مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/02/22 16:13
عفواً IQ لست الأجدر لقياس الذكاء!
عفواً (IQ) لستَ الأجدر لقياس الذكاء

يبدو أننا على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخ البشرية يمكن أن تتغيّر فيها كثير من المفاهيم، وتتزحزح فيها كثير من الثوابت التي طالما اعتقدنا أنّها غير قابلة للتغيير أو التعديل بالحذف أو الإضافة، أو ربما أراد (مهندسو) هذه المفاهيم سوقنا لهذا الاعتقاد قسراً، حتى لا يكون لنا الخيار في مجرد التفكير في قابليتها للنقاش، لأننا ببساطة أصبحنا جزءاً منها، بل ونهضت ثلة من بني جلدتنا تتبنّى هذه المفاهيم، وتدافع عنها حتى النخاع!!! ولكن طالما أنّها محض جهدٍ بشريّ مستحدث، فلا مانع من إخضاعها مرةً أخرى للدراسة والتحليل والنقد المفضي لإيجاد البدائل (الحقيقية)، والمفضي كذلك لإزالة حالة (التنويم الفكري والمصطلحي) الذي أُريد لنا كـ(أُمة رسالة) أن ندور في فلكه ولا نغادره قيد أُنملة!!!
IQ أو (Intelligence Quotient) أو مقياس مستوى الذكاء هو من جملة هذه المفاهيم التي أصبحنا نتعامل معها كمسلّمات، ولكن بالرجوع لتاريخ هذا العلم (إن جاز التعبير) نجد أنّ عالم النفس الألماني وليام ستيرن (1871ـ1938م) هو الذي اقترحه كوسيلة لتسجيل اختبارات الذكاء للأطفال في العام 1912م، وتتلخّص فكرته في أخذ متوسط العمر العقلي للفئة العمرية قيد الاختبار (وهم الأطفال)، والعمر الزمني لأخذ الاختبار، مضروبة في مائة. ولكن لهذا الأسلوب مشاكل عدة منها أنه لا يمكن استخدامه لقياس مستوى ذكاء الكبار. ثم جاء (شسلر) وهو عالم نفس ألماني أيضاً، وقام بإجراء اختبار مختلف لقياس الذكاء (يستخدم الآن من قبل مؤسسات اختبارات الذكاء)، حيث استحدث ما يسمى بـ(التوحيد القياسي) لاختبار الذكاء، وأخذ عينة تمثيلية من السكان كان مستوى الذكاء لديها مساوياً لنقاط معدل الذكاء المائة، وأجرى عليها جميع الاختبارات الحديثة تقريباً، وجاء الانحراف المعياري للاختبار مساوياً لنقاط معدل الذكاء 15، وبذلك تم اختيار القيمتان 100 و15 من أجل الحصول على درجات مشابهة إلى حدٍّ ما. وبناءً عليه تم وضع معدّلات الذكاء التي تراوحت بين الجيدة والعبقرية المرتفعة جداً، وأمام كلّ منها نسبة مئوية معيّنة.
ولكن هل الذكاء يُقاس بالنسب المئوية فقط، ويتم التعامل معه كعملية حسابية فقط؟ أم هناك مُحدّدات أخرى يمكن أن تنافس في قياس مستوى الذكاء، أو يمكن أن نطلق عليها لفظ محدّدات الذكاء الموازي للذكاء الحسابي أو ربما المتفوّقة عليه أحياناً؟ فقد أوجد علماء النفس حزمة منها؛ كالذكاء العاطفي، والاجتماعي، والإبداعي، وغيرها مما سأتناوله في هذا المقال، ثم أُضيف إليها محدّدات أخرى؛ كالذكاء القيادي، والفراسة، والذكاء خارج إطار العقل السليم (ذكاء المجانين)!!!
العقل البشري أذكى من أن نضع له إطار:
إنّ المقدرات الهائلة التي أودعها البارئ جلّ شأنه في العقل البشري أكبر بكثير مما نتصوّر، وإنّه لمن القصور أن نضع إطاراً محدّداً لهذا العقل ونحن بصدد تقييمه ووضع أرقام أمام عقل كل إنسان تُحدّد مستوى الذكاء لديه، بحيث نطلق عليه بعد ذلك أنّه إنسان عادي الذكاء أو عبقري بدرجة عالية جداً، فما موقف هذا التقييم إذا علمنا أنّ المستخدم من العقل البشري لا يتعدّى الـ10% فقط بغض النظر عن مدى صحة هذه الفرضية التي يرى البعض أنّها لا تعدو أن تكون أسطورة من الأساطير يعود أصلها لنظريات الطاقة الاحتياطية التي وُضعت من قبل علماء النفس في جامعة هارفارد (وليم جيمس) و(بوريس سيديس) في تسعينيات القرن التاسع عشر، اللذان اختبرا نظرية معجزة وليام سيديس في درجة البلوغ والذكاء والتي أجروها على 250ـ300 طفل، وبالتالي، قال وليام جيمس أن الناس لا تلبي سوى جزء بسيط من إمكاناتهم العقلية الكاملة، وهي مطالب معقولة. أضف إلى ذلك أنّ ذات العقل البشري يمكنه إنتاج دفعات هائلة من الإفرازات عند الطوارئ (الخوف الشديد، التوتر، الشعور بالبرد، التعرُّض للاستفزاز،.....الخ) يستطيع بموجبها الإنسان أن يقوم بنشاطات خارقة للعادة عند تعرُّضه لها، حتى يكون أقرب لأن نطلق عليه اسم (الإنسان الخارق)، فهل وضع IQ هذه الاعتبارات في تقديراته وهو بصدد تأطير نسب الذكاء لدى هذا الإنسان، خصوصاً إذا علمنا أنّ هذه المحفّزات تتفاوت أيضاً من شخص لآخر، وتتفاوت تبعاً لذلك مستويات الاستجابة والتفاعل معها من شخص لآخر؟ وهذا التفاعل بالتأكيد هو نمط من أنماط الذكاء (التصرُّف المناسب للموقف المناسب)!!!
بعض أنماط الذكاء التي لا تخضع لمقياس IQ:
كما أسلفت آنفاً فهناك مجموعة من الأنماط المختلفة للذكاء لا يمكن قياسها بمقياس IQ، وضع أسسها وقواعدها بعض علماء النفس، ويمكنني إيراد بعضها على النحو التالي:
[1] الذكاء العاطفي:
هو باختصار عبارة عن القدرة على فرز العواطف الذاتية، وحسن استعمالها. ويعرفه دانيال جولمان في كتابه (الذكاء العاطفي) بأنه القدرة على التعرف على شعورنا الشخصي وشعور الآخرين، وذلك لتحفيز أنفسنا، ولإدارة عاطفتنا بشكـل سلـيم في علاقتنا مع الآخرين. ولا يقتصر الذكاء العاطفي على المستوى المهني أو الاجتماعي فحسب, بل يشمل بشكل أساسي كيفية استخدام العواطف بذكاء في العلاقة بين الزوجين، فقد أثبتت الدراسات أن الأزواج السعداء ليسوا أذكى أو أغنى أو أكثر ثقافةً من الأزواج التعساء, و ليسوا بالطبع متخصصين في علم النفس أو فن التواصل أو فن تقنيات المفاوضات, بل هم يتجادلون ويختلفون مثل بقية الأزواج، فقط ما يميزهم هو امتلاكهم لذكاء عاطفي متقدّم عن الآخرين، يجعلهم قادرين على بلورة ديناميكية علائقية بعدم السماح للمشاعر السلبية بأن تطغى أو تسيطر على علاقتهم الزوجية, مما يجعلهم يجدون دائماً اللذة والحافز للبقاء سوياً.
[2] الذكاء الاجتماعي:
يوصف الذكاء الاجتماعي أو الـ(Social intelligence) بأنه القدرة البشرية الحصرية على التنقل والتفاوض في العلاقات الاجتماعية المعقدة والبيئات المختلفة بفعالية. ويرى الباحث الاجتماعي "هونيويل روس" أن الذكاء الاجتماعي هو حصيلة مجموع الوعي النفسي، والاجتماعي، والمعتقدات الاجتماعية، والمواقف المتطورة، والقدرات، والإرادة لإدارة التغيير الاجتماعي المعقد. والشخص الذي يمتلك حاصل ذكاء اجتماعي مرتفع (SQ)، لا يكون  أفضل ولا أسوأ من شخص يمتلك حاصل اجتماعي منخفض، فهما فقط يمتلكان مواقفَ وآمالَ ومصالحَ ورغبات مختلفة.
والذكاء الاجتماعي وفقاً للتعريف الأصلي لـ"إدوارد ثورنديكي"، هو "القدرة على الفهم والتعامل مع الرجال والنساء والصبيان والبنات، والتصرف بحكمة في العلاقات الإنسانية".
والذكاء الاجتماعي أو الذكاء التفاعلي هو أيضاً مكافئ للتصرف بذكاء في العلاقات ما بين الأشخاص، وهو نوع واحد من أنواع الذكاء المحدد  في نظرية "هوارد غاردنر" في الذكاء المتعدد والتي ترتبط ارتباطاً وثيقا بنظرية العقل. ويقيّد بعض المؤلفين التعريف بالتعامل فقط مع المعرفة بالأوضاع الاجتماعية، وربما يُدعى بشكل أصح الإدراك الاجتماعي أو ذكاء التسويق الاجتماعي والذي يختص بالتوجه في الإعلان النفسي، واستراتيجية التسويق وتكتيكاتها.
ووفقاًلـ"شون فولينو": الذكاء الاجتماعي هو قدرة الشخص على فهم بيئته تماماً، والتصرف بشكل ملائم لسلوك ناجح اجتماعياً. وبدون الذكاء الاجتماعي يتعب الإنسان غاية التعب، ويفقد ثقته في نفسه وفي الناس، فالذكاء الاجتماعي يتطلب العمل والصبر والمجاملة، ويتمثل هذا الذكاء في إمكانية الفرد على التخلص والتملص من المواقف الحياتية المحرجة، وفي إمكانية الشخص على إقناع من حوله والتكيف معهم، وفي التخطيط للوصول إلى أهداف الفرد الذاتية.
[3] ذكاء المجانين (خذ الحكمة من أفواه المجانين)!!!
كان "بهلول" رجلاً مجنوناً في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وفي يومٍ من الأيام مر عليه الخليفة وهو جالس في إحدى المقابر، فقال له معنِّفاً: يا بهلول يا مجنون...متى تعقل؟ فركض بهلول وصعد إلى أعلى شجرة، ثم نادى على هارون بأعلى صوته: يا هارون يا مجنون...متى تعقل؟ فأتى هارون تحت الشجرة وهو على صهوة حصانه، وقال له: أنا المجنون أم أنت الذي يجلس في المقابر؟ فقال له بهلول: بل أنا عاقل!! قال هارون: وكيف ذلك؟ قال بهلول: "لأني عرفت أنّ هذا زائل (وأشار إلى قصر هارون)، وأنّ هذا باقٍ (وأشار إلى القبر)، "فعمّرتُ هذا قبل ذاك، وأما أنت فإنك قد عمّرتَ هذا (يقصد قصره) وخرّبتَ هذا (يعني القبر)، فتكره أن تنتقل من العمران إلى الخراب، مع أنك تعلم أنه مصيرك لا محالة!!! وأردف قائلاً: فقل لي...أيّنا المجنون؟ فرجف قلب هارون الرشيد وبكى حتى بلل لحيته، وقال: والله إنك لصادق، ثم أضاف قائلاً له: زدني يا بهلول، فقال بهلول: "يكفيك كتاب الله فالزمه". قال هارون: "ألك حاجة فأقضيها؟"، قال بهلول: نعم...ثلاث حاجات إن قضيتها شكرتك. قال: فاطلب. قال: أن تزيد في عمري!!! قال: لا أقدر! قال: أن تحميني من ملك الموت! قال: لا أقدر! قال: أن تدخلني الجنة وتبعدني عن النار! قال: لا أقدر! قال: "فاعلم أنك مملوكٌ ولست ملكاً، ولا حاجة لي عندك".
وهناك قصة أخرى من الأدب السُّـوداني تُروى في ذات السياق، تقول أنّه بينما كان رجلٌ يقود سيارته في الطريق، فإذا بإحدى إطارات السيارة يتلف، وعندما نظر إليه صاحب السيارة وجد أن المسامير التي تثبّت الإطار بجسم السيارة قد تآكلت جميعها، ولم يعد بالإمكان مواصلة السير بها على هذه الحالة لما فيه من خطورة على حياته لاحتمال انقلاب السيارة في أي لحظة، والمشكلة الأكبر أنّه ليس لديه بديلاً لهذه المسامير، كما أنّه في مكان ناءٍ لا يمر به أحد العقلاء في ذلك الوقت، وبينما هو حائر فيما يفعل؛ إذ مرّ به أحد المجانين، وسأله عن سبب وقوفه في هذا المكان، فحكى له الموقف من باب الترويح عن نفسه، وسأله عن كيفية التصرُّف في هذا الموقف المحرج! فما كان من المجنون إلاّ وأن قال له: خذ مسماراً واحداً من أي إطار من الإطارات الثلاثة السليمة، وثبِّت به الإطار التالف، إلى أن تصل لأقرب ورشة للصيانة!! فتعجّب الرجل من هذه الفكرة (المجنونة) التي لم يكن بالإمكان أن تخطر ببال أعقل العقلاء!!
[4] الفراسة مقياس آخر للذكاء:
قال (صلى الله عليه وسلم): (اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله)، فالفراسة عند العرب هي علم من العلوم الطبيعية تعرف به أخلاق الناس الباطنة من النظر إلى أحوالهم الظاهرة كالألوان والأشكال والأعضاء. أو هي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن. أما الإفرنج فيسمونه بلسانهم (physiognomy) وهو اسم يوناني الأصل مركب من لفظين معناهما (قياس الطبيعة أو قاعدتها)، والمراد به هنا الاستدلال على قوى الإنسان وأخلاقه بالنظر إلى ظواهر جسمه. إذن فهي مُحدّد آخر من محدّدات الذكاء التي يتفاوت فيها البشر، وفوق ذلك هي هبةٌ ربانيّة يقذفها الله في قلوب من يشاء من عباده، فتمنحهم قدرات إضافية للتحليل وسرعة البديهة والتصرُّف في المواقف الحرجة، والمثال الأبرز لها ما رُوي أنّ رجلاً دخل على سيدنا عثمان (رضي الله عنه) وقد نظر امرأةً أجنبيةً، فلما نظر إليه قال: هاء!! أيدخل عليّ أحدكم وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قال: لا، ولكن قولُ حقٍ وفراسةُ صدقٍ [أخرجه الملاء في سيرته].
[5] الذكاء القيادي:
الذكاء القيادي مصطلح جديد في التدبير الإداري للمؤسسات، ويندرج ضمن النظرة الحديثة للذكاء والمبنية على أبحاث "هوارد جاردنر" حول تعدُّد أنواع الذكاء عند الفرد، وهو متعلق بالهيئات العليا في المنظمات خاصة المكلفة بالتخطيط الاستراتيجي، فالقائد الذكي قائد ذو تجربة إدارية ومهنية غنية تمكّنه من التصرف والتكيف مع الطوارئ. ويرتبط الذكاء القيادي بغيره من أنواع الذكاء الأخرى خاصة الذكاء العاطفي ارتباطاً كبيراً، فهو يُمكِّن القائد من التعرف على شخصيته والتحكم فيها، بالإضافة إلى التحكم وضبط مشاعر الآخرين والتأثير فيها. وهو كذلك صفةٌ تُكتسب بالدُّربة والتجربة، وتحتاج إلى تراكم العديد من المهارات الموازية والمواكبة لتعزيز السلوك القيادي العالي، وحرص القادة على تطوير مؤهلاتهم وقدراتهم بالممارسة هو السبيل لتنمية الذكاء القيادي. إذن فالذكاء القيادي مُحدّد آخر من مُحدّدات الذكاء.
الخلاصة:
خلاصة القول أنَّنا لقياس الذكاء لا يمكننا الاقتصار فقط على المقاييس الحسابية الحديثة مثل (IQ) و(SQ) وغيرها، والتي تهمل كثيراً من الجوانب والمهارات والإمكانات الذهنية التي وهبها الله عزّ وجلّ للإنسان، والتي تجعله يتفاعل مع البيئة المحيطة به تفاعلاً إيجابياً ومثمراً وإن كان قد حُرِمَ من التعلُّم في مؤسسات التعليم الحديثة، ولكنه يملك ذكاءً من نوع آخر لا يملكه أذكى أذكياء الأرض حسابياً، والذي قد يقف عاجزاً تماماً عن التصرُّف حيال أبسط المعضلات الحياتية التي قد تواجهه، لعدم امتلاكه لمفاتيح حلها التي قد يمتلكها ضعفاء العقل أو فاقديه أحياناً.
مراجع المقال:
[1] جامع بيان العلم وفضله، 1/677.
[2] الذكاء القيادي، د. محمد الحبيب، موقع أكابريس الالكتروني، منشور بتاريخ: 17 يوليو 2014م.
[3] ويكبيديا الموسوعة الحرة.
أضافة تعليق