والاستقرار:
كـانت بـلاد آسيا الصُّغرى مضطربـةً، وكثرت فيها الإِمارات المتنازعـة، وبعد أن أكرم الله تعـالى العثمانيِّين بتوحيد تلك الإِمارات، وتوجيهها نحو الجهاد في سبيل الله تعـالى؛ يـسَّر الله للدَّولـة العثمانيَّـة الأمن، والاستقرار في تلك الرُّبـوع الَّتي حكم فيهـا شرع الله؛ حيث نجد: أنَّ الدَّولـة العثمانيَّـة بعد أن استُخلفت مكَّن الله لها، وأعطاها دواعي الأمن، وأسباب الاستقرار؛ حتَّى تحافظ على مكانتها.
وهذه سنَّةٌ جاريةٌ ماضيةٌ ضَمِن الله لأهل الإِيمان والعمل بشرعه، وحكمه أن ييسِّر لهم الأمن؛ الَّذي ينشدون في أنفسهم، وواقعهم، فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وتصريف الأقدار، وهو مقلِّب القلوب، والله يهب الأمن المطلق لمن استقام على التَّوحيد، وتطهَّر من الشِّرك بأنواعه، قال تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ ٨٢} [سورة الأنعام:82] .
فنفوسهم في أمنٍ من المخاوف، ومن العذاب، والشَّقاء؛ إِذا خلصت لله من الشِّرك: صغيره، وكبيره. إِنَّ تحكيم شرع الله فيه راحةٌ للنُّفوس؛ لكونها تمسُّ عدل الله، ورحمته، وحكمته.
إِنَّ الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف، ثمَّ التَّمكين لم يحرمهم بعد ذلك من التأمين، والتَّطمين، والبعد عن الخوف، والفزع.
إِنَّ العثمانيِّين عندما حقَّقوا العبوديَّة لله، ونبذوا الشِّرك بأنواعه؛ حقَّق الله لهم الأمن في النُّفوس على مستوى الشَّعب والدَّولة.
ثالثاً: النَّصر، والفتح:
إِنَّ العثمانيِّين حرصوا على نصرة دين الله بكلِّ ما يملكون، وتحقَّقت فيهم سنَّة الله في نصرته لمن ينصره؛ لأنَّ الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزَّته، وقوَّته، قال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١} [الحج: 40 ـ 41].
«وما حدث قطُّ في تاريخ البشريَّة أن استقامت جماعةٌ على هدي الله إِلا منحها القوَّة، والمنعة، والسِّيادة في نهاية المطاف.. إِنَّ الكثيرين ليشفقون من اتِّباع شريعة الله، والسَّير على هداه، يشفقون من عداوة أعداء الله، ومكرهم، ويشفقون من تألُّب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصاديَّة، وغير الاقتصادية، وإِن هي إِلا كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ } [سورة القصص:57] فلمَّا اتَّبعت هدى الله؛ سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرنٍ، أو أقلَّ من الزَّمان».
إِنَّ الله تعالى أيَّد العثمانيِّين على الأعداء، ومنَّ عليهم بالفتح، فَتْح الأراضي، وإِخضاعها لحكم الله تعالى، وفَتْح القلوب، وهدايتها لدين الإِسلام. إِنَّ العثمانيِّين عندما استجابوا، وانقادوا لشريعة الله؛ جلبت لهم الفتح، واستنزلت عليهم نصر الله.
إِنَّ الشعوب الإِسلاميَّة الَّتي تبتعد عن شريعة الله تذلُّ نفسها في الدُّنيا، والآخرة.
إِنَّ مسؤوليَّة الحكَّام، والقضاة، والعلماء، والدُّعاة في الدَّعوة إِلى تحكيم شرع الله مسؤوليَّةٌ عظيمةٌ يُسألون عنها يوم القيامة أمام الله: (إِذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله، وقع بأسهم بينهم...) وهذا أعظم أسباب تغيُّر الدُّول كما جرى هذا مرَّةً بعد مرَّةٍ في زماننا، وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك مَنْ أيَّده الله، ونَصَره، ويجتنب مسلك مَنْ خذله الله، وأهانه؛ فإِنَّ الله يقول في كتابه: { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١} [الحج: 40 ـ 41] فقد وعد بنصره مَنْ ينصره، ونصره هو نصر كتابه، ودينه، ورسوله، لا نصر مَنْ يحكم بغير ما أنزل الله، ويتكلَّم بما لا يعلم».
رابعاً: العزُّ والشَّرف:
إِنَّ عزَّ العثمانيِّين، وشرفهم العظيم الَّذي سُطِّر في كتب التَّاريخ يرجع إِلى تمسُّكهم بكتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. إِنَّ من يعتزُّ بالانتساب لكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ الَّذي به تشرف الأمَّة، وبه يعلو ذكرهاـ وضع رجله على الطَّريق الصَّحيح، وأصاب سنَّة الله الجارية في إِعزاز، وتشريف مَنْ يتمسَّك بكتابه، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٠} [سورة الأنبياء:10].
قال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هذه الآية: «فيه شرفكم». إِنَّ العثمانيِّين استمدُّوا شرفهم، وعزَّهم من استمساكهم بأحكام الإِسلام، كما قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: «إِنَّا كنَّا أذلَّ قومٍ، فأعزَّنا الله بالإِسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزَّنا الله؛ أذلَّنا الله».
فعمر ـ رضي الله عنه ـ كشف لنا بكلماته عن حقيقة الارتباط بين حال الأمَّة عزَّاً وذُلاً مع موقفها من الشَّريعة إقبالاً، وإِدباراً، فما عزَّت في يومٍ بغير دين الله، ولا ذلَّت في يومٍ إِلا بالانحراف عنه. قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ } [سورة فاطر:10] يعني: من طلب العزَّة؛ فليعتزَّ بطاعة الله، عزَّ وجل.
وقال تعالى: { وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ } [سورة المنافقون:8].
إِنَّ سيرة سلاطين العثمانيِّين من أمثال عثمان الأوَّل، ومراد، ومحمَّد الفاتح تبيِّن لنا اعتزازهم بالإِسلام، وحبَّهم للقرآن، واستعدادهم للموت في سبيل الله، ولقد عاشوا في بركةٍ من العيش، ورغد من الحياة الطَّيبة، وما نالوا ذلك إِلا بإقامة دين الله. قال تعالى: {وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٩٦} [سورة الأعراف:96].
خامساً: انتشار الفضائل، وانزواء الرَّذائل:
لقد انتشرت الفضائل في زمن محمَّد الفاتح، وانحسرت الرَّذائل؛ فخرج جيلٌ فيه نبلٌ، وكرمٌ، وشجاعةٌ، وعطاءٌ، وتضحيةٌ من أجل العقيدة والشَّريعة، متطلعاً إِلى ما عند الله من الثَّواب، ويخشى ما عنده من العقاب. لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه، ودولته، وحكَّامه إِلى ما يحبُّه الرحمن، وإِلى تعاليم الإِسلام.
إِنَّ آثار تحكيم شرع الله في الشُّعوب، والدُّول الَّتي نفَّذت أوامر الله، ونواهيه ظاهرةٌ بيِّنةٌ لدارس التَّاريخ، وإِنَّ تلك الآثار الطَّيبة الَّتي أصابت الدَّولة العثمانيَّة لهي من سنن الله الجارية، والَّتي لا تتبدَّل، ولا تتغيَّر، فأيُّ شعبٍ يسعى لهذا المطلب الجليل، والعمل العظيم؛ يصل إِليه ولو بعد حينٍ، ويرى آثار ذلك التَّحكيم على أفراده، وحكَّامه، ودولته.
إِنَّ الغرض من الأبحاث التَّاريخيَّة الإِسلاميَّة الاستفادة الجادَّة من أولئك الَّذين سبقونا بالإِيمان في جهادهم، وعلمهم، وتربيتهم، وسعيهم الدَّؤوب لتحكيم شرع الله، وأخذهم بسنن التَّمكين، وفقه ومراعاة التَّدرُّج والمرحليَّة، والانتقاء من أفراد الشَّعب، والارتقاء بهم نحو الكمالات الإِسلاميَّة المنشودة.
إِنَّ الانتصارات العظيمة في تاريخ أمَّتنا يجريها الله تعالى على يدي مَنْ أخلص لربِّه، ودينه، وأقام شرعه، وزكَّى نفسه، ولهذا لن يأتيَ فتحٌ عظيمٌ، وفتحٌ مبينٌ إِلا لمن توافرت فيهم صفات جيل التَّمكين؛ الَّتي ذكرت في القرآن الكريم.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط (102-107).
سيد قطب، في ظلال القرآن: (4/2704).
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (35/388).