مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/02/14 15:57
الحقوق والحريات في الغرب...قنابل منزوعة الفتيل!
الحقوق والحريات في الغرب...قنابل منزوعة الفتيل!
الفاتح عبد الرحمن محمد*
لا يختلف اثنان حول ما وصل إليه الغرب من تقدُّم تقني هائل، الشيء الذي جعله رائداً في مجالات عدّة؛ كالطب، والصناعة، والتجارة، بل وحتى الرياضة! وبالمقابل ازدادت فيه وتيرة المطالبة بالحقوق والحريات وإتاحتهما دون قيود مُلْجمة أو شروط مُعيقة، فعلاقة تقدُّم الغرب تقنياً وعلميّاً مع مطالبة مواطنيه أو مؤسساته المدنية أو الحكومية في أحايين كثيرة بإتاحة الحقوق والحريات؛ علاقة طردية، أي كلما ارتفع مؤشر التقدُّم العلمي في الغرب، ارتفع معه سقف المطالبة ببسط مزيدٍ من الحريات، وابتكار مزيدٍ من الحقوق! فهناك في الغرب:
للشواذ...حقوق!!!
وللعُراة (تماماً) من الجنسين...حقوق!!!
ولذوات الصدور العارية اللائي يجبن الشوارع تعبيراً أو استنكاراً أو تضامناً...حقوق!!!
وللمتحوّلين جنسياً...حقوق!!!
وللسُكارى والثمالى...حقوق!!!
وللموتى...حقوق (دفن أموالهم ومقتنياتهم معهم كما كان يفعل الفراعنة في مصر القديمة)!!!
ولليائسين من الحياة، الراغبين في إنهائها متى شاءوا...حقوق (الأوتينيزيا أو القتل الرحيم)!!!
وللإجهاض والتخلُّص من الأجنة المُجهضة أو استخدامها كمستخلص في بعض منتجات التجميل بواسطة كبرى بيوتات التجميل (Miss Dior)، لاحتوائها على مادة (الجلايكوجين)...حقوق!!!
وللكلاب والقطط وسائر الدواب والهوام...حقوق!!! ولا أعني بذلك حقها في العناية بها وتوفير المأكل والمشرب وكل ما يدور في فلك تهيئتها للقيام بوظيفتها الأساسية من حراسةٍ أو صيدٍ أو الانتفاع بها كليةً كما في الأبقار والأغنام وذوات اللحم المباح، فهذا مما نصّ عليه الإسلام، ولكن أعني بذلك حقها في ميراث سيدها أو سيدتها بعد وفاتهما، واللّذين (أي الإنسان والحيوان) ربما كانا مقترنيْن بعقد (زواج) مدني أو عرفي أو أي صيغة من صيغ العلاقات الشاذة!!!
وللشيطان أيضاً في الغرب (حقوق)! وهي أن يُعبد من دون الله عزّ وجلّ، وتُنصب له طقوس التقرُّب والتذلُّل، التي تُقدَّمُ له فيها فروض الطاعة والانقياد، والتي تُمارس فيها أرذل الممارسات، ما بين الزنا والشذوذ وتعاطي المخدّرات والكحول، بل وحتى تبادل شرب دماء الحبيبين أو العشيقين، تأكيداً لمعاني الإخلاص والوفاء وعدم الخيانة!!!
وللتعبير حريات واسعة تمتد لازدراء الأديان والرسل والأنبياء، بل والتطاول على الذات الإلهية!!!
فما هي قصة هذه الحقوق والحريات اللامتناهية التي تزداد يوماً بعد يوم في الغرب، والتي جعلت منه (ثكنة) مدنية ضخمة، يسيطر عليها هؤلاء (الحقوقيون) والذين لا يمثّلون في الغالب إلا فئة ضئيلة جداً من المجتمع الغربي الذي يناهض معظمه (بفطرته الإنسانيّة السويّة أو لتديُّنه ربما) هكذا ممارسات، فالدولة بمفهومها السيادي العام وضوابطها الصارمة، أضحت في مواجهة شرسة أمام ما يُسمّى بالمجتمع المدني الذي تتقدّمه منظومات (حقوقية) قوية، مدعومة من جماعات الضغط أو ما يُسمّى بـ(اللوبي) والتي تسيطر على معظم المؤسسات الحكومية هناك، خصوصاً مواقع اتخاذ القرار، والذي (أي هذا اللوبي) ما إن يدخل في معركة مع بقية تكتُّلات الدولة داخل البرلمانات لإجازة حق أو لمنح حرية ممارسة (شاذة) لمطالبين بها، إلاّ ونجده قد كسبها، وخرج من قبّة البرلمان ملوّحاً بمسودّة القانون المجاز، ليستقبله المطالبون بهذا الحق بالرقص والتصفيق والبكاء الهستيري!!!
تاريخ نشأة الحقوق المدنية في أوروبا:
كانت الكنيسة الأوروبية في عصور الظلام والتيه الأوروبي، شديدة القسوة على العلماء، وكانت تقمع كل محاولة للابتكار والاختراع والبحث في العلم؛ في سبيل أن تظل لها السيطرة الكاملة على الشعوب وقيادة الناس، وفي سبيل استمرار جباية الأموال، وفي سبيل أخذ القرارات المصيرية، بل وفي سبيل أخذ قرار الغفران من عدمه، لعبدٍ أخطأ أو ارتكب ذنباً!! من هذا المنطلق حدث صراعٌ بين الدين والعلم في أوروبا، وعليه فقد شُلَّت حركة العلم في أواسط القرن السادس عشر الميلادي، ولم يتوقف ذلك إلا عند بداية النهضة العلمية والثورة العلمية الأوروبية، والانقلاب على الكنيسة.
والقصص والروايات التي تصف ظلم الكنيسة الأوروبية الكاثوليكية لا تكاد تنتهي، ولا يخفى على أحد محاكمات "كوبرنيكس" الذي اكتشف عام 1543م أنّ الأرض تدور حول نفسها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام، فيحدث تغير الفصول الأربعة، وأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما كان معتقدًا قبل ذلك، إلاّ أنّ هذا الكشف كان كارثة في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، وقد تعجبتْ الكنيسة لهذا الكشف حين حاكمته بميزان الحقائق الإنجيلية، إذ وجدته يتناقض مع معتقداتهم، ومع الإحساس الظاهري للبشر، ومع الجبال الساكنة في نظر النصوص المقدسة!! ولهذا قررت الكنيسة محاربة كوبرنيكس، واضطهدته واتهمته بالكفر و(الهرطقة) وطلبته للقتل، بل وأحرقت كتبه وأبحاثه ومنعت تدريسها، ولم يكتشفوا صحة ما وصل إليه إلا بعد وفاته بسنوات وسنوات!!
أما جاليليو والذي أثبت أنّ كوبرنيكس كان على حق، وأنّ الشمس هي مركز الكون، واكتشف أيضًا أنّ القمر ليس جسمًا مستويًّا، فقد أمر البابا بإحضاره بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته، للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرُّك الأرض، وحكمتْ الكنيسة عليه بالسجن في بيته (قيد الإقامة الجبرية) إلى أن يموت!! كذلك أعدمتْ الكنيسة "برونو" حرقًا في ميدان عام لدفاعه عن تحرك الأرض، وتوقعه وجود أراضين أخرى!! كذلك تعرَّض "آينشتاين" و"ماكس بلانك"، وغيرهم لذات الاضطهاد. لذلك عندما تفجَّرت الثورة الصناعية في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، تفجَّرت معها مطالبات ببسط الحريات وإتاحة مزيدٍ من الحقوق التي ربما لا تمت للثورة الصناعية بصلة، ولكن الكبتْ الذي عاشته أوروبا في تلك الحقبة، ولَّد رغبةً قويةً لدى الناس هناك في الانعتاق والتحرُّر من كل القيود، وممارسة ما شاءوا وكيف شاءوا، الأمر الذي أوصل أوروبا والغرب الآن إلى هذه المرحلة المنفتحة جداً من حيث بسط الحقوق والحريات، دون قيدٍ أو شرط.
وانقلب السحر على الساحر:
كان لا بُدَّ للتساهل الكبير والتغاضي الغريب في مسألة بسط الحقوق والحريات في أوروبا من إحداث نتائج عكسية أو انحراف في مسار هذه الحقوق وتلك الحريات، والدخول في أنفاق مظلمة تكافح أوروبا الآن للخروج منها، أو قل الخروج بأقل خسائر محتملة لأي تصرُّف يأتي ضمن إطار ممارسة حق مشروع أو حرية مُباحة؛ فحوادث القتل في الشوارع أو المدارس بالأسلحة المُتاحة في كل مكان ومن أطفال يافعين أحياناً، واحدة من هذه الويلات الكثيرة التي يقف الغرب عاجزاً تماماً عن التعامل معها أو التقليل من حدّتها! أمّا حوادث الاغتصاب (سواء كان برضاء الطرفين أو رفض أحدهما، فلا ينفي هذا عنها صفة الاغتصاب) تتجرَّع أوروبا وأمريكا الآن مراراتها، رغماً عن أنَّها تأتي ضمن إطار الفوضى الجنسية المُسماة (حريّة جنسية)، بل ويقوم الغرب بتنظيم أبناء (السفاح) هؤلاء في منظمات إرهابية مأجورة كـ"بلاك ووتر" و"بلاك بلوك" وغيرهما، ثم إرسالها لتنفيذ عمليات قذرة في أصقاع العالم، ومنها العالمين العربي والإسلامي، وما القتل والتصفيات الجسدية الذي مارسته منظمة الماء الأسود إبّان الحرب على العراق عنّا ببعيد!!
وفي مجال حرية الاعتقاد برزت في الغرب كثير من الأفكار والمعتقدات الشاذة والمتطرفة (حتى بنظر الغرب نفسه) وأدّى ذلك إلى عدد من الحوادث التي هزَّت الغرب وأصابته في مقتل؛ كحادثة أوكلاهوما سيتي في العام 1995م، والتي نفّذها (متطرف أمريكي) يُدعى "تيموثي ماكفي" ينتمي لحركة "ميليشيا" المتطرفة، أودتْ بحياة المئات!! وحادثة معبد الشمس في العام 1978م، والتي انتحر فيها مؤسس طائفة كنيسة الشعب "جيم جونز" و 900 من أتباعه بينهم أطفال، وذلك بعد أن تجرّعوا السّم بصورة جماعية!!
أمَّا في مجال المال والاقتصاد، فقد ابتكر الغرب النظام الرأسمالي (دعه يعمل، دعه يمر) الذي يأتي ضمن إطار حرية التملُّك وتعزيز الملكية الفردية في مقابل الملكية العامة، ووصف دور الحكومة في ذلك بأنَّه مجرّد دور رقابي فقط، بيد أن الاقتصادي البريطاني "جون كينياس" يرى أنَّ نظام الاقتصاد الرأسمالي هذا غير قادر على حل مشاكله بنفسه كما في النظرية الكلاسيكية، بل إنّ هناك أوقات كساد اقتصادي تحتّم على الحكومات بأن تحفّز الاقتصاد، وإلاَّ فسيدخل هذا النظام في أزمات مالية طاحنة كما حدث في أواسط الثلاثينيات وكذلك الأزمة الاقتصادية العالمية التي لا تزال قائمة، بل وأدَّت إلى إعلان عدد من الدول الأوروبية إفلاسها تماماً كاليونان، وانهيار القطاع المالي والعقاري، وارتفاع عجز في موازنات بعض الدول الأخرى، كأيسلندا وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا.
الإسلام والحرية:
أقرّ الإسلام الحرية، بيد أنّه لم يطلقها من كل قيد وضابط، لأنّها بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى التي يثيرها الهوى والشهوة، ومن المعلوم أنّ الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه، ولذلك منع الإسلام من اتِّبَاعِهِ، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26]، كما أنّه (أي الإسلام) ينظر إلى الإنسان على أنه مدنيّ بطبعه، يعيش بين كثير من بني جنسه، فلم يقر لأحد بحرية دون آخر، ولكنه أعطى كل واحدٍ منهم حريته كيفما كان، سواء كان فرداً أو جماعة، ومع ذلك وضع قيوداً ضرورية، تضمن حرية الجميع، وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي:
[1] ألاّ تؤدّي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.
[2] ألاّ تفوّت حقوقاً أعظم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.
[3] ألاّ تؤدّي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.
وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفردٍ على حساب الجماعة ،كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد ، ولكنّه وازن بينهما، فأعطى كلاً منهما حقه، مع اشتراط عدم الإضرار بالآخرين.
الخلاصة:
إنَّ توسُّع الغرب في بذل الحقوق والحريات يضعه على سطح صفيحٍ ساخن، أو في حقل ألغام معلومة المواقع ولكن غير مقدورٍ على نزعها، لأنّ ذلك يعدُّ مخالفةً ومناهضةً لقدسية هذه الحقوق وتلك الحريات التي جاءت بعد صراعٍ مدنيٍّ طويل! ولكن هذه الحقوق وتلك الحريات هي أيضاً بمثابة قنابل منزوعة الفتيل بدأت في الانفجار الفعلي، الذي سيقضي على كل شيء.
*كاتب وتربوي وباحث بمجمع الفقه الإسلامي السُّـوداني.
مراجع المقال:
[1] ويكبيديا الموسوعة الحرة.
[2] مقال بعنوان "الصراع بين الكنيسة والعلم"، للدكتور/ راغب السرجاني منشور على موقع قصة الإسلام الالكتروني بتاريخ: 15/9/2014.
[3] مقال بعنوان "4 دول أوروبية سبقت اليونان في الخروج من دائرة الإفلاس"، مسعد الخيّاط، منشور على موقع دوت مصر الالكتروني بتاريخ: 3/7/2015.
أضافة تعليق