هنالك طريقتان للتعامل مع القرآن الكريم، تقوم إحداهما على التلاوة الاعتيادية لإنجاز ختمة أكثر، دون أن يكون لهذه التلاوة المسرعة مردود عقلي أو وجداني يذكر، وتقوم الأخرى على الوقوف بتأمّل إزاء أي آية أو مقطع، وإعمال العقل فيه، ومعايشته، والتحقق به، وذلك قد يكون الأجدى، رغم أن القراءة السريعة التي تهذّ على سطح القرآن هذا، تمنح الأجر الجزيل لأصحابها.
وكلنا جرب هاتين الطريقتين، ولكننا في الثانية كنا نستذوق، ونعيش، ونمارس الاكتشاف، ونسعى إلى التحقق به، فنحسّ بلحظات من السعادة ترفعنا إلى السماء، وتقدّم لنا من طعوم القرآن وفاكهته المدهشة ألواناً وألواناً، وطالما قلت لطلبتي في الدراسات العليا: حاولوا أن تجرّبوا بأنفسكم التعامل مع القرآن، ليس من أجل ختمة أكبر، وإنما من أجل اكتشاف شبكته المحكمة ومعجزته المدهشة في هذا الموضوع أو ذاك، فمرةّ يمكن أن تخصصوا قراءة القرآن كلّه لمتابعة ما يريد أن يقوله بخصوص قوانين الحركة التاريخية، والفقه الحضاري، وإذا استطعتم أن تنقلوا على دفاتركم الخاصة كل الآيات المتعلقة بالموضوع، ثم تعودون لتصنيفها وفق مفرداتها الأساسية، فإنكم ستجدون أنفسكم قبالة تفسير للتاريخ، ولقوانين حركته، ولمفاهيم الفقه الحضاري، أكثر إحكاماً، وأشد دقةً، وأعمق توازناً وارتباطاً من كل فلسفات التاريخ الوضعية المترعة بالمآخذ والثقوب والتي يطرد بعضها بعضها الآخر من الساحة ليحل محلّه، وتبقى المعطيات القرآنية بمثابة المعايير العادلة والثابتة التي يمكن أن نحيل إليها كل الفلسفات، ونقيسها بها لتبيّن مدى مصداقيتها، أو للكشف عن عوارها وثغراتها وثقوبها التي لا تعدّ ولا تحصى.
ذلك أننا في الحالة الثانية نتلقى قيماً وموازين تجيئنا من فوق، من الله سبحانه وتعالى ذي العلم المطلق، والذي لا يأسره - وحاشاه - زمن أو مكان، ولا يؤثر في أحكامه ميل أو مصلحة أو هوى، بينما في الحالة الأولى سنتعامل مع الأهواء والظنون والميول والانحرافات والأمزجة، مع مفكرين مأسورين في حيثيات الزمن، وحدود المكان، أي في مقولات التاريخ ومعطيات الجغرافية، فتجيء قيمهم ومعاييرهم مهزوزة، قلقة، نسبية، غير قابلة للاستمرار.
وطالما ذكَّرت طلبتي بالفارق الهائل بين رؤى الوضعيين القائلة بنهاية التاريخ، سواء على الطريقة الماركسية بتسلّم الطبقة البروليتارية حكم العالم، أو الطريقة الأمريكية الليبرالية التي قال بها «فرنسيس فوكوياما» والتي ترى الحالة الليبرالية بقيادة أمريكا هي قمة الحركة التاريخية، ومستقرها الأخير. ولقد سقطت النظرية الماركسية وتطبيقاتها الشيوعية، وخرجت من التاريخ، أما «فوكوياما» فقد وجد نفسه أمام ضغط الحقائق التاريخية يتراجع بعد سنوات قلائل عن إعلانه ذاك، ويغيّر في معادلاته، ويبدّل فيها من أجل جعلها أكثر انسجاماً مع مطالب الحركة التاريخية التي ترفض أسرها بنمطية واحدة.
أما في كتاب الله، فإنكم ستكتشفون قيماً ومعايير علمية صارمة لا تقبل نقضاً ولا جدلاً، من مثل مبدأ التداول: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140)، ومبدأ التغاير: { ولَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118"} (هود)، ومبدأ التدافع: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة:251)؛ بمعنى أن التاريخ لا يمكن أن يتوقف، وأن حركته ماضية إلى أهدافها حتى اليوم الأخير الذي يسبق القيامة.
في المادية الديالكتيكية يفسّر النشوء والتنامي الكوني بعيداً عن مقولات الدين والإيمان، حيث يتم التنكر للوجود الإلهي وفاعليته في الكون، ويفسّر التطور على أساس أن المتغيرات الكمية، تتحول إلى متغيرات نوعية... كيف؟ ليس ثمة تفسير لذلك على الإطلاق، وكما يقول الناقد الإنجليزي «ألكساندر غراي»: إننا لو جئنا بجذع شجرة وألقيناه في الغابة بانتظار أن يتحول، دون إرادة فوقية، إلى منضدة ذات قوائم أربع، ومجرات، وسطح أملس جاهز للكتابة، فإننا لن نعثر على المطلوب حتى لو انتظرنا ملايين السنين.. إنها بتعبير الرجل، نكتة سخيفة لا يمكن أن يقبلها عقل!
أما في المنظور القرآني، فإن الحركة الكونية تتشكل وتتنامى في إطار إيماني؛ حيث تصير إرادة الله سبحانه وتعالى هي الحكم الفصل في بدء الحركة وصيرورتها، والمصير الذي تؤول إليه في نهاية المطاف.
في هذا المنظور، تبدأ الحركة الكونية بكلمة الله: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ"30"} (الأنبياء)، ثم ما تلبث أن تعقبها حركة التوسّع: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ"47"} (الذاريات)، فنحن إزاء عملية اتساع تؤكده الدراسات الفيزيائية والكوزمولوجية، كما تؤكده معطيات «أينشتاين» عن «الكون المتسع» ومنحنياته الممتدة إلى مسافات لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.
وبإزاء الفرش الكوني، وبمرور الزمن، وعبر مديات متطاولة تبدأ عملية اللم المعاكسة التي تؤذن بنهاية الكون، وإعادته إلى وضعه السابق يوم تشكل أوّل مرة: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"104"} (الأنبياء).
والله سبحانه وتعالى حين يقسم بـ{ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ"16"} (التكوير)، إنما يتحدث بإعجازه المدهش عن جانب من عملية اللمّ أو الكنس، كما تؤكده أحدث الكشوف الكوزمولوجية.
وغير هذين الشاهدين هنالك العشرات من الشواهد القرآنية على المصداقية المطلقة لقوانين الحركتين المادية والاجتماعية، فقط لمن عرف كيف يفتح عينيه وقلبه جيداً وهو يقرأ في كتاب الله.
ــــــــــ
المصدر : مجلة المجتمع
وكلنا جرب هاتين الطريقتين، ولكننا في الثانية كنا نستذوق، ونعيش، ونمارس الاكتشاف، ونسعى إلى التحقق به، فنحسّ بلحظات من السعادة ترفعنا إلى السماء، وتقدّم لنا من طعوم القرآن وفاكهته المدهشة ألواناً وألواناً، وطالما قلت لطلبتي في الدراسات العليا: حاولوا أن تجرّبوا بأنفسكم التعامل مع القرآن، ليس من أجل ختمة أكبر، وإنما من أجل اكتشاف شبكته المحكمة ومعجزته المدهشة في هذا الموضوع أو ذاك، فمرةّ يمكن أن تخصصوا قراءة القرآن كلّه لمتابعة ما يريد أن يقوله بخصوص قوانين الحركة التاريخية، والفقه الحضاري، وإذا استطعتم أن تنقلوا على دفاتركم الخاصة كل الآيات المتعلقة بالموضوع، ثم تعودون لتصنيفها وفق مفرداتها الأساسية، فإنكم ستجدون أنفسكم قبالة تفسير للتاريخ، ولقوانين حركته، ولمفاهيم الفقه الحضاري، أكثر إحكاماً، وأشد دقةً، وأعمق توازناً وارتباطاً من كل فلسفات التاريخ الوضعية المترعة بالمآخذ والثقوب والتي يطرد بعضها بعضها الآخر من الساحة ليحل محلّه، وتبقى المعطيات القرآنية بمثابة المعايير العادلة والثابتة التي يمكن أن نحيل إليها كل الفلسفات، ونقيسها بها لتبيّن مدى مصداقيتها، أو للكشف عن عوارها وثغراتها وثقوبها التي لا تعدّ ولا تحصى.
ذلك أننا في الحالة الثانية نتلقى قيماً وموازين تجيئنا من فوق، من الله سبحانه وتعالى ذي العلم المطلق، والذي لا يأسره - وحاشاه - زمن أو مكان، ولا يؤثر في أحكامه ميل أو مصلحة أو هوى، بينما في الحالة الأولى سنتعامل مع الأهواء والظنون والميول والانحرافات والأمزجة، مع مفكرين مأسورين في حيثيات الزمن، وحدود المكان، أي في مقولات التاريخ ومعطيات الجغرافية، فتجيء قيمهم ومعاييرهم مهزوزة، قلقة، نسبية، غير قابلة للاستمرار.
وطالما ذكَّرت طلبتي بالفارق الهائل بين رؤى الوضعيين القائلة بنهاية التاريخ، سواء على الطريقة الماركسية بتسلّم الطبقة البروليتارية حكم العالم، أو الطريقة الأمريكية الليبرالية التي قال بها «فرنسيس فوكوياما» والتي ترى الحالة الليبرالية بقيادة أمريكا هي قمة الحركة التاريخية، ومستقرها الأخير. ولقد سقطت النظرية الماركسية وتطبيقاتها الشيوعية، وخرجت من التاريخ، أما «فوكوياما» فقد وجد نفسه أمام ضغط الحقائق التاريخية يتراجع بعد سنوات قلائل عن إعلانه ذاك، ويغيّر في معادلاته، ويبدّل فيها من أجل جعلها أكثر انسجاماً مع مطالب الحركة التاريخية التي ترفض أسرها بنمطية واحدة.
أما في كتاب الله، فإنكم ستكتشفون قيماً ومعايير علمية صارمة لا تقبل نقضاً ولا جدلاً، من مثل مبدأ التداول: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140)، ومبدأ التغاير: { ولَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118"} (هود)، ومبدأ التدافع: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة:251)؛ بمعنى أن التاريخ لا يمكن أن يتوقف، وأن حركته ماضية إلى أهدافها حتى اليوم الأخير الذي يسبق القيامة.
في المادية الديالكتيكية يفسّر النشوء والتنامي الكوني بعيداً عن مقولات الدين والإيمان، حيث يتم التنكر للوجود الإلهي وفاعليته في الكون، ويفسّر التطور على أساس أن المتغيرات الكمية، تتحول إلى متغيرات نوعية... كيف؟ ليس ثمة تفسير لذلك على الإطلاق، وكما يقول الناقد الإنجليزي «ألكساندر غراي»: إننا لو جئنا بجذع شجرة وألقيناه في الغابة بانتظار أن يتحول، دون إرادة فوقية، إلى منضدة ذات قوائم أربع، ومجرات، وسطح أملس جاهز للكتابة، فإننا لن نعثر على المطلوب حتى لو انتظرنا ملايين السنين.. إنها بتعبير الرجل، نكتة سخيفة لا يمكن أن يقبلها عقل!
أما في المنظور القرآني، فإن الحركة الكونية تتشكل وتتنامى في إطار إيماني؛ حيث تصير إرادة الله سبحانه وتعالى هي الحكم الفصل في بدء الحركة وصيرورتها، والمصير الذي تؤول إليه في نهاية المطاف.
في هذا المنظور، تبدأ الحركة الكونية بكلمة الله: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ"30"} (الأنبياء)، ثم ما تلبث أن تعقبها حركة التوسّع: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ"47"} (الذاريات)، فنحن إزاء عملية اتساع تؤكده الدراسات الفيزيائية والكوزمولوجية، كما تؤكده معطيات «أينشتاين» عن «الكون المتسع» ومنحنياته الممتدة إلى مسافات لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.
وبإزاء الفرش الكوني، وبمرور الزمن، وعبر مديات متطاولة تبدأ عملية اللم المعاكسة التي تؤذن بنهاية الكون، وإعادته إلى وضعه السابق يوم تشكل أوّل مرة: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"104"} (الأنبياء).
والله سبحانه وتعالى حين يقسم بـ{ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ"16"} (التكوير)، إنما يتحدث بإعجازه المدهش عن جانب من عملية اللمّ أو الكنس، كما تؤكده أحدث الكشوف الكوزمولوجية.
وغير هذين الشاهدين هنالك العشرات من الشواهد القرآنية على المصداقية المطلقة لقوانين الحركتين المادية والاجتماعية، فقط لمن عرف كيف يفتح عينيه وقلبه جيداً وهو يقرأ في كتاب الله.
ــــــــــ
المصدر : مجلة المجتمع