بقلم: د. فضل مراد
المقرر العام للجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وجّه إليّ سؤال عن حكم أن يقوم اللاعب بالسجود شكراً على هدف أو فوز أمام الجماهير.
فأقول:
الأصل في الرياضات الإباحة وهي الآن عقود تجارية معاصرة والأصل في العقود الإباحة ويستثنى من الإباحة:
ما أتلف نفساً أو مالاً أو ألحق الضرر بالغير كسباق السيارات فإنها مؤدية لتلف النفس والمال، والملاكمة والمصارعة فإنها مبنية على إلحاق الضرر بالنفس والغير.
وما فيه كشف للعورات المحرمة كالسباحة للنساء بلبس لا يستر منها سوى السوأتين.
وما فيه قمار مجمع عليه.
وعلى ما تقدم نقول:
إن الرياضات ككرة القدم صارت من العقود التجارية التي يجني فيها اللاعب والفريق والأندية الأموال الطائلة وهي من عقود إجارة الأشخاص في الفقه الإسلامي، وتسري عليها أحكامها.
والاصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على التحريم.
فإن قيل هذه الأموال الطائلة نوع من الإسراف فالعقد محرم
فالجواب: إن كان يدفع ذلك بدون أن يحصل على مقابل فهو سفه واضح؛ لكن الأمر ليس كذلك، بل الذين يدفعون للاعبين يستفيدون أموالا ومصالح أكثر مما دفعوا ولو كانت العقود الرياضية للاعبين لا نفع فيها مقابل ما يدفعون لما أقدم عليها المجتمع العالمي المعجون على الدوافع المادية المهيمنة على العالم اليوم، فمن لا مصلحة له في ذلك فلا يمكن أن يقدم عليه. هذا بالنظر المصلحي المحض أما بالنظر الشرعي فهو مضبوط بالشرع، والشرع يبيح الدخول في هذه العقود التجارية بمعاوضات معتبرة عرفا، والعوض المقابل المعتبر يكون بأن يكون الغالب في هذه العقود أن يجني النادي أو الدولة مصالح مالية واقتصادية وتجارية، تكافئ ذلك العوض المدفوع للاعب أو تفوق عليه.
وعلى ما تقدم تبين أن رياضة كرة القدم بحالتها الراهنة صارت عقودا تجارية معتبرة في العرف العالمي وهي كذلك في التكييف الشرعي كما تقدم، والفوز فيها يؤدي إلى الحصول على هذه العقود والمصالح ولا يكون الحصول على ذلك إلا بتحقيق نقاط وأهداف.
وسجود الإنسان لله عند تحصيل مصلحة دنيوية مباحة ظاهرة أمر مشروع.
وكون الإنسان يسجد شكراً لله على نجاح تجارته وربح صفقته الخاصة أمر مشروع كيف لو حققت ربحاً على مستوى العالم فهذا أمر مباح.
ومعلوم أن سجود الشكر يشرع عند تجدد نعمة ظاهرة أو دفع ضدها، بل هو مستحب عند ذلك أفتى به الشافعيَّة، والحنابلة، وبعضِ الحنفيَّة، وهو قولُ طائفةٍ من السَّلفِ، واختاره ابنُ المنذرِ، وهو قولُ ابنِ حبيبٍ من المالكيَّة، والقُرطبيِّ، وابنِ تَيميَّة، وابن القَيِّم، والصَّنعانيِّ،(الدرر)
وأنا أتعجب لما يتأزم البعض وتحسسون من الظواهر الحسنة
فما هي المفسدة في سجود اللاعب شكرا لله، بل على العكس من ذلك فسجود اللاعب لله في الملعب أمام الجماهير ظاهرة حسنة ينبغي علينا أن نشجعها ونشيد بها.
وفي مثل هذا الموطن قد تؤدي لمصالح أخرى من إظهارها بحيث يراها العالم وهو أمر مصلحي يوصل رسالة للمشاهد بفضل الله على الناس ومشروعية شكر نعمه، وإظهار القربة قربة إن كان فيه مصلحة ولذلك قال سبحانه (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) فيمكن أن يثير ذلك تساؤلا لدى غير المسلمين عن هذا الأمر فيؤدي إلى تعرفه بالإسلام، ويمكن أن لا يؤدي لذلك فيكفي أنها إظهار لشكر الله على حصول نعمة مباحة، وعلى كل الأحوال فلا يترتب على سجود اللاعب عند الفوز أو الهدف مفسدة أبداً ومن ادعى ذلك فعليه الدليل القائم الخالي عن المعارضة، بل السجود لله مصلحة محضة ولولم تكن فيها إلا هذه لكفى.
والحاصل أن سجود الشكر مشروع بأدلة السنة الصحيحة ولا قول مع السنن الصحيحة فإن كرهه أحد قدمنا السنن الثابتة على قوله ولذلك رد اللخمي على قول مالك بالكراهة وهو مالكي «التبصرة للخمي»(2/ 435): «واختلف في سجود الشكر فكرهه مالك مرة، وذكر القاضي أبو الحسن ابن القصار أنه قال: لا بأس به. وبه أخذ ابن حبيب، وهو الصواب؛ لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سجدة (ص): “سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً، وَأَسْجُدُهَا شُكْرًا”، وحديث أبي بكرة قال: “أَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أَمْرٌ سُرَّ بِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا”. ذكره الترمذي.
وحديث كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله سبحانه عليه خر ساجداً أخرجه البخاري»
وقد نقل ابن حزم سجود الشكر عن أبي بكر وعلي وكعب بن مالك قال«المحلى بالآثار» (3/ 332): «ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة أصلا».
ولم ينقل عن أحد التحريم، بل غاية ما نقل الكراهة عن مالك والنعمان والاستحباب عن الشافعي وأحمد واسحاق وأبو ثور والكراهة عند الحنفية هي القول بالسنية أما الجواز فلا مانع عندهم «التجريد للقدوري» (2/ 669): وقد رد ابن المنذر القول بالكراهة مرجحا المشروعية «الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف» (5/ 287): «قال أبو بكر: وبالقول الأول أقول، لأن ذلك قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعلي، وكعب بن مالك، فليس لكراهية من كره ذلك معنى، وقد اختلفت الرواية فيها عن النخعي، فروي عنه أنه كان يسجد سجدة الفرح».
فإن حرمه أحد قلنا له حرمت ما جاءت به النصوص وأتيت بما لم يقله أحد من الأولين من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة والمذاهب، وإن حرمه لأجل تحريمه الرياضة على الإطلاق فهذا مما لا يقول به عالم؛ لأن الأصل الإباحة إلا ما ذكرنا من المستثنيات التي التحريم فيها لأمر آخر.
والإسلام لم يأت ليحارب اللهو واللعب والضحك والمرح المباح، لأن هذه مجبول عليه الإنسان فطرياً ولم يأت الإسلام على خلاف الفطرة بل هو دين الفطرة وكل ما كان وفق الفطرة إنما نظمه الإسلام وهذبه وقومه فاللعب له وقت والجد له وقت والشهوة لها موضع مباح وآخر محرم والغضب في الحق واجب ومحرم في الباطل، والحب والبغض والمشاعر التي جبل عليها الإنسان هي جزء من خلقه جاءت الشريعة لتقويمها واستثمارها في الإيمان والصالحات و البناء والعمارة وننبه على أنه لا يشرط لسجود الشكر ما يشرط للصلاة من طهارة ونحوها وهذا من يسر الإسلام وجماله وسماحته وقد نبه الحطاب المالكي على لفتة في هذا حيث قال: (ويقومُ مِن كَلامِ الشَّيخِ أنَّ سُجودَ الشُّكرِ على القَولِ به؛ يفتَقِرُ إلى طهارةٍ, وهو كذلك على ظاهِرِ المذهَبِ, واختار بعضُ مَن لَقِيناه مِنَ القُرويِّينَ عَدَمَ افتقارِه إليها؛ لِمَا أنَّه إذا ترَكَه حتى يتوضَّأَ أو يتطهَّرَ أو يتيمَّمَ، زال سِرُّ المعنى الذي أتى بسجُودِه له) ((مواهب الجليل)) (2/362).
وعدم اشتراط الطهارة لسجدة الشكر أفتى به من المالكية من تقدم وابن جرير وابن حزم وابن تيمية وتلميذه والشوكاني ومن المعاصرين بن باز وبن عثيمين وهو ما أختاره؛ لأن شروط العبادات لا تؤخذ إلا من الشرع ولم يرد نص من كتاب ولا سنة على ذلك.
والقياس أنها بعض من الصلاة لا يصح لأن الذكر هو أعظم أبعاض الصلاة ولا يشرط له طهارة خارج الصلاة على جميع المذاهب.
ومما يدل على ذلك ما في مسلم( 374 )عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْخَلاءِ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فَذَكَرُوا لَهُ الْوُضُوءَ فَقَالَ : (أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ فَأَتَوَضَّأَ)
كما لا يلزم لسجود الشكر تكبير ولا سلام ولا تشهد، بل يسجد على حالته كيفما تيسر، لعدم النقل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا الصحابة أما القبلة فيسجد متوجها لها لأن محل السجود القبلةوالله تعالى أعلم .
خلاصة الفتوى: سجود الشكر مشروع عند تجدد حصول النعم ودفع المصائب الظاهرة، وتجوز في كل مباح والكرة مباحة، بل هي عقود تجارية في العرف الدولي اليوم، فالفوز فيها فوز بتجارة ومصالح مالية ومعنوية فسجود الشكر فيها لا مانع منه.