إبراهيم الخليفة
مدرسة بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي (المدرسة السلفية). مدرسة صِدامية وعالية الصوت في ميدان العقيدة والعبادة، إلا أنها خرساء وخانعة في ميدان السياسة والحكم!! مدرسة ترفع راية الخلفاء الراشدين وتطبق منهج الأمويين والعباسيين والعثمانيين في مجال السياسة. مدرسة قوامها التقليد، وهذا يوفر لها إرثاً ضخماً وهائلاً في ميادين العقيدة والعبادة والمعاملات تستطيع أن تنتقي منه ما تشاء، ولكن التطور السياسي قوامه الاجتهاد والنقد المستمر للذات، وهو ما لا تجيده هذه المدرسة، وبالتالي فحين لزمها إيجاد المشروع السياسي لجأت إلى ما تجيده وهو التقليد، فلم تجد سوى إرث الأمويين والعباسيين والعثمانيين!!
مثل كل الشعارات العظيمة والنبيلة التي يمكن أن يساء إليها وترتكب الجرائم باسمها، ومثل كل كلمة حق يراد بها باطل، تبدو الراية السلفية معرضة لهذا المصير كلما حضر الموضوع السياسي إلى المشهد والوعي، فهي إما راية تخفي التكفير والخروج والصدام المسلح مع أبناء الأمة دون أدنى اعتبار لقضايا المصلحة ودرء الفتنة، أو راية ملوكية وسلطانية ترفع عناوين المصلحة والفتنة في وجه أي نافذة باتجاه التحرر من المستبدين والطغاة.
هكذا تتحول الراية السلفية الطاهرة في شقها السياسي إلى خنجر تكفيري يفتت الأمة ويجعل بأسها بينها، أو إلى مخدر للوعي السياسي وطوق لحركة الأمة وأداة إجهاض لولايتها السياسية وبساط وردي يسيل له لعاب الطغاة والجبابرة.
منذ بوادر يقظة بعض الأمة في تونس وإثباتهم أن أعتى الطغاة يمكن أن يتحولوا إلى فئران مذعورة بمجرد أن تستيقظ الأمة وتطالب بحقوقها السياسية، أطل علينا بعض رافعي الراية السلفية الطاهرة ليحدثونا عن الفتنة وعن طاعة ولي الأمر. ولو سمعهم أهل تونس لظلوا في طغيان طاغيتهم يعمهون.
وحين انتقلت شرارة اليقظة السياسية إلى قلب العروبة الغائب (مصر)، أطل علينا بعض المتوشحين بالراية السلفية ليحدثونا أيضاً عن الفتنة والأمن وطاعة ولي الأمر ليحاولوا قتل وطعن وتشويه أعظم مشهد سياسي في حياة الأمة. يقظة تكسر طوق الاستعباد السياسي وتخرج أعظم وأجمل ما في الأمة وأسوأ وأقذر ما في الحكام.
الناس انطلقوا للمطالبة بالتغيير السلمي، فواجههم الطغاة بأسلحة القوات الأمنية وقطعوا الإنترنت والاتصال الهاتفي لكي يعيقوا تواصل الناس ولكي يرتكبوا جرائمهم دون شاهد. وحين كانت اليقظة أقوى من أدوات القمع لجأوا إلى سحب القوات الأمنية بطريقة جماعية متزامنة لكي تحل الفوضى ويشعر الناس بفضل الطاغية، ولكن الجماهير كانت أنبل من خبث الطغاة فشكلت لجاناً شعبية تقوم بحفظ أمن الناس.
حين احترق كرت الفوضى لجأ الطغاة إلى الدهماء والمرتزقة وأطلقوهم بخيولهم وجمالهم وبغالهم ليرهبوا الناس، ولكن يقظة الجماهير كانت أقوى من همجية المرتزقة.
كان الطغاة يعزفون على وتر الفتنة الطائفية، فأحرقت يقظة الجماهير هذه الورقة، وأصبح غير المسلمين وكنائسهم ودور عبادتهم تحت حماية اللجان الشعبية.
الجماهير تخرج بالملايين في انتظام وحركة سلمية تثبت أن الأمة إذا اجتمعت ارتقت أخلاقها وتهذب سلوكها في مقابل همجية ووحشية الطغاة وكتابهم وإعلامهم الرخيص.
وسط هذا المشهد الرائع ليقظة الجماهير وانتظامها وسلميتها في مقابل همجية ووحشية الطغاة أطل علينا إعلام منافق يحاول أن يشوه روعة الشعوب حين تميط اللثام عن وجه الطغاة القبيح، وأطل علينا جهال ومنتفعون يرفعون الراية السلفية ليصفوا هذا المشهد التاريخي في حياة الأمة بالفتنة.
لقد تحولت قاعدة مراعاة المصلحة ودرء الفتنة من ميدان عملها الإيجابي الأول، وهو العلاقة بأمة المسلمين، إلى ميدان عملها السلبي، وهو العلاقة بالحاكم المتغلب.
وحين يتم إعمال هذه القاعدة ضمن ميدان عملها الصحيح، فإن التكفير الجماعي هو أول وأهم وأكبر ما يؤدي إلى هدم مصلحة عموم الأمة وزرع الفتنة بين أبنائها، أما الحاكم المتغلب فقد توجد المصلحة ضمن حالة استثنائية وظرفية ينبغي أن تقدر بقدرها بحسب مصالح الأمة لا بحسب مصلحة الحاكم، وذلك حين ترجح احتمالات الدخول في الفوضى والحروب الأهلية.
أما في غير هذه الحالة، فإن إعمال قاعدة المصلحة ودرء الفتنة يؤدي إلى ترسيخ الاستبداد وتعطيل فرص الإصلاح السياسي وإجهاض دواعيه، وبالتالي مراعاة مصلحة الحاكم لا مصلحة الأمة.
وفي إطار الثقافة السلفية، أصبحت مسألة المصلحة ودرء الفتنة تثار كلما تعلق الأمر بالحكام، حتى في مواجهة أبسط التعبيرات أو الأنشطة السياسية التي لا تمس مشروعية الحكم، بينما لا يكاد يوجد لمراعاة المصلحة ودرء الفتنة أي ذكر إزاء فتاوى التكفير والإخـراج الجماعي من الملة، حتى وإن خدمت المحتل غير المسلم وخرجت في وقت حاجته الماسة إليها.
إن من الظلم والخيانة للأمة والاصطفاف في صف الطغاة والغزاة وأعوانهم، أن توصف الحركة السلمية التي تجمع الملايين وتوحدهم عند مطالب سامية ونبيلة بأنها فتنة.
هذه الحركة السلمية السامية والنبيلة هي التي رفعت مستوى انتظام الملايين وأظهرت نبلهم الأخلاقي وروعتهم التنظيمية إلى حد القدرة على تسيير جموع الملايين بسلاسة وانتظام لا يكدر صفوه سوى مكر الطغاة وأعوانهم ومأجوريهم في الشوارع أو في وسائل الإعلام.
هذه الحركة السلمية السامية والنبيلة هي التي جعلت الطاغية يقدم التنازلات تلو التنازلات ويقدم القرابين ويضحي بالمقربين لكي يمتص هذه اليقظة ويبقى فوق العرش، فهل هذه فتنة أم أنها أعظم وأنبل وأسمى آليات مواجهة الاستبداد واستعادة روح الأمة وقوتها وفاعليتها؟!.
لا نستغرب من الإعلام الرسمي المصري أن يقف ضد الثورة ويسعى إلى التعتميم عليها وتشويهها بكل ما أوتي من قوة وخسة، ولكن نستغرب من الفتاوى والدعوات التي يرفع أصحابها الراية السلفية ليطعنوا يقظة الأمة ويخذلوها ويسفهوها لمصلحة الطغاة والجبابرة ولمصلحة الإسرائيليين المذعورين مما يحدث في مصر.
والواقع أن الداء قديم وواسع ومستفحل، خصوصاً لدينا في السعودية، معقل الطرح السلفي. فالمدرسة السلفية لدينا تحمل مضموناً عقائدياً وتعبدياً واسعاً، ولكنها بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي سوى إرث ومشروع ووعي المُلك العضوض وثقافته وسننه.
هيئة كبار العلماء تتصرف كأي مجموعة من الموظفين الذين يجتهدون ـ بوعي أو بغير وعي ـ في إثبات ولائها للسلطة وتنافس العامة في النأي بأنفسها عن الحديث في مجال السياسة أو المناصب أو المال العام أو العلاقات الخارجية أو العدالة الاجتماعية والاقتصادية أو المساواة، ثم تنافس أجهزة الإعلام الرسمية في الحديث عن القضايا العامة، وذلك حين تطلب منها السلطة ذلك وفي الاتجاه الذي ترغب فيه السلطة!!
إنها تتعامل مع الحجج والمصطلحات والنصوص بطريقة انتقائية تسمح بإضفاء الشرعية على مواقفهم، مثل قضية الفتنة والمصلحة وطاعة ولي الأمر. وكما هو واضح، فإن هذه المصطلحات والمبادئ تسمح بالهروب وتبرير المواقف وتجنب عرض وجهة النظر الشرعية النظرية في المسائل ذات الصبغة السياسية.
وفي مقابل هذه العدمية والتواري إلى الظل في مواجهة القضايا الكبرى، ستجد أن هؤلاء العلماء جريئون وغير مهادنين في كل ما يتعلق بعامة الناس، وستجد أنهم ضيوف دائمون في برامج الفتاوى حيث تتم الإجابة باستفاضة على أسئلة البسطاء والمطلقات والعجائز، ويتم اختيار أشد الآراء وأكثرها تضييقاً، وتتوارى حجج المصلحة والفتنة وما إليها، حتى أنهم يعيدون ويكررون تصورهم للفرقة الناجية ويضيقون دائرتها إلى حدود تؤدي إلى استبعاد الغالبية الساحقة من المسلمين من دائرة الفرقة الناجية. ولا تسأل في هذه المنطقة عن حجج المصلحة وتلمس الأعذار وتوخي الحذر في الحكم على عقائد الناس!!
مدرسة بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي (المدرسة السلفية). مدرسة صِدامية وعالية الصوت في ميدان العقيدة والعبادة، إلا أنها خرساء وخانعة في ميدان السياسة والحكم!!
مدرسة ترفع راية الخلفاء الراشدين وتطبق منهج الأمويين والعباسيين والعثمانيين في مجال السياسة. مدرسة قوامها التقليد، وهذا يوفر لها إرثاً ضخماً وهائلاً في ميادين العقيدة والعبادة والمعاملات تستطيع أن تنتقي منه ما تشاء، ولكن التطور السياسي قوامه الاجتهاد والنقد المستمر للذات، وهو ما لا تجيده هذه المدرسة، وبالتالي فحين لزمها إيجاد المشروع السياسي لجأت إلى ما تجيده وهو التقليد، فلم تجد سوى إرث الأمويين والعباسيين والعثمانيين!!
تلك هي المعضلة المركزية التي تعاني منها المدرسة السلفية في ميدان السياسة، وهذا هو السبب الجوهري الذي يقف خلف الإفرازات المتنافرة لرموزها على الصعيد السياسي، وهي التي تجعل كلاً منهم مطمئن إلى سلامة موقفه رغم كل هذا الاختلاف والتناحر!!
هذا الغياب والإملاق الهائل في ميدان السياسة، أدى إلى سهولة وقوع أتباع التيار السلفي في براثن الاستبداد وسهولة استخدامهم في ترسيخه وتسويغه وسهولة إشاعة الشعارات الفارغة والمضللة بينهم!!
فلنبدأ بعرض بعض الشعارات المضللة التي تشيع بين حاملي الراية السلفية على وجه الخصوص، والتي لا يستفيد منها إلا المستبدين.
من أبرز الشعارات المضللة، ومن أشهر كلمات الحق التي يراد بها باطل أو أنها تقود إلى الباطل القول، بأن دستورنا هو الكتاب والسنة. وهذه الجملة تعد من الجمل الأخاذة والمؤثرة التي لا خلاف على مضمونها، على الأقل بين غالبية المسلمين، إلا أنه يتم توظيفها بصورة سيئة تؤدي إلى خدمة الاستبداد وتغييب الوعي السياسي. فالدستور في النهاية هو تنظيم لشكل وطريقة عمل السلطة السياسية وتحديد للحقوق الأساسية للمواطنين. فما الضير في ذلك؟ ولماذا نجعل الأمر وكأنه لا بد فيه من مخالفة الكتاب والسنة؟!
- إننا في أمس الحاجة إلى الدستور بما لا يخالف نصوص الكتاب والسنة، بل بما يجسد مبادئهما العامة المتعلقة بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولو وجد هذا الدستور وعكس قيم الإسلام العامة لما شاهدنا هذه الإفرازات السياسية المتنافرة لعلماء ورموز التيار السلفي!!
- من كلمات الحق التي يراد بها باطل القول، بأن الإسلام لم يحدد شكلاً معيناً للحكم. وهذه الكلمة تساق من قبل الكثيرين لتبرير وإضفاء شرعية على أنماط الحكم الاستبدادي. والواقع أن الإسلام لم يحدد شكلاً معيناً لنظام الحكم، ولكنه شرع قيماً معينة لا بد من تحقيقها، وفي مقدمتها الشورى والعدل والمساواة. وأي حكم يخل بهذه القيم لا يستحق إضفاء المشروعية عليه مهما كان شكله.
- من مبادئ الحق التي تقود على الصعيد السياسي إلى الباطل تجنب دراسة المضمون السياسي لعصر الخلافة الراشدة بحجة الإمساك عما شجر بين الصحابة. والواقع أنه لا خلاف حول المبدأ، ولكن توظيفه على الصعيد السياسي يؤدي إلى كوارث لا حدود لها، بل يؤدي إلى مخالفة العديد من الأحاديث الواضحة والصريحة.
وللأسف، فإن الكثيرين عبر التاريخ تناولوا الموضوع من زاوية شخصية وبغير وعي سياسي عميق، فنتج عن ذلك ’’شخصنة’’ الأحداث وتحويل الموضوع إلى موالاة ومعارضة ومدح إلى حدود التقديس وذم إلى حدود الإثم. والواقع أنه يوجد مدخل صحيح لتناول عصر الخلافة الراشدة بصورة علمية وموضوعية لا تمس الأشخاص بل تنصب حول السنن.
لماذا لا نتحدث عن السنن بدلاً من الحديث عن الأشخاص، فنحن مأمورون بإتباع سنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ، ومنهيون عن محدثات الأمور بعدهم؟!
لو تأملنا سنن الخلافة الراشدة لوجدنا أن أهم ما فيها أنهم لم يصلوا إلى الحكم عن طريق السيف والتغلب ولم يورثوا الحكم إلى أبنائهم وأقاربهم. ولو تأملنا الحكم الذي جاء بعدهم، لوجدنا أن ما تجنبه الخلفاء الراشدون هو بالضبط ما أصبح سائداً من المحدثات التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض أمره باتباع سنن الخلافة الراشدة والعض عليها بالنواجذ.
أيها الرافعون للراية السلفية: لا تعيقوا يقظة الأمة، بل باركوها وادعموها ورشدوها، فهي السبيل الوحيد للخروج من الاستبداد والتخلص من الحكم الجبري الذي أنبأ عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم.
مدرسة بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي (المدرسة السلفية). مدرسة صِدامية وعالية الصوت في ميدان العقيدة والعبادة، إلا أنها خرساء وخانعة في ميدان السياسة والحكم!! مدرسة ترفع راية الخلفاء الراشدين وتطبق منهج الأمويين والعباسيين والعثمانيين في مجال السياسة. مدرسة قوامها التقليد، وهذا يوفر لها إرثاً ضخماً وهائلاً في ميادين العقيدة والعبادة والمعاملات تستطيع أن تنتقي منه ما تشاء، ولكن التطور السياسي قوامه الاجتهاد والنقد المستمر للذات، وهو ما لا تجيده هذه المدرسة، وبالتالي فحين لزمها إيجاد المشروع السياسي لجأت إلى ما تجيده وهو التقليد، فلم تجد سوى إرث الأمويين والعباسيين والعثمانيين!!
مثل كل الشعارات العظيمة والنبيلة التي يمكن أن يساء إليها وترتكب الجرائم باسمها، ومثل كل كلمة حق يراد بها باطل، تبدو الراية السلفية معرضة لهذا المصير كلما حضر الموضوع السياسي إلى المشهد والوعي، فهي إما راية تخفي التكفير والخروج والصدام المسلح مع أبناء الأمة دون أدنى اعتبار لقضايا المصلحة ودرء الفتنة، أو راية ملوكية وسلطانية ترفع عناوين المصلحة والفتنة في وجه أي نافذة باتجاه التحرر من المستبدين والطغاة.
هكذا تتحول الراية السلفية الطاهرة في شقها السياسي إلى خنجر تكفيري يفتت الأمة ويجعل بأسها بينها، أو إلى مخدر للوعي السياسي وطوق لحركة الأمة وأداة إجهاض لولايتها السياسية وبساط وردي يسيل له لعاب الطغاة والجبابرة.
منذ بوادر يقظة بعض الأمة في تونس وإثباتهم أن أعتى الطغاة يمكن أن يتحولوا إلى فئران مذعورة بمجرد أن تستيقظ الأمة وتطالب بحقوقها السياسية، أطل علينا بعض رافعي الراية السلفية الطاهرة ليحدثونا عن الفتنة وعن طاعة ولي الأمر. ولو سمعهم أهل تونس لظلوا في طغيان طاغيتهم يعمهون.
وحين انتقلت شرارة اليقظة السياسية إلى قلب العروبة الغائب (مصر)، أطل علينا بعض المتوشحين بالراية السلفية ليحدثونا أيضاً عن الفتنة والأمن وطاعة ولي الأمر ليحاولوا قتل وطعن وتشويه أعظم مشهد سياسي في حياة الأمة. يقظة تكسر طوق الاستعباد السياسي وتخرج أعظم وأجمل ما في الأمة وأسوأ وأقذر ما في الحكام.
الناس انطلقوا للمطالبة بالتغيير السلمي، فواجههم الطغاة بأسلحة القوات الأمنية وقطعوا الإنترنت والاتصال الهاتفي لكي يعيقوا تواصل الناس ولكي يرتكبوا جرائمهم دون شاهد. وحين كانت اليقظة أقوى من أدوات القمع لجأوا إلى سحب القوات الأمنية بطريقة جماعية متزامنة لكي تحل الفوضى ويشعر الناس بفضل الطاغية، ولكن الجماهير كانت أنبل من خبث الطغاة فشكلت لجاناً شعبية تقوم بحفظ أمن الناس.
حين احترق كرت الفوضى لجأ الطغاة إلى الدهماء والمرتزقة وأطلقوهم بخيولهم وجمالهم وبغالهم ليرهبوا الناس، ولكن يقظة الجماهير كانت أقوى من همجية المرتزقة.
كان الطغاة يعزفون على وتر الفتنة الطائفية، فأحرقت يقظة الجماهير هذه الورقة، وأصبح غير المسلمين وكنائسهم ودور عبادتهم تحت حماية اللجان الشعبية.
الجماهير تخرج بالملايين في انتظام وحركة سلمية تثبت أن الأمة إذا اجتمعت ارتقت أخلاقها وتهذب سلوكها في مقابل همجية ووحشية الطغاة وكتابهم وإعلامهم الرخيص.
وسط هذا المشهد الرائع ليقظة الجماهير وانتظامها وسلميتها في مقابل همجية ووحشية الطغاة أطل علينا إعلام منافق يحاول أن يشوه روعة الشعوب حين تميط اللثام عن وجه الطغاة القبيح، وأطل علينا جهال ومنتفعون يرفعون الراية السلفية ليصفوا هذا المشهد التاريخي في حياة الأمة بالفتنة.
لقد تحولت قاعدة مراعاة المصلحة ودرء الفتنة من ميدان عملها الإيجابي الأول، وهو العلاقة بأمة المسلمين، إلى ميدان عملها السلبي، وهو العلاقة بالحاكم المتغلب.
وحين يتم إعمال هذه القاعدة ضمن ميدان عملها الصحيح، فإن التكفير الجماعي هو أول وأهم وأكبر ما يؤدي إلى هدم مصلحة عموم الأمة وزرع الفتنة بين أبنائها، أما الحاكم المتغلب فقد توجد المصلحة ضمن حالة استثنائية وظرفية ينبغي أن تقدر بقدرها بحسب مصالح الأمة لا بحسب مصلحة الحاكم، وذلك حين ترجح احتمالات الدخول في الفوضى والحروب الأهلية.
أما في غير هذه الحالة، فإن إعمال قاعدة المصلحة ودرء الفتنة يؤدي إلى ترسيخ الاستبداد وتعطيل فرص الإصلاح السياسي وإجهاض دواعيه، وبالتالي مراعاة مصلحة الحاكم لا مصلحة الأمة.
وفي إطار الثقافة السلفية، أصبحت مسألة المصلحة ودرء الفتنة تثار كلما تعلق الأمر بالحكام، حتى في مواجهة أبسط التعبيرات أو الأنشطة السياسية التي لا تمس مشروعية الحكم، بينما لا يكاد يوجد لمراعاة المصلحة ودرء الفتنة أي ذكر إزاء فتاوى التكفير والإخـراج الجماعي من الملة، حتى وإن خدمت المحتل غير المسلم وخرجت في وقت حاجته الماسة إليها.
إن من الظلم والخيانة للأمة والاصطفاف في صف الطغاة والغزاة وأعوانهم، أن توصف الحركة السلمية التي تجمع الملايين وتوحدهم عند مطالب سامية ونبيلة بأنها فتنة.
هذه الحركة السلمية السامية والنبيلة هي التي رفعت مستوى انتظام الملايين وأظهرت نبلهم الأخلاقي وروعتهم التنظيمية إلى حد القدرة على تسيير جموع الملايين بسلاسة وانتظام لا يكدر صفوه سوى مكر الطغاة وأعوانهم ومأجوريهم في الشوارع أو في وسائل الإعلام.
هذه الحركة السلمية السامية والنبيلة هي التي جعلت الطاغية يقدم التنازلات تلو التنازلات ويقدم القرابين ويضحي بالمقربين لكي يمتص هذه اليقظة ويبقى فوق العرش، فهل هذه فتنة أم أنها أعظم وأنبل وأسمى آليات مواجهة الاستبداد واستعادة روح الأمة وقوتها وفاعليتها؟!.
لا نستغرب من الإعلام الرسمي المصري أن يقف ضد الثورة ويسعى إلى التعتميم عليها وتشويهها بكل ما أوتي من قوة وخسة، ولكن نستغرب من الفتاوى والدعوات التي يرفع أصحابها الراية السلفية ليطعنوا يقظة الأمة ويخذلوها ويسفهوها لمصلحة الطغاة والجبابرة ولمصلحة الإسرائيليين المذعورين مما يحدث في مصر.
والواقع أن الداء قديم وواسع ومستفحل، خصوصاً لدينا في السعودية، معقل الطرح السلفي. فالمدرسة السلفية لدينا تحمل مضموناً عقائدياً وتعبدياً واسعاً، ولكنها بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي سوى إرث ومشروع ووعي المُلك العضوض وثقافته وسننه.
هيئة كبار العلماء تتصرف كأي مجموعة من الموظفين الذين يجتهدون ـ بوعي أو بغير وعي ـ في إثبات ولائها للسلطة وتنافس العامة في النأي بأنفسها عن الحديث في مجال السياسة أو المناصب أو المال العام أو العلاقات الخارجية أو العدالة الاجتماعية والاقتصادية أو المساواة، ثم تنافس أجهزة الإعلام الرسمية في الحديث عن القضايا العامة، وذلك حين تطلب منها السلطة ذلك وفي الاتجاه الذي ترغب فيه السلطة!!
إنها تتعامل مع الحجج والمصطلحات والنصوص بطريقة انتقائية تسمح بإضفاء الشرعية على مواقفهم، مثل قضية الفتنة والمصلحة وطاعة ولي الأمر. وكما هو واضح، فإن هذه المصطلحات والمبادئ تسمح بالهروب وتبرير المواقف وتجنب عرض وجهة النظر الشرعية النظرية في المسائل ذات الصبغة السياسية.
وفي مقابل هذه العدمية والتواري إلى الظل في مواجهة القضايا الكبرى، ستجد أن هؤلاء العلماء جريئون وغير مهادنين في كل ما يتعلق بعامة الناس، وستجد أنهم ضيوف دائمون في برامج الفتاوى حيث تتم الإجابة باستفاضة على أسئلة البسطاء والمطلقات والعجائز، ويتم اختيار أشد الآراء وأكثرها تضييقاً، وتتوارى حجج المصلحة والفتنة وما إليها، حتى أنهم يعيدون ويكررون تصورهم للفرقة الناجية ويضيقون دائرتها إلى حدود تؤدي إلى استبعاد الغالبية الساحقة من المسلمين من دائرة الفرقة الناجية. ولا تسأل في هذه المنطقة عن حجج المصلحة وتلمس الأعذار وتوخي الحذر في الحكم على عقائد الناس!!
مدرسة بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي (المدرسة السلفية). مدرسة صِدامية وعالية الصوت في ميدان العقيدة والعبادة، إلا أنها خرساء وخانعة في ميدان السياسة والحكم!!
مدرسة ترفع راية الخلفاء الراشدين وتطبق منهج الأمويين والعباسيين والعثمانيين في مجال السياسة. مدرسة قوامها التقليد، وهذا يوفر لها إرثاً ضخماً وهائلاً في ميادين العقيدة والعبادة والمعاملات تستطيع أن تنتقي منه ما تشاء، ولكن التطور السياسي قوامه الاجتهاد والنقد المستمر للذات، وهو ما لا تجيده هذه المدرسة، وبالتالي فحين لزمها إيجاد المشروع السياسي لجأت إلى ما تجيده وهو التقليد، فلم تجد سوى إرث الأمويين والعباسيين والعثمانيين!!
تلك هي المعضلة المركزية التي تعاني منها المدرسة السلفية في ميدان السياسة، وهذا هو السبب الجوهري الذي يقف خلف الإفرازات المتنافرة لرموزها على الصعيد السياسي، وهي التي تجعل كلاً منهم مطمئن إلى سلامة موقفه رغم كل هذا الاختلاف والتناحر!!
هذا الغياب والإملاق الهائل في ميدان السياسة، أدى إلى سهولة وقوع أتباع التيار السلفي في براثن الاستبداد وسهولة استخدامهم في ترسيخه وتسويغه وسهولة إشاعة الشعارات الفارغة والمضللة بينهم!!
فلنبدأ بعرض بعض الشعارات المضللة التي تشيع بين حاملي الراية السلفية على وجه الخصوص، والتي لا يستفيد منها إلا المستبدين.
من أبرز الشعارات المضللة، ومن أشهر كلمات الحق التي يراد بها باطل أو أنها تقود إلى الباطل القول، بأن دستورنا هو الكتاب والسنة. وهذه الجملة تعد من الجمل الأخاذة والمؤثرة التي لا خلاف على مضمونها، على الأقل بين غالبية المسلمين، إلا أنه يتم توظيفها بصورة سيئة تؤدي إلى خدمة الاستبداد وتغييب الوعي السياسي. فالدستور في النهاية هو تنظيم لشكل وطريقة عمل السلطة السياسية وتحديد للحقوق الأساسية للمواطنين. فما الضير في ذلك؟ ولماذا نجعل الأمر وكأنه لا بد فيه من مخالفة الكتاب والسنة؟!
- إننا في أمس الحاجة إلى الدستور بما لا يخالف نصوص الكتاب والسنة، بل بما يجسد مبادئهما العامة المتعلقة بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولو وجد هذا الدستور وعكس قيم الإسلام العامة لما شاهدنا هذه الإفرازات السياسية المتنافرة لعلماء ورموز التيار السلفي!!
- من كلمات الحق التي يراد بها باطل القول، بأن الإسلام لم يحدد شكلاً معيناً للحكم. وهذه الكلمة تساق من قبل الكثيرين لتبرير وإضفاء شرعية على أنماط الحكم الاستبدادي. والواقع أن الإسلام لم يحدد شكلاً معيناً لنظام الحكم، ولكنه شرع قيماً معينة لا بد من تحقيقها، وفي مقدمتها الشورى والعدل والمساواة. وأي حكم يخل بهذه القيم لا يستحق إضفاء المشروعية عليه مهما كان شكله.
- من مبادئ الحق التي تقود على الصعيد السياسي إلى الباطل تجنب دراسة المضمون السياسي لعصر الخلافة الراشدة بحجة الإمساك عما شجر بين الصحابة. والواقع أنه لا خلاف حول المبدأ، ولكن توظيفه على الصعيد السياسي يؤدي إلى كوارث لا حدود لها، بل يؤدي إلى مخالفة العديد من الأحاديث الواضحة والصريحة.
وللأسف، فإن الكثيرين عبر التاريخ تناولوا الموضوع من زاوية شخصية وبغير وعي سياسي عميق، فنتج عن ذلك ’’شخصنة’’ الأحداث وتحويل الموضوع إلى موالاة ومعارضة ومدح إلى حدود التقديس وذم إلى حدود الإثم. والواقع أنه يوجد مدخل صحيح لتناول عصر الخلافة الراشدة بصورة علمية وموضوعية لا تمس الأشخاص بل تنصب حول السنن.
لماذا لا نتحدث عن السنن بدلاً من الحديث عن الأشخاص، فنحن مأمورون بإتباع سنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ، ومنهيون عن محدثات الأمور بعدهم؟!
لو تأملنا سنن الخلافة الراشدة لوجدنا أن أهم ما فيها أنهم لم يصلوا إلى الحكم عن طريق السيف والتغلب ولم يورثوا الحكم إلى أبنائهم وأقاربهم. ولو تأملنا الحكم الذي جاء بعدهم، لوجدنا أن ما تجنبه الخلفاء الراشدون هو بالضبط ما أصبح سائداً من المحدثات التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض أمره باتباع سنن الخلافة الراشدة والعض عليها بالنواجذ.
أيها الرافعون للراية السلفية: لا تعيقوا يقظة الأمة، بل باركوها وادعموها ورشدوها، فهي السبيل الوحيد للخروج من الاستبداد والتخلص من الحكم الجبري الذي أنبأ عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم.