مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الجناية على ولاية الأمة
إبراهيم الخليفة -الرياض
هذه الولاية حين لا تنجح الأمة في الوعي بها والدفاع عنها، فإنها تكون عرضة لأن تذهب أدراج الرياح مع أي مغامر يحاول اغتصاب أمر الأمة، فإن فشل هذا المغامر اعتبر من الخوارج والمفسدين في الأرض وقطع رأسه ولحقته اللعنات وإدانة التاريخ، وإن نجح أصبح ولي الأمر وحظي بالتمجيد وأعاد كتابة التاريخ وتحكم في شؤون الأمة وورثها إلى أحد أبنائه أو أقاربه. أي أن الحكم على جهود هذا المغامر لا يرتبط بأصل العمل الذي قام به، بل يرتبط بنجاح المغامرة أو عدم نجاحها. وما هي المغامرة هنا؟!
يكاد يوجد في خطاب الوحي حول الحياة الدنيوية للمسلمين ما هو أوضح من التأكيد على مرجعية الأمة أو الجماعة وضرورة الرجوع إلى رأيها والأخذ به. ولقد استطاع الفقهاء تأصيل هذه المنطلقات حتى في الشؤون الدينية الخالصة، وجعلوها مصـدراً أساسياً من مصادر التشريع، بل وضعوها مباشرة بعد الوحي، وذلك عبر ما سمي بالإجماع. وحين تتم ترجمتها على الصعيد السياسي فإن الترجمة لا تسمح بفكرة أخرى غير فكرة ولاية الأمة.

هذه الولاية حين لا تنجح الأمة في الوعي بها والدفاع عنها، فإنها تكون عرضة لأن تذهب أدراج الرياح مع أي مغامر يحاول اغتصاب أمر الأمة، فإن فشل هذا المغامر اعتبر من الخوارج والمفسدين في الأرض وقطع رأسه ولحقته اللعنات وإدانة التاريخ، وإن نجح أصبح ولي الأمر وحظي بالتمجيد وأعاد كتابة التاريخ وتحكم في شؤون الأمة وورثها إلى أحد أبنائه أو أقاربه، أي أن الحكم على جهود هذا المغامر لا يرتبط بأصل العمل الذي قام به، بل يرتبط بنجاح المغامرة أو عدم نجاحها. وما هي المغامرة هنا؟!

إنها الاستيلاء على أمور الأمة واغتصاب أمرها وتوريثه للأبناء والأقارب. ولو قام هذا المغامر بالسطو المسلح على سـوق أو قرية أو مدينة فسيقام عليه حد الحرابة ويعتبر من المفسدين في الأرض، أما أن يتم السطو المسلح على الأمة بأجمعها فهذه مسألة فيها نظر، حيث سيرتبط الحكم بما ستؤول إليه المغامرة، فإن فشل فهو من الخوارج والمفسدين، وإن نجح فقد أصبح ولي الأمر، وإن حاول أحد تكرار مغامرته فهو من الخوارج والمفسدين!!.

وهكذا، فحين لا تكون الولاية للأمة وحين لا تنجح في إشاعة مدلولاتها وحراستها والدفاع عنها يصبح من كان مؤهلاً لاعتباره من الخوارج والمفسدين ولياً للأمر، وما أخرجه من دائرة الخوارج والمفسدين إلى دائـرة أولياء الأمر ليس اختلاف عمله، بل نجاحه في السطو المسلح على أمور الأمة!!

ومن هنا نستطيع فهم سر وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لحكم التغلب بأنه مُلك عضوض ونقض لعروة من عرى الإسلام ووصفه لمؤسسيه بأنهم فئة باغية تدعو إلى سبب من أسباب النار!!

لا يوجد بوابة تحتاج إلى إقفالها ثقافياً ونزع المشروعية عنها مثل بوابة حكم التغلب. وهذا لا يعني عدم الصبر على حكام التغلب وعدم التعامل معهم، ولكن التعامل ينبغي أن يكون من باب الضرورة التي تقدر بقدرها والتعامل معهم ينبغي أن يتخذ صورة التعامل مع الأمر الواقع دون إضفاء المشروعية الدينية عليه، فهذا الذي كان سيصبح من الخوارج والمفسدين في الأرض لو لم ينجح في اغتصاب أمر الأمة لا يوجد أي مسوغ شرعي لنقل فعله من دائرة الخروج والإفساد إلى دائرة المشروعية.

نعم، إن مصالح الناس تقتضي التعامل معه والصبر عليه، ولكنه لا ينبغي أن ينال المشروعية الدينية، فالمشروعية لا محل لها إلا عبر الأمة ومن خلال الشورى لا عبر الاغتصاب ومن خلال السيف أو الدبابة.

لا شك أن حكام التغلب يستطيعون تجييش الكتاب والفقهاء لإضفاء المشروعية على حكمهم، وحتى صفوة الأمة من العلماء والفقهاء الذين نلجأ إليهم وإلى إجماعهم في أعظم الأمور الدينية، ونعتبر ذلك مصدراً من مصادر التشريع قد يتعرضون للجلد أو السجن وسائر ألوان الأذى لو رأوا أو قالوا بغير ما يراه أو يقول به الحاكم، وهذا كله من تبعات حكم التغلب التي ينبغي الوعي بها وعدم الخلط بين الثقافة الاضطرارية التي تنشأ عنها وبين الثقافة الشرعية التي ينبغي أن يظل حكم المغتصبين فيها بمثابة نقض لعروة من عرى الإسلام ودعوة إلى سبب من أسباب النار.

وإلى جانب بوابة التغلب التي يحتاج الأمر إلى إغلاقها ثقافياً ونزع المشروعية عنها، فإن هنالك بوابة أخرى تحتاج إلى التحكم الشديد بها وعدم إتاحتها لعامة الناس، وهي بوابة التكفير، فهي أهم وأقوى بوابات هدم ولاية الأمة، وهي تؤدي تلقائياً إلى إضفاء الشرعية على التغلب واللجوء إليه وتبريره والاستقواء به.

إن التكفير هو أعظم بوابات الفتنة الدينية، فهو يؤدي إلى تفجير الأمة داخلياً وتشتيتها وجعل بأسها بينها وإشعال الحروب العقائدية بين أبنائها. وتكفير المسلمين وقتالهم ليس من الأمور المندوبة أو المسكوت عنها، وليس من الأمور المطلوب التوسع فيها أو التساهل بشأنها، بل إن النصوص النبوية متظافرة حول التحذير الشديد من تكفير المسلمين وقتالهم، ووردت إدانات شديدة وعديدة لفكر الخوارج القدامى، وكان واضحاً أن انحرافهم الأكبر يتمثل في تكفير المسلمين وقتالهم.

وكل ذلك يفترض أن يجعل هذه الدائرة محاطة بالمحاذير والضوابط والموانع وبعيدة عن متناول العامة وأصحاب المصالح وغير قابلة للتساهل والاندفاع والاجتهادات الفردية مهما كانت الذرائع والتبريرات.

إن أهل التكفير لا يوجهون سهامهم لأحد غير مجموعات أخرى من الأمة. وبذلك تصبح الأمة أو بعضها هي عدوهم الأول. فكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يدركوا خطورة مبدأ ولاية الأمة وكونه الوسيلة الوحيدة للخروج من الاستبداد بينما هم يعتبرون الأمة هي العدو؟!

والواقع أن الأمة في عمومها هي الحاضن الحقيقي للإسلام والمدافع عنه في أحلك الظروف. وحتى في العصر الحديث، وفي بعض الدول التي شهدت أشد ألوان الاستعمار الثقافي ومحاربة الانتماء الديني أثبتت التجارب أن عموم الناس أكثر استعداداً لقبول واختيار الطرح المنطلق من المرجعية الإسلامية أو المنحاز لها. حدث هذا في الجزائر بعد قرابة مائة وثلاثين عاماً من الاستعمار السياسي والثقافي، وحدث في فلسطين رغم كل ضغوط الاحتلال والحصار والترهيب، وحدث في تركيا رغم كل صور التغريب القسري على مدى بضعة عقود.

هذه التجارب تؤكد أنه لا خوف من الأمة، بل الخوف كل الخوف من المغتصبين لأمر الأمة عبر بوابة السياسة ومن المستبعدين لها عبر بوابة التكفير. وأهل التكفير هم أهل غلو شديد، والكثير من القضايا التي يكفرون بسببها قد تدخل ضمن الأخطاء والمعاصي وألوان الشرك الأصغر، وهي تحتاج للرؤية الإصلاحية أكثر من أي شيء آخر.

ولكن أهل التكفير ابتعدوا عن منهج الإصلاح وعن تلمس القواسم المشتركة بينهم وبين المسلمين، وأصبح كل همهم هو التخلص من المنحرفين والبحث عن جوانب الاختلاف والتمايز عنهم، وغالباً ما يطبقون أحكام التكفير على مسلمين ينطقون بالشهادتين ويؤمنون بالله وبالرسول وبالقرآن ويصلون لله ويصومون لله ويحجون لله، مهما كان لديهم من الانحرافات التي لا تبرر استبعاد جوانب الإيمان والخير لديهم إلا عند من استولى عليه الغلو الشديد والتساهل في التكفير والاندفاع نحوه بالمخالفة لكل الضوابط التي يفترض أن تحكم موضوع التكفير.

ولذلك، فلا غرابة أن يكون أهل ثقافة التكفير في عصرنا من أبرز من تغيب عنهم الأحاديث المتعلقة بإدانة حكم التغلب مهما رفعوا راية الأحاديث النبوية، ولا غرابة أن يكونوا أبرز المدافعين عن الملك العضوض وعن رموز الانحراف السياسي منذ عهد بني أمية حتى وإن كانوا الأكثر رفعاً لراية السلف وراية مقاومة البدعة.

وهاتان الرايتان كان يفترض أن تدفعا باتجاه الانتصار لمنهج الخلفاء الراشدين السياسي وإدخال منهج التغلب منذ عهد بني أمية في إطار البدعة المناقضة لما كان عليه الخلفاء. بل ولا غرابة أن يكونوا من أشد الناس نفوراً من أي سعي نحو توسيع نطاق المشاركة السياسية لأبناء مجتمعاتهم، فأبناء المجتمع هم مصدر الخطر وهم العدو الأول، فمن ذا الذي سيثق بمجتمع مشكوك في عقيدته؟!.
*العصر
أضافة تعليق