التلبُّس بالدين في مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
19-6-2010
إبراهيم الخليفة / الرياض
إن أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب تخلو من أي طرح سياسي جديد. وبالتالي فالانحراف السياسي لا وجود له أو لا قيمة له طالما أن أهل السياسة يتبنون العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ، ولا استقصاء ولا تتبع لأحاديث الرسول حول الانحراف السياسي، وليس من المستحب الاستقلال عنهم والبعد عنهم، بل ربما يكون من المستحب الاستقواء بهم لمواجهة انحراف الناس. ترى، هل قضية الإصلاح السياسي بهذا الغموض وهذا الالتباس؟ وهل فواجع ومآسي الحكم المطلق وويلاته هامشية وقابلة للغياب عن الأذهان على النحو الذي يبرر كل هذا الحماس في مجابهة الكتابات الإصلاحية والتحذير منها والتخويف من مآلاتها ووضع أصحابها في خانة المناوئين للخطاب الشرعي؟! هل يقدم هذا الخطاب على المستوى السياسي أي شيء غير الاستبداد وسنن المُلك العضوض تحت مسمى الخطاب الشرعي؟!
حين أتابع كتابات الأستاذ الدكتور محمد الأحمري أو الأستاذ نواف القديمي حول قضية الإصلاح السياسي ومعاناتهم الشديدة في إيصال المبادئ والحجج والإيضاحات الأساسية والأولية التي أصبحت أو أوشكت أن تكون عند غيرنا من الإسلاميين ـ حتى في المحيط العربي ـ خارج دائرة البحث والنقاش، ثم أتابع من جانب آخر كتابات الأستاذ إبراهيم السكران أو الأستاذ بندر الشويقي حول التقليل بشتى الوسائل والطرق من أولوية هذه القضية وخطورة مآلاتها، أشعر بمقدار ضخامة عوائق الإصلاح السياسي في مجتمع مثل مجتمعنا.
وحين أتابع التعليقات على كتابات الأستاذ الدكتور محمد الأحمري أو الأستاذ نواف القديمي وحجم الصد والمخاوف والاعتراضات التي تطرح بشأنها، والحفاوة التي يبديها الدكتور بأي دلالات بسيطة نحو تقدير مكانة قيمة الحرية، مثل تعليقه على موقف الدكتور ناصر العمر من قافلة الحرية، وأتابع من ناحية أخرى حجم الحفاوة والتأييد الذي تحظى بها كتابات الأستاذ إبراهيم السكران أو الأستاذ بندر الشويقي لدى التيار الديني، تزداد قناعتي بشأن ضخامة عوائق تسويق وإشاعة ثقافة الإصلاح السياسي في مجتمعنا.
سبق لي أن خضت قبل أعوام تجربة للكتابة عن سنن الخلافة الراشدة، وكنت أعتقد بأن أول من سيحتفي بمثل هذه الكتابة هم رافعو راية السلف. كنت ببساطة أشير إلى ما يعلمه الجميع من أنه لا يوجد خليفة راشد أتى عن طريق السيف أو الإكراه، ولا يوجد خليفة راشد ولى ابنه أو أحد أقاربه من بعده، وتساءلت: لماذا لا نعتبر عدم التغلب وعدم تنصيب الأبناء أو الأقارب من بين سنن الخلافة الراشدة التي نتبعها ونعض عليها بالنواجذ كما أمرنا الرسول الكريم، ولماذا لا يكون التغلب وتنصيب الأبناء على رقاب المسلمين من بين سنن المُلك العضوض التي أخبرنا عنها الرسول وحذرنا منها في أحاديث كثيرة ليس هذا وقت إعادة عرضها. ولكن الموضوع كان يجابه بكل أنواع السجال والذرائع والتبريرات ومحاولات التشتيت حتى لكأني كنت أكتب عن إحدى المنكرات وليس عن سنن الخلافة الراشدة!!
ترى، هل قضية الإصلاح السياسي بهذا الغموض وهذا الالتباس؟ وهل فواجع ومآسي الحكم المطلق وويلاته هامشية وقابلة للغياب عن الأذهان على النحو الذي يبرر كل هذا الحماس في مجابهة الكتابات الإصلاحية والتحذير منها والتخويف من مآلاتها ووضع أصحابها في خانة المناوئين للخطاب الشرعي؟!
ثم ما هو مضمون وحصيلة هذا الخطاب الشرعي الذي يتم الحديث باسمه والتحذير من مناوئيه؟ هل يقدم هذا الخطاب على المستوى السياسي أي شيء غير الاستبداد وسنن المُلك العضوض تحت مسمى الخطاب الشرعي؟!
ما هذه الثقة والاطمئنان والجرأة في التلبس بالخطاب الشرعي تجاه مضمون سياسي لا يحتاج إلا إلى أبسط صور الفحص والتدبر لاكتشاف مضمونه الاستبدادي العميق؟ وما هذا الحماس والاندفاع لمجابهة خطاب لا يحتاج إلا إلى أبسط صور الفحص والتدبر لاكتشاف مدى تعبيره عن سنن الخلافة الراشدة ومحاولة إحيائها والانتصار لها؟!
قد تتعدد الإجابات على هذه الأسئلة، ولكنني أعتقد أن هذا التلبس بالخطاب الشرعي في مجتمعنا هو مظهر من مظاهر حالة التلبس بالدين التي شاعت وترسخت في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. هذه الحالة من التلبس تأسست بكل قوة منذ أكثر من قرنين من الزمان، ثم شاعت وترسخت بفعل التبني السياسي والتحصين الثقافي، إلى أن أصبح المساس بمقولات المدرسة أو معطياتها الأساسية وكأنه مساس بالدين.
وبالتالي، فهؤلاء الذين يقدمون سنن الاستبداد ويدافعون عنها تحت لافتة الخطاب الشرعي، ويشتد حماسهم في مواجهة الخطاب الإصلاحي ذي المرجعية الإسلامية، إنما يدافعون عن المدرسة. أي عن مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ذلك أن الخطاب الإصلاحي يناقض بعض أهم مقولات ومعطيات تلك المدرسة، ويمس حالة التلبس بالدين التي شاعت وترسخت لدى الأتباع، واستقر لديهم أن مقولاتها تمثل الفهم والتطبيق الأمثل أو الأسلم للدين على مدى أكثر من قرنين من الزمان.
والخطاب الإصلاحي يمس ذلك الوعي واليقين والاطمئنان الذي زاده التبني السياسي والتحصين الثقافي قوة ورسوخاً.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن من مصلحة الجميع إعادة التأكد من مدى وجود اختلاف جوهري بين دلالات نصوص الوحي وبين مقولات ومعطيات مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. فإذا كان ذلك الاختلاف موجوداً، فإنه ينبغي مواجهة حالة التلبس بالدين في إطار مدرسة الشيخ والتعريف بها، حتى لا يكون أتباعها على هذا النحو من الحماس والاندفاع في مواجهة تفسيرات أخرى للنصوص، قد تكون أقرب إلى نصوص الوحي وأكثر دلالة عليها وتعبيراً عنها.
إن أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب تخلو من أي طرح سياسي جديد. وبالتالي فالانحراف السياسي لا وجود له أو لا قيمة له طالما أن أهل السياسة يتبنون العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ، ولا استقصاء ولا تتبع لأحاديث الرسول حول الانحراف السياسي، وليس من المستحب الاستقلال عنهم والبعد عنهم، بل ربما يكون من المستحب الاستقواء بهم لمواجهة انحراف الناس.
والواقع أن موطن الخلل الأكبر الذي يمكن أن يصاحب أية رؤية إصلاحية إسلامية ينبع غالباً من الخطأ في تحديد مصدر الانحراف الأكبر في حياة المسلمين. وحين يخطئ المرء في تحديد مصدر الانحراف فإن مجمل البناء المستند إليه لا بد أن يتأثر بهذا الخطأ التأسيسي. ولو عدنا إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فسنجد أنها شديدة الوضوح في تحديد الانحراف السياسي كأول وأهم وأبرز انحراف حدث في حياة المسلمين، حيث أمر الرسول بإتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والعض عليها بالنواجذ، ووصف الحكم التالي لحكم الخلفاء الراشدين بأنه مُلك عضوض وحكم جبري، وأخبر بأن أول عروة من عرى الإسلام يتم نقضها هي عروة الحكم، ووصف ناقضي تلك العروة بأنهم فئة باغية تدعو إلى النار أو إلى سبب من أسبابها.
ورغم أنه لا يكاد يوجد وضوح أقوى ولا أشد من هذا الوضوح فإن الوعي والجهود ـ بفعل سطوة أهل المُلك العضوض وأسباب أخرى ـ لم تنطلق من هذا الانحراف، بل اكتفى الكثير من العلماء بتجنب أهل المُلك العضوض وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتطور الأمر تدريجياً إلى أن تم إدخال المُلك العضوض إلى دائرة المشروعية الدينية التامة.
وبعد أن تم قفل باب الانحراف السياسي بقوة السيف، أصبحت الاختلافات الكبرى بين المسلمين تدور حول قضية القضـاء والقدر وقضية تأويل الغيب، وتم تقسيم المسلين إلى فرق وحصر قضايا الهداية والضلال عند هذه القضايا. والعقل يشهد والتاريخ يشهد ونصوص الوحي تشهد بأن هذه القضايا تحتمل الكثير من الاجتهاد والاختلاف وأوجه الصحة والخطأ، ولم يرد بشأنها تحذير مباشر يوازي عشر معشار التحذيرات التي وردت بشأن الانحراف السياسي.
عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وفي ظل المشروعية الدينية التي تم إضفاؤها على المُلك العضوض، كانت بوابة الانحراف الكبرى التي تم من خلالها تطبيق أحكام الشرك الأكبر هي التوسل والاستغاثة وما شابهها من الانحرافات العقائدية في إطار المجتمعات الإسلامية. والعقل يشهد والتاريخ يشهد وأحاديث الرسول تشهد بأن هذه البوابة تحتمل الخطأ والمعصية وألوان الشرك الأصغر، ولم يرد بشأنها أي تحذير مباشر، بل إن الوارد بشأنها هو على العكس تماماً، فقد أخبر الرسـول صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب (1).
ورغم ورود بعض الروايات التي تشير إلى حالة شرك جزئي لدى بعض القبائل (2)، فإن عموم الأحاديث لم تشر إلى حالة شرك جماعي واسع يقع فيه عموم المسلمين، ولم تتم الإشارة إلى الأمة في أسوأ حالاتها المستقبلية إلا كأمة مسلمين، سواء كانوا تحت المُلك العضوض والحكم الجبري أو كانوا غثاء كغثاء السيل. بل لقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يخشى شرك أمته بعده (3).
هذه الأحاديث، والتي خصت الجزيرة العربية بالذكر ووصلت حد القسم النبوي بأنه لا يخشى على أمته الشرك بعده، هل يصح معها فتح بوابات الشرك الأكبر لعموم المسلمين، وتحديداً في أرض الجزيرة؟! ألا تحسم هذه الأحاديث مسألة الشرك الأكبر في الجزيرة وألا تنسف مقولاته وأحكامه من أساسها؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شك أن الصورة الحاضرة والشائعة حول أفكار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليست الصورة التاريخية الحقيقية التي شاعت في بداية الأمر وطبقت، ولا الأبعاد الكاملة للصورة المعاصرة التي لا تزال تؤسس وتؤثر، فقد حلت محل الصورة التاريخية صورة شديدة التهذيب والتجميل ومليئة بالاجتزاء والانتقاء ومعادة التصوير والإخراج ومحمية بقوة ومصالح السلطات والأتباع، والتبست أبعاد الصورة المعاصرة ببعض الرؤى المطلقة والتطبيقات العارضة أو الهامشية أو الجزئية التي ظهرت في بعض البلدان العربية والإسلامية.
إن الفكر الذي يتم تقديمه وخدمته وإشاعته بعد مواجهة مجموعات التكفير والجهاد والقضاء على قادتهم في أواخر مراحل نشوء الدولة السعودية الحديثة وبعد إنشاء المؤسسة الدينية الرسمية، هو فكر تحريم الخروج والتشديد على طاعة ولي الأمر والتأكيد على موانع وشروط التكفير والجهاد والانفتاح الواسع على فقه وكتابات رموز السلفية القدامى كابن تيمية وابن القيم، فضلاً عن الاعتبارات والتطورات التي فرضتها مستجدات أوضاع المسلمين والعالم.
هذه العوامل والاعتبارات ذاتها، دفعت ولا زالت تدفع باتجاه وضع تفسيرات غير صحيحة أو غير دقيقة لأهم عوامل التباس مفاهيم التكفير والجهاد في العصر الحديث، وذلك من خلال محاولة نسبة ذلك الالتبـاس وإفرازاته إلى بعض رموز السلفية القدامى أو إلى بعض رؤى المجتهدين المعاصرين (مثل المودودي وسيد قطب) أو إلى التطبيقات العارضة أو الهامشية أو الجزئية التي ظهرت في بعض البلدان العربية والإسلامية.
والمحصلة أن القراءة المستقلة والمنصفة لأفكار التكفير والجهاد في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أصبحت محجوبة أو مأسورة بكل الاعتبارات التي أعقبت نشوء الدولة الحديثة والدفاع عن مصالحها ومتطلباتها، أو مأسورة بالرؤية الطائفية أو السياسية التي ينطلق منها الناقدون لتلك الأفكار من خارجها.
وبالنظر إلى المشروعية الدينية والسياسية التي وفرتها ولا زالت توفرها حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبحكم القوة المادية والمعنوية للدولة السعودية الحديثة ونجاحها في تقديم وإشاعه فقه مختلف وتفسيرات مختلفة تحفظ لها المشروعية التي وفرتها الحركة وتبعد عنها معظم أخطار الأفكار التكفيرية والجهادية، فإن القيمة الرمزية لتلك الحركة تتزايد في الوقت الذي تتناقص فيه إمكانات نقدها ودقة تصوير أوضاعها وأفكارها.
إن في دعـوة وفي جهود الشيخ جوانب إصلاحية واسعة وحقيقية تدور حول الإيمان بالله وإخلاص العبادة له وتجنب التوسل بالأولياء والصالحين والبعد عن أي قول أو فعل يجافي ما ينبغي أن يكون عليه اعتقاد وسلوك المسلم من إفراد الله بالعبادة. وهذه بالفعل جوانب إصلاحية عميقة وواسعة وتلامس بعض أهم مكامن الخلل في الطروحات الصوفية والشيعية.
ولو أن الدعوة اقتصرت على هذا الجانب وشددت عليه واجتهدت في إشاعته والانتصار له بالحجة، أو حتى باستخدام وسائل الدولة في الأمر والمنع والثواب والعقاب، أو باستخدام مفاهيم الحل والحرمة والشرك الأصغر، لكانت دعوة الشيخ دعوة تصحيحية شديدة الإيجابية. بل إنه حتى لو تم اللجوء إلى التكفير الفردي بضوابطه وشروطه وموانعه وفي إطار أي تنظيم قضائي أو حقوقي يضمن الحد الأدنى من العدالة، لكان الأمر محدود السلبيات.
ولكن الجانب التصحيحي في فكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يتم من خلال هذه الوسائل والمفاهيم، بل تم من خلال التكفير الجماعي الواسع وانتقل من التكفير المطلق أو النظري إلى التكفير التعييني والفعلي باستخدام مفاهيم الجهاد والدخول في الدين والارتداد عنه، وذلك حتى في الحالات التي كان يدور فيها الأمر حول الخضوع للسلطة المتبنية للدعوة أو التمرد عليها.
والواقع أننا لم نكن لنعرض الجوانب السلبية في أفكار وفي جهود الشيخ على النحو الذي سنقدمه لولا أن الجوانب الإيجابية حققت أغراضها منذ أمد بعيد، بينما تم تغييب معظم جوانبها السلبية بعد استثمارها على نحو واسع، ثم استخدام مجمل فقه الدعوة في إماتة وإطفاء هموم الإصلاح وإعاقة وإجهاض فرصه.
لقد أصبحت دعوة الشيخ في عمومها تتمتع بخصوصية تحول دون تصحيحها أو تطويرها بالطرق المعهودة، فهي تحظى بالتبني السياسي والتحصين الثقافي وتوفر المشروعية الدينية والمكانة الثقافية والاجتماعية لمن يتبنونها ويحصنونها.
لا شك أنه يوجد تأصيل شرعي صحيح ومستقر لمسائل التكفير والقتال. وفي اعتقادي، فإن نصوص الوحي تسمح بتجديد فهم تلك المسائل على نحو يؤدي إلى تضييق دائرتها وتقنينها وحسن توظيفها، وهذا هو أحد وجوه التجديد المطلوب والضروري، إلا أن جهود الشيخ لم تنح هذا المنحى، بل أخذت اتجاهاً معاكساً تماماً.
إن تكفير المسلمين وقتالهم ليس من الأمور المندوبة أو المسكوت عنها، وليس من الأمور المطلوب التوسع فيها أو التساهل بشأنها، بل إن النصوص النبوية متظافرة حول التحذير الشديد من تكفير المسلمين وقتالهم، ووردت إدانات شديدة وعديدة لفكر الخوارج القدامى الذين كان واضحاً أن انحرافهم الأكبر يتمثل في تكفير المسلمين وقتالهم. وكل ذلك يفترض أن يجعل دائرة تكفير المسلمين وقتالهم دائرة محاطة بالمحاذير والضوابط والموانع وبعيدة عن متناول العامة وأصحاب المصالح وغير قابلة للتساهل والاندفاع والاجتهادات الفردية مهما كانت الذرائع والتبريرات.
والواقع أن مجرد استحضار التراث في قضايا التكفير والتضليل ينبغي أن يخضع لأقصى درجات التمحيص والمراجعة وإعادة النظر. ذلك أن التقليد يؤدي إلى استحضار التراث والمعايير التراثية والصراعات التاريخية حول قضايا التكفير والتضليل وكأنها لا تزال قائمة بحالتها التاريخية وثقلها التاريخي.
لقد كان المسلمون في موقع القيادة والقوة على مستوى العالم. وبالتالي، فإن الأخطار التي تؤثر على عقائدهم ـ فيما عدا خطورة الطرح الفلسفي اليوناني ـ كانت نابعة من اجتهاداتهم واختلافاتهم الداخلية، باعتبار أنه لم يكن لدى اليهود أو المسيحيين أو الهندوس أو البوذيين أو غيرهم طروحات عميقة يمكن أن تهدد الطرح الإسلامي.
وفي مثل هذا الوضع المليء بجوانب القوة الداخلية وغير المهدد بالأخطار الخارجية ـ فيما عدا خطورة الفكر الفلسفي اليوناني ـ كان منطقياً أن يتم التركيز على نقاط الاختلاف والتمايز بين المسلمين أنفسهم.
وهذا ما أدى إلى رفع شأن الانقسامات والتحزبات النابعة من طروحات المسلمين الداخلية (الخوارج، الشيعة، القدرية، الجهمية، المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، المتصوفة، الفلاسفة، المجسمة، المفوضة). وقد أسهم منع تناول الانحراف السياسي وتواضع أخطار الأفكار الخارجية، في تعظيم مستوى وحدة الاختلافات بين هؤلاء واتخاذها كمنطلقات أساسية لتطبيق معايير الكفر أو الضلال بين المسلمين. ورغم ذلك، فإن كل هذا التراث بقي في إطاره النظري الاجتهادي ولم ينتقل إلى الدائـرة الخطرة والمحظورة، وهي دائرة اقتران التكفير بالقتل، إلا ضمن دائرة ضيقة ومليئة بالموانع والحواجز وهي دائرة الارتداد.
في العصر الحديث، أصبح المسلمون بين أمم الأرض المسحوقة والمتخلفة، وأصبحت أقوى الأخطار التي تؤثر على أفكارهم نابعة من غيرهم (الإلحاد، العلمانية)، وأصبح غير المسلمين يقودون العالم ويحتلون بلدان المسلمين ويستتبعونهم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً. ورغم هذه الصورة المختلفة كلياً عن الصورة التي ظهر في ظلها تراثنا الفكري والفقهي، فإن التقليد أدى إلى إبقاء الكثير من المعايير والصراعات التاريخية بين المسلمين بوزنها وحجمها ومداها وثقلها الذي كانت عليه.
والمؤكد أن علماءنا الذين كانوا يرون الخطورة الكبرى في المعتزلة أو الشيعة أو الخوارج أو المتصوفة لو عاشوا بيننا بذات العقلية الاجتهادية التي كانوا عليها، لخففوا كثيراً من وزن ومدى هذه الأخطار في مقابل الأخطار الآتية من خـارج الدائرة الإسلامية، ولركزوا على عوامل الالتقاء بدلاً من البحث عن عوامل الفرقة والتشتت وتكبيرها وإقامة المعارك والصراعات الكبرى حولها. وهذه هي إحدى معضلات الذين يستحضرون المعايير والصراعات التي شهدها تراثنا كما هي.
لقد انقلبت أحوال المسلمين رأساً على عقب وانقلبت أحوال غيرهم، ولكن المتشبعين بالتراث العقائدي لا زالوا يظنون بأن أكبر الأخطار التي تواجههم هي أخطار التصوف أو التشيع أو الفكر السلفي أو الإباضي أو الزيدي في حين أنهم يواجهون خطر سلخهم من الدين بالكلية.
ومن جانب آخر، فإن أوضاع المسلمين الدنيوية المتردية توجب إعلاء جوانب الاتحاد والاتفاق بينهم وإعادة تقييم أولويات الأخطار التي تواجههم، وإعادة تحديد وسائل التعامل فيما بينهم وتعظيم قيمة وأهمية وسائل الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن والمقارنة بين وزن اختلافاتهم الداخلية وبين وزن اختلافاتهم مجتمعين مع غيرهم، فهم يواجهون أخطار تفتيت أوطانهم واحتلالها أو إثارة الحروب بينهم وإشغالهم بأنفسهم.
والواقع أن الفكر الشائع في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هو أبرز فكر قلب فقه المُلك العضوض وفقه تكفير المسلمين وقتالهم رأساً على عقب.
لقد تم إدخال المُلك العضوض ـ وهو أول وأبرز وأهم وأوضح انحراف في تاريخ المسلمين ـ من أوسع بوابات المشروعية الدينية، بل من بوابة الجهاد، ليس ضد غير المسلمين، بل ضد المسلمين في الجزيرة العربية وعلى أطرافهـا، وفي عهد الدولة العثمانية. وإذا كان أهل الجزيرة العربية قد خرجوا من الملة، فماذا عن المسلمين على امتـداد العالم الإسلامي؟ وماذا عن المسلمين على مدى قرابة سبعة قرون قبل ظهور دعوة الشيخ؟!.
لقد تم أيضاً قلب فقه تكفير المسلمين وقتالهم، فلم تعد دائرة هذا الفقه محاطة بالمحاذير والضوابط والموانع وبعيدة عن متناول العامة وأصحاب المصالح وغير قابلة للتساهل والاندفاع والاجتهادات الفردية، بل أصبحت على العكس تماماً، وكأن تكفير المسلمين وقتالهم من الأمور المندوبة أو المسكوت عنها، وكأن الإدانات الشديدة والعديدة لفكر الخوارج القدامى بغير معنى أو مغزى أو دلالة، وكأن الرسول لم يخبر بأن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب، وكأنه لم يقسم بأنه لا يخشى على أمته الشرك بعده!!.
في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، تم حصر الوعي والاهتمام في بدع التوسل والاستغاثة وما شابهها والصعود بها إلى درجة الشرك الأكبر المخرج من الملة والمبيح للدم والمال على نحو لم يصل إليه ولم يطرحه بذات الدرجة وذات المستوى أي عالم أو فقيه معتبر عبر التاريخ الإسلامي.
والخطورة الكبرى التي لا يتنبه إليها المدافعون عن إخراج هؤلاء من الملة هو أن فتح بوابة الشرك الأكبر لمثل هؤلاء هو فتح لأعظم بوابات الفتنة، كما أنه يؤدي بالضرورة إلى تغيير فقه تكفير المسلمين وقتالهم بصورة جذرية، وذلك باعتبار أن التوسل والاستغاثة وما شابهها من البدع العقائدية لها ألف صورة وصـورة وألف درجة ودرجة وألف لون ولون. ثم إنها يمكن أن تصدر عن أي إنسان ويفسرها أي إنسان ويحكم بشأنها أي إنسان.
والأهم من ذلك أن نقل هذه الآراء التكفيرية من المستوى النظري إلى مستوى التطبيق عبر اقتران التكفير بالجهاد يؤدي تلقائياً إلى وضع أسلحة القتل بأيدي عموم المسلمين في مواجهة بعضهم، وفي موضوع لا يكاد يوجد لصوره حدود. وحين يتم وضع هذه المفاهيم التكفيرية وأدواتها التطبيقية بأيدي المحاربين البسطاء وأهل المُلك العضوض، فإن فقه تكفير المسلمين وقتالهم لا بد أن يتغير بصورة جذرية، وستتحول ديار المسلمين إلى ديار حروب عقائدية لا تكاد تنتهي، وسيتمكن أهل المُلك العضوض من استخدام سلاح الدين والتلبس بالإسلام وتوظيفه في خدمة مصالحهم، وفي مقدمتها إجهاض وإعاقة فرص ودواعي الإصلاح السياسي.
وفي ظل التبني السياسي والتحصين الثقافي لدعوة الشيخ، ومع استمرار الجهد الدؤوب في استبعاد أو تغييب التطبيقات الجهادية التاريخية ومحاولة نسبة الإفرازات الحديثة إلى الآخرين، تعزز وشاع الاعتقاد بأن الشيخ لم يأت بجديد حول موضوعات التكفير والجهاد، وأن الكثير من أرائه موجودة في كتابات الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وغيرهما.
والواقع أنه لا أحد إلا الجاهل أو المعاند يمكنه الادعاء بأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب اختلق موضوع التكفير والجهاد وأنه لا أساس لمقولاته وأرائه في كتابات كبار علماء المسلمين.
إن المشكلة لا تكمن في آراء الشيخ المشابهة لآراء من سبقوه، بل ولا تكمن في آرائه المخالفة لآراء السابقين، بل تكمن في اقتران التكفير بالقتل أو ’’الجهاد’’، وذلك ضمن رؤية بلغت مستوى عالياً من حالة التلبس بالدين ونزعه عن الآخرين وتطبيق فقه ’’الجهاد’’ عليهم وإتاحة الفرصة لأهل المُلك العضوض للتلبس بالدين وادعاء تمثيله وحمايته مهما فعلوا على الصعيد السياسي. ولو أن الشيخ اكتفى بالتقليد، حتى ولو جمع أشد آراء التكفير في كتابات كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ، لما كان في الأمر أي جديد ولا أي أمر خطير سوى خطورة التجميع والانتقاء.
ورغم أن حالة التلبس بالدين تظل حالة جامعة بين كل أصحاب الرؤى التي يغلب عليها التكفير، إلا أن مستواها ودرجة خطورتها تتفاوت كثيراً بحسب الأساس التكفيري الذي يتم الانطلاق منه ودرجة التأصيل الشرعي التي تتوافر له والتحصين الثقافي والدعم السياسي الذي يحظى به. وفي كل هذه الجوانب كانت الأفكار التكفيرية لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب مختلفة عن غيرها من الأفكار التكفيرية التي شاعت قديماً وحديثاً، الأمر الذي أدى إلى رفع حالة التلبس بالدين إلى مستوى غير مسبوق.
ولاحقاً بمشيئة الله، سنتناول بقدر من التركيز والطرح النقدي هذه الجوانب.
الهامش:
(1) ـ وردت عدة روايات تشير إلى هذا المعنى، ومن ذلك ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ...).
(2) - وردت روايات تشير إلى هذا المعنى، ومن ذلك ما رواه أبو داود في حديث طويل ورد فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ’’... ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان’’. وهذه إشارة إلى حالة شرك جزئي يحدث من قبل بعض الفئات خلال فترة ممتدة إلى قيام الساعة. وهذا بحد ذاته يدل على أن الوضع العام للأمة هو بخلاف الشرك الأكبر.
(3) ـ وردت روايات في صحيح البخاري وصحيح مسلم تنص على ذلك، ومن ذلك ما رواه عقبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
*العصر
19-6-2010
إبراهيم الخليفة / الرياض
إن أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب تخلو من أي طرح سياسي جديد. وبالتالي فالانحراف السياسي لا وجود له أو لا قيمة له طالما أن أهل السياسة يتبنون العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ، ولا استقصاء ولا تتبع لأحاديث الرسول حول الانحراف السياسي، وليس من المستحب الاستقلال عنهم والبعد عنهم، بل ربما يكون من المستحب الاستقواء بهم لمواجهة انحراف الناس. ترى، هل قضية الإصلاح السياسي بهذا الغموض وهذا الالتباس؟ وهل فواجع ومآسي الحكم المطلق وويلاته هامشية وقابلة للغياب عن الأذهان على النحو الذي يبرر كل هذا الحماس في مجابهة الكتابات الإصلاحية والتحذير منها والتخويف من مآلاتها ووضع أصحابها في خانة المناوئين للخطاب الشرعي؟! هل يقدم هذا الخطاب على المستوى السياسي أي شيء غير الاستبداد وسنن المُلك العضوض تحت مسمى الخطاب الشرعي؟!
حين أتابع كتابات الأستاذ الدكتور محمد الأحمري أو الأستاذ نواف القديمي حول قضية الإصلاح السياسي ومعاناتهم الشديدة في إيصال المبادئ والحجج والإيضاحات الأساسية والأولية التي أصبحت أو أوشكت أن تكون عند غيرنا من الإسلاميين ـ حتى في المحيط العربي ـ خارج دائرة البحث والنقاش، ثم أتابع من جانب آخر كتابات الأستاذ إبراهيم السكران أو الأستاذ بندر الشويقي حول التقليل بشتى الوسائل والطرق من أولوية هذه القضية وخطورة مآلاتها، أشعر بمقدار ضخامة عوائق الإصلاح السياسي في مجتمع مثل مجتمعنا.
وحين أتابع التعليقات على كتابات الأستاذ الدكتور محمد الأحمري أو الأستاذ نواف القديمي وحجم الصد والمخاوف والاعتراضات التي تطرح بشأنها، والحفاوة التي يبديها الدكتور بأي دلالات بسيطة نحو تقدير مكانة قيمة الحرية، مثل تعليقه على موقف الدكتور ناصر العمر من قافلة الحرية، وأتابع من ناحية أخرى حجم الحفاوة والتأييد الذي تحظى بها كتابات الأستاذ إبراهيم السكران أو الأستاذ بندر الشويقي لدى التيار الديني، تزداد قناعتي بشأن ضخامة عوائق تسويق وإشاعة ثقافة الإصلاح السياسي في مجتمعنا.
سبق لي أن خضت قبل أعوام تجربة للكتابة عن سنن الخلافة الراشدة، وكنت أعتقد بأن أول من سيحتفي بمثل هذه الكتابة هم رافعو راية السلف. كنت ببساطة أشير إلى ما يعلمه الجميع من أنه لا يوجد خليفة راشد أتى عن طريق السيف أو الإكراه، ولا يوجد خليفة راشد ولى ابنه أو أحد أقاربه من بعده، وتساءلت: لماذا لا نعتبر عدم التغلب وعدم تنصيب الأبناء أو الأقارب من بين سنن الخلافة الراشدة التي نتبعها ونعض عليها بالنواجذ كما أمرنا الرسول الكريم، ولماذا لا يكون التغلب وتنصيب الأبناء على رقاب المسلمين من بين سنن المُلك العضوض التي أخبرنا عنها الرسول وحذرنا منها في أحاديث كثيرة ليس هذا وقت إعادة عرضها. ولكن الموضوع كان يجابه بكل أنواع السجال والذرائع والتبريرات ومحاولات التشتيت حتى لكأني كنت أكتب عن إحدى المنكرات وليس عن سنن الخلافة الراشدة!!
ترى، هل قضية الإصلاح السياسي بهذا الغموض وهذا الالتباس؟ وهل فواجع ومآسي الحكم المطلق وويلاته هامشية وقابلة للغياب عن الأذهان على النحو الذي يبرر كل هذا الحماس في مجابهة الكتابات الإصلاحية والتحذير منها والتخويف من مآلاتها ووضع أصحابها في خانة المناوئين للخطاب الشرعي؟!
ثم ما هو مضمون وحصيلة هذا الخطاب الشرعي الذي يتم الحديث باسمه والتحذير من مناوئيه؟ هل يقدم هذا الخطاب على المستوى السياسي أي شيء غير الاستبداد وسنن المُلك العضوض تحت مسمى الخطاب الشرعي؟!
ما هذه الثقة والاطمئنان والجرأة في التلبس بالخطاب الشرعي تجاه مضمون سياسي لا يحتاج إلا إلى أبسط صور الفحص والتدبر لاكتشاف مضمونه الاستبدادي العميق؟ وما هذا الحماس والاندفاع لمجابهة خطاب لا يحتاج إلا إلى أبسط صور الفحص والتدبر لاكتشاف مدى تعبيره عن سنن الخلافة الراشدة ومحاولة إحيائها والانتصار لها؟!
قد تتعدد الإجابات على هذه الأسئلة، ولكنني أعتقد أن هذا التلبس بالخطاب الشرعي في مجتمعنا هو مظهر من مظاهر حالة التلبس بالدين التي شاعت وترسخت في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. هذه الحالة من التلبس تأسست بكل قوة منذ أكثر من قرنين من الزمان، ثم شاعت وترسخت بفعل التبني السياسي والتحصين الثقافي، إلى أن أصبح المساس بمقولات المدرسة أو معطياتها الأساسية وكأنه مساس بالدين.
وبالتالي، فهؤلاء الذين يقدمون سنن الاستبداد ويدافعون عنها تحت لافتة الخطاب الشرعي، ويشتد حماسهم في مواجهة الخطاب الإصلاحي ذي المرجعية الإسلامية، إنما يدافعون عن المدرسة. أي عن مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ذلك أن الخطاب الإصلاحي يناقض بعض أهم مقولات ومعطيات تلك المدرسة، ويمس حالة التلبس بالدين التي شاعت وترسخت لدى الأتباع، واستقر لديهم أن مقولاتها تمثل الفهم والتطبيق الأمثل أو الأسلم للدين على مدى أكثر من قرنين من الزمان.
والخطاب الإصلاحي يمس ذلك الوعي واليقين والاطمئنان الذي زاده التبني السياسي والتحصين الثقافي قوة ورسوخاً.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن من مصلحة الجميع إعادة التأكد من مدى وجود اختلاف جوهري بين دلالات نصوص الوحي وبين مقولات ومعطيات مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. فإذا كان ذلك الاختلاف موجوداً، فإنه ينبغي مواجهة حالة التلبس بالدين في إطار مدرسة الشيخ والتعريف بها، حتى لا يكون أتباعها على هذا النحو من الحماس والاندفاع في مواجهة تفسيرات أخرى للنصوص، قد تكون أقرب إلى نصوص الوحي وأكثر دلالة عليها وتعبيراً عنها.
إن أفكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب تخلو من أي طرح سياسي جديد. وبالتالي فالانحراف السياسي لا وجود له أو لا قيمة له طالما أن أهل السياسة يتبنون العقيدة على النحو الذي طرحه الشيخ، ولا استقصاء ولا تتبع لأحاديث الرسول حول الانحراف السياسي، وليس من المستحب الاستقلال عنهم والبعد عنهم، بل ربما يكون من المستحب الاستقواء بهم لمواجهة انحراف الناس.
والواقع أن موطن الخلل الأكبر الذي يمكن أن يصاحب أية رؤية إصلاحية إسلامية ينبع غالباً من الخطأ في تحديد مصدر الانحراف الأكبر في حياة المسلمين. وحين يخطئ المرء في تحديد مصدر الانحراف فإن مجمل البناء المستند إليه لا بد أن يتأثر بهذا الخطأ التأسيسي. ولو عدنا إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فسنجد أنها شديدة الوضوح في تحديد الانحراف السياسي كأول وأهم وأبرز انحراف حدث في حياة المسلمين، حيث أمر الرسول بإتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والعض عليها بالنواجذ، ووصف الحكم التالي لحكم الخلفاء الراشدين بأنه مُلك عضوض وحكم جبري، وأخبر بأن أول عروة من عرى الإسلام يتم نقضها هي عروة الحكم، ووصف ناقضي تلك العروة بأنهم فئة باغية تدعو إلى النار أو إلى سبب من أسبابها.
ورغم أنه لا يكاد يوجد وضوح أقوى ولا أشد من هذا الوضوح فإن الوعي والجهود ـ بفعل سطوة أهل المُلك العضوض وأسباب أخرى ـ لم تنطلق من هذا الانحراف، بل اكتفى الكثير من العلماء بتجنب أهل المُلك العضوض وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتطور الأمر تدريجياً إلى أن تم إدخال المُلك العضوض إلى دائرة المشروعية الدينية التامة.
وبعد أن تم قفل باب الانحراف السياسي بقوة السيف، أصبحت الاختلافات الكبرى بين المسلمين تدور حول قضية القضـاء والقدر وقضية تأويل الغيب، وتم تقسيم المسلين إلى فرق وحصر قضايا الهداية والضلال عند هذه القضايا. والعقل يشهد والتاريخ يشهد ونصوص الوحي تشهد بأن هذه القضايا تحتمل الكثير من الاجتهاد والاختلاف وأوجه الصحة والخطأ، ولم يرد بشأنها تحذير مباشر يوازي عشر معشار التحذيرات التي وردت بشأن الانحراف السياسي.
عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وفي ظل المشروعية الدينية التي تم إضفاؤها على المُلك العضوض، كانت بوابة الانحراف الكبرى التي تم من خلالها تطبيق أحكام الشرك الأكبر هي التوسل والاستغاثة وما شابهها من الانحرافات العقائدية في إطار المجتمعات الإسلامية. والعقل يشهد والتاريخ يشهد وأحاديث الرسول تشهد بأن هذه البوابة تحتمل الخطأ والمعصية وألوان الشرك الأصغر، ولم يرد بشأنها أي تحذير مباشر، بل إن الوارد بشأنها هو على العكس تماماً، فقد أخبر الرسـول صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب (1).
ورغم ورود بعض الروايات التي تشير إلى حالة شرك جزئي لدى بعض القبائل (2)، فإن عموم الأحاديث لم تشر إلى حالة شرك جماعي واسع يقع فيه عموم المسلمين، ولم تتم الإشارة إلى الأمة في أسوأ حالاتها المستقبلية إلا كأمة مسلمين، سواء كانوا تحت المُلك العضوض والحكم الجبري أو كانوا غثاء كغثاء السيل. بل لقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يخشى شرك أمته بعده (3).
هذه الأحاديث، والتي خصت الجزيرة العربية بالذكر ووصلت حد القسم النبوي بأنه لا يخشى على أمته الشرك بعده، هل يصح معها فتح بوابات الشرك الأكبر لعموم المسلمين، وتحديداً في أرض الجزيرة؟! ألا تحسم هذه الأحاديث مسألة الشرك الأكبر في الجزيرة وألا تنسف مقولاته وأحكامه من أساسها؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شك أن الصورة الحاضرة والشائعة حول أفكار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليست الصورة التاريخية الحقيقية التي شاعت في بداية الأمر وطبقت، ولا الأبعاد الكاملة للصورة المعاصرة التي لا تزال تؤسس وتؤثر، فقد حلت محل الصورة التاريخية صورة شديدة التهذيب والتجميل ومليئة بالاجتزاء والانتقاء ومعادة التصوير والإخراج ومحمية بقوة ومصالح السلطات والأتباع، والتبست أبعاد الصورة المعاصرة ببعض الرؤى المطلقة والتطبيقات العارضة أو الهامشية أو الجزئية التي ظهرت في بعض البلدان العربية والإسلامية.
إن الفكر الذي يتم تقديمه وخدمته وإشاعته بعد مواجهة مجموعات التكفير والجهاد والقضاء على قادتهم في أواخر مراحل نشوء الدولة السعودية الحديثة وبعد إنشاء المؤسسة الدينية الرسمية، هو فكر تحريم الخروج والتشديد على طاعة ولي الأمر والتأكيد على موانع وشروط التكفير والجهاد والانفتاح الواسع على فقه وكتابات رموز السلفية القدامى كابن تيمية وابن القيم، فضلاً عن الاعتبارات والتطورات التي فرضتها مستجدات أوضاع المسلمين والعالم.
هذه العوامل والاعتبارات ذاتها، دفعت ولا زالت تدفع باتجاه وضع تفسيرات غير صحيحة أو غير دقيقة لأهم عوامل التباس مفاهيم التكفير والجهاد في العصر الحديث، وذلك من خلال محاولة نسبة ذلك الالتبـاس وإفرازاته إلى بعض رموز السلفية القدامى أو إلى بعض رؤى المجتهدين المعاصرين (مثل المودودي وسيد قطب) أو إلى التطبيقات العارضة أو الهامشية أو الجزئية التي ظهرت في بعض البلدان العربية والإسلامية.
والمحصلة أن القراءة المستقلة والمنصفة لأفكار التكفير والجهاد في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أصبحت محجوبة أو مأسورة بكل الاعتبارات التي أعقبت نشوء الدولة الحديثة والدفاع عن مصالحها ومتطلباتها، أو مأسورة بالرؤية الطائفية أو السياسية التي ينطلق منها الناقدون لتلك الأفكار من خارجها.
وبالنظر إلى المشروعية الدينية والسياسية التي وفرتها ولا زالت توفرها حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبحكم القوة المادية والمعنوية للدولة السعودية الحديثة ونجاحها في تقديم وإشاعه فقه مختلف وتفسيرات مختلفة تحفظ لها المشروعية التي وفرتها الحركة وتبعد عنها معظم أخطار الأفكار التكفيرية والجهادية، فإن القيمة الرمزية لتلك الحركة تتزايد في الوقت الذي تتناقص فيه إمكانات نقدها ودقة تصوير أوضاعها وأفكارها.
إن في دعـوة وفي جهود الشيخ جوانب إصلاحية واسعة وحقيقية تدور حول الإيمان بالله وإخلاص العبادة له وتجنب التوسل بالأولياء والصالحين والبعد عن أي قول أو فعل يجافي ما ينبغي أن يكون عليه اعتقاد وسلوك المسلم من إفراد الله بالعبادة. وهذه بالفعل جوانب إصلاحية عميقة وواسعة وتلامس بعض أهم مكامن الخلل في الطروحات الصوفية والشيعية.
ولو أن الدعوة اقتصرت على هذا الجانب وشددت عليه واجتهدت في إشاعته والانتصار له بالحجة، أو حتى باستخدام وسائل الدولة في الأمر والمنع والثواب والعقاب، أو باستخدام مفاهيم الحل والحرمة والشرك الأصغر، لكانت دعوة الشيخ دعوة تصحيحية شديدة الإيجابية. بل إنه حتى لو تم اللجوء إلى التكفير الفردي بضوابطه وشروطه وموانعه وفي إطار أي تنظيم قضائي أو حقوقي يضمن الحد الأدنى من العدالة، لكان الأمر محدود السلبيات.
ولكن الجانب التصحيحي في فكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يتم من خلال هذه الوسائل والمفاهيم، بل تم من خلال التكفير الجماعي الواسع وانتقل من التكفير المطلق أو النظري إلى التكفير التعييني والفعلي باستخدام مفاهيم الجهاد والدخول في الدين والارتداد عنه، وذلك حتى في الحالات التي كان يدور فيها الأمر حول الخضوع للسلطة المتبنية للدعوة أو التمرد عليها.
والواقع أننا لم نكن لنعرض الجوانب السلبية في أفكار وفي جهود الشيخ على النحو الذي سنقدمه لولا أن الجوانب الإيجابية حققت أغراضها منذ أمد بعيد، بينما تم تغييب معظم جوانبها السلبية بعد استثمارها على نحو واسع، ثم استخدام مجمل فقه الدعوة في إماتة وإطفاء هموم الإصلاح وإعاقة وإجهاض فرصه.
لقد أصبحت دعوة الشيخ في عمومها تتمتع بخصوصية تحول دون تصحيحها أو تطويرها بالطرق المعهودة، فهي تحظى بالتبني السياسي والتحصين الثقافي وتوفر المشروعية الدينية والمكانة الثقافية والاجتماعية لمن يتبنونها ويحصنونها.
لا شك أنه يوجد تأصيل شرعي صحيح ومستقر لمسائل التكفير والقتال. وفي اعتقادي، فإن نصوص الوحي تسمح بتجديد فهم تلك المسائل على نحو يؤدي إلى تضييق دائرتها وتقنينها وحسن توظيفها، وهذا هو أحد وجوه التجديد المطلوب والضروري، إلا أن جهود الشيخ لم تنح هذا المنحى، بل أخذت اتجاهاً معاكساً تماماً.
إن تكفير المسلمين وقتالهم ليس من الأمور المندوبة أو المسكوت عنها، وليس من الأمور المطلوب التوسع فيها أو التساهل بشأنها، بل إن النصوص النبوية متظافرة حول التحذير الشديد من تكفير المسلمين وقتالهم، ووردت إدانات شديدة وعديدة لفكر الخوارج القدامى الذين كان واضحاً أن انحرافهم الأكبر يتمثل في تكفير المسلمين وقتالهم. وكل ذلك يفترض أن يجعل دائرة تكفير المسلمين وقتالهم دائرة محاطة بالمحاذير والضوابط والموانع وبعيدة عن متناول العامة وأصحاب المصالح وغير قابلة للتساهل والاندفاع والاجتهادات الفردية مهما كانت الذرائع والتبريرات.
والواقع أن مجرد استحضار التراث في قضايا التكفير والتضليل ينبغي أن يخضع لأقصى درجات التمحيص والمراجعة وإعادة النظر. ذلك أن التقليد يؤدي إلى استحضار التراث والمعايير التراثية والصراعات التاريخية حول قضايا التكفير والتضليل وكأنها لا تزال قائمة بحالتها التاريخية وثقلها التاريخي.
لقد كان المسلمون في موقع القيادة والقوة على مستوى العالم. وبالتالي، فإن الأخطار التي تؤثر على عقائدهم ـ فيما عدا خطورة الطرح الفلسفي اليوناني ـ كانت نابعة من اجتهاداتهم واختلافاتهم الداخلية، باعتبار أنه لم يكن لدى اليهود أو المسيحيين أو الهندوس أو البوذيين أو غيرهم طروحات عميقة يمكن أن تهدد الطرح الإسلامي.
وفي مثل هذا الوضع المليء بجوانب القوة الداخلية وغير المهدد بالأخطار الخارجية ـ فيما عدا خطورة الفكر الفلسفي اليوناني ـ كان منطقياً أن يتم التركيز على نقاط الاختلاف والتمايز بين المسلمين أنفسهم.
وهذا ما أدى إلى رفع شأن الانقسامات والتحزبات النابعة من طروحات المسلمين الداخلية (الخوارج، الشيعة، القدرية، الجهمية، المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، المتصوفة، الفلاسفة، المجسمة، المفوضة). وقد أسهم منع تناول الانحراف السياسي وتواضع أخطار الأفكار الخارجية، في تعظيم مستوى وحدة الاختلافات بين هؤلاء واتخاذها كمنطلقات أساسية لتطبيق معايير الكفر أو الضلال بين المسلمين. ورغم ذلك، فإن كل هذا التراث بقي في إطاره النظري الاجتهادي ولم ينتقل إلى الدائـرة الخطرة والمحظورة، وهي دائرة اقتران التكفير بالقتل، إلا ضمن دائرة ضيقة ومليئة بالموانع والحواجز وهي دائرة الارتداد.
في العصر الحديث، أصبح المسلمون بين أمم الأرض المسحوقة والمتخلفة، وأصبحت أقوى الأخطار التي تؤثر على أفكارهم نابعة من غيرهم (الإلحاد، العلمانية)، وأصبح غير المسلمين يقودون العالم ويحتلون بلدان المسلمين ويستتبعونهم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً. ورغم هذه الصورة المختلفة كلياً عن الصورة التي ظهر في ظلها تراثنا الفكري والفقهي، فإن التقليد أدى إلى إبقاء الكثير من المعايير والصراعات التاريخية بين المسلمين بوزنها وحجمها ومداها وثقلها الذي كانت عليه.
والمؤكد أن علماءنا الذين كانوا يرون الخطورة الكبرى في المعتزلة أو الشيعة أو الخوارج أو المتصوفة لو عاشوا بيننا بذات العقلية الاجتهادية التي كانوا عليها، لخففوا كثيراً من وزن ومدى هذه الأخطار في مقابل الأخطار الآتية من خـارج الدائرة الإسلامية، ولركزوا على عوامل الالتقاء بدلاً من البحث عن عوامل الفرقة والتشتت وتكبيرها وإقامة المعارك والصراعات الكبرى حولها. وهذه هي إحدى معضلات الذين يستحضرون المعايير والصراعات التي شهدها تراثنا كما هي.
لقد انقلبت أحوال المسلمين رأساً على عقب وانقلبت أحوال غيرهم، ولكن المتشبعين بالتراث العقائدي لا زالوا يظنون بأن أكبر الأخطار التي تواجههم هي أخطار التصوف أو التشيع أو الفكر السلفي أو الإباضي أو الزيدي في حين أنهم يواجهون خطر سلخهم من الدين بالكلية.
ومن جانب آخر، فإن أوضاع المسلمين الدنيوية المتردية توجب إعلاء جوانب الاتحاد والاتفاق بينهم وإعادة تقييم أولويات الأخطار التي تواجههم، وإعادة تحديد وسائل التعامل فيما بينهم وتعظيم قيمة وأهمية وسائل الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن والمقارنة بين وزن اختلافاتهم الداخلية وبين وزن اختلافاتهم مجتمعين مع غيرهم، فهم يواجهون أخطار تفتيت أوطانهم واحتلالها أو إثارة الحروب بينهم وإشغالهم بأنفسهم.
والواقع أن الفكر الشائع في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هو أبرز فكر قلب فقه المُلك العضوض وفقه تكفير المسلمين وقتالهم رأساً على عقب.
لقد تم إدخال المُلك العضوض ـ وهو أول وأبرز وأهم وأوضح انحراف في تاريخ المسلمين ـ من أوسع بوابات المشروعية الدينية، بل من بوابة الجهاد، ليس ضد غير المسلمين، بل ضد المسلمين في الجزيرة العربية وعلى أطرافهـا، وفي عهد الدولة العثمانية. وإذا كان أهل الجزيرة العربية قد خرجوا من الملة، فماذا عن المسلمين على امتـداد العالم الإسلامي؟ وماذا عن المسلمين على مدى قرابة سبعة قرون قبل ظهور دعوة الشيخ؟!.
لقد تم أيضاً قلب فقه تكفير المسلمين وقتالهم، فلم تعد دائرة هذا الفقه محاطة بالمحاذير والضوابط والموانع وبعيدة عن متناول العامة وأصحاب المصالح وغير قابلة للتساهل والاندفاع والاجتهادات الفردية، بل أصبحت على العكس تماماً، وكأن تكفير المسلمين وقتالهم من الأمور المندوبة أو المسكوت عنها، وكأن الإدانات الشديدة والعديدة لفكر الخوارج القدامى بغير معنى أو مغزى أو دلالة، وكأن الرسول لم يخبر بأن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب، وكأنه لم يقسم بأنه لا يخشى على أمته الشرك بعده!!.
في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، تم حصر الوعي والاهتمام في بدع التوسل والاستغاثة وما شابهها والصعود بها إلى درجة الشرك الأكبر المخرج من الملة والمبيح للدم والمال على نحو لم يصل إليه ولم يطرحه بذات الدرجة وذات المستوى أي عالم أو فقيه معتبر عبر التاريخ الإسلامي.
والخطورة الكبرى التي لا يتنبه إليها المدافعون عن إخراج هؤلاء من الملة هو أن فتح بوابة الشرك الأكبر لمثل هؤلاء هو فتح لأعظم بوابات الفتنة، كما أنه يؤدي بالضرورة إلى تغيير فقه تكفير المسلمين وقتالهم بصورة جذرية، وذلك باعتبار أن التوسل والاستغاثة وما شابهها من البدع العقائدية لها ألف صورة وصـورة وألف درجة ودرجة وألف لون ولون. ثم إنها يمكن أن تصدر عن أي إنسان ويفسرها أي إنسان ويحكم بشأنها أي إنسان.
والأهم من ذلك أن نقل هذه الآراء التكفيرية من المستوى النظري إلى مستوى التطبيق عبر اقتران التكفير بالجهاد يؤدي تلقائياً إلى وضع أسلحة القتل بأيدي عموم المسلمين في مواجهة بعضهم، وفي موضوع لا يكاد يوجد لصوره حدود. وحين يتم وضع هذه المفاهيم التكفيرية وأدواتها التطبيقية بأيدي المحاربين البسطاء وأهل المُلك العضوض، فإن فقه تكفير المسلمين وقتالهم لا بد أن يتغير بصورة جذرية، وستتحول ديار المسلمين إلى ديار حروب عقائدية لا تكاد تنتهي، وسيتمكن أهل المُلك العضوض من استخدام سلاح الدين والتلبس بالإسلام وتوظيفه في خدمة مصالحهم، وفي مقدمتها إجهاض وإعاقة فرص ودواعي الإصلاح السياسي.
وفي ظل التبني السياسي والتحصين الثقافي لدعوة الشيخ، ومع استمرار الجهد الدؤوب في استبعاد أو تغييب التطبيقات الجهادية التاريخية ومحاولة نسبة الإفرازات الحديثة إلى الآخرين، تعزز وشاع الاعتقاد بأن الشيخ لم يأت بجديد حول موضوعات التكفير والجهاد، وأن الكثير من أرائه موجودة في كتابات الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وغيرهما.
والواقع أنه لا أحد إلا الجاهل أو المعاند يمكنه الادعاء بأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب اختلق موضوع التكفير والجهاد وأنه لا أساس لمقولاته وأرائه في كتابات كبار علماء المسلمين.
إن المشكلة لا تكمن في آراء الشيخ المشابهة لآراء من سبقوه، بل ولا تكمن في آرائه المخالفة لآراء السابقين، بل تكمن في اقتران التكفير بالقتل أو ’’الجهاد’’، وذلك ضمن رؤية بلغت مستوى عالياً من حالة التلبس بالدين ونزعه عن الآخرين وتطبيق فقه ’’الجهاد’’ عليهم وإتاحة الفرصة لأهل المُلك العضوض للتلبس بالدين وادعاء تمثيله وحمايته مهما فعلوا على الصعيد السياسي. ولو أن الشيخ اكتفى بالتقليد، حتى ولو جمع أشد آراء التكفير في كتابات كل العلماء المعتبرين عبر التاريخ، لما كان في الأمر أي جديد ولا أي أمر خطير سوى خطورة التجميع والانتقاء.
ورغم أن حالة التلبس بالدين تظل حالة جامعة بين كل أصحاب الرؤى التي يغلب عليها التكفير، إلا أن مستواها ودرجة خطورتها تتفاوت كثيراً بحسب الأساس التكفيري الذي يتم الانطلاق منه ودرجة التأصيل الشرعي التي تتوافر له والتحصين الثقافي والدعم السياسي الذي يحظى به. وفي كل هذه الجوانب كانت الأفكار التكفيرية لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب مختلفة عن غيرها من الأفكار التكفيرية التي شاعت قديماً وحديثاً، الأمر الذي أدى إلى رفع حالة التلبس بالدين إلى مستوى غير مسبوق.
ولاحقاً بمشيئة الله، سنتناول بقدر من التركيز والطرح النقدي هذه الجوانب.
الهامش:
(1) ـ وردت عدة روايات تشير إلى هذا المعنى، ومن ذلك ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ...).
(2) - وردت روايات تشير إلى هذا المعنى، ومن ذلك ما رواه أبو داود في حديث طويل ورد فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ’’... ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان’’. وهذه إشارة إلى حالة شرك جزئي يحدث من قبل بعض الفئات خلال فترة ممتدة إلى قيام الساعة. وهذا بحد ذاته يدل على أن الوضع العام للأمة هو بخلاف الشرك الأكبر.
(3) ـ وردت روايات في صحيح البخاري وصحيح مسلم تنص على ذلك، ومن ذلك ما رواه عقبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
*العصر