بلاد الحرمين. . قلعة الإسلام
الاثنين 26 ربيع الأول 1430 الموافق 23 مارس 2009
بلاد الحرمين. . قلعة الإسلام
فيصل بن علي البعداني
زارني شيخ جليل، وَفَد على هذه البلاد الطيبة؛ لزيارة الديار المقدسة، فقال لي - بعد أن رأى ما سَرَّه في جنبات الحرم المكي والحرم المدني-: من الحقائق الواجب تدوينها أن الله تعالى اِمْتَنَّ على أرض الحرمين الشريفين بأن جعلها: مهبط الوحي، ومنطلق أنوار البعثة، وموطن الهجرة، وأرض السيرة النبوية العطرة، وديار الصحابة البررة، وموضع القبلة: الكعبة المعظمة لدى كل المسلمين.
وأن أهلها كانوا: نُشَّار الإيمان، وباذلي المعروف، وحماة المكارم، ومذيعي العلم القائم على هدي الكتاب العزيز والسنة المطهرة في أصقاع المعمورة.
وتلك الخاصية الأخيرة كانت في صدر الإسلام خاصة بهم، لم يشاركهم فيها أحد من أبناء البلدان الأخرى، إلاّ حين انتشر أبناء الحرمين الشريفين في مشارق الأرض ومغاربها، فأقاموا للإسلام حواضر جديدة: ساد فيها الإيمان، وذاع العلم، وعمَّ الخير، وفشا العدل والاستقرار، وشاعت المودة بين المسلمين.
وقد استمر عامة رجالات هذه الأرض المباركة عبر تاريخ الأمة الطويل مثالاً في الاستقامة على الصراط، وتعميم الخير، وإشاعة الفضيلة .. حتى في تلك الحِقِب التي ضعف فيها الإيمان في كثير من أرض الإسلام؛ فعمَّ الجهل، وشاعت الخرافة، وابتعدت عامة الأمة عن الأخذ بأسباب القوة انبرى بعض أفاضل أبنائها - علماء وأمراء - لتجديد الدين، ونشر العلم، وتحكيم الشرع، ومدافعة الشرك والانحرافات العقدية والسلوكية.. حتى عاد للإسلام - بفضل الله تعالى - نضارته في عامة جزيرة العرب وكثير من أصقاع المعمورة على حدٍ سواء.
فخير هذه البلدة عميم، والإقرار بفضائل خيار رجالها في القديم والحديث: علماً وتقى، ونخوة ورجولة، وبذلاً وتضحية ونصرة، وحرصاً على تعميق التدين، وإشاعة البر، وتحقيق معاني الصدق وعرى المودة وروح الإخاء... حق ودين.
لكن ما يجب قوله في عصرنا لأبنائها، وبخاصة لدعاتها وطلاب العلم فيها- نصحاً ممزوجاً بمحبة ودعاء -: أن عامة أعداء الأمة -رد الله كيدهم في نحورهم- قد رموا أبناء الحرمين الشريفين عن قوس واحدة، محاولين زعزعة إيمانهم، وإلهائهم عن مبادئهم، واستنزاف خيرات أرضهم، وتفريق كلمتهم، وتمزيق وحدتهم، وإثارة الفتنة والشحناء، وفقدان الثقة بينهم، والحيلولة دون استمرارهم في أداء رسالتهم التي انبرى لها أسلافهم الكرام منذ قرون، والمتمثلة بإمامة الأمة كلها في الاستقامة على الجادة، وتحقيق الصفاء العقدي والمنهجي، وبث العلم الشرعي، والعمل على تجدد الإيمان في نفوس أبناء الأمة، والأخذ بأسباب القوة بكافة، والسعي الدؤوب لاعتصام الأمة بإسلامها، ووحدتها، وتراصِّ صفوف أبنائها كلِّهم خلف نصوص الوحي المطهر، بعيداً عن المذاهب الهدّامة، والشعارات المضللة، والحزبيات المقيتة، والتفرّق على أسسٍ ومنطلقاتٍ جاهلية.
ومن الحق القول: بأنه ما زال لعلمائها وأجلة دعاتها وكبار مفكريها موضع الصدر في الأمة.
ولولاة الأمر فيها جهود مشكورة بينة في مواسم الحج والعمرة، وفي قبول آلاف طلاب العلم من دول شتى للدراسة في أوساط جامعاتها ومعاهدها، وهم: دعاة التوحيد، ورسل الخير، ونُشَّار التوسط والاعتدال، وحماة الفضيلة في العديد من مناحي المعمورة... ونحو ذلك من المجالات والجوانب المشرقة والتي لها بالغ الأثر في استمرار كثير من صور الخير التي أخذت هذه البلاد على عاتقها - منذ تأسسها- نشرَه وتعميمَه.
ولمؤسساتها العلمية والدعوية والخيرية -مع ضخامة ما أصابها من لَأْوَاءَ وظلمٍ بعد أحداث: 11/9 الشهيرة- دورها الرائد في نشر الديانة، ومحاربة الجهالة، والتعريف بيسر الإسلام النقي وإظهار سماحته، والتخفيف عن فقراء الأمة ومنكوبيها معاناتهم الجسيمة ومصائبهم المتكررة.. إلاّ أن الحاجة لا تزال أكبر، والواجب الملقى على كواهل رجالات بلاد الحرمين الشريفين ومؤسساتها الرسمية والأهلية ما زال ثقيلاً ومستمراً، ولن يتم لهم التمكن من الاستمرار بالصورة المنشودة في تحقيق ما يؤمله عقلاء أمة الإسلام منهم في المنظورين: الحاضر والبعيد إلاّ إذا استطاعوا مراعاة جوانب عدة، من أبرزها:
الحفاظ على معاني المحبة والألفة، والعفو والرحمة، والأمل والتفاؤل، والجدية وقوة العزيمة، والحرص على تعميق الثقة، ورصِّ الصف، واجتماع الكلمة، ووحدة المواقف في القضايا الهامة والمصيرية.. متجذرة في أوساطهم.
وذاك أمر لا يمكن في الواقع تحققه إلاّ من خلال مزيدٍ من الاستمرار في الحرص على تجريد المتابعة، وصفاء منبع التلقي، وأخذ الكتاب بقوة، وتربية الأجيال على الاستقامة والإخاء، وتعظيم الشعائر والحرمات، وسلامة الصدر، وتحري الحق، وسمو الطموح، وسرعة المبادرة، وبذل النصيحة بالمعروف، والأخذ بمعالي الأمور ونبذ سفاسفها، وصيانة النشء والأسرة وكافة أبناء المجتمع من الانحرافات الفكرية والسلوكية، واستمرار عناية الجميع برعاية قيم الفضيلة، وتعميق عرى المودة، والأخذ لكل ما هو جيد ومفيد من أسباب القوة المادية والمعنوية، والوقوف صفاً واحداً وبصوتٍ عالٍ مسموعٍ مع خط الاتزان والوسطية الشرعية ضد دعاة الرذيلة الفكرية والسلوكية والمواقف العبثية، أياً كان اتجاهها إفراطاً أو تفريطاً.
·العناية بصناعة الرمز العلمي والدعوي المتسم بالعمق والنضج، وتيسير سبل إفادته للآخرين، وإعادة هندسة الدور العظيم الذي كان يقوم به أكابر علماء بلاد الحرمين الشريفين ودعاتها وجامعاتها ومؤسساتها الرسمية والخيرية؛ ليبقى الواقع كما كان، صوتاً عالياً، وممارسة مسؤولة منبثقة من رؤية شرعية رصينة، ومواقف مبدئية تتصدر الأصوات والمواقف التي يروج لها اليوم - باسم الإسلام أو العروبة والوقوف مع قضايا الأمة- جهاتٌ من الجلي أنها آخذة على عاتقها ضمن ما تأخذ إسقاط الدور التوعوي والإنساني المشكور، والموقع الريادي في الأوساط الإسلامية والدعوية لقيادات هذه البلاد ومؤسساتها العلمية والفكرية والدعوية والخيرية.
·أن يتعاظم الدور المذكور لأبناء هذه البلدة الطيبة في رعاية العلماء والدعاة وطلاب العلم من آفاق المعمورة، سواء أكان ذلك من خلال تمكينهم من مواصلة الطلب في قلاع العلم فيها، والعناية بتأهيلهم إيمانياً وتربوياً ونفسياً وإعلامياً وإدارياً وتقنياً على ممارسة الدور الذي تتوخاه الأمة منهم.
أم من خلال مزيدٍ من تواصل علماء هذه البلاد وقياداتها الدعوية والعلمية الرسمية والأهلية (مؤسسات وأفراداً) مع علماء الأمة ودعاتها وقيادات مؤسساتها العلمية والدعوية والخيرية المؤثرين في الساحة.
ويتأكد ذلك في مواسم الحج والعمرة، والتي يعلم الجميع كم من مليارات الدولارات تُنفق كل عام على عمارة الحرمين الشريفين وما جاورهما، وعلى المشاريع العملاقة في أرض المشاعر وغيرها!
وكم من الجهود التي تُبذل، والمبالغ التي تنفق من أجل توفير الأمن والرعاية الكريمة المتعددة الجوانب للحجاج والعمار! إلاّ أن من المودة القول: بأن الجهود التوعوية على كثرتها وتفاني القائمين عليها لا تزال بحاجة إلى أن تكون موازية لمستوى المشروعات الإنشائية والخدمية التي تجاوزت بفضل الله تعالى المأمول، ولا يزال بإمكان أبناء هذه البلدة الطيبة- أفراداً ومؤسسات- تقديم الكثير والكثير من جوانب الإبداع والتجديد المثمر في هذا الجانب.
كيف لا!! والجهل في أوساط الأمة لا يزال معشّشاً، والأمية الشرعية لا تزال جلية، والفرقة لا تزال ضاربة، والاستهداف لا يزال صارخاً، وأئمة الخرافة، وطليعة التمزق، ورواد الزيغ العقدي في الأمة - أفراداً ومؤسسات - لا يزال جهدهم في إضلال العامة وسعيهم للتصدر والبروز قوياً وظاهراً، من خلال شتى الوسائل، حتى في مواسم الحج والعمرة والزيارة!!
·تجاوز أهل العلم والدعوة لمرحلة التبرؤ من تيارات الجهل والغلو، وضرورة عدم الاكتفاء بمجرد الإنكار أو المعالجات الجزئية التي يقوم بها هذا العالم أو الداعية أو تلك الجهة العلمية أو الدعوية؛ لأن ارتباطات بعض رموز تلك التيارات في بعض المواقع ببعض الجهات المغرقة في الفساد والجناية الآثمة والابتداع الغالي، والتي تثبت أحداث التاريخ وأيامه المتكررة خطورتهم الفادحة على مسيرة أهل السنة والجماعة، وتعديهم الضخم على مقدساتهم ومساجدهم وذواتهم وأعراضهم وديارهم وممتلكاتهم.. أصبحت ارتباطات شائنة مكشوفة. وتطرّف أبناء تلك الفئات المتهورة، وقصر نظرهم، ومحدودية تفكيرهم، وقلة معرفتهم الشرعية، وابتعادهم عن العلماء الربانيين، وانتقاصهم لأئمة الهدى وكبار دعاة الأمة ومفكريها - ولا حول ولا قوة إلاّ بالله تعالى - قد جرَّ الويلات على المسيرة الدعوية والخيرية بخاصة وعلى الأمة بعامة، فشوَّه جمال بعض قيم الإسلام وأحكامه الخالدة، وزاد من تسلّط الأعداء على الأمة، وساهم بصورة صارخة في إشاعة الخوف في أوساط أمة الدعوة من إسلامنا العظيم وسلوكيات الفضلاء من أبنائه، وتسبّب في استنزاف كثير من موارد الأمة، وإضعاف مسيرة التنمية وتيارات البناء والمقاومة في كثير من المواقع، بل وساعد في زعزعة الثقة ببعض أهل العلم والدعوة - أفراداً ومؤسسات- في أوساط بعض فئات المجتمع، وصنع حجباً مبالغاً فيها من الحذر والحيطة لدى كثير من الدعاة وذوي اليسار في كثير من البلدان حالت دون استمرار كثير من مشروعات الخير والنماء بالصورة المأمولة.
لذا كله فلابد من تجاوز العلماء والدعاة لتلك المرحلة إلى مرحلة المعالجة المؤسسية التي يُؤْمَل أن يتم في ثناياها في ظل عزيمة قوية، وإرادة عالية للتصحيح والمعالجة: حوارات شفافة، وأطروحات رصينة بناءة من أشخاص يتملكون خبراتٍ عميقةً، وقبولاً بيّناً في الأمة، متعددي الاختصاص في الجوانب الشرعية والفكرية والتربوية والنفسية والاجتماعية والإعلامية يتم بإذن الله تعالى في ضوئها طرحَ إطارات من الحلول متكاملةً ومتزنةً تمكن كلَّ جهة وفردٍ صادقٍ من أبناء الأمة بحسب وسعه ومن منطلق مسؤوليته من الإسهام الفاعل في استئصال البلاء من جذوره: استهداء ووقاية.
·الاستمرار الفاعل في تشجيع كل مبادرة مسؤولة تسعى لتعميق الإيمان، وتعميم الفضيلة، ونشر جوانب العلم والخير والاتزان والوسطية في أوساط كافة أبناء الأمة المسلمة، من خلال الدخول في شراكات عميقة وجادة بين هيئات هذه البلاد ومؤسساتها العلمية والدعوية والخيرية المباركة ومثيلاتها في سائر أرض الإسلام؛ تبنياً للخير وتجذيراً للفضيلة واستمراراً على النهج السوي من ناحية، وحيلولة دون تمكن الجهود القوية والمشبوهة من نقض جهود عقود طويلة من العمل الدعوي والخيري المبارك والمسؤول لرجالات هذه البلدة المباركة ومؤسساتها الرسمية والخيرية في أوساط كافة أبناء الأمة من ناحية ثانية.
وختم ذاك الشيخ الجليل حديثه قائلاً: إن بلاد الحرمين قلعة الإسلام العظمى، وإن العمل على نهضتها وازدهارها والحفاظ على قوتها وأمنها ومكتسباتها وسلامتها من الأدواء والانحرافات الفكرية والمنهجية والأخلاقية والسلوكية واجب أبنائها بدرجة أساسٍ، وواجب متحتم على كل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
وإن أضرَّ ما يضرُّ بأيِّ مسيرةٍ راشدةٍ صنفان من الناس:
أولهما: لا يرى إلاّ البياضَ، وفي كل أرضٍ كدرٌ وسوادٌ قلَّ أو كثرَ، كما يشهد لذلك قول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ’’كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون’’.(1).
وهذا الصنف قليل النظر، محدود التطلع، يرضى في حقيقته بالدون، ويعمل على حجب العين عن رؤية جوانب القصور وبوابات الخطر، ويحول دون التطور والنماء والاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم أثناء العمليات الطبيعية المتوالية للتصحيح والبناء بوعي كان تبنيه لذلك المسلك أم بغير وعي.
كما أنه بمبالغته تلك وعدم موضوعيته قد يكون سبباً لإثارة روح التحامل والشحناء في أوساط الصنف المقابل على الجوانب المشرقة في المجتمع والقائمين عليها، وبخاصة إذا كان المرء من هذا الصنف صاحب هوى، أو متخذاً من الثناء المتكلف أو المبالغ فيه بوابة للترزق، ونافذة لتحقيق النفوذ والمصالح الذاتية.
ثانيهما: صنف لا ترى عيون أصحابه إلاّ الظلمة، ولا تبصر إلاّ السواد، فهم أياً كانت النوايا قد ابتعدوا عن القيام بالنصح البنّاء، وممارسة الإصلاح الفاعل، والمعالجة المسؤولة لما قد يُرَى من جوانب زلل، واستبدلوا بذلك -رضوا أم أبوا- زراعة الضغينة، وإثارة الفتنة، وتمزيق لحمة الأمة.
إضافة إلى: صناعة اليأس، وتجسير الإحباط، وتضخيم حجم الخطأ، وتعتيم كل وجه مشرق وممارسة مشكورة.
وقد جاء التحذير عن اقتحام هذا المسلك الوعر شديد الزلل عظيمِ المخاطر في الحديث المرفوع: ’’إذا قال الرجلُ هلكَ الناسُ فهو أهلَكُهم’’.(2).
ولا سبيل للحفاظ على مكتسبات هذه البلدة الطيبة وجهود العظماء من رجالها إلاّ بركوب مطية الجدية، وصعود سفينة المبادرة الفاعلة، وسلوك خط الوسطية الشرعية، والاتزان العميق في النظر والممارسة، بعيداً عن مهاوي الإفراط ومزالق التفريط.
وحين انتهى بمحدثي المطاف قلت له: أشاطرك الرأي في كل ما قلته، وأعتقد بأن رفع مستوى الوعي والشعور العالي بالمسؤولية في وقتنا في أوساط أهل الخير وكافة الدعاة والمصلحين لابد أن يتعاظم، والمعالجة الناضجة لقضايا أمتنا بإخلاصٍ وصدقٍ وتفانٍ وفاعليةٍ لابد أن تزداد.
فَكَثَّر الله تعالى في أمتنا من أمثالك أيها الشيخ الجليل.
الاثنين 26 ربيع الأول 1430 الموافق 23 مارس 2009
بلاد الحرمين. . قلعة الإسلام
فيصل بن علي البعداني
زارني شيخ جليل، وَفَد على هذه البلاد الطيبة؛ لزيارة الديار المقدسة، فقال لي - بعد أن رأى ما سَرَّه في جنبات الحرم المكي والحرم المدني-: من الحقائق الواجب تدوينها أن الله تعالى اِمْتَنَّ على أرض الحرمين الشريفين بأن جعلها: مهبط الوحي، ومنطلق أنوار البعثة، وموطن الهجرة، وأرض السيرة النبوية العطرة، وديار الصحابة البررة، وموضع القبلة: الكعبة المعظمة لدى كل المسلمين.
وأن أهلها كانوا: نُشَّار الإيمان، وباذلي المعروف، وحماة المكارم، ومذيعي العلم القائم على هدي الكتاب العزيز والسنة المطهرة في أصقاع المعمورة.
وتلك الخاصية الأخيرة كانت في صدر الإسلام خاصة بهم، لم يشاركهم فيها أحد من أبناء البلدان الأخرى، إلاّ حين انتشر أبناء الحرمين الشريفين في مشارق الأرض ومغاربها، فأقاموا للإسلام حواضر جديدة: ساد فيها الإيمان، وذاع العلم، وعمَّ الخير، وفشا العدل والاستقرار، وشاعت المودة بين المسلمين.
وقد استمر عامة رجالات هذه الأرض المباركة عبر تاريخ الأمة الطويل مثالاً في الاستقامة على الصراط، وتعميم الخير، وإشاعة الفضيلة .. حتى في تلك الحِقِب التي ضعف فيها الإيمان في كثير من أرض الإسلام؛ فعمَّ الجهل، وشاعت الخرافة، وابتعدت عامة الأمة عن الأخذ بأسباب القوة انبرى بعض أفاضل أبنائها - علماء وأمراء - لتجديد الدين، ونشر العلم، وتحكيم الشرع، ومدافعة الشرك والانحرافات العقدية والسلوكية.. حتى عاد للإسلام - بفضل الله تعالى - نضارته في عامة جزيرة العرب وكثير من أصقاع المعمورة على حدٍ سواء.
فخير هذه البلدة عميم، والإقرار بفضائل خيار رجالها في القديم والحديث: علماً وتقى، ونخوة ورجولة، وبذلاً وتضحية ونصرة، وحرصاً على تعميق التدين، وإشاعة البر، وتحقيق معاني الصدق وعرى المودة وروح الإخاء... حق ودين.
لكن ما يجب قوله في عصرنا لأبنائها، وبخاصة لدعاتها وطلاب العلم فيها- نصحاً ممزوجاً بمحبة ودعاء -: أن عامة أعداء الأمة -رد الله كيدهم في نحورهم- قد رموا أبناء الحرمين الشريفين عن قوس واحدة، محاولين زعزعة إيمانهم، وإلهائهم عن مبادئهم، واستنزاف خيرات أرضهم، وتفريق كلمتهم، وتمزيق وحدتهم، وإثارة الفتنة والشحناء، وفقدان الثقة بينهم، والحيلولة دون استمرارهم في أداء رسالتهم التي انبرى لها أسلافهم الكرام منذ قرون، والمتمثلة بإمامة الأمة كلها في الاستقامة على الجادة، وتحقيق الصفاء العقدي والمنهجي، وبث العلم الشرعي، والعمل على تجدد الإيمان في نفوس أبناء الأمة، والأخذ بأسباب القوة بكافة، والسعي الدؤوب لاعتصام الأمة بإسلامها، ووحدتها، وتراصِّ صفوف أبنائها كلِّهم خلف نصوص الوحي المطهر، بعيداً عن المذاهب الهدّامة، والشعارات المضللة، والحزبيات المقيتة، والتفرّق على أسسٍ ومنطلقاتٍ جاهلية.
ومن الحق القول: بأنه ما زال لعلمائها وأجلة دعاتها وكبار مفكريها موضع الصدر في الأمة.
ولولاة الأمر فيها جهود مشكورة بينة في مواسم الحج والعمرة، وفي قبول آلاف طلاب العلم من دول شتى للدراسة في أوساط جامعاتها ومعاهدها، وهم: دعاة التوحيد، ورسل الخير، ونُشَّار التوسط والاعتدال، وحماة الفضيلة في العديد من مناحي المعمورة... ونحو ذلك من المجالات والجوانب المشرقة والتي لها بالغ الأثر في استمرار كثير من صور الخير التي أخذت هذه البلاد على عاتقها - منذ تأسسها- نشرَه وتعميمَه.
ولمؤسساتها العلمية والدعوية والخيرية -مع ضخامة ما أصابها من لَأْوَاءَ وظلمٍ بعد أحداث: 11/9 الشهيرة- دورها الرائد في نشر الديانة، ومحاربة الجهالة، والتعريف بيسر الإسلام النقي وإظهار سماحته، والتخفيف عن فقراء الأمة ومنكوبيها معاناتهم الجسيمة ومصائبهم المتكررة.. إلاّ أن الحاجة لا تزال أكبر، والواجب الملقى على كواهل رجالات بلاد الحرمين الشريفين ومؤسساتها الرسمية والأهلية ما زال ثقيلاً ومستمراً، ولن يتم لهم التمكن من الاستمرار بالصورة المنشودة في تحقيق ما يؤمله عقلاء أمة الإسلام منهم في المنظورين: الحاضر والبعيد إلاّ إذا استطاعوا مراعاة جوانب عدة، من أبرزها:
الحفاظ على معاني المحبة والألفة، والعفو والرحمة، والأمل والتفاؤل، والجدية وقوة العزيمة، والحرص على تعميق الثقة، ورصِّ الصف، واجتماع الكلمة، ووحدة المواقف في القضايا الهامة والمصيرية.. متجذرة في أوساطهم.
وذاك أمر لا يمكن في الواقع تحققه إلاّ من خلال مزيدٍ من الاستمرار في الحرص على تجريد المتابعة، وصفاء منبع التلقي، وأخذ الكتاب بقوة، وتربية الأجيال على الاستقامة والإخاء، وتعظيم الشعائر والحرمات، وسلامة الصدر، وتحري الحق، وسمو الطموح، وسرعة المبادرة، وبذل النصيحة بالمعروف، والأخذ بمعالي الأمور ونبذ سفاسفها، وصيانة النشء والأسرة وكافة أبناء المجتمع من الانحرافات الفكرية والسلوكية، واستمرار عناية الجميع برعاية قيم الفضيلة، وتعميق عرى المودة، والأخذ لكل ما هو جيد ومفيد من أسباب القوة المادية والمعنوية، والوقوف صفاً واحداً وبصوتٍ عالٍ مسموعٍ مع خط الاتزان والوسطية الشرعية ضد دعاة الرذيلة الفكرية والسلوكية والمواقف العبثية، أياً كان اتجاهها إفراطاً أو تفريطاً.
·العناية بصناعة الرمز العلمي والدعوي المتسم بالعمق والنضج، وتيسير سبل إفادته للآخرين، وإعادة هندسة الدور العظيم الذي كان يقوم به أكابر علماء بلاد الحرمين الشريفين ودعاتها وجامعاتها ومؤسساتها الرسمية والخيرية؛ ليبقى الواقع كما كان، صوتاً عالياً، وممارسة مسؤولة منبثقة من رؤية شرعية رصينة، ومواقف مبدئية تتصدر الأصوات والمواقف التي يروج لها اليوم - باسم الإسلام أو العروبة والوقوف مع قضايا الأمة- جهاتٌ من الجلي أنها آخذة على عاتقها ضمن ما تأخذ إسقاط الدور التوعوي والإنساني المشكور، والموقع الريادي في الأوساط الإسلامية والدعوية لقيادات هذه البلاد ومؤسساتها العلمية والفكرية والدعوية والخيرية.
·أن يتعاظم الدور المذكور لأبناء هذه البلدة الطيبة في رعاية العلماء والدعاة وطلاب العلم من آفاق المعمورة، سواء أكان ذلك من خلال تمكينهم من مواصلة الطلب في قلاع العلم فيها، والعناية بتأهيلهم إيمانياً وتربوياً ونفسياً وإعلامياً وإدارياً وتقنياً على ممارسة الدور الذي تتوخاه الأمة منهم.
أم من خلال مزيدٍ من تواصل علماء هذه البلاد وقياداتها الدعوية والعلمية الرسمية والأهلية (مؤسسات وأفراداً) مع علماء الأمة ودعاتها وقيادات مؤسساتها العلمية والدعوية والخيرية المؤثرين في الساحة.
ويتأكد ذلك في مواسم الحج والعمرة، والتي يعلم الجميع كم من مليارات الدولارات تُنفق كل عام على عمارة الحرمين الشريفين وما جاورهما، وعلى المشاريع العملاقة في أرض المشاعر وغيرها!
وكم من الجهود التي تُبذل، والمبالغ التي تنفق من أجل توفير الأمن والرعاية الكريمة المتعددة الجوانب للحجاج والعمار! إلاّ أن من المودة القول: بأن الجهود التوعوية على كثرتها وتفاني القائمين عليها لا تزال بحاجة إلى أن تكون موازية لمستوى المشروعات الإنشائية والخدمية التي تجاوزت بفضل الله تعالى المأمول، ولا يزال بإمكان أبناء هذه البلدة الطيبة- أفراداً ومؤسسات- تقديم الكثير والكثير من جوانب الإبداع والتجديد المثمر في هذا الجانب.
كيف لا!! والجهل في أوساط الأمة لا يزال معشّشاً، والأمية الشرعية لا تزال جلية، والفرقة لا تزال ضاربة، والاستهداف لا يزال صارخاً، وأئمة الخرافة، وطليعة التمزق، ورواد الزيغ العقدي في الأمة - أفراداً ومؤسسات - لا يزال جهدهم في إضلال العامة وسعيهم للتصدر والبروز قوياً وظاهراً، من خلال شتى الوسائل، حتى في مواسم الحج والعمرة والزيارة!!
·تجاوز أهل العلم والدعوة لمرحلة التبرؤ من تيارات الجهل والغلو، وضرورة عدم الاكتفاء بمجرد الإنكار أو المعالجات الجزئية التي يقوم بها هذا العالم أو الداعية أو تلك الجهة العلمية أو الدعوية؛ لأن ارتباطات بعض رموز تلك التيارات في بعض المواقع ببعض الجهات المغرقة في الفساد والجناية الآثمة والابتداع الغالي، والتي تثبت أحداث التاريخ وأيامه المتكررة خطورتهم الفادحة على مسيرة أهل السنة والجماعة، وتعديهم الضخم على مقدساتهم ومساجدهم وذواتهم وأعراضهم وديارهم وممتلكاتهم.. أصبحت ارتباطات شائنة مكشوفة. وتطرّف أبناء تلك الفئات المتهورة، وقصر نظرهم، ومحدودية تفكيرهم، وقلة معرفتهم الشرعية، وابتعادهم عن العلماء الربانيين، وانتقاصهم لأئمة الهدى وكبار دعاة الأمة ومفكريها - ولا حول ولا قوة إلاّ بالله تعالى - قد جرَّ الويلات على المسيرة الدعوية والخيرية بخاصة وعلى الأمة بعامة، فشوَّه جمال بعض قيم الإسلام وأحكامه الخالدة، وزاد من تسلّط الأعداء على الأمة، وساهم بصورة صارخة في إشاعة الخوف في أوساط أمة الدعوة من إسلامنا العظيم وسلوكيات الفضلاء من أبنائه، وتسبّب في استنزاف كثير من موارد الأمة، وإضعاف مسيرة التنمية وتيارات البناء والمقاومة في كثير من المواقع، بل وساعد في زعزعة الثقة ببعض أهل العلم والدعوة - أفراداً ومؤسسات- في أوساط بعض فئات المجتمع، وصنع حجباً مبالغاً فيها من الحذر والحيطة لدى كثير من الدعاة وذوي اليسار في كثير من البلدان حالت دون استمرار كثير من مشروعات الخير والنماء بالصورة المأمولة.
لذا كله فلابد من تجاوز العلماء والدعاة لتلك المرحلة إلى مرحلة المعالجة المؤسسية التي يُؤْمَل أن يتم في ثناياها في ظل عزيمة قوية، وإرادة عالية للتصحيح والمعالجة: حوارات شفافة، وأطروحات رصينة بناءة من أشخاص يتملكون خبراتٍ عميقةً، وقبولاً بيّناً في الأمة، متعددي الاختصاص في الجوانب الشرعية والفكرية والتربوية والنفسية والاجتماعية والإعلامية يتم بإذن الله تعالى في ضوئها طرحَ إطارات من الحلول متكاملةً ومتزنةً تمكن كلَّ جهة وفردٍ صادقٍ من أبناء الأمة بحسب وسعه ومن منطلق مسؤوليته من الإسهام الفاعل في استئصال البلاء من جذوره: استهداء ووقاية.
·الاستمرار الفاعل في تشجيع كل مبادرة مسؤولة تسعى لتعميق الإيمان، وتعميم الفضيلة، ونشر جوانب العلم والخير والاتزان والوسطية في أوساط كافة أبناء الأمة المسلمة، من خلال الدخول في شراكات عميقة وجادة بين هيئات هذه البلاد ومؤسساتها العلمية والدعوية والخيرية المباركة ومثيلاتها في سائر أرض الإسلام؛ تبنياً للخير وتجذيراً للفضيلة واستمراراً على النهج السوي من ناحية، وحيلولة دون تمكن الجهود القوية والمشبوهة من نقض جهود عقود طويلة من العمل الدعوي والخيري المبارك والمسؤول لرجالات هذه البلدة المباركة ومؤسساتها الرسمية والخيرية في أوساط كافة أبناء الأمة من ناحية ثانية.
وختم ذاك الشيخ الجليل حديثه قائلاً: إن بلاد الحرمين قلعة الإسلام العظمى، وإن العمل على نهضتها وازدهارها والحفاظ على قوتها وأمنها ومكتسباتها وسلامتها من الأدواء والانحرافات الفكرية والمنهجية والأخلاقية والسلوكية واجب أبنائها بدرجة أساسٍ، وواجب متحتم على كل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
وإن أضرَّ ما يضرُّ بأيِّ مسيرةٍ راشدةٍ صنفان من الناس:
أولهما: لا يرى إلاّ البياضَ، وفي كل أرضٍ كدرٌ وسوادٌ قلَّ أو كثرَ، كما يشهد لذلك قول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ’’كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون’’.(1).
وهذا الصنف قليل النظر، محدود التطلع، يرضى في حقيقته بالدون، ويعمل على حجب العين عن رؤية جوانب القصور وبوابات الخطر، ويحول دون التطور والنماء والاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم أثناء العمليات الطبيعية المتوالية للتصحيح والبناء بوعي كان تبنيه لذلك المسلك أم بغير وعي.
كما أنه بمبالغته تلك وعدم موضوعيته قد يكون سبباً لإثارة روح التحامل والشحناء في أوساط الصنف المقابل على الجوانب المشرقة في المجتمع والقائمين عليها، وبخاصة إذا كان المرء من هذا الصنف صاحب هوى، أو متخذاً من الثناء المتكلف أو المبالغ فيه بوابة للترزق، ونافذة لتحقيق النفوذ والمصالح الذاتية.
ثانيهما: صنف لا ترى عيون أصحابه إلاّ الظلمة، ولا تبصر إلاّ السواد، فهم أياً كانت النوايا قد ابتعدوا عن القيام بالنصح البنّاء، وممارسة الإصلاح الفاعل، والمعالجة المسؤولة لما قد يُرَى من جوانب زلل، واستبدلوا بذلك -رضوا أم أبوا- زراعة الضغينة، وإثارة الفتنة، وتمزيق لحمة الأمة.
إضافة إلى: صناعة اليأس، وتجسير الإحباط، وتضخيم حجم الخطأ، وتعتيم كل وجه مشرق وممارسة مشكورة.
وقد جاء التحذير عن اقتحام هذا المسلك الوعر شديد الزلل عظيمِ المخاطر في الحديث المرفوع: ’’إذا قال الرجلُ هلكَ الناسُ فهو أهلَكُهم’’.(2).
ولا سبيل للحفاظ على مكتسبات هذه البلدة الطيبة وجهود العظماء من رجالها إلاّ بركوب مطية الجدية، وصعود سفينة المبادرة الفاعلة، وسلوك خط الوسطية الشرعية، والاتزان العميق في النظر والممارسة، بعيداً عن مهاوي الإفراط ومزالق التفريط.
وحين انتهى بمحدثي المطاف قلت له: أشاطرك الرأي في كل ما قلته، وأعتقد بأن رفع مستوى الوعي والشعور العالي بالمسؤولية في وقتنا في أوساط أهل الخير وكافة الدعاة والمصلحين لابد أن يتعاظم، والمعالجة الناضجة لقضايا أمتنا بإخلاصٍ وصدقٍ وتفانٍ وفاعليةٍ لابد أن تزداد.
فَكَثَّر الله تعالى في أمتنا من أمثالك أيها الشيخ الجليل.