قال تعالي :
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ) – الزمر-
أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال لعلهم يتذكرون , فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان, وذلك في قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس , بل هو بيان ووضوح وبرهان ,
وإنما جعله الله تعالى كذلك وأنزله بذلك لعلهم يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد ,
ومن الأمثلة التي ضربها الله لنا في هذا القرآن :
1- المخذولون :
ينكرون وجود الحق ابتداء , فإذا ما رأوه أمامهم واضحا جليا جحدوه ظلما وعلوا , ووقفوا أمامه وأمام أهله وحامليه ينأون عنه وينهون عنه ,
أ – كفار قريش وقد قال الله عنهم :
(وَإذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ) – الأنفال -
وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم , وهذا مما عيبوا به ,
وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لا تباعه ,
ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة ,
كقوله تعالى :
( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) ) – العنكبوت -
( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ (16) ) – ص -
وقوله :
( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي المَعَارِجِ (3) ) – المعارج -
وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له :
( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) ) – الشعراء -
وقال قتادة :
ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها وقوله تعالى « وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون »
ب – الملأ من قوم فرعون ومن قال الله عنهم :
( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إن كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ (40) ) – الشعراء -
واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم , وقال قائلهم : « لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إن كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ »
ولم يقولوا : نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى , بل الرعية على دين ملكهم ,
وماذا لوكان السحرة هم المغلوبين وموسي هو الغالب ؟
فهم في الأصل لم يأتوا للحق , وإنما جاءوا سندا للباطل الذي هم عليه , فإن غلب فرحوا واستبشروا ,وإن غُلِبَ لم يؤمنوا بالحق ,
فلما ظهر الحق وأن ما جاء به موسي ليس سحرا ,وإنما معجزة ليست من عمل البشر ,وشهد بذلك السحرة وهم أهل فن واختصاص , وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر , وكانوا اذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك , فآمنوا بالله رب العالمين .....
وهؤلاء المخذولين لم يؤمنوا مع وضوح الحق بهذه الصورة ,
2- الموفقون :
فإنهم يبحثون عن الحق , فإذا ما رأوه أتوا إليه مذعنين , وقاموا بواجبهم نحوه وتبليغه لمن خلفهم مهما كلفهم ذلك , فالحق هو غايتهم ومطلبهم .... والله هو الذي يسوقهم إليه حيث كان :
أ – السحرة وقد قال الله تعالي عنهم :
(فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَىْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ (51) ) – الشعراء –
هؤلاء السحرة قد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر ليبطلوا دعوة موسي عليه السلام ,
فلما رأوا عصا موسي تختطف وتجمع حبالهم وعصيهم من كل بقعة وتبتلعها فلم تدع منها شيئا , آمنوا بالله رب العالمين , وذلك أن الله قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر , وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا إن يكون الله قد أيده , وجعله حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه ,
فكان هذا أمرا عظيما جدا , وبرهانا قاطعا للعذر , وحجة دامغة , وذلك أن الذين استنصر بهم فرعون وطلب منهم أن يغلبوا غُلِبُوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة , وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق والمعجزة الباهرة ,
فغُلِبَ فرعون غلبا لم يُشَاهَد مثله , وكان وقحا جرئا عليه لعنة الله والملأئكة والناس أجمعين , فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل , فشرع يتهددهم ويتوعدهم ,
تهددهم فلم ينفع فيهم , وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما ,
وقال لهم : إنه كان ينبغي أن تسأذنوني فيما فعلتم ولا تفتاتوا على ذلك , فإن أذنت لكم فعلتم , وإن منعتكم امتنعتم فإني أنا الحاكم المطاع ,
ثم اتهمهم بالتعاون مع موسي :
وهذه مكابرة يعلم كل واحد بطلانها , فانهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم , فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل ,
ثم توعدهم :
بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا : « لا ضَيْرَ » أي لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به « إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ » أي المرجع إلى الله عز وجل وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا , ولا يخفى عليه ما فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ,
ولهذا قالوا :
« إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا » أي ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر « أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ » أي بسبب إنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان فقتلهم كلهم ,
ب – نفرا من الجن وقد قال الله تعالي عنهم :
( قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) ) – الجن –
فلما آمنوا به وعرفوا عظمته ,وذاقوا لذته ذهبوا إلي قومهم منذرين ومبشرين ,
فقال تعالي :
( وَإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) ) – الأحقاف –
وانظر إلي قوله :
( وَإذْ صَرَفْنَا ) , فأي توفيق أفضل من أن يصرف الله أحدا من خلقه ليستمع القرآن , فينصت إليه فيؤمن بما جاء فيه , ثم يفهم أن من الواجب عليه تجاه هذا التوفيق أن يحمل هذا الحق والخير إلي غيره ,
وقالوا يبشرونهم وينذرونهم :
( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ (32) ) – الأحقاف –
فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفودا وفودا ,
فهل يستوي هؤلاء وأولئك ؟
فانظر لنفسك من أي الفريقين أنت , والله يختار لك , ويوفقك إلي كل خير ,
(وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ العَالِمُونَ (43) ) – العنكبوت –
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
*ينابيع
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ) – الزمر-
أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال لعلهم يتذكرون , فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان, وذلك في قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس , بل هو بيان ووضوح وبرهان ,
وإنما جعله الله تعالى كذلك وأنزله بذلك لعلهم يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد ,
ومن الأمثلة التي ضربها الله لنا في هذا القرآن :
1- المخذولون :
ينكرون وجود الحق ابتداء , فإذا ما رأوه أمامهم واضحا جليا جحدوه ظلما وعلوا , ووقفوا أمامه وأمام أهله وحامليه ينأون عنه وينهون عنه ,
أ – كفار قريش وقد قال الله عنهم :
(وَإذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ) – الأنفال -
وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم , وهذا مما عيبوا به ,
وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لا تباعه ,
ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة ,
كقوله تعالى :
( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) ) – العنكبوت -
( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ (16) ) – ص -
وقوله :
( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي المَعَارِجِ (3) ) – المعارج -
وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له :
( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) ) – الشعراء -
وقال قتادة :
ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها وقوله تعالى « وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون »
ب – الملأ من قوم فرعون ومن قال الله عنهم :
( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إن كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ (40) ) – الشعراء -
واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم , وقال قائلهم : « لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إن كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ »
ولم يقولوا : نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى , بل الرعية على دين ملكهم ,
وماذا لوكان السحرة هم المغلوبين وموسي هو الغالب ؟
فهم في الأصل لم يأتوا للحق , وإنما جاءوا سندا للباطل الذي هم عليه , فإن غلب فرحوا واستبشروا ,وإن غُلِبَ لم يؤمنوا بالحق ,
فلما ظهر الحق وأن ما جاء به موسي ليس سحرا ,وإنما معجزة ليست من عمل البشر ,وشهد بذلك السحرة وهم أهل فن واختصاص , وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر , وكانوا اذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك , فآمنوا بالله رب العالمين .....
وهؤلاء المخذولين لم يؤمنوا مع وضوح الحق بهذه الصورة ,
2- الموفقون :
فإنهم يبحثون عن الحق , فإذا ما رأوه أتوا إليه مذعنين , وقاموا بواجبهم نحوه وتبليغه لمن خلفهم مهما كلفهم ذلك , فالحق هو غايتهم ومطلبهم .... والله هو الذي يسوقهم إليه حيث كان :
أ – السحرة وقد قال الله تعالي عنهم :
(فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَىْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ (51) ) – الشعراء –
هؤلاء السحرة قد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر ليبطلوا دعوة موسي عليه السلام ,
فلما رأوا عصا موسي تختطف وتجمع حبالهم وعصيهم من كل بقعة وتبتلعها فلم تدع منها شيئا , آمنوا بالله رب العالمين , وذلك أن الله قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر , وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا إن يكون الله قد أيده , وجعله حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه ,
فكان هذا أمرا عظيما جدا , وبرهانا قاطعا للعذر , وحجة دامغة , وذلك أن الذين استنصر بهم فرعون وطلب منهم أن يغلبوا غُلِبُوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة , وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق والمعجزة الباهرة ,
فغُلِبَ فرعون غلبا لم يُشَاهَد مثله , وكان وقحا جرئا عليه لعنة الله والملأئكة والناس أجمعين , فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل , فشرع يتهددهم ويتوعدهم ,
تهددهم فلم ينفع فيهم , وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما ,
وقال لهم : إنه كان ينبغي أن تسأذنوني فيما فعلتم ولا تفتاتوا على ذلك , فإن أذنت لكم فعلتم , وإن منعتكم امتنعتم فإني أنا الحاكم المطاع ,
ثم اتهمهم بالتعاون مع موسي :
وهذه مكابرة يعلم كل واحد بطلانها , فانهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم , فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل ,
ثم توعدهم :
بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا : « لا ضَيْرَ » أي لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به « إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ » أي المرجع إلى الله عز وجل وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا , ولا يخفى عليه ما فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ,
ولهذا قالوا :
« إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا » أي ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر « أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ » أي بسبب إنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان فقتلهم كلهم ,
ب – نفرا من الجن وقد قال الله تعالي عنهم :
( قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) ) – الجن –
فلما آمنوا به وعرفوا عظمته ,وذاقوا لذته ذهبوا إلي قومهم منذرين ومبشرين ,
فقال تعالي :
( وَإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) ) – الأحقاف –
وانظر إلي قوله :
( وَإذْ صَرَفْنَا ) , فأي توفيق أفضل من أن يصرف الله أحدا من خلقه ليستمع القرآن , فينصت إليه فيؤمن بما جاء فيه , ثم يفهم أن من الواجب عليه تجاه هذا التوفيق أن يحمل هذا الحق والخير إلي غيره ,
وقالوا يبشرونهم وينذرونهم :
( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ (32) ) – الأحقاف –
فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفودا وفودا ,
فهل يستوي هؤلاء وأولئك ؟
فانظر لنفسك من أي الفريقين أنت , والله يختار لك , ويوفقك إلي كل خير ,
(وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ العَالِمُونَ (43) ) – العنكبوت –
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
*ينابيع