مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
دليل التخلص من أعتى الطغاة خلال بضعة أيام!!
إبراهيم الخليفة / الرياض

كم كانت الأمة تحتاج إلى ما حدث في تونس ثم مصر، لترى بأم عينيها أنه يمكن التخلص من أعتى المستبدين والطغاة خلال بضعة أيام وبأقل وأهون الأثمان. سلاح أمضى من القنابل النووية في دك عروش الطغاة، وهو سلاح المطالبة السلمية الجماعية. المطالبة السلمية نزعت من المستبدين والطغاة والحلفاء الغربيين والإسرائيليين أقوى ذرائعهم وحججهم في الحفاظ على الأمن أو مقاومة الإرهاب، والطابع الجماعي أعطى للمطالبات زخمها ومشروعيتها الاجتماعية وحد من فرص وإمكانات قمعها وتطويقها وأمدها بإمكانات واسعة للتوسع والتصعيد والضغط..
كم كانت الأمة تحتاج إلى ما حدث في تونس ثم مصر، لترى بأم عينيها أنه يمكن التخلص من أعتى المستبدين والطغاة خلال بضعة أيام وبأقل وأهون الأثمان. سلاح أمضى من القنابل النووية في دك عروش الطغاة، وهو سلاح المطالبة السلمية الجماعية.

المطالبة السلمية نزعت من المستبدين والطغاة والحلفاء الغربيين والإسرائيليين أقوى ذرائعهم وحججهم في الحفاظ على الأمن أو مقاومة الإرهاب، والطابع الجماعي أعطى للمطالبات زخمها ومشروعيتها الاجتماعية وحد من فرص وإمكانات قمعها وتطويقها وأمدها بإمكانات واسعة للتوسع والتصعيد والضغط ووضع الغربيين في موضع حرج بين الانحياز إلى حلفائهم ووكلائهم من المستبدين والطغاة وبين فقدان كل مصداقيتهم حيال شعارات الديمقراطية وحرية الشعوب.

هكذا، تمكن الشعبان التونسي ثم المصري من إزالة اثنين من أعتى الأنظمة البوليسية في عالمنا العربي، وفي زمن قياسي للغاية، وبعدد محدود جداً من القتلى قد نرى أكثر منهم يسقطون خلال دقائق في تفجير عبثي في العراق أو في حوادث السير التي تحدث شوارعنا خلال يوم واحد. وهذا العدد المحدود جداً من القتلى اضطر حتى القتلة والمستبدين أن يتملقوا ذكراهم، وأن يتحدثوا عنهم في النهاية بكل إجلال، وأن يطلقوا وصف الشهداء عليهم.

هذا الحراك السلمي الجماعي أفسد على المستبدين والطغاة والغربيين والإسرائيليين كل أسلحتهم المعتادة وقطع الطريق على كل مكرهم ومؤامراتهم وحيلهم، وعرى الكثير من أدعياء الليبرالية الذين تبين أنهم ليسوا أكثر من مرتزقة لدى الطغاة، وأسهمت وسائل الإعلام الحديثة العصية على قبضة الحكومات (مثل الإنترنت) أو الباحثة عن الإثارة والتميز والاختلاف (مثل قناة الجزيرة) في فضح الإعلام الرسمي وتعريته، والحد من قدرة الحكومات على تغييب الحقائق أو تشويه حركة الشعوب أو ارتكاب جرائمها دون شاهد.

وقد كان بالإمكان أن تنجح الثورة المصرية خلال مدة أقل، فتجربة تونس أفادتها، ولكن حسني مبارك كان يسعى بكل ما أوتي من قوة وحيلة إلى تجنب مصير زين العابدين بن علي، وقد توفرت له العديد من الفرص للخروج غير المذل، إلا أنه لم يدرك معنى استيقاظ الشعوب ضمن حراك سلمي جماعي ولم يفهم منطق الثورات السلمية فعاند وتكبر حتى خرج خروج الأذلاء.

هذان الزلزالان اللذان هزا تونس ثم مصر ينبغي أن يزلزلا كل ما في رؤوسنا حول فقه الإصلاح والتغيير. لا جدوى أبداً من العنف والخروج المسلح للتغيير السياسي، فالعنف والخروج المسلح يعطي للمستبدين وكتابهم وفقهائهم وآلتهم الإعلامية وأسلحتهم القمعية كل التبريرات والذرائع والحجج اللازمة لمواجهة التغيير والظهور بمظهر المدافع عن المجتمع والأمن والاستقرار، ويحرم حركة التغيير من المشروعية الاجتماعية التي تحتاج إليها أشد الاحتياج، ويعطي للغرب وإسرائيل مبررهما لدعم المستبدين ومقاومة حركة التغيير وتشويهها.

هذا درس بليغ ينبغي أن تعيه الحركات المسلحة التي تسعى إلى تحقيق غايات وأهداف نبيلة، فعن طريق الجهاد السلمي الجماعي المنظم يمكن أن يتحقق خلال أيام ما لا تستطيع هذه الحركات أن تحققه خلال عقود، بل ربما خلال قرون.

إن الجهاد الجماعي السلمي المنظم يؤدي إلى تحييد كل أسلحة الخصوم الفتاكة، سواء أسلحة المستبدين أو الغربيين أو الإسرائيليين، ويسهم في إضفاء صورة حضارية وأخلاقية على الساعين للتغيير ويؤدي إلى وضع خصومهم في موضع غير حضاري وغير أخلاقي كلما حاولوا اللجوء إلى أسلحة القمع والتشويه والادعاء والمكر والتحايل.

وهناك درس بليغ آخر ينبغي أن يعيه الرافعون لشعارات المصلحة ودرء الفتنة وحقن الدماء. هؤلاء ينبغي أن يتوقفوا عن استلهام تجارب التاريخ، فالتجربتان التونسية والمصرية مختلفتان عن كل ما حدث عبر التاريخ العربي والإسلامي.

لأول مرة تكتسي حركة التغيير طابعاً سلمياً جماعياً في مواجهة الاستبداد وإفرازاته، ولأول مرة تمتلك الشعوب بعض الأدوات الإعلامية الجديدة التي يمكن من خلالها التنظيم والحشد ونقل الحقائق بالصوت والصورة وفضح المستبدين والطغاة، مثلما هو حال مواقع التواصل عبر الإنترنت ووسائل الاتصال المحمول.

كل الحديث عن المصالح والفتن وحقن الدماء يمكن أن يكون صحيحاً إذا كانت حركة التغيير عنيفة ومسلحة أو ذات طابع فئوي أو بدون منافذ لإسماع الصوت المخالف ونقل الحقائق. أما الحركة السلمية الجماعية في مواجهة الاستبداد، فسلميتها وجماعيتها والمنافذ الجديدة التي أتيحت للشعوب، قلبت فقه المصالح والفتن والدماء رأساً على عقب، بحيث رأينا بعض أعتى العروش تتهاوى خلال أيام معدودة وضمن مشاهد أظهرت أجمل وأنبل ما في الشعوب وأسوأ وأقذر ما في الحكام وأعوانهم.

ولو كان أهل تونس يعلمون ما يمكن أن يحققه العمل السلمي الجماعي في مواجهة الاستبداد لما استكانوا لطاغيتهم نحو أربعة وعشرين عاماً، ولما استكان أهل مصر لطاغيتهم نحو ثلاثين عاماً.

هناك مصلحة عظمى في التخلص من اثنين من أعتى الأنظمة القمعية والتغريبية في عالمنا العربي، وهناك فرصة سانحة للشعبين التونسي والمصري للخروج من فتنة الاستبداد التي استحكمت طوال العصر الحديث. ومهما قيل بشأن البديل فإن القوة الدافعة التي تحققت للشعبين ونسائم الحرية التي تذوقاها كفيلة بوضعهما على طريق تحجيم الاستبداد وتجفيف منابعه والقدرة على مقاومته. ثم هناك المطالبة السلمية التي تسمح بتحقيق أعظم المطالب بأقل قدر من الدماء.

وإذا كان من أعظم صور الشهادة الصدع بالحق في وجه الإمام الجائر فإن المطالبة السلمية هي صدع جماعي بالحق في وجه أهل الجور والاستبداد، وأصحابها هم من أجرأ وأنبل من في الأمة.

وإذا اتسعت المطالبات السلمية المنظمة واكتسبت طابعاً جماعياً فلا بد أن تنجح وأن تزيل عروش الطغاة. وحينها لن يتحدث الناس عن الضحايا إلا كشهداء ولن يتحدثوا عن الحكام إلا كطغاة ومستبدين ودمويين وناهبين لثروات الشعوب.

لقد امتعض الكثيرون حين كتبت مقال ’’وسلفية ابتدعوها’’، ووصفني البعض بالانحياز والتجني. ومن يتابع ما أكتبه مما يتعلق بالشأن السياسي لا بد أن يدرك أن همي الأكبر هو التعريف بسنن الخلافة الراشدة ومحاولة إحياء ثقافتها والعمل على تعرية ثقافة الملك العضوض والحكم الجبري.

ولا أنكر، وأستطيع أن أثبت بأدلة كثيرة، أن الثقافة الإسلامية الشائعة بيننا هي ثقافة المُلك العضوض. والمعضلة التي لا يدركها الكثيرون أن الثقافة السلفية الحديثة على المستوى السياسي ألبست ثقافة المُلك العضوض لبوس الدين، الأمر الذي أدى إلى حجب فرص الوعي بسنن الخلافة الراشدة وتغييب أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم عن المُلك ومؤسسيه، ثم أسهم نقل مفهوم البدعة إلى الشؤون السياسية في وأد فرص الإصلاح السياسي ومواجهة متطلباته وأدواته ووسائله.

وسواء أكانت السلفية الحديثة جهادية تنتهج العنف كما هو الحال في تنظيم القاعدة، أو ملكية متحالفة مع أهل المُلك كما هو الحال في الفقه الرسمي، أو متصالحة معه كما هو الحال في معظم الفقه غير الرسمي، أو متزلفة للحكام وشبه مؤلهة لهم كما هو الحال في فقه الجامية وأشباههم، فإن الجامع بينهم جميعاً هو البناء على ثقافة المُلك لا على سنن الخلافة الراشدة.

لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عرى الإسلام ستنقض عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة. وقد ورد هذا الخبر في روايات أخرجها أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي والطبراني وأبو نعيم والهيثمي وغيرهم. وهكذا، فالحكم سيكون ’’ أول ’’ عرى الإسلام التي سيتم نقضها.

هذا النقض تم تأكيده عبر أحاديث أخرى، حيث أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والعض عليها بالنواجذ وترك محدثات الأمور. وقد ورد ذلك في روايات أخرجها أبو داود وابن ماجـه والترمذي وأحمد والحـاكم والدارمي والطبراني والبيهقي وابن أبي عاصم وأبو نعيم وغيرهم.

وكما نلاحظ فإن الرسول لم يكن يتحدث عن عامة الصحابة، بل كان يتحدث عن الخلفــاء الراشدين تحديداً. وبالتالي فإن حديثه عن سننهم هو حديث عن القواعد السياسية والمنهج السياسي الذي تفردوا به عمن جاء بعدهم ممن وقعوا في ’’محدثات الأمور’’ التي نهى الرسول عنها.

ومهما بحثنا بشأن القواعد المأمور بها والمحدثات المنهي عنها، فإننا لن نجدها في غير تجنب اغتصاب الحكم بحد السيف وتوريثه للأبناء والأقارب في عهد الخلفاء الراشدين، ثم اغتصابه بحد السيف وتوريثه للأهل والأقارب منذ عهد بني أمية.

هذا هو الفارق الجوهري بين المرحلتين، وهو ذاته الفارق الجوهري الذي يصنع الاختلافات بين أعظم صور الإصلاح السياسي وأشد صور الاستبداد. ومن هنا جاء توجيه الرسول الكريم بالعض على سنن الخلفاء الراشدين بالنواجذ، وجاء تحذيره من المحدثات السياسية التي ستحدث بعدهم، وورد التحذير بلفظ ’’ وإيـــاكم ومحدثات الأمور....’’.

وعودة إلى السلاح الفذ الذي أثبتته التجربتان التونسية والمصرية في إمكانية مواجهة الاستبداد خلال بضعة أيام وبأقل قدر من الأثمان. هذا السلاح النبيل والأخلاقي سيجد صدودا لدى أهل الطرح السلفي الحديث، فأهل السلفية الجهادية يقدمون نقيضه ويتعلقون بنقيضه، رغم أن التجربتين أثبتتا أن الحركة السلمية الجماعية يمكن أن تحقق خلال أيام ما سيعجز أهل السلفية الجهادية عن تحقيقه خلال عقود أو قرون وبدون هدم المصالح والدخول في الفتنة وإراقة الكثير من الدماء.

أهل السلفية الملكية إما أن يرفعوا سيف البدعة في وجه الحركة السلمية للقضاء على الاستبداد بدءاً من التظاهر وانتهاء بالدستور والانتخابات، أو أن يثيروا حجج المصلحة والفتنة وحقن الدماء، رغم أن الحركة السلمية الجماعية تزهق كل هذه الحجج.

وحيث إن مجمل الثقافة السلفية الحديثة مبنية على أوضاع المُلك، فإن الوعي بطابعه الاستبدادي ومظالمه الكبرى على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي يكاد يكون غائبا أو شبه غائب. وما أسهل أن تصدر الفتاوى التي تحرم التظاهر أو المطالبات السلمية العلنية أو تشكيل المجموعات السياسية، وما أسهل الصمت والغياب حين يتم اختلاس مئات الملايين أو المليارات.

من المؤذي ألا تعرف مصدر الخلل، ولكن الأكثر إيذاء أن تظن أن مصدر الخلل هو الحل والشفاء. ونحن نعيش في ظل الحكم الجبري، وقد أثبتت التجربتان التونسية ثم المصرية أنه يمكن التحرر منه في زمن قياسي يكاد ينتمي إلى عالم العجائب ودون الدخول في دوامة الفتنة وهدم المصالح وإراقة الدماء، غير أن ذلك يقتضي إعادة النظر في كل ما نحمله حول فقه التغيير السياسي والاجتماعي وفتح بوابة الوعي أمام سلاح الحركة السلمية الجماعية التي ترتعد منها في وقتنا الحالي فرائص الطغاة والغربيين والإسرائيليين وكل مستفيد من الحكم الجبري القابض على الأنفاس والثروات.
أضافة تعليق