مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إطلالة سياسية على مرحلة الشورى في حياة الصحابة الكرام
إبراهيم الخليفة / الرياض
ما عادت القضية الكبرى هي منهج الحكم عند الخلفاء الراشدين في مقابل منهجه عند الأمويين والعباسيين المحسوبين على أهـل السنة والفاطميين والبويهيين المحسوبين على الشيعة، بل أصبحت القضية تدور حول عقيدة هؤلاء وإيمانهم وعبادتهم وصلاحهم الشخصي، وكأنه يتم الحديث عن عامة الناس لا عن الحكام. وحين يتم النظر إلى السياسيين من غير بوابة السياسة، فإن الفوارق بين أعظم الخلفاء الراشدين وبين أسوأ حكام التغلب قد تتدنى إلى مستويات هامشية، لأن سلامة العقيدة وحسن العبادة والصلاح الشخصي قد توجد عند أعظم المستبدين..
بسبب الوعي السياسي الغائب وإعمال المعايير العقائدية في ميدان السياسة وبسبب ما خلفته مرحلة الفتنة من ’’شخصنة’’ للأحداث والمواقف بدلاً من اكتشاف السنن والاحتشاد خلف القيم العليا، ثم رسوخ هذه المنطلقات وتراكمها وتضخمها عبر القرون، فإن الصحابة الكرام عند أهل السنة وعند الشيعة ليسوا بشراً يمارسون السياسة، بل هم كائنات عقائدية بطباع شبه ملائكية عند أهل السنة وكائنات عقائدية بطباع شبه ملائكية أو شبه شيطانية عند الشيعة.
إن حاملي هذه النظرة العقائدية الطاغية لا يدركون على النحو المطلوب بأن الخروج والتشيع نبعت حصراً من الموضوع السياسي، ولكن التطورات والإضافات اللاحقة والثقافة الطائفية المتراكمة، أكسبت التكوينات الطائفية صبغة عقائدية بينما هي لم تنبع إلا من الاختلاف السياسي.
والواقع أن الخلل كله يكاد ينبع من هذه النظرة إلى السياسة من بوابة العقيدة. ولو تم النظر إلى السياسة من بوابتها الصحيحة، وهي البوابة السياسية، لاختلفت النظرة والمعايير والرؤى إلى أن تكاد تنقلب رأساً على عقب.
إن النظر إلى السياسة من بوابة العقيدة يؤدي إلى ثلاثة مقتضيات هي من لوازم النظرة العقائدية ولكنها شبه قاتلة للوعي والفكر السياسي، وهي الترفع عن المصلحة الدنيوية والمناصب، وتجنب الاجتهاد إلا في أضيق الحدود الضرورية، والبعد عن الاختلاف.
عالم العقيدة والعبادة يقتضي الزهـد في الدنيا، والبقاء عند حدود منطوق النصوص ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، والسير باتجاه التماثل والتطابق. وحين يتم النظر إلى عالم السياسة من منظور عقائدي، فإن الطموح السياسي الدنيوي لا ينبغي وجوده، وإن وجد فهو عيب ومنقصة وينافي كمال الإيمان والأخلاق. والاجتهاد ينبغي التحرز والتحوط منه، فهو الطريق نحو البدع والانحرافات والضلال. والاختلاف ينبغي اجتنابه، فهو الطريق نحو الفرقة والتشتت والفتنة.
هذا من زاوية العقيدة، أما من زاوية السياسة، فالوضع عكسي تماماً، فالطموح السياسي فطري ومشروع وضروري وسنة من سنن الله في خلقه، بل إنه غالباً ما يزيد كلما علت مكانة الأشخاص وإمكاناتهم وقدراتهم ومواهبهم في مجال القيادة والحكم، ومن لا يرغب في الحكم فهو في الغالب لا يصلح له.
والساحة السياسية هي ساحة الاجتهاد الضروري الذي لا يكاد يتناهى. وإذا ما تم الالتزام بالشورى والتدافع السلمي، فإن كل الآراء والأعمال تدور في محيط الصحة والخطأ، بل الصحة النسبية والخطأ النسبي. وبحكم هذا الطابع الاجتهادي المفتوح وتعدد أوجه الصحة والخطأ فإن هذه الساحة بطبعها هي ساحة اختلاف وصراع وتحزبات وبحث عن المواقع واستثارة للدوافع وتهييج للمشاعر واستقطاب للشائعات وتلقُّف للادعاءات وتحريك للانتماءات، بل إن الاختلاف والتدافع السلمي هما أهم وسائل تطوير الفكر والوعي والأداء السياسي ومجمل الحياة الدنيوية طالما وجدت الشورى ووجد المشروع الدنيوي الجامع.
وفي مقابل ذلك، فإن إلغاء الشورى وهدم ولاية الأمة لا يؤدي إلى إلغاء الطموح السياسي وحسب، وإنما إلى كبته وقمعه وحرمان الأمة من القياديين الأكفاء والدفع إما باتجاه الرضوخ والسكوت والرهبة أو باتجاه الوصولية والنفاق والارتزاق أو باتجاه الصدام الدموي والخروج المسلح، فضلاً عن أن إلغاء الشورى يؤدي إلى تعطيل أهم بوابات الاجتهاد وتجميد الأداء السياسي ومصادرة إمكانات تصحيحه وتعطيل أهم وسائل تطوير الحياة الدنيوية.
فلنأخذ صاحبنا السني ثم صاحبنا الشيعي في إطلالة افتراضية على حياة الصحابة من البوابة السياسية، حيث الشورى التي تفتح الفرص أمام الطموح السياسي وتتطلب الاجتهاد وتحتمل التعددية والاختلاف. ترى كيف كان الوصول إلى الحكم وما هي أهم ملامحه في عهد الخلفاء الراشدين؟!
كان مجتمع الصحابة الكرام مجتمعاً أمياً خالياً من الوعي السياسي العميق، وكانت الخلفية الثقافية وتجارب المجتمعات الأخرى والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية مليئة بمعوقات توسيع وتطوير وترسيخ مبدأ اختيار الحاكم، ورغم ذلك فقد أدى التطبيق التلقائي لتكاليف الدين وقيمه في عهد الخلفاء الراشدين إلى إتباع عدة طرق للوصول إلى الحكم، لم يكن من بينها أبداً طريقة اغتصاب الحكم بحد السيف، بل كانت تنتمي جميعها إلى أساليب التنافس السلمي وتحري القبول العام أو الغالب.

وإذا كان الصحابة الكرام لم يتحدثوا عن المبدأ السياسي الذي كانوا يعملون في إطاره أو لم يدركوه، فإنه بإمكاننا القول بأنهم كانوا يخضعون لمبدأ ولاية صفوة الأمة ـ عموم المهاجرين والأنصار ـ ويترجمون هذا المبدأ ويجسدونه.
مبدأ ولاية صفـوة الأمة هو الذي أسهم في منع أي خليفة راشد من توريث الحكم إلى أحد أبنائه أو أفراد عائلته. هو المبدأ غير المكتوب الذي أسهم خلال القسم الأول من عهد الخلافة الراشدة في عدم التفرد بالأمور العامة وأسهم في إعـاقة وإجهاض سنة تولية الأقارب، ولذلك فقد كان التفريط في هـذه السنة في عهد عثمان رضي الله عنه أهم أسباب حدوث الفتنة الكبرى، وصولاً إلى هدم الخلافة وتأسيس المُلك. هـو المبدأ غير المكتوب الذي أسهم خلال القسم الأول من عهد الخلافة الراشدة في إدخال السياسة إلى عالم المباحات وإقـرار وحدوث المساءلة والمحاسبة واحترام بيت المال وسريان قواعـد العدالة والمساواة على الجميع.
لننظر بالمقابل إلى طريقة وصول الحكام وأهم ملامح حكمهم منذ عهد بني أمية:
أصبح السيف هو الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحكم وللحفاظ عليه. أصبحت أبرز وأهم مؤهلات الحاكم هي النجاح في اغتصاب وإلغاء إرادة الأمة. أصبحت الوسيلة الوحيدة لانتقال الحكم هي توريثه للأبناء وأفراد العائلة، أو نجاح عائلة جديدة في اغتصاب إرادة الأمة.
لم يعد أمر المسلمين شورى بينهم، بل أصبح أمرهم بيد العائلات الحاكمة، وأصبح الخوض في الشؤون السياسية بما يخالف هوى الحاكم من المحرمات والمحظورات. أصبح المعيار الأول للوصول إلى المناصب هو الولاء وليس الكفاءة. وبالطبع فإن الولاء موجود بصورة تلقائية وناجزة لدى الأقارب والمنتفعين والوصوليين. ما عاد الحاكم يُسأل عما يفعل ولا تنطبق عليه وعلى الكثيرين من المقربين منه بعض أحكام الشريعة وقواعد العدالة والمساواة. أصبح كل من يخرج عن تقديس الأسر الحاكمة مهدداً بالقمع والملاحقة أو التهميش والتجاهل. أصبح الحاكم في مكانة ’’صنمية’’، لا مكان فيها لغير الإشادة به وتعظيمه ومدحه والخضوع له. أصبح بيت المال أحد الأسرار التي لا يكاد يعرف تفاصيلها سوى العائلة الحاكمة ومن يرتبط بها.
ولو تساءلنا عن السبب في هذا الانقلاب والتحول الجارف والعميق، لوجدنا أن السبب الجوهري لا يعود إلى الخيرية والفضل والصلاح الشخصي ـ وإن كان لها أثرها ودورها ـ بل يعود بصورة أساسية إلى قوانين عالم السياسة، حيث الشورى وولاية صفوة الأمة قبل عهد بني أمية، والسيف والتوريث العائلي منذ عهد بني أمية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن أهم وأعظم وأخطر قيمة ومبدأ ديني على المستوى السياسي هما قيمة الشورى ومبدأ ولاية الأمة أو ولاية صفوتها، وأبرز وأسوأ وأخطر انحراف على المستوى السياسي هو اغتصاب الحكم بحد السيف وتوريثه إلى الأبناء والأقارب.
قد يقول كل من الشيعي والسني: حتى ولو اتفقنا معك في نظرتك، فما حيلتنا؟ وكيف يمكن تغيير قوانين السيف والتوريث العائلي؟!
ونقول لهما: انظرا إلى الفقه السياسي الذي تحملانه وما الذي يفعله بقوانين عالم السياسة رغم كل الأثر الإيجابي الهائل لقيمة الشورى ومبدأ ولاية الأمـة، والأثر السلبي المدمر لحكم التغلب والتوريث العائلي؟!
على المستوى الشيعي، هنالك رفض عقائدي للشورى وحملة استئصالية ضدها وضد أدلتها ومظاهرها وإفرازاتها وصلاحيتها، ومرحلة الشورى هي أوسع مراحل الانحراف، وأهل التغلب والتوريث العائلي لهم ذات مقام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فجميعهم منقلبون على ولاية آل البيت، والوزر الأكبر هو من نصيب أهل الشورى وولاية صفوة الأمة.
وإذا كان هذا هو حال الفقه السياسي الشيعي، فكيف لا يكون أتباع الطائفة الشيعية في مقدمة جنود أهل التغلب ولقمة سائغة لهم وخير معين لأهل السيف على الجمع بين استبعاد الشورى وهدم ولاية الأمة، وبين الاصطفاف إلى جوار كبار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والظهور بمظهر المدافعين عن عقيدة غالبية المسلمين؟!
كيف للشيعي بعد ذلك أن يطرح السؤال حول وسائل وفرص تغيير قوانين السيف والتوريث العائلي، بينما هو يحمل فقهاً مثالياً لإنتاج هذه القوانين وحمايتها والدفع باتجاهها؟!
وعلى الجانب الآخر، فإن أهل السنة داروا بين رحى أهل التغلب وسندان الشطط السياسي الشيعي والخارجي المتلبسان بالعقيدة، وتبعاً لذلك فقد شاعت بينهم مقولة عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة وعدالتهم جميعاً، فاستوى لديهم بذلك أهل الشورى وأهل التغلب.
ما عادت القضية الكبرى هي منهج الحكم عند الخلفاء الراشدين في مقابل منهجه عند الأمويين والعباسيين المحسوبين على أهـل السنة والفاطميين والبويهيين المحسوبين على الشيعة، بل أصبحت القضية تدور حول عقيدة هؤلاء وإيمانهم وعبادتهم وصلاحهم الشخصي، وكأنه يتم الحديث عن عامة الناس لا عن الحكام.
وحين يتم النظر إلى السياسيين من غير بوابة السياسة، فإن الفوارق بين أعظم الخلفاء الراشدين وبين أسوأ حكام التغلب قد تتدنى إلى مستويات هامشية، لأن سلامة العقيدة وحسن العبادة والصلاح الشخصي قد توجد عند أعظم المستبدين، كما أن الشورى وولاية الأمة عمادهما الاجتهاد، الأمـر الذي سيسهم في تسهيل مهمة تمييعهما وتزييف الوعي بهما وتوفير فـرص استخدام ذرائع المصلحة والفتنة وحماية العقيدة أو المذهب لمخالفة وهدم كل ما تقتضيه الشورى وولاية الأمة.
ترى، كيف للسني أيضاً أن يطـرح السؤال حـول وسـائل وفرص تغيير قوانين السيف والتوريث العائلي، بينما هـو يحمل فقهاً يكاد يمسخ الشورى وولاية الأمة، حتى لكأنهما بلا قيمة ولا وزن ولا أهمية، رغم أن وجودهما أو عدم وجودهما هو أهم ما يؤدي إلى صلاح الحياة الدنيوية أو فسادها؟!.
ما أهنأ حكام التغلب بجماهير تتراوح مواقفها بين رفض الشورى وإنكارها والسعي إلى النيل منها ومن رموزها وتطبيقاتها بكل صورة، وبين مسخها وتغييب عالم السياسة والارتهان لأهل التغلب المدافعين عن العقيدة والمذهب!!
لنتأمل في النظرة العقائدية للسياسة عند الشيعي وغياب عالم السياسة عند السني، وكيف أنهما يؤديان إلى تزييف الوعي السياسي حول مرحلة الخلافة الراشدة.
على المستوى الشيعي، سيتحول الطموح السياسي الأصيل والفطري والضروري في عالم السياسة إلى دلائل على إيمان رموز آل البيت بالولاية الإلهية ومطاعن ضد الآخرين المنقلبين على هذه الولاية. وعلى المستوى السني ـ أيضاً بسبب غياب الوعي السياسي وحضور المعايير العقائدية ـ سيتم بذل جهود مضنية لمحاولة نفي وجود الطموح السياسي لدى الصحابة.
ولو انطلق الطرفان من الإقرار بمشروعية الطموح السياسي وفطريته بل وضرورته في ميدان السياسة، لأمكنهم فهم وتفسير الكثير من المواقف دون تحايل أو هروب أو حرج.
الكل ـ إلا من كان غير صالح للحكم والقيادة ـ كان يحمل الطموح السياسي، من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى طلحة والزبير وعبدالله بن الزبير إلى الحسن والحسين إلى معاوية وعمرو ويزيد.
لا مشكلة في الطموح السياسي ولا عيب فيه ولا إمكانية لإلغائه، فهو فطري وإنساني، كما أنه ضروري وإيجابي للغاية حين يتم توظيفه لمصلحة الناس، وهو ما يحدث حين يتم احترام الشورى وولاية الأمة، بينما يصبح الطموح وبالاً وكارثة على الأمة حين يتم توظيفه ضدها عبر اللجوء إلى اغتصاب أمرها بالسيف وهدم ولايتها وجعلها تابعة لصاحب الطموح ولأهله وأقاربه ورفاقه.
ولو تتبعنا مواقف كبار الصحابة لوجدنا أن سيرة المؤهلين للقيادة منهم تمتلئ بالمؤشرات على وجود الطموح السياسي. بل لعل أكثر وأقوى المؤشرات توجد عند علي رضي الله عنه، ورغم ذلك فإنه أهم وأبرز وأعظم رموز الشورى وولاية الأمة بلا منازع، لماذا؟
لأنه رغم طموحه السياسي قدم دروساً متتالية في الرضوخ للشورى وولاية صفوة الأمة في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، ثم قدم درساً في حمايتها والانتصار لها خلال فترة حكمه إلى أن استشهد.
وبالمقابل، فإن أعظم إنجاز سياسي تحقق بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو استبعاد الحكم العائلي، وأخطر انحراف حدث بعد ذلك هو الوقوع في أسر هذا النمط من الحكم.
وحين ينظر الشيعي إلى مرحلة الخلافة الراشدة من زاوية الشورى فإنه يزعم أن تطبيقاتها مليئة بالنقائص والمثالب والمؤاخذات. هذا هو ما يمكن أن يقوله الشيعي المنطلق من رؤيته العقائدية ذات النشأة المتأخرة أو من وعيه المنفصل عن عالم الشورى ومتطلباتها. أما لو نظر من الزاوية السياسية وأدرك متطلبات الشورى، فسيجد أن أصحاب الحق الوحيدين في الحكم على التجارب هم الصحابة الذين عاشوها أو عايشوا الحكومات التي تمخضت عنها. أما من أتى بعدهم فليس له من حق مشروع سوى وضع التجارب التاريخية في إطار الشورى وولاية صفوة الأمة أو وضعها في إطار السيف والتوريث العائلي.
وحين يتجاوز ذلك ويحاول الدخول في التفاصيل الاجتهادية فهو يهدم أهم متطلباتها ولوازمها (الطموح السياسي، الاجتهاد، التعددية)، ويصادر حق أصحاب الشأن في تجسيد هذه المتطلبات بحسب ظروف وأوضاع زمانهم ومكانهم. ثم حين يحاول انتقاء بعض المواقف والأقوال التي يظن أنها تؤيد رؤيته حول التفاصيل الاجتهادية، فهو يدخل نفسه في أعماق التاريخ ويصطف مع مرشح ضد آخر بينما العبرة هي بموقف ورأي غالبية أصحاب الشأن من الصحابة.
إن أهم ما يغيب عن أهل هذه النظرة القاصرة بشأن الشورى ومقتضياتها ولوازمها في زمان غير زمانهم ومكان غير مكانهم، هو أن المنجزات السياسية الكبرى التي تحققت في عهد أبي بكر وعمر لم تحدث ولم يكن من الممكن حدوثها إلا على قاعدة الشورى ومبدأ ولاية صفوة الأمة.
من السهل الادعاء بأن معظم المهاجرين والأنصار قد انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفوا الوصية واغتصبوا حق علي، غير أنه من الناحية السياسية، فإن الوصول السلمي إلى السلطة واستقرار الحكم وعدم توريثه إلى الأبناء وأفراد العائلة والقضاء بسهولة وسرعة على حركات الردة والتمرد التي عمت معظم أنحاء الجزيرة العربية وإعادة اللحمة والفاعلية إلى المجتمع المسلم وإزالة كبرى الإمبراطوريات القائمة حينذاك في زمن قياسي، هذه المنجزات السياسية الكبرى تنسف صحة الادعاء بأن معظم المهاجرين والأنصار قد انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة الرسول، فهذه المنجزات لا تتحقق مطلقاً إلا في إطار مجتمع متماسك ومؤمن بالشورى ومتشبع بالأخلاق والمثل العليا وحامل لمعايير واسعة القبول حول طريقة الوصول إلى الحكم ومؤهلات الحاكم.
ولاستشعار مدى أهمية وتميز المنجزات السياسية التي تحققت في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنه يكفي أن ننظر بالمقابل إلى فرضية وصول علي رضي الله عنه إلى السلطة سلمياً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. ما الذي كان سيحدث؟!
قد لا يصل إلا القليل إلى مرتبة علي من حيث السابقة والفضل والقرابة والشجاعة، ولكن كل هذه الجوانب ليست أهم عوامل النجاح السياسي. ولننظر من الزاوية السياسية إلى فرضية وصوله إلى السلطة سلمياً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما الذي كان سيحدث؟!
أولاً: من ناحية السن كان علي الشاب سيقود شيوخاً. ورغم أنه لا غضاضة في هذا الأمر من الناحية الدينية ولا من الناحية السياسية في مراحل معينة، ولا مشكلة في الأمر عند قيادة الجيوش في الماضي، إلا أنه في مجال الحكم والإدارة وفي مجتمع عربي مكون من العديد من العشائر والقبائل التي تسهم عشائريتها وقبائليتها في تشكيل وعيها السياسي، فإن هذه النقطة كانت لصالح أبي بكر وعمر.
ثانياً: من ناحية حماية الشورى، كان وصول علي إلى الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، سيعزز فرص واحتمالات هدم الشورى وتأسيس الحكم العائلي.
لا شك أن علياً ما كان ليهدم الشورى أو يورث الحكم إلى أحد أبنائه أو أفراد عائلته، ولكن الثقافة السياسية العربية وغير العربية كانت ستأتي بهم، وكان سيتهيأ هذا الوضع خلال حكمه حتى ولو لم يرد ذلك. وبعيداً عن صحة ما يروى عنه من أن قريشاً كانت تشعر بأن الحكم لو انتقـل للهاشميين لما خرج منهم، فإن هذا الاستنتاج عميق ودقيق إلى أبعد مدى حتى ولو لم يثبت صدوره عن الإمام علي.
ثالثاً: أبو بكر وعمر لم يكونا من البيوت القرشية المنافسة على الزعامة، وهذا أدى إلى إطفاء أو تحجيم جذوة الرابطة العائلية والتنافس القرشي العائلي في عهدهما. ومثلما صعدت الرابطة العشائرية والمنافسة بين الأوس والخزرج منذ أول تفكير في خليفة الرسول فإن قضية الهاشميين والأمويين كانت ستصعد منذ وفاة الرسول لو أن علياً اختير بعده. وقد نشأت بالفعل هذه المنافسة منذ ازدياد النفوذ الأموي في عهد الخليفة عثمان ثم تصاعدت إلى أن تم نقض الخلافة وتأسيس المُلك. بل إننا منذ ذلك العهد نكاد نعيش ثقافة الحكم العائلي الذي أسسه بنو أمية وتشكلت في ظله الثقافة السياسية السنية، وثقافة الإرث العلوي العائلي المقدس الذي تشكلت في ظله الثقافة السياسية الشيعية.
رابعاً: علي كان أبرز حاملي رايات الجهاد. وفي مجتمع لم يتخلص تماماً من ثقافة الثأر ومليء بحديثي العهد بالإسلام، كانت الشهرة في ميادين الجهاد مدعاة لاستثارة وتحريك هذا الهاجس واستدعاء ثقافة الثأر أو إحيائها أو تقويتها بأية صورة.
لننظر من الزاوية السياسية إلى ما يقال عن الإسراع في اختيار أبي بكر. وهذه مقولة تناسب حالة من يعيشون خارج الحدث التاريخي ممن اختزلوا المسألة في الأشخاص وطغت لديهم على المصلحة العامة للأمة والإحساس العالي بالمسؤولية التاريخية.
والواقع أنه لولا طغيان المصلحة العامة للأمة والإحساس العالي بالمسؤولية التاريخية، لما بادر الأنصار إلى السقيفة ولتردد كل طرف في التصدي للمسألة وساد الترقب والانتظار. وحينها إما أن مسألة الوراثـة العائلية كانت ستظهر وتفرض منطقها، أو أن الانتماءات العشائرية كانت ستصعد وتستحكم.
عندها لن يتخلى الأوس عن مرشحهم بسهولة، ولن يتخلى الخزرج عن مرشحهم بسهولة.
ولو تخلوا بعد مساومات ومفاوضات وإغراءات ووعود وتحالفات فلن يتخلوا عن مرشح الأنصـار بسهولة ولن يتخلى المهاجرون عن مرشحهم بسهولة. وسيكون لدى كل طرف من الحجج والذرائع والمبررات ما يجعل الصراع يطول ويتشعب ويتصاعد. ومتى يحدث ذلك؟ عقب حدث ديني وتاريخي ضخم، وهو وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولولا الإسراع في اختيار أبي بكر لأدى ذلك الحدث الاستثنائي إلى اهتزاز الأمة وتشرذمها. ولا شك أن حركات الردة تعد مؤشراً للحالة العامة التي كان يمكن أن تؤول إليها الأوضاع لو تأخر اختيار خليفة الرسول. ولولا حس المسؤولية العالي وتقديم مصلحة الأمة العليا على المصالح الشخصية أو العائلية أو العشائرية، لما تنازل الأوس عن مرشحهم بسرعة ولما تراجع الخزرج عن مرشحهم بسرعة ولما قبلوا بحاكم من المهاجرين.
ولولا مكانة أبي بكر الدينية ووعيه السياسي وشخصيته القيادية لثارت انقسامات واسعة حوله، ولكان محل رفض من قبل عموم المهاجرين والأنصار أو من قبل غالبيتهم على الأقل ولما نجح في معالجة موضوع الردة وإعادة الاستقرار والوحدة وتوطيد أركان الدولة واستعادة الفاعلية الدينية والسياسية الجمعية. ثم إنه لولا القبول العام للخليفة الثاني وتمتعه بكفاءة سياسية استثنائية واستيعابه العميق لقيم الإسلام ورسالته على الصعيد الدنيوي لما تحققت أفضل تجربة سياسية في تاريخ المسلمين.
*العصر
أضافة تعليق