مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
القصص القرآني ودوره التربوي
القَصَصُ القرآنيُّ ودورُهُ التربويُّ في إصلاح المجتمع الإسلاميِّ تحتلّ القِصَص بشكل عام مكانة عالية في المجال التربوي؛حيث إن لها تأثيراتٍ هادفة في تغيير سلوكيات البشر،وتسديد خطاهم نحو الأفضل،وهي تعبّر عن الوقائع والحوادث التي مضت،ومدى فعاليتها في توجيه الجيل الجديد،وتُحكى على وجه يتوهم كونه حادثاً في الحاضر،لا سيما إذا تميّزت بعواطفَ إنسانيةٍ راقيةٍ على اختلاف الأصعدة والمستويات. وإذا كانت هذه هي طبيعة القصص العادية فإنه من باب أولى أن تكون القِصَص القرآنية في مستوى رفيع؛إذ هي مستغنية عن الوصف،وبيان خصائصها ومميزاتها لكونها جامعة لمحتويات القصص ومغازيها التربوية،وشاملة للمقاصد العامة والأهداف المتوخى منها. لذا اهتمّ علماء التربية الإسلامية بالقِصَصِ القرآنية،ودقّقوا النظر فيها،وتوصّلوا إلى أن هناك صلةً وطيدةً،ورابطةً قويةً بين القصص القرآنية والعصر النبوي الشريف،مما يدلّ على مدى المناسبة الكاملة بين هذه القصص،وصلاحيتها لمواكبة معطيات العصر المعاش. إن القِصَص القرآنية واقعية سيقت للعبر،وإعطاء المثل،وبيان مكان الضالين المكذبين،ومنزلة المؤمنين المهتدين إلى الحق،فهي قصص للعبر من الواقع والأحداث،وليست لمجرّد المتعة،وقضاء الوقت في قراءات القصة أو الاستماع إليها قال تعالى{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}( ). لقد جاءت هذه الآية الكريمة خاتمة لقصة يوسف–عليه السلام- بأجملها،لتلخص الهدف،وتبيّن المغزى،وتثير الذهن إلى إدراك الحقيقة الثابتة وراء الأحداث المتصارعة،والمواقف المتشابكة،والعواطف المختلفة.ويستخلص من هذا كلّه الدور التربوي الذي تحتلّه القصص القرآنية،وأنها لم تُسَقْ عبثاً،وإنما سيقت لحكمة وهدف،وما هذه الحكم والأهداف إلا تسلية المصطفى-صلى الله عليه وسلم-وتشجيعاً للأمة الإسلامية على التأسي بالرسول في الصبر على الدعوة،وكافة المواقف التربوية الإسلامية،كما هو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار في قصة نوح وإبراهيم وهود ويونس وموسى وعيسى-عليهم السلام-وغيرهم من الأنبياء والمرسلين. واستكمالاً لتلك المفاهيم الحساسة نأخذ سورة يوسف كالنموذج الحيّ لبيان تلك الأسس التربوية التي تمتاز بها الشريعة السمحة،وتعتبر هذه السورة إحدى السور المكية التي تناولت قصص الأنبياء،وأفردت الحديث عن قصة نبي الله يوسف-عليه السلام- وما واجهه من أنواع البلاء،ومن ضروب المحن والشدائد في جميع مراحله الحياتية من إخوته وغيرهم. الجدير بالذكر أن أكثر القصص القرآنية مكرّرة،بل مبعثرة في القرآن بوجوه مختلفة،وألفاظ متفاوتة،على درجات متباينة،أما قصة يوسف فلم تكرّر،وإنما سيقت كاملة في هذه السورة الوحيدة التي عالجت مشاكله الحياتية من البداية إلى النهاية،وتمتاز هذه السورة بأسلوب فذّ فريد في التعبير والأداء يسري مع النفس سريان الدم في العروق،ويجري بسلامته جريان الروح في الجسد،ويحمل جوّ الأنس والرحمة،والرأفة والحنان. إن ثمة مواقف متعددة لحياة يوسف بن يعقوب–عليهما السلام-في جميع المراحل التي مرّ بها ابتداءً من رؤيا رآها،وكيد إخوته له،واجتماعهم على إلقائه في غيابت الجب ودخوله السجن،وخروجه منه،وتفسيره لرؤيا صاحبي السجن،ومراودة امرأة العزيز له،وغير ذلك من المحن التي تلقاها،وهي مبسوطة في سورة يوسف.وهذه المواقف مليئة بالحكم والعبر التي يقتدي بها المقتدون{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}( ). - فيها العبر بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف–عليهما السلام- على البلوى،وكيفية النجاة منها. - فيها العبر بهجرة قوم النبي-صلى الله عليه وسلم-إلى البلد الذي حلّ به،كما فعل يعقوب– عليه السلام- وآله،وذلك إشارة إلى أن قريشاً ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعاً لهجرة النبي–صلى الله عليه وسلم. - فيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة،وقوانينها،ونظام حكوماتها وعقوباتها،وغير ذلك . إن حياة يوسف–عليه السلام-لمدرسة يجب على كلّ مسلم يتمتع بصدق الإيمان التعلّم منها،ليلتمس تلك الدرر الأخلاقية،وتلك النماذج السلوكية،وليكون على بصيرة تامة بأهمية التربية الإسلامية الصحيحة في جميع المجالات الحياتية–اجتماعياً وثقافياً،وروحياً، ومهنياً وسياسياً،وأنه لا ثمة سلوك إسلامي رائع رغب فيه الكتاب والسنة إلا وقد تناولته هذه الحياة الطيّبة،فذلك الصبر الجميل في مختلف المواقف،وهذا العفو والصفح والتسامح والتوبة والأمانة والصدق وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة التي يحثّ عليها الإسلام، وتنصبّ في قوالب الموضوعات التي عالجتها هذه الحياة السعيدة. لذلك قال العلماء:"إن سورة يوسف ما هي إلا صورة أوردها الله تعالى لرسوله المصطفى-عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم-تربية وتعليماً وقدوة،ليعرف أن شخصية هذا الرجل بارزة في فضائل الأخلاق ومحاسنها،وأن فيها عبرة لمن يخشى. ومن الصعوبة بمكان التفرقة بين شخصية الرسول-صلى الله عليه وسلم-وشخصية يوسف-عليه السلام- من ناحية الأخلاقيات،وما تحمّل كل منهما من الشدائد والمحن في سبيل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ،والقيام بالواجبات الدينية،والضروريات الشرعية،حتى يوجد من أثبت هذه الصعوبة بالمقارنة بينهما،عن طريق الإحصاء التربوي الجميل من الكتّاب المعاصرين. فكل ما سبق إيراده يثبت مدى واقعية القصص القرآنية ومدى دورها التربوي في تنشئة الأجيال القادمة،وإرساء أنظمة المجتمع الإسلامي بالإصلاح،والتوجّه نحو الأفضل. وتهدف تلك الواقعية القصصية إلى اعتبار هذه الأساسيات الأخلاقية التي تنمو البلاد بها وترتقي نحو النهضة والتطوّر،وذلك بمعالجة جميع المشاكل القائمة بأنواعها المختلفة لإصلاح المجتمع الإسلامي،وصياغتها بأسلوب تربوي معاصر،وإعادة أسسها المتينة إلى مواقعها في النفوس. فلا بد أن تتحلى المجتمعات الإسلامية بمبادئ الأخلاق السامية،كالأمانة والصدق والوفاء بالعهد،والشعور بالمسؤولية وغير ذلك مما تتناوله التربية الإسلامية من خلال القصص القرآنية الهادفة؛إذ لا نهوض بالحركة التقدمية للأمة الإسلامية إلا بإرساء تلك الأعمدة،والاهتمام بأولوياتها،والرجوع بها إلى الأمام،دون التفات إلى تربية غربية مضللة،ولا تربية إسلامية غير صافية. اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه . إعداد الأستاذ عبد الواسع إدريس أكنني باحث الدكتوراه في مقاصد الشريعة محاضر في جامعة أبومي كالافي قسم اللغة العربية والثقافة الإسلامية بجمهورية بنين .