الكاتب : د. علي محمد الصلابي
تدبر في سورة المؤمنون.. صفات المؤمنين القرآنية
عرض القرآن الكريم كثيراً من صفاتِ أهلِ الإيمان، وتحدّثت آياته الكريمةُ عن أهمّها وأشهرِها، ودعت المؤمنينَ إلى أنْ يتّصفوا بها حتى يعيشوا حياةً إيمانيةً مباركةً سعيدةً، وحتى ينالوا جنةَ الله وثوابه ونعيمه، ولقد كان حديثُ القرآن الكريم عن صفاتِ المؤمنين شاملاً ومتنوعاً، وقد توزّعت سور القرآن في الحديثِ عن صفات المؤمنين في الفترة المكية والمدنية، وهذا يعطي أهميةً لتذكير المسلمين بها، حتى لا تُنسى ولا تُمهلَ، ولكي يتربّى على هذه الصفاتِ والأخلاق عموم المسلمين، ولا يمكننا حصرُ صفاتِ المؤمنين في القرآن الكريم، ولكن نقدّم مجموعةً من الآيات الواردة في بعض سورة المؤمنين، والتي تضمّنت مجموعةً من الصفات اللازمة لأهل الإيمان.
1 ـ قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *}
فمن صفات هؤلاء المؤمنين في هذه الآيات الكريمة:
أ ـ الخشوع في الصلاة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ امرىءٍ مسلم تحضرُهُ صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحْسِنُ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلاّ كانتْ كفّارةً لما قبلَها مِنَ الذّنوبِ ما لم يأتِ كبيرةً، وذلك الدهرُ كلَّه». والخشوع مطلوبٌ من المرءِ في الصلاة لوجوه منها الوجه الأول: لتذكّرِ اللهِ، والخوفِ من وعيده، كما قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي *} [طه :14] والوجه الثاني: أنّ للصلاة أركاناً وواجباتٍ وسنناً، وروحُها النيةُ، والإخلاصُ، والخشوعُ، وحضورُ القلب، فإنّ الصلاة تشتمل على أذكارٍ ومناجاةٍ وأفعالٍ، ومع عدم حضورِ القلبِ لا يحصلُ المقصودُ بالأذكارِ والمناجاةِ، لأنَّ النطقَ إذا لم يعرِبْ عمّا في الضميرِ كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصلُ المقصودُ من الأفعالِ، لأنَّه إذا كان المقصودُ من القيام الخدمةَ، ومن الركوعِ والسجودِ الذلَّ والتعظيمَ، ولو لم يكن القلبُ حاضراً لم يحصل المقصودُ، فإنَّ الفعلَ متى خرجَ عن مقصودِه بقي صورةً لا اعتبارَ بها، قال تعال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج :37] والمقصود أنَّ الواصلَ إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصفُ الذي استولى على القلب حتّى حملَ على امتثالِ الأوامرِ المطلوبة، فلابدّ من حضور القلبِ في الصلاةِ، ولكن سامحَ الشارعُ في غفلةٍ تطرأ، لأنَّ حضورَ القلبِ في أولها ينسحبُ حكمُه على باقيها.
ب ـ الإعراض عن اللغو:
كلُّ كلامٍ ساقطٍ حقُّه أن يُلغى، كالكذب والشتم، والهزل، يعني أنّ لهم من الجـدِّ ما شغلهم عن الهزل، ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصفَ بالإعراضِ عن اللغو، ليجمع لهم الفعلَ والتركَ الشاقّين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف. قال تعالى: أي: عن {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ }، وهو يشتمل على الشرك، كما قاله بعضهم، وعلى المعاصي كما
قاله آخرون ـ وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *} [الفرقان :72] .
ج ـ تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة:
قال تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } وقال صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُوْرُ شطرُ الإيمانِ، والحَمْدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تملان ـ أو تملأ ـ ما بين السماواتِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ، كلُّ الناسِ يغدو فبائعٌ نفسَه، فمعتقُها أو موبقُها» قوله: «الصدقة برهان» معناه: الصدقةُ حجةٌ على إيمان فاعِلها، فإنَّ المنافقَ يمتنِعُ منها، لكونه لا يعتقده، فمن تصدّقَ استُدلَّ بصدقته على صدق إيمانه، فالمؤمنون في حياتهم الدنيا يصونون بالزكاة المجتمعَ من الخلل الذي ينشِئُه الفقرُ في جانب، والترف في جانب، فهي تأمينٌ اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمانٌ اجتماعي للعاجزين، وهي وقايةٌ للجماعة كلِّها من التفكك والانحلال.
د ـ حفظ الفروج:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *}، فالمؤمنون قومٌ يحبّون ويحافظون على طهارتهم بمعناها الشامل، وهذه طهارةُ الروح، ووقايةُ النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلالٍ، وحفظِ القلوبِ من التطلُّع في غير حلالٍ، وحفظِ المجتمع من انطلاق الشهوات فيه بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب.
وحفظُ الفَرْجِ يشمل تجنُّبَ إتيان الزوجة في الدبر، وفي أثناء الحيض، وفي أثناء الصيام، والإحرام.
وحفظ الفرج يقتضي سَدَّ الذرائع، أي تجنُّبَ السُبُل التي تفضي إليه، ولهذا أمر القرآن الكريم المؤمنين والمؤمنات بغضِّ البصر، وعدمِ إبداء الزينة، فذلك أزكى لهنّ وأطهر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [النور :30 ـ 31] ولكي يمكّن الإسلام المسلمَ من الممارسة الفعلية لحفظ الفرج والعفّة، فإنّه يراعي الأمور التالية:
الأمر الأول: إنّ الإسلامَ لم يجعلْ الزواجَ أبدياً كالمسيحية مثلاً، فأباحَ الطلاق إذا وقعَ النفورُ بين الزوجين، وعند عجزِ الزوجِ، أو مرضه، أو إعساره، أو غيبته.
الأمر الثاني: أباحَ للزوجِ الطلاقَ، والتزوّجَ بأكثر من واحدة على أن يعدلَ بينهنَّ فيما يملك.
الأمرَ الثالث: أمرَ الذي لا يستطيعُ مؤنَ النكاحِ بالصومِ، ليدفعَ شهوته، ويحفظَ فرجه وعفته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ الشبابِ، مَنِ استطاعَ مِنْكُم الباءةَ فليتزوّجْ، فإنّه أغضُّ للبصرِ، وأحصنُ للفرجِ، وَمَنْ لم يستطعْ فعليه بالصّوْمِ فإنَّه له وجاءُ». وبهذا فتحت الشريعةُ للمُحْصَنُ كلَّ أبوابَ الحلالِ، وأغلقتْ دونه بابَ الحرام.
وفضلاً عن هذا فإنَّ المجتمعَ الإسلاميَّ الحقيقيَّ يخالِفُ المجتمعاتِ القائمةِ جذرياً لصالح العفّة، فنظمُه وقوانينُه تعاوِنُ الرجالَ والنساءَ على التعفّف.
هـ رعاية الأمانة والعهد:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *}، أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدّون الأمانة إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كالمنافقين الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «آيةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمنَ خان». قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء : 58] .
وعن أبي ذر قال: قلتُ: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضربَ بيدِهِ على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ، إلا مَنْ أخذها بحقِّها، وأدّى الذي عليه فيها». فسمّى الرسولُ صلى الله عليه وسلم الولايةَ في هذا الحديثِ أمانةً، لأنّ تأديةَ حقِّها بالعدلِ، وعدم الاستغلال الشخصيّ فيها، واليقظة على مصالح الناس: كلُّ ذلك لا يكون إلاَّ بخلق الأمانة.
وعن أبي هريرة قال: بينما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحدّثُ إذ جاء إعرابيٌّ فقال: «متى الساعة؟ قال: «إذ ضيعت الأمانةُ فانتظرِ الساعةَ».
قال: كيف إضاعتها؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُسِدَ الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانتظرِ الساعة».
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *}[البقرة: 283] .
و ـ المحافظة على الصلوات:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *}، أي الذين على أوقاتِ صلاتهم يحافظون فلا يضيعونها، ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم، ولكنّهم يراعونها حتّى يؤدونها فيها. روي عن عبد الله بن مسعود قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: «الصلاةُ على وقتِها» قال: قلتُ: ثُمَّ أيْ؟ قال: «بِرُّ الوالدينِ» قال: قلتُ: ثمَّ أيْ؟ قال: «الجهادُ في سبيلِ اللهِ» فما تركت استزيدُه إلا إرعاءً عليه.
هذه مجموع صفات المؤمنين التي وردت في سورة سميت باسم المؤمنون، في دلالة واضحة على أهمية ومكانة هذه الصفات في تعريف هوية المؤمن وتشكيل عقيدته وأخلاقه. فهي سمتهم أينما حلوا وارتحلوا. وهي دليل إيمانه وبرهان إسلامهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، الإيمان بالله، (2011)، دار المعرفة، بيروت، ط1، صفحة 224:217.
* عبدالرحمن حبنكه الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها، صفحة 1/605.
* أحمد عبدالرحمن، الفضائل الخلقية في الإسلام، صفحة 244، 245
تدبر في سورة المؤمنون.. صفات المؤمنين القرآنية
عرض القرآن الكريم كثيراً من صفاتِ أهلِ الإيمان، وتحدّثت آياته الكريمةُ عن أهمّها وأشهرِها، ودعت المؤمنينَ إلى أنْ يتّصفوا بها حتى يعيشوا حياةً إيمانيةً مباركةً سعيدةً، وحتى ينالوا جنةَ الله وثوابه ونعيمه، ولقد كان حديثُ القرآن الكريم عن صفاتِ المؤمنين شاملاً ومتنوعاً، وقد توزّعت سور القرآن في الحديثِ عن صفات المؤمنين في الفترة المكية والمدنية، وهذا يعطي أهميةً لتذكير المسلمين بها، حتى لا تُنسى ولا تُمهلَ، ولكي يتربّى على هذه الصفاتِ والأخلاق عموم المسلمين، ولا يمكننا حصرُ صفاتِ المؤمنين في القرآن الكريم، ولكن نقدّم مجموعةً من الآيات الواردة في بعض سورة المؤمنين، والتي تضمّنت مجموعةً من الصفات اللازمة لأهل الإيمان.
1 ـ قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *}
فمن صفات هؤلاء المؤمنين في هذه الآيات الكريمة:
أ ـ الخشوع في الصلاة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ امرىءٍ مسلم تحضرُهُ صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحْسِنُ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلاّ كانتْ كفّارةً لما قبلَها مِنَ الذّنوبِ ما لم يأتِ كبيرةً، وذلك الدهرُ كلَّه». والخشوع مطلوبٌ من المرءِ في الصلاة لوجوه منها الوجه الأول: لتذكّرِ اللهِ، والخوفِ من وعيده، كما قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي *} [طه :14] والوجه الثاني: أنّ للصلاة أركاناً وواجباتٍ وسنناً، وروحُها النيةُ، والإخلاصُ، والخشوعُ، وحضورُ القلب، فإنّ الصلاة تشتمل على أذكارٍ ومناجاةٍ وأفعالٍ، ومع عدم حضورِ القلبِ لا يحصلُ المقصودُ بالأذكارِ والمناجاةِ، لأنَّ النطقَ إذا لم يعرِبْ عمّا في الضميرِ كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصلُ المقصودُ من الأفعالِ، لأنَّه إذا كان المقصودُ من القيام الخدمةَ، ومن الركوعِ والسجودِ الذلَّ والتعظيمَ، ولو لم يكن القلبُ حاضراً لم يحصل المقصودُ، فإنَّ الفعلَ متى خرجَ عن مقصودِه بقي صورةً لا اعتبارَ بها، قال تعال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج :37] والمقصود أنَّ الواصلَ إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصفُ الذي استولى على القلب حتّى حملَ على امتثالِ الأوامرِ المطلوبة، فلابدّ من حضور القلبِ في الصلاةِ، ولكن سامحَ الشارعُ في غفلةٍ تطرأ، لأنَّ حضورَ القلبِ في أولها ينسحبُ حكمُه على باقيها.
ب ـ الإعراض عن اللغو:
كلُّ كلامٍ ساقطٍ حقُّه أن يُلغى، كالكذب والشتم، والهزل، يعني أنّ لهم من الجـدِّ ما شغلهم عن الهزل، ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصفَ بالإعراضِ عن اللغو، ليجمع لهم الفعلَ والتركَ الشاقّين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف. قال تعالى: أي: عن {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ }، وهو يشتمل على الشرك، كما قاله بعضهم، وعلى المعاصي كما
قاله آخرون ـ وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *} [الفرقان :72] .
ج ـ تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة:
قال تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } وقال صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُوْرُ شطرُ الإيمانِ، والحَمْدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تملان ـ أو تملأ ـ ما بين السماواتِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ، كلُّ الناسِ يغدو فبائعٌ نفسَه، فمعتقُها أو موبقُها» قوله: «الصدقة برهان» معناه: الصدقةُ حجةٌ على إيمان فاعِلها، فإنَّ المنافقَ يمتنِعُ منها، لكونه لا يعتقده، فمن تصدّقَ استُدلَّ بصدقته على صدق إيمانه، فالمؤمنون في حياتهم الدنيا يصونون بالزكاة المجتمعَ من الخلل الذي ينشِئُه الفقرُ في جانب، والترف في جانب، فهي تأمينٌ اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمانٌ اجتماعي للعاجزين، وهي وقايةٌ للجماعة كلِّها من التفكك والانحلال.
د ـ حفظ الفروج:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *}، فالمؤمنون قومٌ يحبّون ويحافظون على طهارتهم بمعناها الشامل، وهذه طهارةُ الروح، ووقايةُ النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلالٍ، وحفظِ القلوبِ من التطلُّع في غير حلالٍ، وحفظِ المجتمع من انطلاق الشهوات فيه بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب.
وحفظُ الفَرْجِ يشمل تجنُّبَ إتيان الزوجة في الدبر، وفي أثناء الحيض، وفي أثناء الصيام، والإحرام.
وحفظ الفرج يقتضي سَدَّ الذرائع، أي تجنُّبَ السُبُل التي تفضي إليه، ولهذا أمر القرآن الكريم المؤمنين والمؤمنات بغضِّ البصر، وعدمِ إبداء الزينة، فذلك أزكى لهنّ وأطهر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [النور :30 ـ 31] ولكي يمكّن الإسلام المسلمَ من الممارسة الفعلية لحفظ الفرج والعفّة، فإنّه يراعي الأمور التالية:
الأمر الأول: إنّ الإسلامَ لم يجعلْ الزواجَ أبدياً كالمسيحية مثلاً، فأباحَ الطلاق إذا وقعَ النفورُ بين الزوجين، وعند عجزِ الزوجِ، أو مرضه، أو إعساره، أو غيبته.
الأمر الثاني: أباحَ للزوجِ الطلاقَ، والتزوّجَ بأكثر من واحدة على أن يعدلَ بينهنَّ فيما يملك.
الأمرَ الثالث: أمرَ الذي لا يستطيعُ مؤنَ النكاحِ بالصومِ، ليدفعَ شهوته، ويحفظَ فرجه وعفته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ الشبابِ، مَنِ استطاعَ مِنْكُم الباءةَ فليتزوّجْ، فإنّه أغضُّ للبصرِ، وأحصنُ للفرجِ، وَمَنْ لم يستطعْ فعليه بالصّوْمِ فإنَّه له وجاءُ». وبهذا فتحت الشريعةُ للمُحْصَنُ كلَّ أبوابَ الحلالِ، وأغلقتْ دونه بابَ الحرام.
وفضلاً عن هذا فإنَّ المجتمعَ الإسلاميَّ الحقيقيَّ يخالِفُ المجتمعاتِ القائمةِ جذرياً لصالح العفّة، فنظمُه وقوانينُه تعاوِنُ الرجالَ والنساءَ على التعفّف.
هـ رعاية الأمانة والعهد:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *}، أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدّون الأمانة إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كالمنافقين الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «آيةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمنَ خان». قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء : 58] .
وعن أبي ذر قال: قلتُ: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضربَ بيدِهِ على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ، إلا مَنْ أخذها بحقِّها، وأدّى الذي عليه فيها». فسمّى الرسولُ صلى الله عليه وسلم الولايةَ في هذا الحديثِ أمانةً، لأنّ تأديةَ حقِّها بالعدلِ، وعدم الاستغلال الشخصيّ فيها، واليقظة على مصالح الناس: كلُّ ذلك لا يكون إلاَّ بخلق الأمانة.
وعن أبي هريرة قال: بينما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحدّثُ إذ جاء إعرابيٌّ فقال: «متى الساعة؟ قال: «إذ ضيعت الأمانةُ فانتظرِ الساعةَ».
قال: كيف إضاعتها؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُسِدَ الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانتظرِ الساعة».
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *}[البقرة: 283] .
و ـ المحافظة على الصلوات:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *}، أي الذين على أوقاتِ صلاتهم يحافظون فلا يضيعونها، ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم، ولكنّهم يراعونها حتّى يؤدونها فيها. روي عن عبد الله بن مسعود قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: «الصلاةُ على وقتِها» قال: قلتُ: ثُمَّ أيْ؟ قال: «بِرُّ الوالدينِ» قال: قلتُ: ثمَّ أيْ؟ قال: «الجهادُ في سبيلِ اللهِ» فما تركت استزيدُه إلا إرعاءً عليه.
هذه مجموع صفات المؤمنين التي وردت في سورة سميت باسم المؤمنون، في دلالة واضحة على أهمية ومكانة هذه الصفات في تعريف هوية المؤمن وتشكيل عقيدته وأخلاقه. فهي سمتهم أينما حلوا وارتحلوا. وهي دليل إيمانه وبرهان إسلامهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، الإيمان بالله، (2011)، دار المعرفة، بيروت، ط1، صفحة 224:217.
* عبدالرحمن حبنكه الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها، صفحة 1/605.
* أحمد عبدالرحمن، الفضائل الخلقية في الإسلام، صفحة 244، 245