مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2015/03/25 22:08
” الربانية “


د / نبيل أحمد
عضو الإتحاد العالمى لعلماء المسلمين

أولاً : مدلول الربانية ومعناها :
الربانية نسبة إلي الرب ، وقد وردت هذه الكلمة في قوله تعالي :( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79) .
والرباني علي قول سيبويه منسوب إلي الرب علي معني التخصص بمعرفة الرب وبطاعته وعلي قول المبرد منسوب إلي التربية ، علي معني أن الربانية أرباب العلم ، فهم الذين يربون الناس ويعلمونهم ويصلحونهم ( انظر تفسير مفاتيح الغيب للرازى 8/122-123 ) .
وجاء في الظلال : ” كونوا ربانيين : منتسبين إلي الرب عباداً له وعبيداً ، توجهوا إليه وحده بالعبادة ، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم حتى تخلصوا له فتكونوا ربانيين …. ” ( الظلال 1/621 ) .
ثانياً : أنواع الربانية وصورها :
1- ربانية المصدر :
معناها:أن الشريعة – كالعقيدة – مصدرها خالق الكون سبحانه ، الذي يعلم ما ينفع وما يضر:( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية216) وليست ناشئة من تصور بشري ، أو إرادة فرد أو طبقة أو حزب : ( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل:6) .
الدليل عليها : كثير من النصوص القرآنية كقوله تعالي : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثـية:18) وقوله تعالي : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِن ْأَمْرِنَا)(الشورى: من الآية52) .
ومصادر الشريعة إما مصادر أصلية منشئة للأحكام كالقرآن الكريم ، أو مصادرها تبعية كالسنة التي تكشف عن حكم الله ، ولا تنشئة لقوله تعالي : ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )(المائدة: من الآية99) وكذلك الإجماع والقياس …. إلخ .
ولا يصح القول بأن من مصادر التشريع ما هو نقلي سماعي ، ومنها ما هو عقلي لأن العقلي هو ما استقل العقل بإيجاده ، وانفرد بإحداثه ، وليس من مصادر الشريعة ولا من أحكامها ما هو كذلك ، فليس للعقل مدخل في إيجاد شريعة بأمر أو نهي ، إذا كل مسألة لا دليل عليها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح لا تلزمنا وليست حجة علينا .
2- ربانية الغاية :
معناها : أن سائر التشريعات الإسلامية لها غاية واحدة تتجسد في مرضاة الله سبحانه ، وربط الناس به ، مهما تعددت مجالاتها ، وتنوعت صورها وأشكالها .
الدليل علي ربانية الغاية كثير من النصوص القرآنية التي تصرح بأن عبادة الله ، وابتغاء وجهه هي هدف كل جهد بشري فردي أو جماعي ، يقول سبحانه : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162) ، ويقول سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ)(البقرة: من الآية207) .
والمأمورات والمنهيات الواردة في القرآن الكريم ، لا يتصور الامتثال لما فيها إلا من غمر الإيمان قلبه ، وجعل من الفوز برضا خالقه غاية الغايات التي يعمل لها في جلوته وخلوته .
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الغاية باصطلاحات متعددة ، فتارة يطلق عليها ( سبيل الله ) كما في قوله تعالي : ( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )(النساء: من الآية76) وتارة يسميها ( ابتغاء وجه الله ) كقوله سبحانه : ( وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ)(البقرة: من الآية272) وقوله : ( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ )(الرعد: من الآية22) وتارة يسميها الإخلاص : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة: من الآية5) .
3- ربانية الوسيلة :
معناها : أن الوسائل التي يراد التوصل بها إلي رضا الله سبحانه ، يجب أن تكون وسائل يرضاها الله سبحانه ، ويقرها شرعه الحنيف ، فالغاية الشريفة لابد لها من وسيلة شريفة فما عند الله لا ينال بغير طاعته : ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(لأعراف: من الآية43) .
الدليل عليها : أن الله سبحانه رفض التحايل لعدم تطبيق الأحكام ، كما في قصة أصحاب السبت ، إذ سمي صيدهم فيه عدوانا ، فقال سبحانه : ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:163) .
ومن الأدلة أيضاً رفض البدعة ، مع أن صاحبها يريد بها التقرب إلي الله ، فقد جاء في الحديث المتفق عليه : ” من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ” .
ومن الأدلة أيضاً : رفض التصدق بالمال الحرام علي الفقراء والمساكين : ” إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ” ( رواه مسلم عن أبي هريرة ) .
ثالثاً : آثار الإيمان بالربانية :
الإيمان بربانية المصدر يعني أنه لا خيار للمسلم في قبول أحكام الإسلام لأنها من عند اللطيف الخبير ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) .
والإيمان بربانية الغاية يحرر الإنسان من عبودية غير الله ، فلا تستعبده أنانيته وشهواته ، ولا يستهويه مال أو منصب ، فقد جاء في الحديث : ” تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط لم يرض ” ( رواه البخاري ) .
والإيمان بربانية الوسيلة ، يحقق للمسلم الانضباط في حركته في الحياة ، فلا يقوم علي عمل حتى يتحقق من مشروعيته ، بل يجعله يفر من الشبهات لأنها تؤدي إلي الحرام ، كما جاء في الحديث : ” …. فمن أتقي الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمي يوشك أن يقع فيه ” .
والإيمان بالربانية عموماً يفجر في الفرد طاقات ثلاث :
طاقة الفعل – وطاقة التحدي – وطاقة الاستمرار
وهو ما ظهر في قصة سحرة فرعون ، فقد ولد إيمانهم بأن ما جاء به موسى مصدره الله سبحانه وتعالي وليس البشر – ولد طاقة الفعل فخروا ساجدين ، ثم لما تحداهم فرعون قبلوا التحدي ولم يتراجعوا ، ثم ثبتوا علي ما هم عليه واستمروا إلي أن نفذ فرعون تهديده ، لأنهم أيقنوا أن ما عند الله خير وأبقي فالربانية إذن تفجر هذه الطاقات الثلاث وتترك هذا الأثر الجليل .
وهذا الأثر هو الذي يجعل المؤمنين في زماننا هذا يثبتون علي الحق ، علي الرغم من العقبات والمحن الشديدة ، ويتحدون الباطل بكل غروره وصلفه ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء الصراط ،،
*منارات
أضافة تعليق