العقل هو أساس إنسانية الإنسان وقوام فطرته ، ومناط التكليف والمسئولية فيه ، وهو المحل الذي تنبجس منه حضارة الأمة والضامن لعزتها وشهادتها علي الناس ، ومن ثم وجب علي الأمة المحافظة علي كل عنصر من عناصرها سليماً معافى في عقله لأنه يمدها بالخير والنفع ، وإذا اختل العقل الإنساني اختل نظام الأمة بوجه ما ، وعلي هذا يجب علي الإنسان أن يعلم أن عقله ليس خالصاً له ، بل للمجتمع فيه حق ، وهو حق الله تعالي في عقله ومن هنا وجبت المحافظة عليه وعدم تعريضه للتلف صيانة لحق الله فيه ويتمثل ذلك فيما يلي :
أولاً : حفظ العقل من جانب الوجود :
ويتم ذلك بعدة طرق منها:
1) تحرير العقل البشري من رق التقليد: ومن ثم فتح للعقل باب النظر وجعل الإسلام من المنهيات الباطنة إهماله قال تعالي : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10) أي نسمع قول الرسول أو نعقل وجه الدليل ، وهو محل معرفة الإله ، ومناط خطابه وتكاليفه ، ويتوصل به إلي معرفة مصالح الدنيا ومفاسدها ، ولا يخفي علي عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن ، ولا يسمي عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه ، والشر فتركه ، أما مصالح الشرع فطريقها الشرع . ” قواعد الأحكام 1/24 ، 29 ” .
2) تنمية المدارك العقلية بالتفكر والنظر:
كثيراً ما يدعو القرآن إلي النظر العقلي والتفكر لاستخراج الأسرار الكونية قال تعالي:( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)(لأعراف: من الآية185) .
وقد توصل الإنسان بعقله إلي معرفة بعض المصالح ولكنه مهما بلغ سيظل عاجزاً عن إدراك كل مصالحه ومصالح غيره وقد يظن بعض الضار نافعاً ، ومن هنا رسم العلماء بعض الضوابط للنظر العقلي ليبتعد عن الزلل والانحراف منها :
أ ) الحذر من اتباع الهوى عند البحث عن المصالح ولقد ذكر العز بن عبد السلام في قوله تعالي : ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(البقرة: من الآية269) قال : هم من خلصت عقولهم من شوائب الهوى .
ب ) الضابط الثاني : الحذر من أحادية المعرفة عند البحث عن المصالح ، فالإسلام يرفض التجزئة التي تنادي بالعقل فقط ، أو الحس فقط كمصدر أساسي للمعرفة الصحيحة ، أو بالنظر إلي الدنيا بمعزل عن الآخرة ، وإنما يدعو في المقابل إلي النظرة الكلية الشاملة في توجه الإنسان المعرفي ، فلولا الرسالة لم يهتد العقل إلي تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد . ” مجموع الفتاوى لأن تيمية 19/100 ” قال الأصفهاني في قوله تعالي : ( نُورٌ عَلَى نُورٍ)(النور: من الآية35) أي نور القرآن ونور العقل ” الذريعة إلي مكارم الشريعة”
ثانياً : حفظ العقل من جانب العدم : ويتم ذلك بعدة طرق منها :
الطريق الأول : تحريم المسكرات والأمر بإراقتها قال تعالي : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: من الآية90) .
ويلحق بالخمر كل ما يسكر العقل ويذهب به قال ابن عبد السلام : { لا يجوز تخبيل العقل بشيء من المسكرات إلا بإكراه أو ضرورة } ” شجرة المعارف : 22 ” .
وإلي جانب حفظ العقل عن طريق تحريم الخمر فإن حفظه أيضاً في حفظ النفس بالكلية إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما ، فالعقل محفوظ شرعاً في الأصول الكلية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة . ” الموفقات للشاطبى 3/47″ .
الطريق الثاني : منع كل ما من شأنه أن يشغل العقل عن مهامه :
فلا يقتصر حفظ العقل علي تحريم المسكرات ، بل يتعداه إلي كل ما من شأنه أن يشغل العقل عن مهامه ، وكل ما يشل طاقته وحركته الفكرية ، وتحول بينه وبين أداء وظيفته التي من أجلها خلقه الله تعالي . فمن وسائل حفظه أن يمنع ولي الأمر انتشار المذاهب الضالة وعلومها بين العوام لما تفضي إليه من انحراف في التفكير ، والإخلال بمسئولية العقل ، فلا نتيجة ترجي من ورائه وتضييع لطاقته الفكرية فيما لا يفيد . قال الإمام بن عبد السلام : { لا يجوز ستر العقل بالغفلات المحرمات ويستحب صونه عن الغفلة عن كل مندوب ، وذلك بنفي أسباب الغفلات من الشواغل والملهيات } ” شجرة المعارف : 22 ” .
الطريق الثالث : شرع حد شرب الخمر : وذلك لأن ( الحد مشروع لحفظ العقول عن الطيش والاختلال ) ” قواعد الأحكام 1/100 ” فمن جني علي العقل استحق العقاب .
وخلاصة القول : أنه لا قيمة لعقل جاهل يكون عرضه للتقليد الأعمى وما يخطر عليه من الأوهام والخرافات ، فمثله لا يجيد إدراك الحقائق الدينية ولا المصالح الدنيوية فيصير فريسة للبدع ، من ثم شرع الإسلام العلم وفرضه ، ومنع الخمر وحرمها حماية للعقل ومحافظة عليه من الأضعاف أو الزوال .
والله تعالي أعلي وأعلم،،،
المراجع : 1- قواعد الأحكام لأبن عبد السلام .
2- المقاصد العامة للشريعة الإسلامية لأبن زغبية .
3- الفتاوى لأبن تيمية .
4- المقاصد العامة للشريعة الإسلامية د./ يوسف حامد العالم .
5- شجرة المعارف لأبن عبد السلام .
*منارات