التلبُّس بالدين في مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (2/2)
21-6-2010
إبراهيم الخليفة / الرياض
وفي ظل الوعي الديني المحصور في دائرة البدع العقدية والمتبني للحكم العائلي، لا يكاد يوجد ما هو أسهل من تلبس أهل السياسة بالدين وإضفاء شرعية على رغباتهم وإذكاء ميلهم الغريزي والمصلحي في التفرد بالشؤون الدنيوية دون حسيب أو رقيب، بل واستخدام مفاهيم المصلحة والفتنة لترسيخ وحماية هذا التفرد، وذلك بأقل قدر من التضحيات السياسية وبأكبر قدر من المظاهر والتطبيقات الدينية التي لا تمس أهل الحكم والسلطة، بما سيؤدي في النهاية إلى حالة تشبه حالة إخراج السياسة من الدين.. وبما أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الإيمان بولاية الأمة وضرورة هيمنتها على الشأن السياسي عبر شورى المجتمع، فإن سوء الظن بعقائد الناس سيؤدي إلى إغلاق باب التعويل على الناس أو الثقة بهم.
من أهم السمات التي انفردت بها أفكار التكفير الجهادي في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أنها انطلقت من موضوع العقيدة، بينما انطلق التكفير الجهادي لدى الحركات والجماعات الأخرى من موضوع السياسة.
وأفكار التكفير الجهادي التي تنطلق من عالم السياسة تظل في الغالب أقل سلبية وهدماً من أفكار التكفير الجهادي التي تنطلق من العقيدة. ذلك أن المنطلقات التكفيرية ذات الطابع السياسي تجعل التكفيريين في مواجهة مع أهـل السياسة بصورة أساسية، وهؤلاء أعدادهم محدودة، وثمن مواجهتهم هو مجيء حكام جدد أو الوقوع في الفوضى والحروب الأهلية . أما الأفكار التكفيرية المنطلقة من موضوع العقيدة فهي تجعل التكفيريين في مواجهة مع الناس وتجعلهم حلفـاء لمن يتبنى ويدعم أفكارهم من أهل السياسة، والناس أعدادهم ضخمة، وثمن مواجهتهم هـو إخراجهم من الملة وتطبيق أحكام الجهاد عليهم وجعل الدين أداة بأيدي أهل السياسة.
وحتى على المستوى العقائدي فإن أفكار التكفير لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب مختلفة عن آراء كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ من ثلاث زوايا:
الزاوية الأولى: زاوية التأسيس على أحوال مشركي عصر البعثة.
الزاوية الثانية: زاوية اقتران التكفير بالجهاد.
الزاوية الثالثة: زاوية تكفير المتوقفين عن التكفير والمتشككين حياله.
وتظل دوما مشكلة الغلو، أنه لا ينطلق من فراغ ولا يخلو من الأدلة والاستشهادات، فالغلو هو المبالغة في الشيء أو الزيادة فيه بما يؤدي إلى تجاوز الحد. وهذا يعني أن الأدلة والاستشهادات متوفرة وموجودة ومشروعة في الأصل، ولكن المبالغة والزيادة نقلت صاحبها إلى الغلو. والزوايا الثلاث التي أشرنا إليها كلها مليئة بالمبالغة والزيادة في أمر محاط بالتحذيرات النبوية.
سيجد القارئون لأفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب الكثير من الاستشهادات بأقوال العديد من العلماء، وخصوصاً أقوال الإمام ابن تيمية. والواقع أن الاستشهادات كانت تنتقى وتؤخذ من سياقها ويتم وضعها واستخدامها ضمن منطلقات ورؤية شديدة الاختلاف.
إن أفكار التكفير لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب لا تدور حول الإشكاليات المتقدمة أو النخبوية في موضوع العقيدة، بل تعود إلى البدايات وإلى البوابة الأولى للإدخال في الدين أو الإخراج منه، وذلك من خلال إعادة تحديد معاني ومدلولات التوحيد والشرك في سياق المماثلة والمساواة بين الانحرافات العقائدية في زمان الشيخ وبين أحوال وأوضاع مشركي عصر البعثة . وهذا سياق يختلف كلياً عن السياق الذي وردت فيه أقوال العلماء.
لقد كان كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ يحكمون على الأقوال والأعمال الكفرية والشركية في إطار الإقرار بإسلامية المجتمع. وبالتالي فإن كل ما كان يمكن بلوغه عند تطبيق تلك الأقوال والأعمال هو تطبيق حد الردة على قائليها ومرتكبيها من قبل السلطات بعد توافر شروط تطبيق الحد وانتفاء موانعه.
أما الشيخ، فقد أسس رؤيته عند أولى بوابات الدخول في الدين، وهي بوابة التوحيد والشرك، الأمر الذي مهد لإعادة الفرز العقائدي من جديد واستبعاد أو إضعاف وزن كل تكاليف وأصول الدين اللاحقة.
لقد انطلق الشيخ من الفصل التام بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، فبدا المجتمع الإسلامي في عمومه مجتمع مشركين أو ضالين. وبالطبع فإن هذا الأمر لم يحدث فجأة، بل تطور تدريجياً، خصوصاً بعد التبني السياسي لدعوة الشيخ.
في البداية أعاد الشيخ تحديد معاني ومضامين التوحيد والشرك. وهنا سنجد كلاماً تتشابه فيه أقواله مع أقوال الكثير من العلماء. ولكنه كان ينزعها من سياقها وفضائها الإسلامي ليطبقها على أوضاع زمانه، بعد أن حكم بأنها أوضاع شركية مشابهة لأوضاع مشركي عصر البعثة، بل أشد شركاً كما يرى الشيخ.
وبمجرد أن مضى قدماً في الفصل التام ـ وليس فقط التمييز ـ بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، فإنه كان يمضي قدماً هو وأتباعه والدولة المتبنية لدعوته على طريق تمثّل وتقمّص وضع المؤمنين في صدر الدعوة وإلحاق المسلمين الذين يقعون في البدع العقائدية – مهما كان وزنها – بالمشركين والضالين.
وهنا قد يجد البعض كلاماً للشيخ ينفي هذه الاستنتاجات. ورغم أنه لا يوجد قائل بالتكفير يظن أنه مخطئ أو متجاوز، فإن الذين يوردون كلام الشيخ لا يتنبهون إلى أن نظرته التكفيرية لم تنشأ دفعة واحدة، وبعض كلماته التي ينفي فيها تهم التكفير الجماعي العام صدرت في أوقات مختلفة من نشره لدعوته، فضلاً عن أن أفكاره وأحكامه التكفيرية تطورت تدريجياً، خصوصاً مع التبني السياسي للدعوة.
لقد أدى التأسيس على أوضاع مشركي عصر البعثة إلى إدخال معظم البدع العقائدية ضمن دائرة الشرك الأكبر المخرج من الملة. والأمثلة التي يتم أخذها من كلام الإمام ابن تيمية أو الإمام ابن القيم أو غيرهما حول الحكم على بعض الأقوال والأفعال بالشرك فُهمت في إطار الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأنه كان يتم سحبها إلى تلك البوابة الأولية حول إعادة تحديد معاني التوحيد والشرك والمماثلة بين مشركي عصر البعثة وبين ’’ مشركي ’’ زمان الشيخ، في حين أن تلك الأمثلة في عمومها كانت أقرب إلى الشرك الأصغر غير المخرج من الملة، لأنه كان يتم تناولها في إطار الإقرار بإسلامية المجتمع أو في إطار تصوير البدع والانحرافات التي يقع فيها المسلم ابتداء.
وبالتالي فمهما بدا من تشابه ظاهري بين بعض مقولات الشيخ وبين مقولات بعض العلماء حول الآراء والأعمال الكفرية أو الشركية، فإن المضامين والمستوى والتوظيف ومجمل الرؤية كانت شديدة الاختـلاف. وبمجرد أن نطرح السؤال حول مدى صحة المماثلـة التي أقامها الشيخ بين مشركي عصـر البعثة وبين ’’مشركي زمانه’’، ستظهر الاختلافات الجذرية بين مقولاته وبين مقولات العلماء وستضمحل أو تختفي الاستشهادات وتتبدى أقوى وأشد صور الغلو.
هذه المماثلة بين مشركي عصر البعثة وبين ’’مشركي زمان الشيخ’’ هي جوهر الاختلاف بين رؤيته وبين رؤى كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ، وهي التي مهدت لكل غلو لاحق. ذلك أن هذه المماثلة اقتضت توجيه الاهتمام والتركيز باتجاه الآراء التكفيرية في كتابات العلماء، فانفتحت بذلك بوابات جمع واستقصاء وتتبع تلك الآراء ليتم توظيفها واستخدامها في إطار رؤية مختلفة عن التوحيد والشرك وأوضاع المسلمين وأوضاع المشركين.
والأهم من ذلك أن تلك المماثلة أدت إلى اختلاف جوهري آخر لم يوجد عند أي عالم معتبر غير الشيخ، وهو اقتران التكفير بالجهاد. إذ طالما أن الانحرافات العقائدية التي واجهها الشيخ لم تكن مجموعة واسعة ومتنوعة من البدع والانحرافات المتفاوتة التي تدور بين الخطأ والمعصية والشرك الأصغر والشرك الأكبر، وطالما أنها ليست مجرد انحرافات يقع فيها المسلم ابتداء في إطار مجتمع المسلمين، بل هي صور من الشرك الأكبر المماثل لشرك مشركي عصر البعثة، فإن التصحيح والعلاج يكون عن طريق جهاد المشركين واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذه النقلة تؤدي إلى نتائج عملية شديدة السلبية والخطورة، فهي تنقل راية الجهاد إلى الدائرة الإسلامية وتغير ديار المسلمين إلى ديار حرب وإخراج من الملة واستحلال للدماء والأموال بغير حق.
ولنتذكر هنا أن الشيخ لم يكن يعرض رؤيته واستنتاجاته في مواجهة اليهود أو النصارى أو المجوس، ولم يكن يعرضها في إطار مجتمع إسلامي كثير الملل والنحل، بل كان يعرضها في مواجهة المسلمين في قلب الجزيرة العربية، ممن كانوا أقل مللاً ونحلاً وأقل تنوعاً من معظم المسلمين الخاضعين لحكم الدولة العثمانية. وإذا أردنا أن نعرف نصيب رؤيته من الاعتدال والغل،و فإنه يكفي أن نتصور أنها امتدت إلى خارج الجزيرة العربية، وأنه تم تطبيق مفاهيم الجهاد ضد ’’المشركين’’ في مصر والشام والعراق والمغرب وتركيا وبقية أرجاء العالم الإسلامي؟ أي مسلم يمكن أن يبقى على وجه الأرض غير الشيخ وأتباعه؟!.
والواقع أنه حتى كلمة الأتباع هنا ليست على إطلاقها. إذ إنه لا يكفي الأخذ بما جاء به الشيخ حول التوحيد والشرك وتطبيقه واتِّباعه. فإذا كان المرء مستجيبا لكل ذلك، ولكنه متحفظ أو متوقف أو متشكك حيال مسائل التكفير والجهاد ضد ’’المشركين’’، فإنه يكفر. بل إن هذا هو الناقض الثالث من نواقض الإسلام العشرة كما يرى الشيخ، حيث يكفر ’’من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم’’.
وبالتأكيد، فإن الشيخ لم يكن يتحدث عن مشركي مكة، بل كان يتحدث عن مشركي زمانه. وفي مجمل كتب الشيخ ورسائله نستطيع العثور على هذه الأحكام والتوصيفات بسهولة. وعلى سبيل المثال، في رسالة الشيخ إلى ابن عيد ’’ الرسالة الثالثة ’’ يتحدث الشيخ بثقة وحسم عن مبرراته حيال تكفير الذين يقبلون ما جاء به من التوحيد والشرك، ولكنهم يردون مقولاته حول التكفير والجهاد، ويتحدث أيضاً بثقة وحسم عن مبرراته حيال تكفير من يقبلون ما جاء به الشيخ ولكنهم يقاومون ’’الجهاد’’، خشية على أنفسهم وأموالهم!!.
هذه البوابة الواسعة والهائلة للتكفير لم توجد كمنطلق تأسيسي مقرون بالجهاد عند عالم معتبر غير الشيخ، فهو هنا لا يكتفي بتكفير من يقعون في البدع العقائدية مما قد نجد أصلاً لبعضه في كتابات الكثير من العلماء، ولا يكتفي بالتأسيس على أوضاع مشركي عصر البعثة، ولا يكتفي بفتح بوابة الجهاد ضد مشركي زمانه، بل يكفر المسلمين الذين لا يقعون في البدع العقائدية ولا يرتكبونها، وذلك لأنهم لا يكفّرون من يقع فيها على النحو الذي حدده الشيخ، أو أن لديهم شك في كفر من يقع فيها.
هذه القاعدة التكفيرية الجديدة التي أطلقها الشيخ هي التي جعلت الكثيرين ينسبون إليه الاعتقاد بأن المسلمين منذ ستمائة سنة ليسوا على شيء. فهو هنا، وبعيداً عن التفرقة بين ألوان الشرك وما يدخل ضمن الشرك الأصغر أو الأكبر وما يخرج من الملة وما لا يخرج منها، قد تجاوز ذلك كله إلى الحكم بالكفر على من لم يكفّر هؤلاء وعلى من يشك ـ مجرد الشك ـ في كفرهم.
وبما أن البدع العقدية التي واجهها الشيخ وجدت قبل ظهوره بقرابة سبعة قرون وكانت شائعة في كل البلدان الإسلامية، وربما بصورة أكبر بكثير مما كان شائعاً في موطن وعصر الشيخ، فإن تكفير من لم يكفّر أهلها وتكفير من يشك في كفرهم لا يؤدي فقط إلى تكفير كل المسلمين والعلماء في عصره، بل يؤدي إلى تكفير الغالبية الساحقة من العلماء المسلمين على مدى قرابة سبعة قرون، وذلك بحكم أن هؤلاء ـ أو معظمهم على الأقل ـ واجهوا ذات البدع العقدية التي واجهها الشيخ أو واجهوا ما يشابهها، ونظروا إلى بعضها على أنها أعمال شركية وكفرية، إلا أنه كان يتم التحوط حيال موضوع التكفير، وكان يتم الإعذار بالجهل والتأوُّل، وكانت الكثير من البدع تصنف ضمن أوجه الشرك الأصغر.
وحتى من اعتبروها شركاً مخرجاً من الملة فقد طرحوها في الإطار النظري ولم يقرنوا التكفير بالجهاد، بل نظروا لها في إطار الإقرار بإسلامية المجتمع. وبالتالي فغاية ما تسمح به تلك الآراء هو تطبيق حد الردة على أصحابها من قبل السلطات بعد توافر شروط تطبيق الحد وانتفاء موانعه.
أما الشيخ، فقد نظر لها في إطار التأسيس على أحوال وأوضاع المشركين، ولم يطرحها فقط في الإطار النظري، بل كانت الأفكار تجد طريقها مباشرة نحو التطبيق، مما يعني الهجوم على المدن والقرى والهجر لإخراج أهلها من الشرك وتطبيق أحكام الجهاد والغزو والفتوحات والفيء والغنائم عليهم. وما لم نتنبه إلى هذه الفوارق الجوهرية بين أفكار الشيخ وبين أفكار العلماء الذين سبقوه فإننا لن نفهم سر الانطلاق الواسع نحو إعادة ’’ فتح ’’ الجزيرة العربية وتطبيق أحكام الجهاد والغزو والفيء والغنائم ضد أهلها، ولن نفهم سر تواري واختفاء قاعدة عدم جواز الخروج على الدولة المسلمة والحاكم المسلم (الدولة العثمانية).
والواقع أن دوائر التكفير لم تقف عند هذا الحد، بل أضيفت إليها بعد التبني السياسي لدعوة الشيخ دائرة جديدة شديدة الاتساع وقابلة للتوظيف المصلحي وسوء الفهم وسوء الاستخدام، وهي دائرة الدولة، حيث تم الانتقال إلى تطبيق أحكام التكفير على خصوم الدولة ومعارضيها ومن يواليهم وأصبح الخضوع لها دخولاً في الدين والتمرد عليها ارتداداً وخروجاً على الدين . وحتى وإن لم يقل الشيخ بهذه الاستنتاجات بحروفها فإنه وضع أسسها ومنطلقاتها ودفع باتجاه تطبيقها إلى أن أصبحت ثقافة شائعة لدى السياسيين والمحاربين والأتباع.
ورغم أن مفاهيم التكفير والجهاد مبثوثة في مجمل كتيبات الشيخ ورسائله، إلا أن بعض الكتيبات كانت مخصصة لتبسيط قواعـد التكفير والجهاد إلى أقصى حد ممكن، ومن ذلك كتيب ’’ القواعد الأربع ’’ في أربـع صفحات تلخص قواعد التكفير والجهـاد من خلال التأسيس على أوضاع مشركي عصر البعثة.
يقول الشيخ: ’’فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك ........ وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه:
القاعدة الأولى: أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام. (ومقصد الشيخ هنا هو التأكيد بأنه لا وزن لإيمان مشركي زمانه، فهو مماثل لإيمان مشركي قريش الذين لم يدخلهم إيمانهم في الإسلام).
القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة. (وإذن فبدع التوسل والاستغاثة وما شابهها عند المسلمين الذين يؤمنون بالله وبالرسول وبالقرآن ويصلون ويصومون ويحجون هي ذات عبادة الأصنام عند مشركي قريش).
القاعدة الثالثة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرِّق بينهم. (وإذن فالقاعدة التي ينبغي أن تتبع هي عدم التفريق بين مشركي زمان الشيخ الذين تتفاوت بدعهم وقد تثير بعض الشبهات لدى الأتباع والمحاربين).
القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركـًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركو زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة. (والقصد هنا أيضاً استبعاد الموانع والشبهات في تكفير وقتال مشركي زمان الشيخ).
وفي مجمل كتب الشيخ ورسائله نستطيع العثور على هذه الأحكام والتوصيفات لمشركي زمانه بسهولة، ومن ذلك كتاب ’’كشف الشبهات’’. ولننظر إلى بعض تلك الأحكام والتوصيفات:
’’.... فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا : الاعتقاد ....’’.
’’.... وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد ....’’.
’’.... إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل...’’.
’’.... وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج ....’’.
’’.... فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقابل به هؤلاء الشياطين....’’.
’’.... والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين....’’.
’’.... وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا....’’.
’’.... إذا قال لك بعض المشركين ( بعض الآيات ) أو ذكر كلاماً للنبي ... يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره ...... فجاوبه بقولك : ......... وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض ..... ’’.
وإذا أراد المرء أن يلخص القواعد الأربع التي أوردها الشيخ بصورة أكبر، فسيقول: ’’مشركو قريش كانوا يؤمنون بالله إلا أن إيمانهم لم يدخلهم في الإسلام، ولم يتقربوا للأصنام إلا لطلب القربة والشفاعة من الله، ورغم اختلاف شركياتهم فإن الرسول قاتلهم جميعاً ولم يفرق بينهم، ومشركو زماننا أغلظ شركاً من الأولين’’. فما هي الرسالة التي سيستخلصها الأتباع والمحاربون من هذه القواعد؟!.
إن دائرة التكفير والجهاد المفتوحة لصالح الدولة هي أخطر الدوائر، فعن طريقها تتوفر أقوى فرص اقتران التكفير بالجهاد وأوسع فرص التطبيق والتوظيف المصلحي لهما. ومن هنا فإنه قد لا يبدو غريباً أن تكون أوسع عمليات إحياء ثقافة التكفير والجهاد قد تمت خلال مرحلة إقامة الدولة السعودية الحديثة. أي بعد أكثر من قرن ونصف من انطلاق الدعوة وتبنيها سياسياً وزوال معظم المؤاخذات التي كانت شائعة في البداية.
ورغم أن بالإمكان عرض عدد كبير من الاستشهادات حول وقائع التكفير والجهاد التي تمت خلال تلك المرحلة، فإننا سنكتفي بعرض نماذج مما ورد في أكثر الكتابات موثوقية وقبولاً من جانب السلطات الدينية والسياسية، وهي كتابات المؤرخ ابن غنام والمؤرخ ابن بشر.
ـــــــــــــــــــ
من بين السمات التي انفردت بها أفكار التكفير والعنف في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أنها لم تكن وليـدة أزمة سياسية أو ثقافية مستجدة كما هو الحال بالنسبة للخوارج القدامى (قضية التحكيم وتداعياتها) أو بالنسبة لأفكار التكفير والعنف لدى بعض المجموعـات في العصـر الحديث (قضية الحاكمية وتداعياتها)، بل كانت وليدة فكر أعاد قراءة وتقويم أوضاع شائعة على مدى قرون. وفكر الأزمات أقل قابلية للشيوع والامتداد والرسوخ، وذلك بالنظر إلى أن الأزمات تنقضي أو تضمحل أو تدفع باتجاه التطوير والتغيير فيزول أو يخفت دور وأثر الفكر العارض الذي رافقها. أما الأفكار التي لا تصنعها الأزمات المستجدة فإن دورها وتأثيرها ورسوخها يمتد ويتعاظم إذا توافر لها الدعم السياسي والتحصين الثقافي، كما أنها لا تؤثر على الحاضر والمستقبل فقط، بل تؤثر حتى على الماضي وتعيد صياغته والوعي به.
لقد انطلق الشيخ من أربعة أسس أو منطلقات أو مقدمات معرفية حددت توجهاته حيال مسائل التكفير والعنف، وهذه الأسس أو المنطلقات أو المقدمات هي:
• الفصل التام ـ وليس فقط التمييز ـ بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية.
• الاعتقاد بأن مشركي عصر البعثة كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ولكنهم يرفضون توحيد الألوهية من خلال اتخاذهم الأصنام وسائط إلى الله تعالى.
• القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين و’’استحل دماءهم وأموالهم’’، لرفضهم الإقرار بتوحيد الألوهية.
• المساواة بين عبادة الأصنام وبين التوسل بالأولياء والصالحين والاستغاثة بهم.
فلننظر أولاً إلى مدى صحة هذه المقدمات ثم لنحاول تحديد أبرز التوجهات السلبية التي قادت إليها وعمقتها ورسختها إلى وقتنا الراهن.
إن الآيات القرآنية التي أشارت إلى إيمان المشركين بتوحيد الربوبية كانت تعرض لقطات متفرقة ومتنوعة من أحوالهم وتصور بعض الأوضاع المحتملة التي قد يتعرضون لها، ومن بينها أوقات الشدة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً)، ولحظات المواجهة وإعمال العقل التي تضطرهم إلى الإقرار الإيماني، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ)، وقوله تعالى (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ).
هذه اللقطات المتفرقة حول الأوضاع الواقعية أو الاحتمالية التي قد يتعرضون لها توجد إلى جوارهـا لقطات أخرى مختلفة، فالقرآن ينسب إلى المشركين الإلحاد، كما في قوله تعالى (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ....).
أما القول بأنهم كانوا يتخذون الأولياء أو غيرهم شفعاء إلى الله تعالى فإن الآيات تصرح بأنهم كانوا يعبدون أولئك الشفعاء من دون الله، كما في قوله تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ......)، وقوله تعالى (..... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ......).
وهذه انحرافات تختلف في طبيعتها ودرجتها عن الانحرافات التي شاعت بين المسلمين، والذين لم يكونوا في عمومهم يعبدون الأولياء والصالحين من دون الله أو يضفون الألوهية على غير الله.
ناهيك عن أن الآيات التي أشارت إلى اتخاذ الأولياء أو غيرهم شفعاء عند الله كانت تصور حالة جزئية من أحوال بعض المشركين، أما الحالة العامـة والغالبة لهم فكانت تتمثل في اتخـاذ الأصنام وغيرها آلهة وشركـاء وأنداداً لله، وفق ما يمكن أن يُفهم من قوله تعالى (قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُـونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً)، وقوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً)، وقوله تعالى ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُـوا بُرْهَانَكُمْ ......)، وقوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ......)، وقوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ)، وقوله تعالى (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)، وقوله تعالى على لسان المشركين (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَـابٌ)، وقوله تعالى (...... أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى .....).
وقوله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء........)، وقوله تعالى (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُـواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ .....)، وقوله تعالى (...... وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ......)، وقوله تعالى (..... وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ .....)، وقوله تعالى (وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ ......)، وقوله تعالى (قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء ......)، وقوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُـونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُـوا مِنَ الْأَرْضِ ......).
وقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً .....)، وقوله تعالى (وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَنـدَاداً لِّيُضِلُّـواْ عَن سَبِيلِهِ ......)، وقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ......)، وقوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَـهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُـو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَـلَ لِلَّهِ أَنـدَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ......)، وقوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُـرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ......).
وفي كل الأحوال فإن الآيات التي أشارت إلى إيمان بعض المشركين بتوحيد الربوبية لم تساو أبداً بين إيمانهم وبين إيمان المسلمين أو إيمان أهل الكتاب، بل يتضح من مجمل الآيات التي صورت عقائدهم أن ذلك التوحيد كان استثنائياً وهلامياً وغائماً وغير مباشر. وبالتالي فإنه حتى على صعيد إيمان بعض المشركين بتوحيد الربوبية فإن هنالك فوارق وتفاوتات كبيرة وعميقة، ليس فقط بين إيمان المشركين وإيمان المسلمين، بل حتى بين إيمان المشركين وإيمان أهل الكتاب.
والواقع أنه لولا وجود هذه الفوارق لكان النصارى أكبر أمة مشركة على وجه الأرض، فهم يؤلهون عيسى عليه السلام. ورغم ذلك فإن القرآن الكريم لم يعتبرهم مشركين بل وضعهم في مرتبة متميزة عن غيرهم من حيث الحديث عنهم وقواعد التعامل معهم.
الشيخ يقرر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين واستحل دماءهم وأموالهم بناء على الشركيات التي أشار إليها.
والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل المشركين طوال المرحلة المكية رغم كل صـور اضطهاد المسلمين والتضييق عليهم واضطرارهم إلى ترك منازلهم وممتلكاتهم عند الهجرة، بل لم يبـادر بقتال مشركي مكة بعد أن انتقـل إلى المدينة، فقد جاؤوا إليه في موقعة بدر، ثم جاؤوا إليه في موقعة أحد، وكـرروا المجيء في غزوة الخندق، ثم منعوا المسلمين من بلوغ البيت الحـرام في صلح الحديبية، وورد في القرآن الكريم قوله تعالى (وَإِنْ أَحَـدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ...)، وفُرض في الصدقات نصيب للمؤلفة قلوبهم، وحين دخـل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً قال لمشركي مكة ’’اذهبوا فأنتم الطلقاء’’!!.
هذه الصورة الحقيقية التي تسمح بفهم الأمور على نحو مختلف تم اختزالها في جملة قاطعة جازمة تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم استحل دماء وأموال المشركين الذين كانوا ـ بحسب اعتقاد الشيخ ـ يقرون بتوحيد الربوبية، وذلك بسبب عدم إقرارهم بتوحيد الألوهية.
إن الفصل الذي أقامه الشيخ بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية ليس له ما يسنده، فهو فصل غير ممكن وغير مطلوب وشديد الخطورة. ذلك أن الربوبية والألوهية تتداخلان وقد تمتزجان أو تتفاوتان بحسب معطيات كل دين وكل معتقد، بل بحسب التطورات التي تطرأ في فهمهما. وإذا كان مجرد القول بأن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية لم يكن بالعمومية ولا بالإطلاق ولا بالصورة التي اعتقدها الشيخ، فإن فصله بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية كان فصلاً تعسفياً خاطئاً وشديد الخطورة، فهو بوابة سهلة وتلقائية لاستبعاد المسلمين من دائرة الإسلام وإلحاقهم بالمشركين.
الجانب الآخر الذي يستدعي التساؤل هو: ماذا عن الإيمان بالبعث وهو أكثر شيء كان يرفضه المشركون؟ ماذا عن التصديق بالقرآن والرسول وأداء العبادات واجتناب المحرمات والإيمان بالحساب والجزاء والنعيم والعذاب؟! لماذا تم استبعاد هذه الجوانب في مسألة يدلل فيها الشيخ على التماثل بين المشركين وبين أهل البدع العقائدية في زمانه، بل سيبني عليها وجوب تكفير وقتل ’’مشركي’’ زمانه، كما قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين؟!
الواقع أن الشيخ لا يستبعد هذه الجوانب، ولكنه كان مأسوراً بتلك الرؤية التأسيسية على أوضاع وأحوال المشركين. ومن ثم فقد كان يرى أن الشركيات محبطة للعمل كله. وفي بعض الحالات برر استبعاد الفوارق بأنها إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعضه وشبهها بحالة المنافقين، ولكنه لم يأخذ بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين لم يأذن بقتلهم أو إيذائهم، بل استشهد الشيخ بحروب الردة وما شابهها، أي أن الشيخ كان قد فرغ من مسألة خروج هؤلاء من الملة، ولم يتبق سوى مسألة التدليل على وجوب قتالهم واستحلال دمائهم وأموالهم.
ورغم استشهاد الشيخ بأحكام المرتدين ـ علماً أن أحوالهم كانت خليطاً بين الارتداد والبغي. وقد حدث البغي ضد حاكم شرعي ارتضته صفوة الأمة ـ إلا أنه لم يأخذ من الفكرة ولم يعرض منها سوى الحكم النهائي الذي تسمح به وهو القتل، أما الموانع والشروط والضوابط ومن يجوز له تطبيق الحد ومن لا يجوز له تطبيقه ومسائل الشبهات والتأول وتدرج البدع وتفاوتها فهي مسائل لا يتناولها الشيخ، وذلك بحكم ما تمليه معايير التوحيد والشرك التي كان ينطلق منها.
وهكذا، ففي حين كان ينبغي أن تؤدي جوانب التمايز بين مشركي عصر البعثة وبين أهل البدع العقدية في زمان الشيخ إلى دفعه نحو استبعاد أسـاس نظرية التكفير التي وضعها، والتي تقوم على التماثل بين الوضعـين، فإنه لم يفعل ذلك، بل اكتفى بالتأكيد على أنها محبطة للعمل أو أنها من قبيل الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ولم يعد تأسيس النظرية في ضوء هـذا الإيمان المختلط بالكفر . ولو أنه فعل ذلك لاكتشف أن بعض الانحرافات التي صنفها ضمن الشركيات المخرجة من الملة تدخل ضمن الأخطاء وبعضها تدخل ضمن ألوان الشرك الأصغر، بل ولاكتشف أن بعضها تدخل ضمن الأمور المباحة التي فعلها الصحابة، فقد توسل بعضهم واستغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم وبغيره.
وفي أسوأ الأحوال فإن الشيخ كان سيعيد تأسيس أفكاره في ضوء قضية الارتـداد، وحينها كان سيضطر إلى استبعاد معايير التوحيد والشرك وبالتالي أحكام الجهاد والقتال وكان سيدخل في مسألة حد الردة وشروطه وضوابطه وقيوده وموانع تطبيقه ومن يحق له تطبيقه ومن لا يحق له ذلك، إلى غير ذلك من الضوابط التي وضعها الفقهاء عبر القرون.
في مسألة الإخراج من الملة التي ليست من المسائل المندوبة أو المسكوت عنها، وليست من المسائل المطلوب التوسع فيها أو التساهل بشأنها، بل هي محاطة بشتى ألوان التحذيرات، فإن المنهج الذي ينسجم مع كل ذلك هو على النقيض تماماً من المنهج الذي اتبعه الشيخ، فقد عني ببحث أوجه وجوانب التماثل والتشابه بين أهل البدع في زمانه وبين المشركين، في حين أن مسألة الإخراج من الملة بمحاذيرها والتباساتها تقتضي وتوجب البحث عن أوجه الاختلاف والتمايز بين المسلمين والمشركين.
ولو أن الشيخ اتبع هذا المنهج لوجد عدداً ضخماً من الفوارق الجوهرية بينهم ولوجد أنه حتى أوجه التشابه ليست أبداً بالصورة التي اعتقدها. وهذا لا يعني إقرار تلك البدع أو التساهل بشأنها أو إبقائها أو السكوت عنها، بل يعني عدم تناولها في إطار الإخراج من الملة واستحلال الدماء والأموال. ولنتذكر هنا أن الغالبية الساحقة ممن يقعون في بدع الاستغاثة والتبرك وما شابهها هم من العامة والجهلة والبسطاء الذين يحتاجون إلى التعليم والدعوة والأخذ بأيديهم وتبصيرهم والعمل على تغيير أحوالهم ورفع ثقل العادات المتراكمة التي ورثوها وتقدير جوانب الإيمان والخير والصلاح التي يحملونها.
لنتذكر أن الغالبية الساحقة من هؤلاء العامة والبسطاء يؤمنون بالله وبالرسول وبالقرآن ويقفون بين يدي الله في صلواتهم خمس مرات في اليوم ويصومون ويحجون ويزكون ويتصدقون.
وهذه الجوانب بحد ذاتها تؤكد إيمانهم بالله وحده واتجاه نواياهم لعبادة لله وحده، وأن البدع التي يقعون فيها هي وليدة الجهل أو التأول أو الانغلاق وتراكم العادات، وعلاجها الأمثل يكون بالتعليم والدعوة والتثقيف وتحسين الأحوال ومعالجة حالات الانقطاع والانغلاق التي تؤدي إلى استفحال وشيوع هذه البدع.
وإجمالاً، فإن الأقوال والأفعال الكفرية أو الشركية قد توجد مع الإيمان. وطالما أن الإيمان موجود فإن المطلوب هو التصحيح واستقصاء موانع التكفير والقتل لا الإخراج من الملة واستحلال الدماء والأموال. والخطأ في الإبقاء على الملة خير ألف مرة من الخطأ في الإخراج من الملة، خصوصاً وأن الفوارق بين مسائل التوسل والاستغاثة ليست بالوضوح الكبير لدى عامة الناس. والكثيرون منهم قد ينطقون بما يفهم منه الاستغاثة وهم يقصدون التوسل. والتوسل في أصله مشروع، وإن كان من الحكمة سد الذرائع في مثل هذا الموضوع الذي تكثر فيه المنزلقات وصور الغلو.
لقد كان من الممكن أن تخلو الدعوة التي أطلقها الشيخ من الغلو لولا التأسيس على أحوال وأوضاع مشركي عصر البعثة. وبما أنه لم يكن لدى الشيخ أو في محيط البيئة التي ظهر فيها وعي عميق بالإشكاليات الثقافية الكبرى التي واجهت المسلمين ولا بمكامن الخلل الكبرى على صعيد حياتهم الدنيوية، فقد بدت مسألة التوحيد والشرك مسألة كافية في تشخيص وتحديد طبيعة الانحراف الجوهري الذي كان يعاني منه المسلمون في زمن الشيخ، وبدت أوضاع وأحوال مشركي عصر البعثة في مجملها داعمة ومؤيدة لهذا الاستنتاج.
ومع اطمئنان الشيخ إلى صحة هذه الرؤية واليقين الجازم بها، ومع كثرة الرافضين لها والمختلفين مع صاحبها، ومع وجود التبني السياسي والتحصين الثقافي توافرت للشيخ ولأتباعه عوامل الصعود بحالة التلبس بالدين إلى أقصى حدودها، وذلك من خلال اللجوء إلى الخطاب واللغة والتوصيفات المناسبة لطبيعة الانحراف الذي تم تحديده، أي اللجوء إلى خطاب ولغة وتوصيفات حالتَي التوحيد والشرك .
وبالتالي فطرح الشيخ من وجهة نظره هو وأتباعه لم يكن مجرد طرح تصحيحي أسلم وأدق وأكمل وأقـرب للدين من غيره، بل هو ’’التوحيد’’ و’’دين الرسول’’ و’’دين الله ورسوله’’، وفهم مخالفيه وغير المتبعين لدعوته لم يكن مجرد آراء خاطئة أو معاص وذنوب أو ألوان من الشرك الأصغر، بل هو الشرك المماثل لشرك مشركي مكة. أتباع الشيخ هم ’’أهل التوحيد’’ و’’الموحدين’’، ومخالفيه هم ’’المشركين’’ و’’أهل الشرك’’ و’’أعداء التوحيد’’، ومن لم تبلغهم الحجة. وصول طرح الشيخ إلى الناس أصبح ’’الإبلاغ’’ و’’إقامة الحجة على الناس’’.
وفي أجواء الصراع مع المخالفين ووجود مشروع ثقافي وسياسي جديد انتقل الخطاب والتوصيفات والمحاكمات من المخالفين والأعداء وغير المتبعين لدعوة الشيخ إلى المتوقفين والمتشككين، ليس حيال صحة ما جاء به الشيخ حول التوحيد، بل حيال موضوع التكفير والعنف، فاعتبر الشيخ أن من نواقض الإسلام عدم تكفير المشركين أو وجود شك في كفرهم. وبالتأكيد، فإن الشيخ لم يكن يتحدث عن مشركي عصر البعثة، بل كان يتحدث عن مشركي زمانه وأتباعهم الذين وصلتهم دعوته للتوحيد ولم يستجيبوا لها، وقد أقر الشيخ بأن طرحه لم يطرق آذان أكثر الناس.
مع البدء في نشر الدعوة وبناء الدولة، وفي ظل معايير التوحيد والشرك، امتدت المحاكمات إلى موضوع الولاء، فتم تكفير الذين يوالون المشركين أو يعينونهم أو يحسنون مذهبهم أو يبغضون أهل التوحيد ’’الشيخ وأتباعه’’.
وهكذا، فقد تحولت دعوة الشيخ من دعوة تصحيحية وإصلاحية إلى بعث جديد للدين وسط جمـوع من المشركين الذين لم تبلغهم الحجة. كل هذا التلبس بالدين تم تطبيقه على الشيخ وأتباعه في مقابل مخالفيه وخصومه ومن لا يكفرهم ومن يواليهم ومن يشك في كفرهم، وذلك في منطقة لا تكاد تتجاوز حدود الجزيرة العربية التي كانت معظم أجزائها خاضعة لحكم الدولة العثمانية، ولم يكن أهلها أكثر انحرافات أو أقل إيماناً من بقية المسلمين.
والواقع أنه لو كان لهذا الوضع أي نصيب معتبر من الصحة والسلامة لورد الإخبار عنه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا البعث الجديد للدين لا يعادله أي تصحيح بعد اكتمال الوحي وختم الرسالة، بينما الأحاديث لم تشر أبداً إلى هدى وتجديد يأتي من المشرق أو من نجد، بل العكس هو الصحيح. وكما أشرنا من قبل فقد أخبر الرسـول صلى الله عليه وسلم بـأن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب، ولم تتم الإشارة إلى الأمة في أسوأ حالاتها المستقبلية إلا كأمة مسلمين، سواء كانوا تحت المُلك العضوض والحكم الجبري أو كانوا غثاء كغثاء السيل. بل لقد أقسم الرسول الكريم بأنه لا يخشى على أمته الشرك بعده.
إن التبني السياسي والتحصين الثقافي الذي حظيت به أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب منذ قيام الدولة السعودية الأولى إلى وقتنا الراهن قد وفر لها فرص النشر والتطبيق الواسع والتأصيل الفكري والفقهي والتحصين ضد النقد والتصحيح والتطوير إلا وفق الشروط والمصالح السياسية، وذلك بعكس أفكار التكفير وأعمال العنف لدى الحركات والجماعات الأخرى، حيث بقيت إما خارج دائرة المشروعية السياسية أو خارج دائرة المشروعية الفكرية والفقهية.
وكما ذكرنا فإن أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب تخلو من أي طرح سياسي جديد، بل إن المدرسة التي تشكلت في ضوء أفكـاره تعد أكثر المدارس دفاعـاً عن شرعية المُلك العضوض والحكم الجبري منذ عهد بني أمية إلى وقت سقوط الدولة العثمانية .
وبالتأكيد، فما دامت المدرسة تنطلق من أن المسلمين لم يكونوا منحرفين على صعيد السياسة بل كانوا منحرفين على صعيد العقيدة، فإن من المنطقي أن يكون أتبـاع هذه المدرسة حلفاء لأهـل المُلك ما دام هؤلاء يعينونهم على مواجهة انحراف الناس.
لقد صعدت مدرسة الشيخ بالمُلك إلى أعلى درجات المشروعية ونزلت بعقائد الناس إلى ميدان الفرز والمحاكمات عبر أدوات وإمكانات السلطة، وباستخدام مقولات واستنتاجات وأحكام تكفيرية لم يطرحها بذات الدرجة أو المستوى أي عالم معتبر على امتداد التاريخ الإسلامي .
ومحصلة كل ذلك أنه بمثل ما قامت وشاعت وترسخت حالة التلبس بالدين لدى الأتباع والامتلاء بالثقة حيال الذات وبالشك حيال بقية المسلمين فقد قامت وشاعت وترسخت حالة التلبس بالدين لدى السياسيين الذين أصبحت الدعوة أساساً لمشروعيتهم الدينية، وأصبحوا في موقع ديني تلقائي لا ينافسهم فيه أحد، وأصبحت الأعذار والمبررات تلتمس لهم حتى وإن ارتكبوا أكبر وأشد الموبقات السياسية، كما أن الإدانة الدينية جاهزة لمخالفيهم حتى وإن انطلقوا من خلفية دينية إصلاحية ناضجة.
هذا التلبس المزدوج بالدين ـ من قبل الأتباع من جانب ومن قبل السياسيين من الجانب الآخر ـ لا يؤدي فقط إلى إجهاض وإعاقة فرص الإصلاح وإمكاناته، بل يؤدي إلى إلغاء الشعور بالحاجة إليه إلا من أجل الحفاظ على حالة التلبس القائمة. وهذه هي إحدى أبرز مشكلات الأفكار التي لا تخضع للنقد والتطوير والتصحيح.
وأفكار الشيخ لم تدخل من بوابة الحوار والأخذ والرد مع المخالفين، بل دخلت من بوابة تكفير المخالفين ومن لا يكفرهم ومن يشك في كفرهم ومن يواليهم ومن يبغض أهل التوحيد. وأهل المُلك العضوض لم يدخلوا من بوابة السياسة والأداء السياسي، بل دخلوا من بوابة الجهاد وإدخال الناس في الإسلام أو قتال المرتدين.
وعلى مدى قرابة قرنين من هذا التلبس الواسع بالدين على النحو الذي طرحه الشيخ أو أقره تشكل وعي جديد وثقافة جديدة حول قضايا الدين وأولوياته قوامها الجديد الذي جاء به الشيخ والقديم الذي أقره.
وحين نحاول الجمع بين الجديد والقديم لكي نفهم هذا البعث الجديد للدين وسط محيط من المشركين والكافرين، فإننا سنجد ثلاثة جوانب رئيسية شكل الشيخ بعضها ورفع بعضها الآخر إلى مستوى جديد.
أول الجوانب، هو الجانب العقائدي، حيث تم رفع البدع العقائدية لدى المسلمين إلى مستوى الشرك الأكبر ومماثلتها بشرك مشركي مكة وإخراج مرتكبيها من الملة ورفع راية الجهاد في مواجهتهم. ورغم لجم مثل هذه الأفكار ومحاولة استبعادها في عهد الدولة السعودية الحديثة فإن المنطلق والتجربة والآثار الثقافية لا تزال حاضرة وراسخة، وإن كانت الأحكام قد خفت في مجملها ـ خصوصاً مع الانفتاح الواسع على الفكر السلفي في مجمله ـ إلى التضليل وإعادة استحضار المعارك والاختلافات التاريخية التي حدثت بين الفرق، بحيث ظل العدو الأول والأهم في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هو المسلم المبتدع أو المختلف على مستوى الطرح العقائدي.
ثاني الجوانب هو الجانب السياسي، حيث لا وجود أو لا قيمة لانحرافات السياسيين طالما أنهم يتبنون العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ، ولا استقصاء ولا تتبع لأحاديث الرسول حول الانحراف السياسي.
وعلى الرغم من أن الدول التي قامت في ظل مدرسة الشيخ تمثل نماذج صارخة لواقع الخروج على الحاكم المسلم، على الأقل خارج منطقة نجد، فإن الحاكم الذي يتبنى العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ مستثنى من هذا الخروج، بل إن السمع والطاعة له والصبر على جوره من المسائل التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية.
وقد ذكر الشيخ ذلك في كتابه ’’128 مسألة من مسائل الجاهلية ’’، حيث ذكر في المسألة الثالثة من مسائل الجاهلية ’’أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى فيه وأعاد’’. وإذن فكل ما على الحاكم هو تبني العقيدة على النحو الذي حدده الشيخ والقيام فيما عدا ذلك بما كان يقوم به أهل المُلك العضوض عبر القرون السابقة لظهور الشيخ. وحينها فإن من الواجب السمع والطاعة والصبر على جورهم.
الجانب الثالث: الجانب الفقهي، حيث لا جديد في هذا الجانب سوى تضييق دائرة التقليد ورفع مستواه. وبحكم الرؤية العقدية الجديدة وحالة التلبس بالدين، فإن ذلك التلبس سيضفي مسحة من المثالية والقداسة على التقليد الفقهي بما سيؤدي في النهاية إلى مد مفهوم البدعة ليشمل التجديد الفقهي وليزرع ويرسخ النفور من مجمل التجديد المتعلق بالحياة الدنيوية.
وإذا نظرنا إلى مجمل هذه الجوانب (الجانب العقئدي، والجانب السياسي، والجانب الفقهي)، وإلى شيوعها ضمن حالة قصوى من حالات التلبس بالدين وإلى امتدادها وعدم مزاحمتها في ظل التبني السياسي الطويل والتحصين الثقافي الواسع، فما هي الثقافة العامة والأولويات التي يمكن أن تتشكل في ضوئها؟!.
لا شيء أهم من إعطاء الأولوية المطلقة لشركيات المسلمين والتوجس الشديد منهم والاشتغال بتتبع انحرافاتهم والتركيز على أوجه الاختلاف عنهم وإدارة المعارك العقائدية معهم والعناية الشديدة بالعقوبات والقيود والموانع.
أحاديث المُلك العضوض وهموم الإصلاح السياسي، ستكون محجوبة بالمشروعية التاريخية والدينية التي اكتسبها أهل المُلك قبل الشيخ، ثم زادها دخولهم المتكرر من بوابة التوحيد والجهاد المتكرر ضد المشركين وأهل الضلال، وستقتصر المسألة حينئذ على الصلاح العقائدي والتشديد على السمع والطاعة والصبر على الجور، وذلك على نحو يقود بالضرورة إلى الارتهان لأهل السياسة.
وفي ظل الوعي الديني المحصور في دائرة البدع العقدية والمتبني للحكم العائلي، لا يكاد يوجد ما هو أسهل من تلبس أهل السياسة بالدين وإضفاء شرعية على رغباتهم وإذكاء ميلهم الغريزي والمصلحي في التفرد بالشؤون الدنيوية دون حسيب أو رقيب، بل واستخدام مفاهيم المصلحة والفتنة لترسيخ وحماية هذا التفرد، وذلك بأقل قدر من التضحيات السياسية وبأكبر قدر من المظاهر والتطبيقات الدينية التي لا تمس أهل الحكم والسلطة، بما سيؤدي في النهاية إلى حالة تشبه حالة إخراج السياسة من الدين.
وبما أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الإيمان بولاية الأمة وضرورة هيمنتها على الشأن السياسي عبر شورى المجتمع، فإن سوء الظن بعقائد الناس سيؤدي إلى إغلاق باب التعويل على الناس أو الثقة بهم.
مفهوم البدعة سيمتد إلى التجديد المتعلق بالحياة الدنيوية، وخصوصاً الإصلاح السياسي والتنظيمي والقضائي، الأمر الذي سيؤدي إلى ترسيخ وإضفاء شرعية على حالة الموات الدنيوي القائم وإلى قلب الكثير من الأولويات ومضاعفة وتعميق موانع الوعي بالأزمة الدنيوية التي يعيشها المسلمون.
لا شك أن لجم واستبعاد الأفكار التكفيرية والجهادية والقضاء على أبرز رموزها في أواخر مراحل بناء الدولة السعودية الحديثة، ثم إنشاء المؤسسة الدينية والانفتاح على الفكر السلفي في مجمله وانفتاح السلطة على الكثير من متطلبات إقامة الدولة الحديثة، كل ذلك أدى إلى تغيير أو تلطيف أو تهذيب أو استبعاد بعض الأفكار والأحكام والرؤى والمواقف التاريخية، ولكن جوهر السمات الثقافية الكبرى التي أسست لها مدرسة الشيخ وأشاعتها ورسختها لا تزال حاضرة ومؤثرة إلى أبعد الحدود.
*العصر
21-6-2010
إبراهيم الخليفة / الرياض
وفي ظل الوعي الديني المحصور في دائرة البدع العقدية والمتبني للحكم العائلي، لا يكاد يوجد ما هو أسهل من تلبس أهل السياسة بالدين وإضفاء شرعية على رغباتهم وإذكاء ميلهم الغريزي والمصلحي في التفرد بالشؤون الدنيوية دون حسيب أو رقيب، بل واستخدام مفاهيم المصلحة والفتنة لترسيخ وحماية هذا التفرد، وذلك بأقل قدر من التضحيات السياسية وبأكبر قدر من المظاهر والتطبيقات الدينية التي لا تمس أهل الحكم والسلطة، بما سيؤدي في النهاية إلى حالة تشبه حالة إخراج السياسة من الدين.. وبما أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الإيمان بولاية الأمة وضرورة هيمنتها على الشأن السياسي عبر شورى المجتمع، فإن سوء الظن بعقائد الناس سيؤدي إلى إغلاق باب التعويل على الناس أو الثقة بهم.
من أهم السمات التي انفردت بها أفكار التكفير الجهادي في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أنها انطلقت من موضوع العقيدة، بينما انطلق التكفير الجهادي لدى الحركات والجماعات الأخرى من موضوع السياسة.
وأفكار التكفير الجهادي التي تنطلق من عالم السياسة تظل في الغالب أقل سلبية وهدماً من أفكار التكفير الجهادي التي تنطلق من العقيدة. ذلك أن المنطلقات التكفيرية ذات الطابع السياسي تجعل التكفيريين في مواجهة مع أهـل السياسة بصورة أساسية، وهؤلاء أعدادهم محدودة، وثمن مواجهتهم هو مجيء حكام جدد أو الوقوع في الفوضى والحروب الأهلية . أما الأفكار التكفيرية المنطلقة من موضوع العقيدة فهي تجعل التكفيريين في مواجهة مع الناس وتجعلهم حلفـاء لمن يتبنى ويدعم أفكارهم من أهل السياسة، والناس أعدادهم ضخمة، وثمن مواجهتهم هـو إخراجهم من الملة وتطبيق أحكام الجهاد عليهم وجعل الدين أداة بأيدي أهل السياسة.
وحتى على المستوى العقائدي فإن أفكار التكفير لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب مختلفة عن آراء كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ من ثلاث زوايا:
الزاوية الأولى: زاوية التأسيس على أحوال مشركي عصر البعثة.
الزاوية الثانية: زاوية اقتران التكفير بالجهاد.
الزاوية الثالثة: زاوية تكفير المتوقفين عن التكفير والمتشككين حياله.
وتظل دوما مشكلة الغلو، أنه لا ينطلق من فراغ ولا يخلو من الأدلة والاستشهادات، فالغلو هو المبالغة في الشيء أو الزيادة فيه بما يؤدي إلى تجاوز الحد. وهذا يعني أن الأدلة والاستشهادات متوفرة وموجودة ومشروعة في الأصل، ولكن المبالغة والزيادة نقلت صاحبها إلى الغلو. والزوايا الثلاث التي أشرنا إليها كلها مليئة بالمبالغة والزيادة في أمر محاط بالتحذيرات النبوية.
سيجد القارئون لأفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب الكثير من الاستشهادات بأقوال العديد من العلماء، وخصوصاً أقوال الإمام ابن تيمية. والواقع أن الاستشهادات كانت تنتقى وتؤخذ من سياقها ويتم وضعها واستخدامها ضمن منطلقات ورؤية شديدة الاختلاف.
إن أفكار التكفير لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب لا تدور حول الإشكاليات المتقدمة أو النخبوية في موضوع العقيدة، بل تعود إلى البدايات وإلى البوابة الأولى للإدخال في الدين أو الإخراج منه، وذلك من خلال إعادة تحديد معاني ومدلولات التوحيد والشرك في سياق المماثلة والمساواة بين الانحرافات العقائدية في زمان الشيخ وبين أحوال وأوضاع مشركي عصر البعثة . وهذا سياق يختلف كلياً عن السياق الذي وردت فيه أقوال العلماء.
لقد كان كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ يحكمون على الأقوال والأعمال الكفرية والشركية في إطار الإقرار بإسلامية المجتمع. وبالتالي فإن كل ما كان يمكن بلوغه عند تطبيق تلك الأقوال والأعمال هو تطبيق حد الردة على قائليها ومرتكبيها من قبل السلطات بعد توافر شروط تطبيق الحد وانتفاء موانعه.
أما الشيخ، فقد أسس رؤيته عند أولى بوابات الدخول في الدين، وهي بوابة التوحيد والشرك، الأمر الذي مهد لإعادة الفرز العقائدي من جديد واستبعاد أو إضعاف وزن كل تكاليف وأصول الدين اللاحقة.
لقد انطلق الشيخ من الفصل التام بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، فبدا المجتمع الإسلامي في عمومه مجتمع مشركين أو ضالين. وبالطبع فإن هذا الأمر لم يحدث فجأة، بل تطور تدريجياً، خصوصاً بعد التبني السياسي لدعوة الشيخ.
في البداية أعاد الشيخ تحديد معاني ومضامين التوحيد والشرك. وهنا سنجد كلاماً تتشابه فيه أقواله مع أقوال الكثير من العلماء. ولكنه كان ينزعها من سياقها وفضائها الإسلامي ليطبقها على أوضاع زمانه، بعد أن حكم بأنها أوضاع شركية مشابهة لأوضاع مشركي عصر البعثة، بل أشد شركاً كما يرى الشيخ.
وبمجرد أن مضى قدماً في الفصل التام ـ وليس فقط التمييز ـ بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، فإنه كان يمضي قدماً هو وأتباعه والدولة المتبنية لدعوته على طريق تمثّل وتقمّص وضع المؤمنين في صدر الدعوة وإلحاق المسلمين الذين يقعون في البدع العقائدية – مهما كان وزنها – بالمشركين والضالين.
وهنا قد يجد البعض كلاماً للشيخ ينفي هذه الاستنتاجات. ورغم أنه لا يوجد قائل بالتكفير يظن أنه مخطئ أو متجاوز، فإن الذين يوردون كلام الشيخ لا يتنبهون إلى أن نظرته التكفيرية لم تنشأ دفعة واحدة، وبعض كلماته التي ينفي فيها تهم التكفير الجماعي العام صدرت في أوقات مختلفة من نشره لدعوته، فضلاً عن أن أفكاره وأحكامه التكفيرية تطورت تدريجياً، خصوصاً مع التبني السياسي للدعوة.
لقد أدى التأسيس على أوضاع مشركي عصر البعثة إلى إدخال معظم البدع العقائدية ضمن دائرة الشرك الأكبر المخرج من الملة. والأمثلة التي يتم أخذها من كلام الإمام ابن تيمية أو الإمام ابن القيم أو غيرهما حول الحكم على بعض الأقوال والأفعال بالشرك فُهمت في إطار الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأنه كان يتم سحبها إلى تلك البوابة الأولية حول إعادة تحديد معاني التوحيد والشرك والمماثلة بين مشركي عصر البعثة وبين ’’ مشركي ’’ زمان الشيخ، في حين أن تلك الأمثلة في عمومها كانت أقرب إلى الشرك الأصغر غير المخرج من الملة، لأنه كان يتم تناولها في إطار الإقرار بإسلامية المجتمع أو في إطار تصوير البدع والانحرافات التي يقع فيها المسلم ابتداء.
وبالتالي فمهما بدا من تشابه ظاهري بين بعض مقولات الشيخ وبين مقولات بعض العلماء حول الآراء والأعمال الكفرية أو الشركية، فإن المضامين والمستوى والتوظيف ومجمل الرؤية كانت شديدة الاختـلاف. وبمجرد أن نطرح السؤال حول مدى صحة المماثلـة التي أقامها الشيخ بين مشركي عصـر البعثة وبين ’’مشركي زمانه’’، ستظهر الاختلافات الجذرية بين مقولاته وبين مقولات العلماء وستضمحل أو تختفي الاستشهادات وتتبدى أقوى وأشد صور الغلو.
هذه المماثلة بين مشركي عصر البعثة وبين ’’مشركي زمان الشيخ’’ هي جوهر الاختلاف بين رؤيته وبين رؤى كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ، وهي التي مهدت لكل غلو لاحق. ذلك أن هذه المماثلة اقتضت توجيه الاهتمام والتركيز باتجاه الآراء التكفيرية في كتابات العلماء، فانفتحت بذلك بوابات جمع واستقصاء وتتبع تلك الآراء ليتم توظيفها واستخدامها في إطار رؤية مختلفة عن التوحيد والشرك وأوضاع المسلمين وأوضاع المشركين.
والأهم من ذلك أن تلك المماثلة أدت إلى اختلاف جوهري آخر لم يوجد عند أي عالم معتبر غير الشيخ، وهو اقتران التكفير بالجهاد. إذ طالما أن الانحرافات العقائدية التي واجهها الشيخ لم تكن مجموعة واسعة ومتنوعة من البدع والانحرافات المتفاوتة التي تدور بين الخطأ والمعصية والشرك الأصغر والشرك الأكبر، وطالما أنها ليست مجرد انحرافات يقع فيها المسلم ابتداء في إطار مجتمع المسلمين، بل هي صور من الشرك الأكبر المماثل لشرك مشركي عصر البعثة، فإن التصحيح والعلاج يكون عن طريق جهاد المشركين واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذه النقلة تؤدي إلى نتائج عملية شديدة السلبية والخطورة، فهي تنقل راية الجهاد إلى الدائرة الإسلامية وتغير ديار المسلمين إلى ديار حرب وإخراج من الملة واستحلال للدماء والأموال بغير حق.
ولنتذكر هنا أن الشيخ لم يكن يعرض رؤيته واستنتاجاته في مواجهة اليهود أو النصارى أو المجوس، ولم يكن يعرضها في إطار مجتمع إسلامي كثير الملل والنحل، بل كان يعرضها في مواجهة المسلمين في قلب الجزيرة العربية، ممن كانوا أقل مللاً ونحلاً وأقل تنوعاً من معظم المسلمين الخاضعين لحكم الدولة العثمانية. وإذا أردنا أن نعرف نصيب رؤيته من الاعتدال والغل،و فإنه يكفي أن نتصور أنها امتدت إلى خارج الجزيرة العربية، وأنه تم تطبيق مفاهيم الجهاد ضد ’’المشركين’’ في مصر والشام والعراق والمغرب وتركيا وبقية أرجاء العالم الإسلامي؟ أي مسلم يمكن أن يبقى على وجه الأرض غير الشيخ وأتباعه؟!.
والواقع أنه حتى كلمة الأتباع هنا ليست على إطلاقها. إذ إنه لا يكفي الأخذ بما جاء به الشيخ حول التوحيد والشرك وتطبيقه واتِّباعه. فإذا كان المرء مستجيبا لكل ذلك، ولكنه متحفظ أو متوقف أو متشكك حيال مسائل التكفير والجهاد ضد ’’المشركين’’، فإنه يكفر. بل إن هذا هو الناقض الثالث من نواقض الإسلام العشرة كما يرى الشيخ، حيث يكفر ’’من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم’’.
وبالتأكيد، فإن الشيخ لم يكن يتحدث عن مشركي مكة، بل كان يتحدث عن مشركي زمانه. وفي مجمل كتب الشيخ ورسائله نستطيع العثور على هذه الأحكام والتوصيفات بسهولة. وعلى سبيل المثال، في رسالة الشيخ إلى ابن عيد ’’ الرسالة الثالثة ’’ يتحدث الشيخ بثقة وحسم عن مبرراته حيال تكفير الذين يقبلون ما جاء به من التوحيد والشرك، ولكنهم يردون مقولاته حول التكفير والجهاد، ويتحدث أيضاً بثقة وحسم عن مبرراته حيال تكفير من يقبلون ما جاء به الشيخ ولكنهم يقاومون ’’الجهاد’’، خشية على أنفسهم وأموالهم!!.
هذه البوابة الواسعة والهائلة للتكفير لم توجد كمنطلق تأسيسي مقرون بالجهاد عند عالم معتبر غير الشيخ، فهو هنا لا يكتفي بتكفير من يقعون في البدع العقائدية مما قد نجد أصلاً لبعضه في كتابات الكثير من العلماء، ولا يكتفي بالتأسيس على أوضاع مشركي عصر البعثة، ولا يكتفي بفتح بوابة الجهاد ضد مشركي زمانه، بل يكفر المسلمين الذين لا يقعون في البدع العقائدية ولا يرتكبونها، وذلك لأنهم لا يكفّرون من يقع فيها على النحو الذي حدده الشيخ، أو أن لديهم شك في كفر من يقع فيها.
هذه القاعدة التكفيرية الجديدة التي أطلقها الشيخ هي التي جعلت الكثيرين ينسبون إليه الاعتقاد بأن المسلمين منذ ستمائة سنة ليسوا على شيء. فهو هنا، وبعيداً عن التفرقة بين ألوان الشرك وما يدخل ضمن الشرك الأصغر أو الأكبر وما يخرج من الملة وما لا يخرج منها، قد تجاوز ذلك كله إلى الحكم بالكفر على من لم يكفّر هؤلاء وعلى من يشك ـ مجرد الشك ـ في كفرهم.
وبما أن البدع العقدية التي واجهها الشيخ وجدت قبل ظهوره بقرابة سبعة قرون وكانت شائعة في كل البلدان الإسلامية، وربما بصورة أكبر بكثير مما كان شائعاً في موطن وعصر الشيخ، فإن تكفير من لم يكفّر أهلها وتكفير من يشك في كفرهم لا يؤدي فقط إلى تكفير كل المسلمين والعلماء في عصره، بل يؤدي إلى تكفير الغالبية الساحقة من العلماء المسلمين على مدى قرابة سبعة قرون، وذلك بحكم أن هؤلاء ـ أو معظمهم على الأقل ـ واجهوا ذات البدع العقدية التي واجهها الشيخ أو واجهوا ما يشابهها، ونظروا إلى بعضها على أنها أعمال شركية وكفرية، إلا أنه كان يتم التحوط حيال موضوع التكفير، وكان يتم الإعذار بالجهل والتأوُّل، وكانت الكثير من البدع تصنف ضمن أوجه الشرك الأصغر.
وحتى من اعتبروها شركاً مخرجاً من الملة فقد طرحوها في الإطار النظري ولم يقرنوا التكفير بالجهاد، بل نظروا لها في إطار الإقرار بإسلامية المجتمع. وبالتالي فغاية ما تسمح به تلك الآراء هو تطبيق حد الردة على أصحابها من قبل السلطات بعد توافر شروط تطبيق الحد وانتفاء موانعه.
أما الشيخ، فقد نظر لها في إطار التأسيس على أحوال وأوضاع المشركين، ولم يطرحها فقط في الإطار النظري، بل كانت الأفكار تجد طريقها مباشرة نحو التطبيق، مما يعني الهجوم على المدن والقرى والهجر لإخراج أهلها من الشرك وتطبيق أحكام الجهاد والغزو والفتوحات والفيء والغنائم عليهم. وما لم نتنبه إلى هذه الفوارق الجوهرية بين أفكار الشيخ وبين أفكار العلماء الذين سبقوه فإننا لن نفهم سر الانطلاق الواسع نحو إعادة ’’ فتح ’’ الجزيرة العربية وتطبيق أحكام الجهاد والغزو والفيء والغنائم ضد أهلها، ولن نفهم سر تواري واختفاء قاعدة عدم جواز الخروج على الدولة المسلمة والحاكم المسلم (الدولة العثمانية).
والواقع أن دوائر التكفير لم تقف عند هذا الحد، بل أضيفت إليها بعد التبني السياسي لدعوة الشيخ دائرة جديدة شديدة الاتساع وقابلة للتوظيف المصلحي وسوء الفهم وسوء الاستخدام، وهي دائرة الدولة، حيث تم الانتقال إلى تطبيق أحكام التكفير على خصوم الدولة ومعارضيها ومن يواليهم وأصبح الخضوع لها دخولاً في الدين والتمرد عليها ارتداداً وخروجاً على الدين . وحتى وإن لم يقل الشيخ بهذه الاستنتاجات بحروفها فإنه وضع أسسها ومنطلقاتها ودفع باتجاه تطبيقها إلى أن أصبحت ثقافة شائعة لدى السياسيين والمحاربين والأتباع.
ورغم أن مفاهيم التكفير والجهاد مبثوثة في مجمل كتيبات الشيخ ورسائله، إلا أن بعض الكتيبات كانت مخصصة لتبسيط قواعـد التكفير والجهاد إلى أقصى حد ممكن، ومن ذلك كتيب ’’ القواعد الأربع ’’ في أربـع صفحات تلخص قواعد التكفير والجهـاد من خلال التأسيس على أوضاع مشركي عصر البعثة.
يقول الشيخ: ’’فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك ........ وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه:
القاعدة الأولى: أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام. (ومقصد الشيخ هنا هو التأكيد بأنه لا وزن لإيمان مشركي زمانه، فهو مماثل لإيمان مشركي قريش الذين لم يدخلهم إيمانهم في الإسلام).
القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة. (وإذن فبدع التوسل والاستغاثة وما شابهها عند المسلمين الذين يؤمنون بالله وبالرسول وبالقرآن ويصلون ويصومون ويحجون هي ذات عبادة الأصنام عند مشركي قريش).
القاعدة الثالثة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرِّق بينهم. (وإذن فالقاعدة التي ينبغي أن تتبع هي عدم التفريق بين مشركي زمان الشيخ الذين تتفاوت بدعهم وقد تثير بعض الشبهات لدى الأتباع والمحاربين).
القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركـًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركو زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة. (والقصد هنا أيضاً استبعاد الموانع والشبهات في تكفير وقتال مشركي زمان الشيخ).
وفي مجمل كتب الشيخ ورسائله نستطيع العثور على هذه الأحكام والتوصيفات لمشركي زمانه بسهولة، ومن ذلك كتاب ’’كشف الشبهات’’. ولننظر إلى بعض تلك الأحكام والتوصيفات:
’’.... فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا : الاعتقاد ....’’.
’’.... وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد ....’’.
’’.... إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل...’’.
’’.... وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج ....’’.
’’.... فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقابل به هؤلاء الشياطين....’’.
’’.... والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين....’’.
’’.... وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا....’’.
’’.... إذا قال لك بعض المشركين ( بعض الآيات ) أو ذكر كلاماً للنبي ... يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره ...... فجاوبه بقولك : ......... وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض ..... ’’.
وإذا أراد المرء أن يلخص القواعد الأربع التي أوردها الشيخ بصورة أكبر، فسيقول: ’’مشركو قريش كانوا يؤمنون بالله إلا أن إيمانهم لم يدخلهم في الإسلام، ولم يتقربوا للأصنام إلا لطلب القربة والشفاعة من الله، ورغم اختلاف شركياتهم فإن الرسول قاتلهم جميعاً ولم يفرق بينهم، ومشركو زماننا أغلظ شركاً من الأولين’’. فما هي الرسالة التي سيستخلصها الأتباع والمحاربون من هذه القواعد؟!.
إن دائرة التكفير والجهاد المفتوحة لصالح الدولة هي أخطر الدوائر، فعن طريقها تتوفر أقوى فرص اقتران التكفير بالجهاد وأوسع فرص التطبيق والتوظيف المصلحي لهما. ومن هنا فإنه قد لا يبدو غريباً أن تكون أوسع عمليات إحياء ثقافة التكفير والجهاد قد تمت خلال مرحلة إقامة الدولة السعودية الحديثة. أي بعد أكثر من قرن ونصف من انطلاق الدعوة وتبنيها سياسياً وزوال معظم المؤاخذات التي كانت شائعة في البداية.
ورغم أن بالإمكان عرض عدد كبير من الاستشهادات حول وقائع التكفير والجهاد التي تمت خلال تلك المرحلة، فإننا سنكتفي بعرض نماذج مما ورد في أكثر الكتابات موثوقية وقبولاً من جانب السلطات الدينية والسياسية، وهي كتابات المؤرخ ابن غنام والمؤرخ ابن بشر.
ـــــــــــــــــــ
من بين السمات التي انفردت بها أفكار التكفير والعنف في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أنها لم تكن وليـدة أزمة سياسية أو ثقافية مستجدة كما هو الحال بالنسبة للخوارج القدامى (قضية التحكيم وتداعياتها) أو بالنسبة لأفكار التكفير والعنف لدى بعض المجموعـات في العصـر الحديث (قضية الحاكمية وتداعياتها)، بل كانت وليدة فكر أعاد قراءة وتقويم أوضاع شائعة على مدى قرون. وفكر الأزمات أقل قابلية للشيوع والامتداد والرسوخ، وذلك بالنظر إلى أن الأزمات تنقضي أو تضمحل أو تدفع باتجاه التطوير والتغيير فيزول أو يخفت دور وأثر الفكر العارض الذي رافقها. أما الأفكار التي لا تصنعها الأزمات المستجدة فإن دورها وتأثيرها ورسوخها يمتد ويتعاظم إذا توافر لها الدعم السياسي والتحصين الثقافي، كما أنها لا تؤثر على الحاضر والمستقبل فقط، بل تؤثر حتى على الماضي وتعيد صياغته والوعي به.
لقد انطلق الشيخ من أربعة أسس أو منطلقات أو مقدمات معرفية حددت توجهاته حيال مسائل التكفير والعنف، وهذه الأسس أو المنطلقات أو المقدمات هي:
• الفصل التام ـ وليس فقط التمييز ـ بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية.
• الاعتقاد بأن مشركي عصر البعثة كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ولكنهم يرفضون توحيد الألوهية من خلال اتخاذهم الأصنام وسائط إلى الله تعالى.
• القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين و’’استحل دماءهم وأموالهم’’، لرفضهم الإقرار بتوحيد الألوهية.
• المساواة بين عبادة الأصنام وبين التوسل بالأولياء والصالحين والاستغاثة بهم.
فلننظر أولاً إلى مدى صحة هذه المقدمات ثم لنحاول تحديد أبرز التوجهات السلبية التي قادت إليها وعمقتها ورسختها إلى وقتنا الراهن.
إن الآيات القرآنية التي أشارت إلى إيمان المشركين بتوحيد الربوبية كانت تعرض لقطات متفرقة ومتنوعة من أحوالهم وتصور بعض الأوضاع المحتملة التي قد يتعرضون لها، ومن بينها أوقات الشدة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً)، ولحظات المواجهة وإعمال العقل التي تضطرهم إلى الإقرار الإيماني، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ)، وقوله تعالى (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ).
هذه اللقطات المتفرقة حول الأوضاع الواقعية أو الاحتمالية التي قد يتعرضون لها توجد إلى جوارهـا لقطات أخرى مختلفة، فالقرآن ينسب إلى المشركين الإلحاد، كما في قوله تعالى (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ....).
أما القول بأنهم كانوا يتخذون الأولياء أو غيرهم شفعاء إلى الله تعالى فإن الآيات تصرح بأنهم كانوا يعبدون أولئك الشفعاء من دون الله، كما في قوله تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ......)، وقوله تعالى (..... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ......).
وهذه انحرافات تختلف في طبيعتها ودرجتها عن الانحرافات التي شاعت بين المسلمين، والذين لم يكونوا في عمومهم يعبدون الأولياء والصالحين من دون الله أو يضفون الألوهية على غير الله.
ناهيك عن أن الآيات التي أشارت إلى اتخاذ الأولياء أو غيرهم شفعاء عند الله كانت تصور حالة جزئية من أحوال بعض المشركين، أما الحالة العامـة والغالبة لهم فكانت تتمثل في اتخـاذ الأصنام وغيرها آلهة وشركـاء وأنداداً لله، وفق ما يمكن أن يُفهم من قوله تعالى (قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُـونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً)، وقوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً)، وقوله تعالى ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُـوا بُرْهَانَكُمْ ......)، وقوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ......)، وقوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ)، وقوله تعالى (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)، وقوله تعالى على لسان المشركين (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَـابٌ)، وقوله تعالى (...... أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى .....).
وقوله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء........)، وقوله تعالى (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُـواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ .....)، وقوله تعالى (...... وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ......)، وقوله تعالى (..... وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ .....)، وقوله تعالى (وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ ......)، وقوله تعالى (قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء ......)، وقوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُـونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُـوا مِنَ الْأَرْضِ ......).
وقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً .....)، وقوله تعالى (وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَنـدَاداً لِّيُضِلُّـواْ عَن سَبِيلِهِ ......)، وقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ......)، وقوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَـهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُـو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَـلَ لِلَّهِ أَنـدَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ......)، وقوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُـرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ......).
وفي كل الأحوال فإن الآيات التي أشارت إلى إيمان بعض المشركين بتوحيد الربوبية لم تساو أبداً بين إيمانهم وبين إيمان المسلمين أو إيمان أهل الكتاب، بل يتضح من مجمل الآيات التي صورت عقائدهم أن ذلك التوحيد كان استثنائياً وهلامياً وغائماً وغير مباشر. وبالتالي فإنه حتى على صعيد إيمان بعض المشركين بتوحيد الربوبية فإن هنالك فوارق وتفاوتات كبيرة وعميقة، ليس فقط بين إيمان المشركين وإيمان المسلمين، بل حتى بين إيمان المشركين وإيمان أهل الكتاب.
والواقع أنه لولا وجود هذه الفوارق لكان النصارى أكبر أمة مشركة على وجه الأرض، فهم يؤلهون عيسى عليه السلام. ورغم ذلك فإن القرآن الكريم لم يعتبرهم مشركين بل وضعهم في مرتبة متميزة عن غيرهم من حيث الحديث عنهم وقواعد التعامل معهم.
الشيخ يقرر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين واستحل دماءهم وأموالهم بناء على الشركيات التي أشار إليها.
والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل المشركين طوال المرحلة المكية رغم كل صـور اضطهاد المسلمين والتضييق عليهم واضطرارهم إلى ترك منازلهم وممتلكاتهم عند الهجرة، بل لم يبـادر بقتال مشركي مكة بعد أن انتقـل إلى المدينة، فقد جاؤوا إليه في موقعة بدر، ثم جاؤوا إليه في موقعة أحد، وكـرروا المجيء في غزوة الخندق، ثم منعوا المسلمين من بلوغ البيت الحـرام في صلح الحديبية، وورد في القرآن الكريم قوله تعالى (وَإِنْ أَحَـدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ...)، وفُرض في الصدقات نصيب للمؤلفة قلوبهم، وحين دخـل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً قال لمشركي مكة ’’اذهبوا فأنتم الطلقاء’’!!.
هذه الصورة الحقيقية التي تسمح بفهم الأمور على نحو مختلف تم اختزالها في جملة قاطعة جازمة تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم استحل دماء وأموال المشركين الذين كانوا ـ بحسب اعتقاد الشيخ ـ يقرون بتوحيد الربوبية، وذلك بسبب عدم إقرارهم بتوحيد الألوهية.
إن الفصل الذي أقامه الشيخ بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية ليس له ما يسنده، فهو فصل غير ممكن وغير مطلوب وشديد الخطورة. ذلك أن الربوبية والألوهية تتداخلان وقد تمتزجان أو تتفاوتان بحسب معطيات كل دين وكل معتقد، بل بحسب التطورات التي تطرأ في فهمهما. وإذا كان مجرد القول بأن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية لم يكن بالعمومية ولا بالإطلاق ولا بالصورة التي اعتقدها الشيخ، فإن فصله بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية كان فصلاً تعسفياً خاطئاً وشديد الخطورة، فهو بوابة سهلة وتلقائية لاستبعاد المسلمين من دائرة الإسلام وإلحاقهم بالمشركين.
الجانب الآخر الذي يستدعي التساؤل هو: ماذا عن الإيمان بالبعث وهو أكثر شيء كان يرفضه المشركون؟ ماذا عن التصديق بالقرآن والرسول وأداء العبادات واجتناب المحرمات والإيمان بالحساب والجزاء والنعيم والعذاب؟! لماذا تم استبعاد هذه الجوانب في مسألة يدلل فيها الشيخ على التماثل بين المشركين وبين أهل البدع العقائدية في زمانه، بل سيبني عليها وجوب تكفير وقتل ’’مشركي’’ زمانه، كما قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين؟!
الواقع أن الشيخ لا يستبعد هذه الجوانب، ولكنه كان مأسوراً بتلك الرؤية التأسيسية على أوضاع وأحوال المشركين. ومن ثم فقد كان يرى أن الشركيات محبطة للعمل كله. وفي بعض الحالات برر استبعاد الفوارق بأنها إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعضه وشبهها بحالة المنافقين، ولكنه لم يأخذ بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين لم يأذن بقتلهم أو إيذائهم، بل استشهد الشيخ بحروب الردة وما شابهها، أي أن الشيخ كان قد فرغ من مسألة خروج هؤلاء من الملة، ولم يتبق سوى مسألة التدليل على وجوب قتالهم واستحلال دمائهم وأموالهم.
ورغم استشهاد الشيخ بأحكام المرتدين ـ علماً أن أحوالهم كانت خليطاً بين الارتداد والبغي. وقد حدث البغي ضد حاكم شرعي ارتضته صفوة الأمة ـ إلا أنه لم يأخذ من الفكرة ولم يعرض منها سوى الحكم النهائي الذي تسمح به وهو القتل، أما الموانع والشروط والضوابط ومن يجوز له تطبيق الحد ومن لا يجوز له تطبيقه ومسائل الشبهات والتأول وتدرج البدع وتفاوتها فهي مسائل لا يتناولها الشيخ، وذلك بحكم ما تمليه معايير التوحيد والشرك التي كان ينطلق منها.
وهكذا، ففي حين كان ينبغي أن تؤدي جوانب التمايز بين مشركي عصر البعثة وبين أهل البدع العقدية في زمان الشيخ إلى دفعه نحو استبعاد أسـاس نظرية التكفير التي وضعها، والتي تقوم على التماثل بين الوضعـين، فإنه لم يفعل ذلك، بل اكتفى بالتأكيد على أنها محبطة للعمل أو أنها من قبيل الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ولم يعد تأسيس النظرية في ضوء هـذا الإيمان المختلط بالكفر . ولو أنه فعل ذلك لاكتشف أن بعض الانحرافات التي صنفها ضمن الشركيات المخرجة من الملة تدخل ضمن الأخطاء وبعضها تدخل ضمن ألوان الشرك الأصغر، بل ولاكتشف أن بعضها تدخل ضمن الأمور المباحة التي فعلها الصحابة، فقد توسل بعضهم واستغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم وبغيره.
وفي أسوأ الأحوال فإن الشيخ كان سيعيد تأسيس أفكاره في ضوء قضية الارتـداد، وحينها كان سيضطر إلى استبعاد معايير التوحيد والشرك وبالتالي أحكام الجهاد والقتال وكان سيدخل في مسألة حد الردة وشروطه وضوابطه وقيوده وموانع تطبيقه ومن يحق له تطبيقه ومن لا يحق له ذلك، إلى غير ذلك من الضوابط التي وضعها الفقهاء عبر القرون.
في مسألة الإخراج من الملة التي ليست من المسائل المندوبة أو المسكوت عنها، وليست من المسائل المطلوب التوسع فيها أو التساهل بشأنها، بل هي محاطة بشتى ألوان التحذيرات، فإن المنهج الذي ينسجم مع كل ذلك هو على النقيض تماماً من المنهج الذي اتبعه الشيخ، فقد عني ببحث أوجه وجوانب التماثل والتشابه بين أهل البدع في زمانه وبين المشركين، في حين أن مسألة الإخراج من الملة بمحاذيرها والتباساتها تقتضي وتوجب البحث عن أوجه الاختلاف والتمايز بين المسلمين والمشركين.
ولو أن الشيخ اتبع هذا المنهج لوجد عدداً ضخماً من الفوارق الجوهرية بينهم ولوجد أنه حتى أوجه التشابه ليست أبداً بالصورة التي اعتقدها. وهذا لا يعني إقرار تلك البدع أو التساهل بشأنها أو إبقائها أو السكوت عنها، بل يعني عدم تناولها في إطار الإخراج من الملة واستحلال الدماء والأموال. ولنتذكر هنا أن الغالبية الساحقة ممن يقعون في بدع الاستغاثة والتبرك وما شابهها هم من العامة والجهلة والبسطاء الذين يحتاجون إلى التعليم والدعوة والأخذ بأيديهم وتبصيرهم والعمل على تغيير أحوالهم ورفع ثقل العادات المتراكمة التي ورثوها وتقدير جوانب الإيمان والخير والصلاح التي يحملونها.
لنتذكر أن الغالبية الساحقة من هؤلاء العامة والبسطاء يؤمنون بالله وبالرسول وبالقرآن ويقفون بين يدي الله في صلواتهم خمس مرات في اليوم ويصومون ويحجون ويزكون ويتصدقون.
وهذه الجوانب بحد ذاتها تؤكد إيمانهم بالله وحده واتجاه نواياهم لعبادة لله وحده، وأن البدع التي يقعون فيها هي وليدة الجهل أو التأول أو الانغلاق وتراكم العادات، وعلاجها الأمثل يكون بالتعليم والدعوة والتثقيف وتحسين الأحوال ومعالجة حالات الانقطاع والانغلاق التي تؤدي إلى استفحال وشيوع هذه البدع.
وإجمالاً، فإن الأقوال والأفعال الكفرية أو الشركية قد توجد مع الإيمان. وطالما أن الإيمان موجود فإن المطلوب هو التصحيح واستقصاء موانع التكفير والقتل لا الإخراج من الملة واستحلال الدماء والأموال. والخطأ في الإبقاء على الملة خير ألف مرة من الخطأ في الإخراج من الملة، خصوصاً وأن الفوارق بين مسائل التوسل والاستغاثة ليست بالوضوح الكبير لدى عامة الناس. والكثيرون منهم قد ينطقون بما يفهم منه الاستغاثة وهم يقصدون التوسل. والتوسل في أصله مشروع، وإن كان من الحكمة سد الذرائع في مثل هذا الموضوع الذي تكثر فيه المنزلقات وصور الغلو.
لقد كان من الممكن أن تخلو الدعوة التي أطلقها الشيخ من الغلو لولا التأسيس على أحوال وأوضاع مشركي عصر البعثة. وبما أنه لم يكن لدى الشيخ أو في محيط البيئة التي ظهر فيها وعي عميق بالإشكاليات الثقافية الكبرى التي واجهت المسلمين ولا بمكامن الخلل الكبرى على صعيد حياتهم الدنيوية، فقد بدت مسألة التوحيد والشرك مسألة كافية في تشخيص وتحديد طبيعة الانحراف الجوهري الذي كان يعاني منه المسلمون في زمن الشيخ، وبدت أوضاع وأحوال مشركي عصر البعثة في مجملها داعمة ومؤيدة لهذا الاستنتاج.
ومع اطمئنان الشيخ إلى صحة هذه الرؤية واليقين الجازم بها، ومع كثرة الرافضين لها والمختلفين مع صاحبها، ومع وجود التبني السياسي والتحصين الثقافي توافرت للشيخ ولأتباعه عوامل الصعود بحالة التلبس بالدين إلى أقصى حدودها، وذلك من خلال اللجوء إلى الخطاب واللغة والتوصيفات المناسبة لطبيعة الانحراف الذي تم تحديده، أي اللجوء إلى خطاب ولغة وتوصيفات حالتَي التوحيد والشرك .
وبالتالي فطرح الشيخ من وجهة نظره هو وأتباعه لم يكن مجرد طرح تصحيحي أسلم وأدق وأكمل وأقـرب للدين من غيره، بل هو ’’التوحيد’’ و’’دين الرسول’’ و’’دين الله ورسوله’’، وفهم مخالفيه وغير المتبعين لدعوته لم يكن مجرد آراء خاطئة أو معاص وذنوب أو ألوان من الشرك الأصغر، بل هو الشرك المماثل لشرك مشركي مكة. أتباع الشيخ هم ’’أهل التوحيد’’ و’’الموحدين’’، ومخالفيه هم ’’المشركين’’ و’’أهل الشرك’’ و’’أعداء التوحيد’’، ومن لم تبلغهم الحجة. وصول طرح الشيخ إلى الناس أصبح ’’الإبلاغ’’ و’’إقامة الحجة على الناس’’.
وفي أجواء الصراع مع المخالفين ووجود مشروع ثقافي وسياسي جديد انتقل الخطاب والتوصيفات والمحاكمات من المخالفين والأعداء وغير المتبعين لدعوة الشيخ إلى المتوقفين والمتشككين، ليس حيال صحة ما جاء به الشيخ حول التوحيد، بل حيال موضوع التكفير والعنف، فاعتبر الشيخ أن من نواقض الإسلام عدم تكفير المشركين أو وجود شك في كفرهم. وبالتأكيد، فإن الشيخ لم يكن يتحدث عن مشركي عصر البعثة، بل كان يتحدث عن مشركي زمانه وأتباعهم الذين وصلتهم دعوته للتوحيد ولم يستجيبوا لها، وقد أقر الشيخ بأن طرحه لم يطرق آذان أكثر الناس.
مع البدء في نشر الدعوة وبناء الدولة، وفي ظل معايير التوحيد والشرك، امتدت المحاكمات إلى موضوع الولاء، فتم تكفير الذين يوالون المشركين أو يعينونهم أو يحسنون مذهبهم أو يبغضون أهل التوحيد ’’الشيخ وأتباعه’’.
وهكذا، فقد تحولت دعوة الشيخ من دعوة تصحيحية وإصلاحية إلى بعث جديد للدين وسط جمـوع من المشركين الذين لم تبلغهم الحجة. كل هذا التلبس بالدين تم تطبيقه على الشيخ وأتباعه في مقابل مخالفيه وخصومه ومن لا يكفرهم ومن يواليهم ومن يشك في كفرهم، وذلك في منطقة لا تكاد تتجاوز حدود الجزيرة العربية التي كانت معظم أجزائها خاضعة لحكم الدولة العثمانية، ولم يكن أهلها أكثر انحرافات أو أقل إيماناً من بقية المسلمين.
والواقع أنه لو كان لهذا الوضع أي نصيب معتبر من الصحة والسلامة لورد الإخبار عنه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا البعث الجديد للدين لا يعادله أي تصحيح بعد اكتمال الوحي وختم الرسالة، بينما الأحاديث لم تشر أبداً إلى هدى وتجديد يأتي من المشرق أو من نجد، بل العكس هو الصحيح. وكما أشرنا من قبل فقد أخبر الرسـول صلى الله عليه وسلم بـأن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب، ولم تتم الإشارة إلى الأمة في أسوأ حالاتها المستقبلية إلا كأمة مسلمين، سواء كانوا تحت المُلك العضوض والحكم الجبري أو كانوا غثاء كغثاء السيل. بل لقد أقسم الرسول الكريم بأنه لا يخشى على أمته الشرك بعده.
إن التبني السياسي والتحصين الثقافي الذي حظيت به أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب منذ قيام الدولة السعودية الأولى إلى وقتنا الراهن قد وفر لها فرص النشر والتطبيق الواسع والتأصيل الفكري والفقهي والتحصين ضد النقد والتصحيح والتطوير إلا وفق الشروط والمصالح السياسية، وذلك بعكس أفكار التكفير وأعمال العنف لدى الحركات والجماعات الأخرى، حيث بقيت إما خارج دائرة المشروعية السياسية أو خارج دائرة المشروعية الفكرية والفقهية.
وكما ذكرنا فإن أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب تخلو من أي طرح سياسي جديد، بل إن المدرسة التي تشكلت في ضوء أفكـاره تعد أكثر المدارس دفاعـاً عن شرعية المُلك العضوض والحكم الجبري منذ عهد بني أمية إلى وقت سقوط الدولة العثمانية .
وبالتأكيد، فما دامت المدرسة تنطلق من أن المسلمين لم يكونوا منحرفين على صعيد السياسة بل كانوا منحرفين على صعيد العقيدة، فإن من المنطقي أن يكون أتبـاع هذه المدرسة حلفاء لأهـل المُلك ما دام هؤلاء يعينونهم على مواجهة انحراف الناس.
لقد صعدت مدرسة الشيخ بالمُلك إلى أعلى درجات المشروعية ونزلت بعقائد الناس إلى ميدان الفرز والمحاكمات عبر أدوات وإمكانات السلطة، وباستخدام مقولات واستنتاجات وأحكام تكفيرية لم يطرحها بذات الدرجة أو المستوى أي عالم معتبر على امتداد التاريخ الإسلامي .
ومحصلة كل ذلك أنه بمثل ما قامت وشاعت وترسخت حالة التلبس بالدين لدى الأتباع والامتلاء بالثقة حيال الذات وبالشك حيال بقية المسلمين فقد قامت وشاعت وترسخت حالة التلبس بالدين لدى السياسيين الذين أصبحت الدعوة أساساً لمشروعيتهم الدينية، وأصبحوا في موقع ديني تلقائي لا ينافسهم فيه أحد، وأصبحت الأعذار والمبررات تلتمس لهم حتى وإن ارتكبوا أكبر وأشد الموبقات السياسية، كما أن الإدانة الدينية جاهزة لمخالفيهم حتى وإن انطلقوا من خلفية دينية إصلاحية ناضجة.
هذا التلبس المزدوج بالدين ـ من قبل الأتباع من جانب ومن قبل السياسيين من الجانب الآخر ـ لا يؤدي فقط إلى إجهاض وإعاقة فرص الإصلاح وإمكاناته، بل يؤدي إلى إلغاء الشعور بالحاجة إليه إلا من أجل الحفاظ على حالة التلبس القائمة. وهذه هي إحدى أبرز مشكلات الأفكار التي لا تخضع للنقد والتطوير والتصحيح.
وأفكار الشيخ لم تدخل من بوابة الحوار والأخذ والرد مع المخالفين، بل دخلت من بوابة تكفير المخالفين ومن لا يكفرهم ومن يشك في كفرهم ومن يواليهم ومن يبغض أهل التوحيد. وأهل المُلك العضوض لم يدخلوا من بوابة السياسة والأداء السياسي، بل دخلوا من بوابة الجهاد وإدخال الناس في الإسلام أو قتال المرتدين.
وعلى مدى قرابة قرنين من هذا التلبس الواسع بالدين على النحو الذي طرحه الشيخ أو أقره تشكل وعي جديد وثقافة جديدة حول قضايا الدين وأولوياته قوامها الجديد الذي جاء به الشيخ والقديم الذي أقره.
وحين نحاول الجمع بين الجديد والقديم لكي نفهم هذا البعث الجديد للدين وسط محيط من المشركين والكافرين، فإننا سنجد ثلاثة جوانب رئيسية شكل الشيخ بعضها ورفع بعضها الآخر إلى مستوى جديد.
أول الجوانب، هو الجانب العقائدي، حيث تم رفع البدع العقائدية لدى المسلمين إلى مستوى الشرك الأكبر ومماثلتها بشرك مشركي مكة وإخراج مرتكبيها من الملة ورفع راية الجهاد في مواجهتهم. ورغم لجم مثل هذه الأفكار ومحاولة استبعادها في عهد الدولة السعودية الحديثة فإن المنطلق والتجربة والآثار الثقافية لا تزال حاضرة وراسخة، وإن كانت الأحكام قد خفت في مجملها ـ خصوصاً مع الانفتاح الواسع على الفكر السلفي في مجمله ـ إلى التضليل وإعادة استحضار المعارك والاختلافات التاريخية التي حدثت بين الفرق، بحيث ظل العدو الأول والأهم في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هو المسلم المبتدع أو المختلف على مستوى الطرح العقائدي.
ثاني الجوانب هو الجانب السياسي، حيث لا وجود أو لا قيمة لانحرافات السياسيين طالما أنهم يتبنون العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ، ولا استقصاء ولا تتبع لأحاديث الرسول حول الانحراف السياسي.
وعلى الرغم من أن الدول التي قامت في ظل مدرسة الشيخ تمثل نماذج صارخة لواقع الخروج على الحاكم المسلم، على الأقل خارج منطقة نجد، فإن الحاكم الذي يتبنى العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ مستثنى من هذا الخروج، بل إن السمع والطاعة له والصبر على جوره من المسائل التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية.
وقد ذكر الشيخ ذلك في كتابه ’’128 مسألة من مسائل الجاهلية ’’، حيث ذكر في المسألة الثالثة من مسائل الجاهلية ’’أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى فيه وأعاد’’. وإذن فكل ما على الحاكم هو تبني العقيدة على النحو الذي حدده الشيخ والقيام فيما عدا ذلك بما كان يقوم به أهل المُلك العضوض عبر القرون السابقة لظهور الشيخ. وحينها فإن من الواجب السمع والطاعة والصبر على جورهم.
الجانب الثالث: الجانب الفقهي، حيث لا جديد في هذا الجانب سوى تضييق دائرة التقليد ورفع مستواه. وبحكم الرؤية العقدية الجديدة وحالة التلبس بالدين، فإن ذلك التلبس سيضفي مسحة من المثالية والقداسة على التقليد الفقهي بما سيؤدي في النهاية إلى مد مفهوم البدعة ليشمل التجديد الفقهي وليزرع ويرسخ النفور من مجمل التجديد المتعلق بالحياة الدنيوية.
وإذا نظرنا إلى مجمل هذه الجوانب (الجانب العقئدي، والجانب السياسي، والجانب الفقهي)، وإلى شيوعها ضمن حالة قصوى من حالات التلبس بالدين وإلى امتدادها وعدم مزاحمتها في ظل التبني السياسي الطويل والتحصين الثقافي الواسع، فما هي الثقافة العامة والأولويات التي يمكن أن تتشكل في ضوئها؟!.
لا شيء أهم من إعطاء الأولوية المطلقة لشركيات المسلمين والتوجس الشديد منهم والاشتغال بتتبع انحرافاتهم والتركيز على أوجه الاختلاف عنهم وإدارة المعارك العقائدية معهم والعناية الشديدة بالعقوبات والقيود والموانع.
أحاديث المُلك العضوض وهموم الإصلاح السياسي، ستكون محجوبة بالمشروعية التاريخية والدينية التي اكتسبها أهل المُلك قبل الشيخ، ثم زادها دخولهم المتكرر من بوابة التوحيد والجهاد المتكرر ضد المشركين وأهل الضلال، وستقتصر المسألة حينئذ على الصلاح العقائدي والتشديد على السمع والطاعة والصبر على الجور، وذلك على نحو يقود بالضرورة إلى الارتهان لأهل السياسة.
وفي ظل الوعي الديني المحصور في دائرة البدع العقدية والمتبني للحكم العائلي، لا يكاد يوجد ما هو أسهل من تلبس أهل السياسة بالدين وإضفاء شرعية على رغباتهم وإذكاء ميلهم الغريزي والمصلحي في التفرد بالشؤون الدنيوية دون حسيب أو رقيب، بل واستخدام مفاهيم المصلحة والفتنة لترسيخ وحماية هذا التفرد، وذلك بأقل قدر من التضحيات السياسية وبأكبر قدر من المظاهر والتطبيقات الدينية التي لا تمس أهل الحكم والسلطة، بما سيؤدي في النهاية إلى حالة تشبه حالة إخراج السياسة من الدين.
وبما أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الإيمان بولاية الأمة وضرورة هيمنتها على الشأن السياسي عبر شورى المجتمع، فإن سوء الظن بعقائد الناس سيؤدي إلى إغلاق باب التعويل على الناس أو الثقة بهم.
مفهوم البدعة سيمتد إلى التجديد المتعلق بالحياة الدنيوية، وخصوصاً الإصلاح السياسي والتنظيمي والقضائي، الأمر الذي سيؤدي إلى ترسيخ وإضفاء شرعية على حالة الموات الدنيوي القائم وإلى قلب الكثير من الأولويات ومضاعفة وتعميق موانع الوعي بالأزمة الدنيوية التي يعيشها المسلمون.
لا شك أن لجم واستبعاد الأفكار التكفيرية والجهادية والقضاء على أبرز رموزها في أواخر مراحل بناء الدولة السعودية الحديثة، ثم إنشاء المؤسسة الدينية والانفتاح على الفكر السلفي في مجمله وانفتاح السلطة على الكثير من متطلبات إقامة الدولة الحديثة، كل ذلك أدى إلى تغيير أو تلطيف أو تهذيب أو استبعاد بعض الأفكار والأحكام والرؤى والمواقف التاريخية، ولكن جوهر السمات الثقافية الكبرى التي أسست لها مدرسة الشيخ وأشاعتها ورسختها لا تزال حاضرة ومؤثرة إلى أبعد الحدود.
*العصر