ما بالنا نري كثيرا من الناس ينصرفون عن الحق رغم وضوحه وبيانه .. ؟
فقال له :
يا صاحبي ... إعلم رحمك الله أن انصراف الكثرة عن الحق رغم وضوحه وبيانه يكون لعدة أسباب منها :
- أن الحق كالذهب ثمين وثقيل , يحتاج جهدا وبذلا وتضحية بالنفس والمال والوقت والحياة , والكثير يجبن عن هذه التضحيات ,
- ومنها : الخوف من قوة الباطل وبأسه وبطشه وطغيانه بالمخالفين له , فيؤثر البعض السلامة عن التعرض للباطل وبطشه , طلبا للنجاة بنفسه وأهله وماله ,
- ومنها : ميل طبيعي في نفوس البعض إلي الباطل , والنفور من الحق مهما كان واضحا ,ومهما كان حامله ,
فهم يستفيدون من وجود الباطل , وينتفعون في جوار الظالم المستبد ,
ألا تري أن قوم فرعون حين دعاهم إلي يوم الزينة ليروا ما سيحدث بين سيدنا موسي والسحرة قالوا :
( لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إن كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ (40) ) – الشعراء -
وهذا إصرار منهم علي الباطل , إذ لو أرادوا الحق لقالوا : لعلنا نتبع الحق حين يظهر سواء كان مع موسي أومع السحرة ...
وكفار قريش حين قالوا :
(وَإذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ) – الأنفال -
وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم , وهذا مما عيبوا به ,
وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لا تباعه ,
- ومنها أخطاء قد يقع فيها حملة الحق والداعين إليه , وهم بشر يصيبون ويخطئون ,
وهذا عذر أقبح من ذنب .....
فليس من المنطق والعقل أن يتخذ البعض من أخطائهم سببا وتكأة للقعود والمكسلة والإنصراف عن الحق وعدم نصرته ...
كما أن أخطاءهم ليست مبررا لقتلهم وتدميرهم , والرضا بذلك وتأييده , وتأييد من يقوم بذلك ....
فقال له صاحبه :
هذا كلام يردده من يدَّعون أنهم علي الحق يضحكون به علي أتباعهم ليستمروا معهم ...
قال له :
هذا ليس كلاما عاديا ,وإنما هذا ما جاء به القرآن الكريم واضحا جليا .....
هل قرأت سورة الشعراء ... ؟
قال له صاحبه :
وما شأن سورة الشعراء بهذا الذي نتحدث عنه ... ؟
قال له :
أما إنك لو قرأتها لعرفت أن الله تحدث فيها عن قصص سبعة من الأنبياء مع أقوامهم :
ففيها قصة موسي مع فرعون ..... وإبراهيم مع قومه ..... ونوحا وقومه ..... وهودا وقومه ...... وصالحا وقومه ...... ولوطا وقومه ...... ثم شعيبا وقومه .....
قال له صاحبه : وما علاقة ذلك كله بما نحن فيه ؟
قال له :
لو قرأتها لوجدت أن الله تعالي ردد آيتين ثمان مرات فيها , في بداية السورة ,وعقب كل قصة يذكرها ,
هاتان الآيتان هما قوله تعالي :
(إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8) وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) ) – الشعراء -
فقال له صاحبه : وما معناهما ؟
قال له :
هذا معناهما في كتب التفسير المعتبرة :
"إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ "
أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء , ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه ,
وقوله "وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ":
"العَزِيزُ " أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه
« الرَّحِيمُ » أى بخلقه فلا يعجل على من عصاه , بل يؤجله وينظره ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر ,
قال أبو العالية وقتادة والربيع بنن أنس وابن اسحاق :
العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره ,
وقال سعيد بن جبير : الرحيم بمن تاب إليه وأناب
ولو قرأت خاتمة السورة لوجدت الله يقول :
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) ) – الشعراء -
قال شريح : سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل؛ فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة.
ومعنى " أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ " :
أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون؛ لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع.
والفرق بين المنقلب والمرجع :
أن المنقلب : الانتقال إلى ضد ما هو فيه،
والمرجع : العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها
فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا؛ والله أعلم؛
هل عرفت يا أخي ماذا يريد الله منا أن نفهمه من تكرار هاتين الآيتين ..... ؟
وهل عرفت لماذا ينصرف الكثير من الناس عن الحق ...... ؟
وهل عرفت عاقبة ذلك كله ...... ؟
فقال له صاحبه :
جزاك الله خيرا , فقد أزلت عن قلبي هما كبيرا , وذكرتني بما يجب أن ألتزمه في مثل هذه الظروف ... كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .....
قال له : عليك به .. تعاهده بالتلاوة والتدبر والعمل بما جاء فيه .....
ثم انصرفا كلُّ إلي حيث قصد من عمل .
*ينابيع تربويه