مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/02/17 12:13
كرة القدم...الهوس القاتل!
كرة القدم...الهوس القاتل

لم يدر بخلد مدافع كولومبيا "أندريس اسكوبار" أنّ الهدف الذي أودعه خطئاً بيمناه في مرمى فريقه الذي كان يواجه البلد المضيف الولايات المتحدة الأمريكية في نهائيات كأس العالم في العام 1994م، والذي أطاح بأحلام بلاده للتأهل للمرحلة التالية في طريق تحقيق الحلم بالفوز بالكأس الذهبية الذي تنبأ لهم به نجم البرازيل السابق "بيليه" في إحدى شطحاته، والذي جعل معظم الكولومبيين يراهنون على ذلك الفوز خصوصاً تجّار المخدّرات والمافيا التي تنشط في معظم دول أمريكا اللاتينية، لم يدر بخلده أنّ ذلك الهدف سيطيح برأسه كما أطاح بأحلام المراهنين على التتويج والفوز بالكأس، فما أن عاد المنتخب لكولومبيا خائباً، حتى استُقبلَ "اسكوبار" برصاصة في رأسه بدلاً عن استقباله بأكاليل الزهور والألعاب النارية.
ومرةً أخرى تفوح رائحة الموت بسبب كرة القدم من داخل إستاد مدينة "بورسعيد" المصرية في الأول من فبراير 2012م عقب مباراة كرة قدم بين فريقي المصري البورسعيدي والأهلي القاهري، حيث مات 72 مشجّعاً (بحسب مديرية الشؤون الصحية في مدينة بورسعيد المصرية)، إضافة لمئات المصابين، في حادثة وُصفت بأنّها أكبر كارثة في تاريخ الرياضة المصرية، ووصفها البعض بـ"المذبحة" أو الـ"مجزرة" في إشارة إلى استبعادهم وقوع هذا العدد من الضحايا في أعمال شغب "طبيعية"، وتخطيط طرف ما لها.
ومرةً ثالثة يتكرر ذات المشهد الكروي الدموي من مصر، ولكن هذه المرة من ملعب "الدفاع الجوي" شرقي العاصمة القاهرة، حيث سقط أربعون من مشجّعي نادي الزمالك القاهري (أو من يسمون بألتراس وايت نايتس) الذي كان ينازل فريق "انبي" المصري مساء الأحد 8 فبراير 2015م، عقب مواجهات بينهم والأمن المصري، الذي منعت قواته أنصاراً للفريق من دخول الملعب. ووفقاً للرواية الرسمية، فقد أقدمت قوات الأمن على منع دخول خمسمائة مشجع إضافي من أنصار الزمالك، فوق العشرة آلاف المسموح لهم بحضور المباراة، وأطلقت عليهم قنابل الغاز، مما نتج عنه وفاة عدد من المشجّعين اختناقاً، ووفاة البعض الآخر برصاص الشرطة عقب قيام المشجّعين بإشعال النيران في سياراتها، حسب إفادة بعض الصحفيين الذين شهدوا الواقعة.
وما بين هذه الحوادث الثلاث هناك عشرات الوقائع المماثلة في الوطن العربي تبرهن على استشراء هذا الداء العضال فيه (الموت بسبب كرة القدم)؛ فبين الفينة والأخرى تنقل لنا وسائل الإعلام موت أحد المشجعين بالسكتة القلبية أو الذبحة الصدرية عقب هزيمة فريقه. والشواهد أكثر من أن يحيط بها هذا المقال أو هذه المساحة التي قصدتُ منها تسليط الضوء على هذه الظاهرة التي باتت في تنامٍ مستمر، فهل نحن فعلاً نقف أمام ظاهرة بدأت في التحوُّل والتحوُّر لهوس دامٍ يحصد الأرواح، ويدمِّر الممتلكات على اختلاف أنماطها وأنواعها؛ وذلك إذا علمنا ما يحدث للمرافق العامة من تدمير وسلب ونهب عقب أحداث الشغب الكروي هذه؟
كرة القدم في التاريخ القديم:
وضعتُ جميع هذه التساؤلات المشروعة في طاولتي وأنا بصدد البحث في هذا الموضوع الذي آثرتُ التمهيد له بهذه الطريقة المثيرة، وكمدخل تاريخي كان لزاماً عليّ أن أغوص في أعماق الماضي مستكشفاً الظروف والعوامل التي أحاطت بهذه اللعبة وهي بصدد التكوين، ليعين ذلك القارئ على فهم مراحل نموها وتطوُّرها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن من موت وتدمير مرافق وممتلكات، على الرُّغم من أنّها أصبحت مصدراً لكسب الأموال الطائلة عبر الشركات الراعية، والأندية التي تجاوزت رؤوس أموالها مليارات الدولارات، واللاعبين الذين يتربَّع عدد مقدَّر منهم على قوائم أثرياء العالم الآن. فمن غرائب هذه اللعبة أنّ بداياتها كانت أيضاً دامية كما يحدث في ملاعبها الآن؛ فقد مورست بطرق وحشية في الحضارات القديمة، فالصينيون كانوا يلعبونها، والمهزوم يُضرب بالسياط، ويُكوى بالنيران. والإنجليز (وهم أول من لعبها بشكلها الحديث) كانوا يمارسونها قبل ألف سنة تقريباً بطريقة غاية في الوحشية والبربرية، إذ كانوا يلعبون الكرة برؤوس خصومهم بعد الانتصار عليهم. وشهدت سنة 1016م أول مباراة كرة قدم بين الإنجليز، برأس جندي دانماركي مقتول في الحرب بين البلدين. ونظراً لخطورة هذه الرياضة، أصدر ملك إنجلترا "هنري الثاني" قراراً يمنع ممارستها، ومعاقبة المخالف بالسجن، وذلك سنة 1154م. ثم عاد الملك إدوارد الأول، ومنع لعب الكرة سنة 1314م، بسبب انصراف الشعب الإنجليزي عن تعلم فنون الرمي بالسهام للعب الكرة. وفي سنة 1401م أصدر "هنري الرابع" قراراً بمنع لعب الكرة بسبب خسارة إنجلترا في الحرب أمام فرنسا وبلجيكا، وقد عزا الهزيمة إلى لعب الكرة. ورغم أن الإنجليز هم من اخترع اللعبة، إلا أنّ ملوك إنجلترا هم أكثر من عاداها وحاربها، وحاول منعها بكل السبل، لما فيها من الأضرار، وضياع الأوقات والأموال والطاقات.
ولمّا رأى الصهاينة أثرها وسرعة انتشارها، قرروا اعتمادها كبند من بنود السيطرة على العالم بأسره؛ فقد جاء في بروتوكولات حكماء صهيون الفقرة السابعة عشر: "إننا سنُغرق العالم في جنون المباريات الرياضية، حتى لا يصبح للأمم ولا للشعوب اشتغال بالأشياء العظيمة، بل ينزلون إلى مستويات هابطة ويتعودون على الاهتمام بالأشياء الفارغة، وينسون الأهداف العظيمة في الحياة، وبذلك يتمكن اليهود من تدميرهم".
العنف والهوس الكرويان بعيون علماء النفس:
لا شكّ أنّ أية ظاهرة سلبية يكون ورائها عمق نفسي فيمن يمارسونها، وبما أنّ الهوس والعنف الكرويان هما في الأساس انعكاس نفسي حاد لمن يُوصفون بهذه الصفة (أي مهووسي كرة القدم)، كان علينا استنطاق علماء النفس في هذا الأمر، لتكون شهادتهم هي المعيار والمقياس لهذه الظاهرة. يقول الدكتور خليل فاضل: "هناك فئة من الناس معتلة نفسياً، تذهب إلى مباريات كرة القدم للبحث عن غريم تقتله، أو عن رجل شرطة تقذفه بالحجارة، مما يطرح عدة أسئلة، كلها تصب في نتيجة واحدة وهي أنّ الازدحام، والتكاثر السكاني، والبطالة، وضغوط الحياة، والإدمان على الكحول والمخدرات، كلها عوامل تساعد على العنف، وليس أدلّ على هذا من أن مدينة ليفربول الانجليزية والمعروفة بأعمال العنف في ميادين كرة القدم؛ بها نسبة عالية من البطالة والإدمان وما يترتب على هذا من أمراض نفسية، ونتيجة لأعمال العنف في إحدى مباريات هذه المدينة (ليفربول)، فقد أقيمت عيادة سُميت بـ"عيادة العنف" مهمتها تقديم النصح لهؤلاء الذين يعانون من مشاعر العنف والعدوانية، وعدم القدرة على التحكم فيها. وكانت ردة فعل المسؤولين عن المستشفى سلبية وناتجة عن خوفهم من ازدحام حجرات الانتظار بأناس مسلحين بالمديات (الأسلحة البيضاء) والهراوات، لكنهم فوجئوا بأناس عاديين قلقين ومتعبين نفسياً. وبعد فحص 200 شخص منهم، تبيّن أنّ أغلبهم مصاب باضطراب حاد في الشخصية، معادين للمجتمع، وسلبيين، فضلاً عن إحساسهم بالخوف والاضطهاد. كما وجدوا أنّ قليلاً منهم عانى من مرض الفصام والوسواس القهري، و53 % منهم أدينوا في المحاكم، و30% منهم حاولوا الانتحار، وكثير منهم هددوا بترك زوجاتهم أو أزواجهم".
ويرى الدكتور جاسم الياقوت أنّ الهوس أو العنف الكروي يرجع للتعصُّب الذي يختلف كثير من علماء النفس والتربويين في تحديد أسبابه، ويلخّصها بقوله: "ونحن هنا سنحاول تحديد بعض العناصر الرئيسة للتعصُّب، وهي: ضعف الوازع الديني، وقلة الوعي والثقافة الرياضية، كما يعتبر خبراء الإعلام الجديد أنّ المنتديات الخاصة بالأندية تعتبر منبع التعصُّب الرياضي، ويجمع علماء الاجتماع وعلماء النفس على أنّ الهتافات العدائية والعنصرية في المدرجات، وسب اللاعبين والجمهور، والتغني بهزيمة مباراة سابقة أو بطولة خرج منها الفريق الخصم، يساعد على ذلك تفاعل اللاعبين أنفسهم، كما يرى الكثير من المسؤولين في الأندية أنّ أخطاء بعض الحكام أثناء المباريات مقصودة أو متحيزة".
كرة القدم والتقريب بين الشعوب:
بما أنّ كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبيةً في العالم، يصبح من الطبيعي أن تعمل على التقريب بين الشعوب التي قد تفرقها الحروب أو السياسة أو الدين، إذا اعتبرنا أنّها يمكن أن تكون وسيلةً لدعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام، بحسبان أنّها أصبحت محفلاً ضخماً يضم كل دول العالم تقريباً، وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ اتحادها الدولي المعروف اختصاراً بالـ (FIFA) يقوم بفرضها الآن فرضاً على كل دول العالم، فيصبح من (الحكمة) علينا كمسلمين أن نواجه هذا الواقع بما لدينا من آليات دعوية عسى ولعلّ أن نحدث شيئاً من التغيير فيه يفضي لدخول غير المسلمين من الرياضيين في دين الله أفواجاً، وما المسلمين من لاعبي الدوريات الأوروبية والأمريكية إلاّ نتاج جهد من زملائهم من مسلمي الشرق أو إفريقيا. كذلك تستطيع كرة القدم أن تلعب دور الدبلوماسية الشعبية (إن جاز التعبير) في التقريب بين الشعوب والإضاءة على القضايا المحقّة، لما تحمله من قيم ومعان سامية، ففي كرة القدم يسعى اللاعبون نحو هدف واحد هو تحقيق الفوز، وهو فوز مشروط بالتعاون وتفاني الفرد في خدمة المجموعة وتنفيذ الدور الموكل إليه بدقة، مع التأكيد على مفاهيم تقبّل الخسارة واحترام الخصم والامتثال لقوانين اللعبة، وكأن الميدان صورة مصغّرة لما يجب على المجتمع أن يكون عليه.
وبعيداً عن ضجيج الحروب وغبار المعارك، وفي لفتة رمزية شديدة الدلالة للمطالبة بإنهاء الحرب ونشر السلام، بادرت منظمة H2O الليبية إلى تنفيذ سلسلة مباريات في كرة القدم في العاصمة طرابلس ضمّت لاعبين من مختلف المناطق والمدن الليبية، وذلك تحت شعار "في الميدان من أجل السلام". خلال المباراة الأولى، ارتفعت في الملعب لافتات تدعو إلى الوحدة والسلام ونبذ الحروب والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد. وهذا ليس التقاطع الأول بين كرة القدم والسياسة في ليبيا؛ فالشعب الليبي لجأ أكثر من مرة إبّان حكم العقيد "معمر القذافي" إلى كرة القدم لتوجيه رسائل سياسية للسلطات في ظل خنق الحريات بشكل شبه تام، أبرزها كان في العام 2003م عندما خرج آلاف الليبيين للاحتفال بفوز نادي ميلان الإيطالي بدوري أبطال أوروبا كشماتة مبطنة بخسارة يوفنتوس المدعوم في تلك الفترة من الساعدي القذافي، نجل الرئيس. ولكن قد تكون للبعض آراء مغايرة تماماً فيما يتعلق بمقدرة كرة القدم على التقريب بين الشعوب، كالروائي الإنجليزي "جورج أور ويل" مؤلف رواية "مزرعة الحيوانات"، الذي كتب مقالاً عن الرياضة والسلام بين الشعوب، فنّد فيه أقوال بعض الناس بأنّ الرياضة تقرّب وتقوّي العلاقات بين الشعوب، لأنها أصبحت في الواقع مصدراً لإثارة مشاعر الكراهية وتوتير العلاقات بين ذات الشعوب في بعض الأحيان. وكما يقول الخبير الفرنسي "باسكال بوني فيس" في مقال له بعنوان "الجغرافية السياسية للرياضة": إنّ الرياضة قد تنعش مشاعر الأخوة في العلاقات بين الشعوب أو العكس".
الخلاصة:
خلاصة القول أنّ كرة القدم بقدر ما فيها من هوس وتعصُّب وتشنُّج وصل لحدّ الموت والقتل داخل وخارج ملاعبها، بقدر ما يمكن كذلك من توجيهها لخدمة الغايات الحسنة والأهداف النبيلة، التي أدناها تصفيتها وتنقيتها من هذه المظاهر السالبة، وأعلاها تسخيرها لخدمة الإسلام والمسلمين كبوّابة من بوّابات الدعوة إليه.
مراجع المقال:
[1] خطبة للشيخ/ ناصر بن محمد أحمد بعنوان "الهوس الكروي"، موقع ملتقى الخطباء، برقم (9298) في الموقع.
[2] مقال بعنوان "التفسير الطبي للعنف في ملاعب الكرة" للدكتور/ خليل فاضل، منشور بصحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ الأحد 24 ذو القعدة 1429هـ، 23 نوفمبر 2008م، العدد (10953) .
[3] مقال بعنوان "التعصُّب قاتل لكرة القدم" للدكتور/ جاسم الياقوت، موقع صحيفة "اليوم" السعودية، منشور بتاريخ: السبت الموافق 15 فبراير 2014 العدد (14855).
[4] مقال بعنوان "دبلوماسية كرة القدم، استخدام الكرة المستديرة لحل الأزمات" بقلم/ أحمد خواجة، موقع "رصيف 22" الالكتروني، منشور بتاريخ: 6/7/2015م.
[5] بحث بعنوان "الرياضة والعلاقات بين الشعوب"، موقع منتدى الطلبات والبحوث الدراسية.
أضافة تعليق