مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/02/25 12:58
التسرُّب المدرسي في السُّـودان...ظاهرة عرضية أم بادرة انحراف؟
بسم الله الرحمن الرحيم
التسرُّب المدرسي في السُّـودان...ظاهرة عرضية أم بادرة انحراف؟

لا شكَّ أنَّ أية ظاهرة اجتماعية أو سلوكية أو تربوية أو غيرها من الظواهر السالبة، إن لم يتم تعقُّبها بالدراسة والتحليل للتعرُّف على مسبباتها أو العوامل المساعدة التي تؤدِّي إليها، ومن ثمَّ توصيف العلاج الناجع لها، وإلحاق عملية المعالجة هذه بـ(فترة نقاهة) للتخلُّص من جميع الآثار الجانبية التي قد تنشأ أثناء هذه المعالجة، والتي (أي فترة النقاهة) قد تطول أو تقصر حسب نوع الظاهرة وتداعياتها وما خلَّفته من دمار وخراب كان سيؤدِّي لما بعده من تردٍّ إن لم يتم تداركه وكبح جماحه في هذه اللحظة الحساسة والحاسمة، أقول أنَّه إن لم يتم ذلك كله، فستتحوَّل هذه الظاهرة إلى أشبه ما يكون بالواقع الحتمي الذي سيفرض علينا بعد ذلك التعامل معه إمَّا بالذوبان فيه أو مجاراته خوفاً من استفحاله وتحوُّله لمسارات أخرى أكثر حدَّةً وخطورةً.
هذا التمهيد قصدتُ منه لفت الانتباه لما سأتناوله في هذا المقال والذي بدا وضحاً من تسميته، ولكن لأهميته كان لا بُدَّ من التقديم له هكذا؛ فموضوع التسرُّب المدرسي في السُّـودان يُعدُّ الآن من المعضلات التربوية التي استعصت على الحل وأعْيَتْ من يداويها، ولكن قبل الخوض في تفصيلات هذا الموضوع، دعوني أخرج بكم في سياحةٍ قصيرةٍ أُوضِّح خلالها هذا المفهوم من وجهات نظر وتجارب مختلفة، بل وحتى موضعه من التشريعات القانونية؛ فالتسرُّب المدرسي يختلف من بلد إلى آخر حسب سياسة التعليم في البلد نفسه، ففي بعض الدول يعني التسرب "ترك التلميذ للمدرسة قبل إنهاء الصف السادس الابتدائي". فيما يشمل في دول أخرى "كل تلميذ ترك المدرسة قبل إكمال المرحلة المتوسطة". وتذهب بعض الدول في أنه ينطبق على "كل تلميذ ترك المدرسة قبل إكمال المرحلة الثانوية". علماً بأنَّ هناك عدد من الدول لم توثِّق أنظمتها التعليمية مفهوم التسرُّب المدرسي. ولقد عرَّفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) التسرُّب عام 1992م بـ"عدم التحاق الأطفال الذين هم بعمر التعليم بالمدرسة أو تركها دون إكمال المرحلة التعليمية التي يدرس بها بنجاح، سواء كان ذلك برغبتهم أو نتيجة لعوامل أخرى، وكذلك عدم المواظبة على الدوام لعام أو اكثر.
الحق في التعليم وفقاً للمواثيق والتشريعات العالمية:
كذلك نجد أنَّ من الحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة (26) منه: "لكل شخص حق في التعليم، ويجب أن يوفر التعليم مجاناً، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية، ويكون التعليم الابتدائي إلزامياً، ويكون التعليم الفني والمهني متاحاً للعموم، ويكون التعليم العالي متاحاً للجميع تبعا لكفاءتهم". وحق الطفل بالتعليم نصت عليه المادتان (28) و(29) من اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة، فالتعليم حسب المادة (29) هو: "الذي يعمل على تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها، وتنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة...إلخ).
مفهوم وإحصائيات التسرُّب المدرسي في السُّـودان:
للتسرُّب المدرسي في السُّـودان مفهوم ومعنى آخر أرى أنَّه يختلف تماماً عمَّا أوردته في مقدِّمة المقال، وذلك بالرغم من عدم وجود أي تعريف له في جميع التشريعات والقوانين السُّـودانية أسوةً بالتشريعات العربية والمواثيق الدولية. وقد أوردت الدكتورة ابتسام ساتي إبراهيم من جامعة الخرطوم في ورقة لها بعنوان "أطفال السُّـودان بين التشريعات والواقع الاجتماعي" في ورشة سابقة في ذات الخصوص، أوردت احصائية عن نسبة التسرُّب المدرسي في المدارس السُّـودانية، حيث ذكرت أنَّ النسبة بلغت 6.6%، وكانت نسبة الأولاد منها 8.3%، أمَّا البنات فكانت 6.9%، وعزت نسبة ارتفاع تسرُّب الأولاد إلى الرغبة في العمل وخاصة في ظل ظروف الحرب والصراعات التي يشهدها السُّـودان، وفقدان كثير من الأسر لعائلها. إلاَّ إنَّه في المرحلة الثانوية فإنَّ ظاهرة الزواج المبكِّر للبنات تؤدِّي إلى زيادة تسربهنَّ. وذكرت أسباب أخرى عديدة تؤدِّي إلى تسرُّب الأطفال من التعليم، من بينها الظروف الاقتصادية التي تعيشها بعض الأسر، والصراعات القبلية، والحروب الأهلية والإقليمية، فضلاً عن قلة فرص التعليم المتوفرة لهذه الفئات. ويمكن للتعليم ذي النوعية الجيدة والمجاني والمرن، أن يلعب دوراً حيوياً في إعادة دمج هذه الفئات في المجتمع، إذا أُخذت في الاعتبار الحاجات التربوية الخاصة بهذه الفئة.
صورة التسرُّب المدرسي:
بناءً على ما تقدَّم فإنَّ الصورة الحقيقية والماثلة أمامنا والمشاهدة يومياً لظاهرة التسرُّب المدرسي في السُّـودان، هي وجود عدد من الطلاب خارج أسوار مدارسهم المختلفة أثناء ساعات الدوام المدرسي، والذي (أي هذا الوجود خارج أسوار المدرسة) قد يمتد إلى نهاية الدوام، أو قد يكون مؤقتاً وذلك بالتأخر عن دخول المدرسة صباحاً، ثم تحيُّن فرصة خروج زملائهم لتناول وجبة الفطور بعد النصف أو الثلث الأول من اليوم الدراسي ليدخلوا معهم بعد ذلك، أو العكس، أي الانتظام في الدوام المدرسي صباحاً، ثم (الهروب) من المدرسة عند أول سانحة.
لماذا التسرُّب المدرسي؟
أرى أنَّه ثمة عوامل ومسبِّبات كثيرة لظاهرة التسرُّب المدرسي في السُّـودان، والتي لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في معظم البدان الأخرى، حيث أرجعت معظم هذه البلدان (إضافة لما أوردته الدكتورة ابتسام ساتي إبراهيم في مقالها المذكور آنفاً) ظاهرة التسرُّب للعوامل الأساسية التالية:
[1] عدم رغبة الطالب أو الطالبة في الدراسة.
[2] سوء معاملة بعض الأساتذة للطلبة.
[3] عدم جاذبية البيئة الدراسية وإشباعها لميول ورغبات التلاميذ المتجدِّدة والمتغيِّرة.
[4] شعور الطالب بأنَّه أصبح أكبر سناً من زملائه (التفاوت العمري بين الطلاب).
[5] صعوبة بعض الامتحانات ينتج عنه الرسوب المتكرر للطالب وبالتالي ترك المدرسة.
وقال الدكتور المعتصم عبد الرحيم، وكيل وزارة التربية والتعليم العام الأسبق (رحمه الله تعالى) أنَّ التسرُّب يأتي لأسباب عِدَّة، منها المادية (أي عدم توفُّر المال لدى الطالب)، وكُره التلميذ للمدرسة، وكذلك العقاب بالجلد (الضرب)، وعدم توفر الأساسيات المدرسية من مياه شرب وحمامات (دورات مياه) وكتب، مؤكداً أن القضاء على التسرُّب يأتي عبر القضاء على مسبباته، مطالباً إدارات التعليم بأن لا تدع فرصة للطالب ليتسرب. كما أرجع الخبراء المشاركون في ورشة عمل "التسرُّب من التعليم.. المشاكل والحلول" التي عُقدت بالمجلس القومي للطفولة، التسرُّب لافتقار مناهج التعليم للرغبة والتشويق، بجانب نقص الكتاب المدرسي، وقسوة العقاب، والفقر، وغياب الوالدين أو انفصالهما عن بعض، خاصة مع ظروف الحرب والنزوح التي أدت للتفكك الأسري. ودعا ممثل وزارة التعليم العام لضرورة وضع إجراءات عقابية، وتفعيل دور المرشد، ومنع العقاب، وعدم التمييز بين التلاميذ، وأهمية تعميم التعليم.
الخلاصة:
مما تقدَّم نجد أنَّه إذا أردنا القضاء على هذه الظاهرة والتي لا أرى أنَّها عَرَضِيّة تأتي في مرحلة عمرية معيَّنة ثم لا تلبث أن تزول بعد نضوج الطالب وتخطيه لمرحلة الطفولة، بقدر ما هي نواة وبادرة لانحراف أخلاقي ومجتمعي يوشك أن يعم وتنتشر (جرثومته) في معظم مدارسنا (الحكومية والخاصة)، علينا وضع الحلول الناجعة لها وذلك بالقضاء على مسبِّباتها أولاً، ثم بعد ذلك نضع الاجراءات الاحترازية لعدم تكرارها وحدوثها مرةً أخرى بعد علاجها، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أنَّ هذا التسرُّب يؤدِّي بلا شك إلى وقوع هؤلاء الطلاب في براثن الجريمة، ويضع أقدامهم في أولى درجاتها، فالطالب الذي يتسرَّب من المدرسة، يكون نهباً لأصدقاء السوء ومتسكِّعي الطريق ومعتادي الإجرام، فيبدأ بممارسة ما يمارسون من سرقة وإدمان سجائر ومخدِّرات ومسكرات، بل وحتى الوقوع في الرذيلة بأنواعها المختلفة، والفاحشة في أقسى صورها، يمكن أن يمثِّلان تجربة جريئة لهذا الطالب المتسرِّب، ولا يجد مانعاً أو غضاضةً في خوض غمارهما طالما أنَّه أصبح حراً طليقاً يفعل ما يشاء دون رقيبٍ أو حسيب.
مراجع المقال:
[1] معجم المصطلحات الثقافية، موقع "منهل الثقافة التربوية"، منشور بتاريخ: 16/4/2010م.
[2] ياسر محمد المكي أبو حراز، البدائل المبتكرة لإعادة المتسربين خارج المدرسة للتعليم العام، مجلة دراسات تربوية، العدد 22، ص: 153.
[3] المركز السُّـوداني للخدمات الصحفية، 29/7/2011م.
[4] SudaneseOnline.Org7/2007
أضافة تعليق