مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الانبعاث الحضاري الإسلامي ومستقبل العالم
إن الانبعاث الحضاري المرجو للأمة يقودنا بالضرورة إلى قضية مستقبل العالم، والمشاركات الإسلامية المحتملة في المصير.
لا ريب في أن انعكاس المبادئ والقيم الإسلامية على مساحات واسعة من النشاط الحضاري عبر التاريخ، منحه خصائصه النوعية المتميزة التي يمكن أن تمثل ليس مسوّغ استمراره في العالم فحسب، بل قدرته على اقتحام وإغناء شبكة النشاط المعرفي للحضارة الراهنة، والقدرة الفعالة على الإسهام المستقبلي فيه.
وإذا كان هدف العقيدة تكوين الإنسان المؤمن المتبصر المتوازن السعيد، فإن النشاط الحضاري المنضبط بالرؤية الإيمانية يجيء إعانة على تحقيق هذا الهدف. ونحن نستطيع أن نتصور القيمة الحقيقية لنشاط كهذا بمجرد أن نتذكر ما الذي فعلته الحضارات اللادينية بالإنسان والجماعة البشرية.
ليس هذا مجال الحديث عن هذه المسألة وإنما التأشير عليها فحسب، فإن ما يعانيه الإنسان في البيئات التي رفضت الإيمان، أو عزلته عن مجرى الحياة الواقعة، من تعاسة وازدواج وتمزق وشقاء نفسي وروحي وعاطفي واجتماعي، على الرغم من ارتفاع منحنيات الإنجاز المادي، أمر ملحوظ ينطق به واقع الحال هناك، وتؤكده شهادات المفكرين وإعلامهم، الذي يمكن للمرء أن يلتقي به صباح مساء في عصر التواصل السريع.
ثم إن هذا النشاط المنشق عن مطالب الإيمان اندفع باتجاه إغراءات القوة والتسلط ونداء الأنانيات العرقية والدولية والمذهبية، ومضى أبعد من هذا باتجاه كل ما هو لا أخلاقي في السلوك البشري لكي يحوّل المنجزات والكشوف المعرفية إلى سلاح يُشهر بوجه الإنسان وليس لصالح الإنسان.
إن إنتاج القنابل الذرية والهيدروجينية والنيوترونية والأسلحة الجرثومية .. الخ واستعمالها في اللحظات الصعبة ـ كما حدث في هيروشيما وناغازاكي ـ ليؤشر بشكل واضح على الكارثة التي يمكن أن يُساق إليها الإنسان والبشرية إذا أُتيح للمعرفة أن تظل على جموحها، على خروجها عن مطالب الإيمان العليا، على عدم انضباطها بالقيم والموازين الإلهية العادلة التي تجعل القوة والحكمة ـ دوماً ـ في كفتي ميزان.
هذا إلى أن المعرفة المؤمنة، على خلاف المعرفة اللادينية أو الملحدة، تسعى لأن تمنح أكلها للناس كافة، لا تحكمها أنانية الحفاظ على السر، وحجب الاكتشاف ـ بدافع براغماتي ـ عن الآخرين. إن الإنسان، مطلق إنسان، هو المستفيد في نهاية الأمر من المعرفة المؤمنة، وبالمقابل فإن عشرات من الأمم والشعوب لم تحرم بالمعرفة اللادينية من حقها المشروع في الإفادة من ثمار هذه المعرفة فحسب، وإنما وُجّهت نتائجها وكشوفها إلى أسلحة فتاكة لتدمير هذه الجماعات واستعبادها والهيمنة على مقدراتها.
إن الدلالة المعاصرة والمستقبلية لمغزى الحضارة الإسلامية، كما تحققت في التاريخ، تتكشف أكثر فأكثر بالمضي في متابعة الخصائص التي أشرنا عليها في مقالين سابقين، والتي تُعدّ بوضعها في حالة تقابل مع خصائص الحضارات الأخرى، والغربية الراهنة منها على وجه الخصوص، إضافة، أو بعبارة أدق، تعديلاً ضرورياً لمسير هذه الحضارة؛ لأنها قديرة على تقديم البدائل المناسبة لحالات الخطأ والجنوح التي تعاني منها.
إن الخصوصية الإيمانية للحضارة الإسلامية ـ مثلاً ـ تقف بمواجهة التوجه المادي المتزايد للحضارات الأخرى، والتزامها يلجم تفلّتها الآخذ بالاتساع من منظومة القيم الخلقية، وواقعيتها تحد من شطط تنظيراتها الفكرية باتجاه طوباويات الحلم والخيال، وأصالتها تمنح المسار البشري طعماً جديداً متميزاً،وشموليتها، وقدرتها على موازنة الثنائيات ولمّها،
توقف اندفاع المعارف والثقافات الأخرى، وميلها إلى هذا الجانب أو ذاك على حساب الجوانب الأخرى التي قد لا تقل أهمية وإلحاحاً .. وإنسانيتها تتجاوز بها حواجز العرق واللون والجغرافيا والمذهب.. وميزتها التحريرية ستنقذ الإنسان في نهاية الأمر من كافة الضغوط والصنميّات التي أذلت عنقه وهبطت به درجات عن مستوى بشريته كمخلوق متفرد في هذا العالم وسيد على مخلوقاته وموجوداته.
وهكذا، ومن أجل توخي الإيجاز يمكن إحالة القارئ إلى منظومة الخصائص التي أشرنا عليها في مقالين سابقين لكي يتولى بنفسه مهمة المقارنة بين النمط الإسلامي والأنماط الأخرى للنشاط الحضاري؛ لكي يصل إلى ما تتضمنه نتائج المقارنة من مغزى يؤكد قيمة الدلالة المعاصرة والمستقبلية للحضارة الإسلامية في شبكة النشاط الحضاري للبشرية جميعاً.
والباحثون الغربيون أنفسهم انتبهوا إلى هذا، وقدموا شهاداتهم بهذا الخصوص، والتي تجيء كاعتراف حر مدعم بالقناعات العقلية، وموثّق بالرؤية المقارنة لما تتضمنه حضارة الإسلام من قيم وخصائص متميزة، وفعّالة، يمكن أن تمارس دورها في صياغة حاضر الإنسان ومستقبله.
إن هذا الدين، كما يقول (بوازار)، رجل القانون الفرنسي المعاصر: ’’يعود إلى الظهور في العالم المعاصر بوصفه أحد الحلول للمشكلات التي يطرحها مصير الإنسان والمجتمع’’(1)، ولطالما أعرب عن اقتناعه ’’بأن في وسع العالم الإسلامي ـ من بين عوالم أخرى ـ أن يقدم مشاركة أساسية في تكوين المجتمع الدولي المرتقب’’(2) وأنه ’’يبدو أحد العوامل الممكنة الهامة في الإنسانية العالمية الحديثة .. وهو مستمر في البحث عن الأشكال الكفيلة بالتعبير بصورة ملائمة عن تطلعاته’’(3). والمسلمون، كما يؤكد الرجل ’’لا يشكون على الإطلاق في أن التعاليم المنزلة والقيم المتراكمة عبر العصور كفيلة بتقديم حل لمعضلات العالم المعاصر’’(4).
ولم يفت (بوازار) أن يشير إلى أن التقدم العلمي المادي لا يكفي وحده ما لم تضبطه القيم الخلقية، فتوجهه بالتالي لصالح الإنسان. ومن خلال هذه الرؤية الأخلاقية للنشاط المعرفي المادي يمكن للإسلام ’’أن يؤدي دوراً حقيقياً في تنظيم العالم المعاصر’’ عندما يتقدم إليه ’’بمفهومه السامي للقيم الخلقية’’(5).
وأهمية المشاركة الإسلامية تبدو أيضاً في نظر (بوازار) في التوازن الذي يمنحه
الإسلام، بما أنه تعبير عن روح ديني، لمسيرة المجتمع البشري، بين التقدم المادي (التقني) وبين المطامح الروحية والإنسانية عامة .. لا سيما وأن ’’الانخراط في المجتمع التكنولوجي، والمواجهة بين الإسلام والثورة التقنية لا تدفع المسلم إلى إنكار موقفه الديني بل إلى تعميقه
أمام العالم وأمام الله، متوجباً عليه .. محاولة إدراك الإمكانيات بشكل أفضل في إطار إسلامي شامل..’’(6).
إن (بوازار) يضع يده ها هنا على واحدة من أهم خصائص المنظور الإسلامي للنشاط الحضاري.. إنها معادلة التوازن الملح والمطلوب بين الديني والدنيوي، بين السماء والأرض، وبين الروح والجسد، فليس ثمة إيمان متحقق في واقع الحياة إن لم يعبر عن نفسه في إطار نشاط تتداخل فيه وتتوحد وتتناغم كافة الثنائيات. والمواجهة بين الإسلام والثورة التقنية بالتالي، ليست مواجهة أضداد متقابلة بل هي مقاربة واحتواء وتوظيف للقدرات والإمكانات التقنية من أجل تكوين حياة إسلامية أكثر أصالة وتقدماً. إن القناعة الدينية كما يستنتج (بوازار) ’’تفرض نفسها حكماً مطلقاً على كل المستويات، ولا يمكن بدونها، أو بالحري على النقيض منها، مواجهة أي تغيير اجتماعي ولا أي تجديد مادي’’(7).
وهذا الارتباط المحتوم بين الدين والتكنولوجيا في المنظور الإسلامي لا يعني البتة أن الحضارة الإسلامية ستقود ’’تطورها داخل أنبيق’’ ، وبمعزل عن العالم، بل على العكس تماماً، فإن هذه الحضارة ’’ المتسامحة والمنفتحة بشكل طبيعي .. تتطلع إلى العمل بصفة شريك فعّال في الحياة الدولية ..’’(8) ويكفي أن نتذكر الجنوح المادي الذي تعانيه حضارة الغرب، يكفي أن نفكر في احتمالاته المنذرة بالخطر، المتوعدة لأماني الإنسانية، وللإنسان ذاته، لكي نعرف أن دخول الإسلام إلى الساحة وإعادته الأمر إلى نصابه بتحقيق التوازن المطلوب، ليس مجرد مشاركة فعّالة، وإنما هو عملية إنقاذ للوضع البشري المنحرف عن الصراط.
وإذ يؤكد (بوازار) ما يقدمه القرآن الكريم في هذا السياق من ’’ثقة مطمئنة وحافز قوي في وقت معاً’’ فإنه يحذر من ’’أن إسلام المستقبل ودوره في العلاقات الدولية’’ لا تجيء به الأماني والأحلام وإنما هو ’’رهن بما يصنعه المسلمون أنفسهم’’(9).
وما قاله (بوازار) عن احتمالات الدور التوازني للحضارة الإسلامية في مستقبل العالم، وما يمكن أن تفعله القاعدة الدينية لهذه الحضارة والتزاماتها القيمية في ضبط وتوجيه النشاط المعرفي لصالح الإنسان، يمكن أن نلحظه ـ كذلك ـ لدى ليوبولد فايس (محمد أسد) وبمزيد من التفاصيل والمقارنات؛ فهو يشير إلى أننا ’’قد نكون، نحن المحدثين، بحاجة إلى تلك الرسالة بأكثر مما احتاج إليها الناس في أيام محمد. إنهم كانوا يعيشون في بيئة أبسط كثيراً من بيئتنا نحن، وكانت مشاكلهم ومصاعبهم أسهل حلاً وأيسر إلى حد كبير. لقد كان العالم الذي كنت أعيش أنا فيه ـ كل ذلك العالمـ يترنح بسبب من فقدان أي اتفاق على ما هو خير وما هو شر روحياً، وبالتالي اجتماعياً واقتصادياً أيضاً. إنني لم أكن أؤمن بأن الإنسان الفرد كان بحاجة إلى (الخلاص)، ولكنني كنت أؤمن فعلاً بأن المجتمع الحديث كان بحاجة إلى الخلاص. لقد شعرت أكثر من أي وقت مضى، بأن عصرنا هذا كان بحاجة إلى أساس أيديولوجي لمستوى اجتماعي جديد: بحاجة إلى إيمان يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، ومع ذلك يعطي الحياة الدنيا حقها. إيمان يبين لنا كيف نقيم توازناً بين حاجاتنا الروحية والجسدية، وبذلك ينقذنا من الهلاك الذي نندفع إليه برعونة وتهور’’(10).
إن القضية بإيجاز هي أن يكون للحياة البشرية معنى أكبر وأعمق من مجرد التكاثر
بالأشياء، وأن على المسلمين إذا أرادوا ـ بحق ـ أن يقوموا بدور في المستقبل، ألاّ يسمحوا للأشياء بأن تجرهم بعيداً عن جذورهم الروحية وقيمهم الأخلاقية التي منحهم الإسلام إياها ’’فلو أنهم احتفظوا برباطة جأشهم وارتضوا الرقي وسيلة لا غاية في ذاتها، إذن لما استطاعوا أن يحتفظوا بحريتهم الباطنية فحسب، بل ربما استطاعوا أيضاً أن يعطوا إنسان الغرب سرّ طلاوة الحياة الضائع’’(11).
لقد اندفعت الحضارة الغربية بعين واحدة، وبمرور الوقت أخذت تفقد قدرتها على إبصار كل ما هو روحي وأخلاقي، وبما أن هاتين القيمتين ترتبطان بالوجود البشري ارتباطاً صميماً وتميزانه عن بقية الخلائق والموجودات، فإن التقدم المادي الذي يمضي بعيداً عنهما لن يخدم الإنسان في نهاية الأمر، ولن يأمن من عواقب الاندفاع الذي لا تضبطه قيم ولا توجهه معايير ولسوف تكون النتائج في المستقبل أشد خطراً لأن التراكم المادي يتزايد بحسابات مذهلة لمتوالية هندسية ويبعد أكثر فأكثر عن أي كابح أخلاقي أو استبصار روحي لمغزى الحركة ومعناها الأخير. من ثم فإن أحداً لا يمكن أن يتهم مفكرا كـ (جورج سارتون)، غرق في دراسة تاريخ العلوم حتى شحمة أذنيه بالمبالغة وهو يحكم على ’’التقدم المادي الخالص’’ بأنه أمر ’’مدمر’’ وأنه ’’ليس تقدماً على الإطلاق بل تأخر أساسي’’ ذلك ’’أن التقدم الصحيح ـ ومعناه تحسين صحيح لأحوال الحياة ـ لا يمكن أن يُبنى على وثنية الآلات ولا على العتلات، ولكن يجب أن يقوم على الدين وعلى الفن، وفوق ذلك كله على العلم، على العلم الخالص، على محبة الله، على محبة الحقيقة، وعلى حب الجمال وحب العدل. وهذا يبدو لنا جلياً حينما نلقي نظرة واحدة إلى الوراء .. إن ما نراه واضحاً هناك يجب أن يكون واضحاً أيضاً حينما نمد نظرنا إلى الأمام فيهدي خطانا إلى المستقبل’’(12).
والمدنية، كما يؤكد ( سارتون) ’’ليست مرضاً، ولكن من الممكن أن تنقلب شراً وفساداً’’(13) وذلك بمجرد أن تفقد بطانتها الروحية وتتنازل عن ضوابطها الأخلاقية، فتغدو مجرد محاولة للتكاثر المحض لا هدف لها ولا مغزى. ثم إن المدنية ليست حكراً على بيئة دون أخرى، إنها بتعبير (سارتون) ’’ليست شرقية ولا غربية، وليس مكانها في واشنطن أكثر مما هو في بغداد، إنها يمكن أن تكون في كل مكان يكون فيه رجال صالحون ونساء صالحات يفهمونها، ويعرفون كيف يستفيدون منها من غير أن يسيئوا استعمالها. والشرق الأوسط كان مهد الثقافة، ومنه جاءت أسباب إنقاذ العالم في أثناء العصور الوسطى حينما بدأ الستار الحديدي في أوروبا يشطر العالم شطرين: الأرثوذكسي والكاثوليكي. وها نحن اليوم ننظر إلى ماضي الشرق الأوسط بعين من عرفان الجميل، ثم نرنو إلى مستقبله بعين من الأمل الحلو’’(14) وليس ذلك بالأمر المستحيل كما قد يخيل للبعض فإن ’’شعوب الشرق الأوسط قد سبق لها أن قادت العالم في حقبتين طويلتين.. وليس ثمة ما يمنع تلك الشعوب من أن تقود العالم ثانية في المستقبل القريب أو البعيد’’(15).
ولن تكون ممارسة الدور من خلال قدرات يتفوق فيها الغير بطبيعة الحال، إنما بالتحقق بشيء كبير لا يملكه (الآخر) أو يعرف عنه شيئاً، فإن الحضارة المادية لن تجعل الغرب يخلي الزمام لمن هم أقل شأناً في ميادينها كافة، ولكنها العقيدة التي تحتوي النشاط الحضاري وتمنح المسيرة البشرية المغزى والهدف .. تعيد إلى الغربيين أنفسهم ما فقدوه: ’’سر طلاوة الحياة الضائع’’ إذا استعملنا عبارة (ليوبولد فايس).
وتؤكد (جميلة قرار)، النمساوية التي اعتنقت الإسلام أن هذا الدين ’’هو في الحقيقة حركي’’ وأنه يستطيع ’’بفضل جهود المسلمين أن يشكل قوة ثورية تحرر الإنسان من العبودية للقوة، وخاصة القوة المدمرة المهلكة، وأن تقوده إلى التقدم البنّاء، وتمكّنه من تطوير قدراته وإمكاناته الإيجابية المختلفة’’(16). وهي تدعو ’’المسلمين المستنيرين’’ إلى أن يبينوا لغير المسلمين ’’أولئك الذين يبحثون عن غايات جديدة وقيم لحياتهم، إن الإسلام هو نقطة البدء الجديدة أمام الإنسانية جمعاء’’(17). وهذا لا يعني بالتأكيد أيما قدر من التنازل عن المكتسبات المادية، والمدنية عموماً، ذلك ’’أن الإسلام بصفته ديناً عالمياً وعقيدة كونية يعتبر مناسباً لكافة مراحل تطور الحياة الإنسانية في المستقبل. فهو ينسجم مع منجزات الإنسان الحديثة في كافة مجالات النشاط الإنساني’’(18).
ويشير (كويلر يونغ) إلى الإسهام الفعال للثقافة الإسلامية ’’في الحضارة العالمية المعاصرة .. فليس من المعقول لثقافة حية كثقافة الإسلام.. ألاّ يكون لها تأثير بالفعل أو بالقوة ’’(19) في معطيات المعرفة الراهنة وتشكلها في المستقبل. هذه المشاركة التي يؤكدها (در منغم) بصيغة تحقيق للتواصل بين الغرب والشرق، وإرفاد لعالم المستقبل ’’بادخار العالم القديم’’(20) ، ويراها (اتيين دينيه) تبشر ’’بمستقبل حافل بأعظم الآمال وأعلاها شأناً’’ وبإسهام حضاري فعّال، وبتكشف متزايد لنا الإسلام الحقيقي ..(21)
أما المؤرخ البريطاني المعاصر (مونتغمري وات) فيؤمل بأن المسلمين سوف ينجحون، على الرغم من المصاعب ’’في جهدهم للتأثير على الرأي العام العالمي، على الأقل فيما يتعلق بالمبادئ الأخلاقية. وربما أمكنهم في ميدان الأفكار الدينية الأوسع أن يساعدوا على إغناء العالم؛ لأنهم احتفظوا بقوة كبرى في التعبير عن بعض الأفكار كحقيقة الله (سبحانه)، تلك الأفكار التي أُهملت ونُسيت في كثير من الطوائف والأديان الأخرى الموحدة ’’(22).
ونصل في نهاية المطاف إلى (غارودي)، فإن كتابه (وعود الإسلام) يُعدّ بملاحظات خصبة عن المشاركة العالمية للحضارة التي شكلها هذا الدين. إن عنوان الكتاب يحمل بعداً مستقبلياً، وبالتالي فإن مادته القيمة ستصب هناك لكي ترسم للإنسان المعاصر، الحائر،
الممزق، ما يمكن أن تقدمه له الخبرة الإسلامية.
تتحرك ملاحظات (غارودي) حول المشاركة الإسلامية على عدد من المحاور أهمها، ولا ريب: توازن الإسلام ووسطيته، قيمه الأخلاقية، ثم رؤيته الشمولية وقدرته الفذة على منح المغزى لمسيرة الحياة البشرية في هذا العالم.. ’’إن الإسلام يجد من جديد فرصة تاريخية لإظهار أن عقيدته وقصدياته هي إجابة على قلق عالم قاده النموذج الغربي للنمو إلى التفكك الاقتصادي والسياسي والأخلاقي، كما في أيام نشوئه ثم زمن انتشاره، إن الإسلام قدم جواباً على تفتت الإمبراطوريات’’(23).
هناك البطانة أو القاعدة الأخلاقية ما يتيح للحضارة الإسلامية مشاركة أشد فعالية في مستقبل العالم الذي أفلتت من بين يديه مؤشرات وضوابط القيم، فاندفع، بما يشبه الجنون، مشدوداً إلى هدف واحد: المزيد من التكاثر بالأشياء، والمزيد من القوة، بغض النظر عن أي قدر من التساوق أو الانسجام بين هذين الهدفين وبين التزامات القيم الخلقية من أجل صالح الإنسان. إن هذه المشاركة الأخلاقية كما يلحظ (غارودي) ضرورية جداً لوقف الاندفاع المجنون وتجنيب البشرية ’’الهلاك المحتوم’’ الذي يسوق إليه ’’الضلال الغربي’’(24).
ونحن نعرف جميعاً، انطلاقاً من هذه الرؤية، ما الذي فعله ويمكن أن يفعله العِلم الغربي المنفصل عن ضوابط القيم وذلك بتعبده للتكاثر والقوة، وما الذي فعله، ويمكن أن يفعله العلم الإسلامي المنضبط بالأخلاق وبالغايات الدينية في نهاية الأمر’’ لم نشدد على الوجوه التي لعب بها العلم الإسلامي باكتشافاته دور (الرائد) للعلم الغربي الحالي، وإنما على صفاته الخاصة في تبعيته وخضوعه للوسائل الإنسانية ذات الغايات الإلهية. في هذا المنظور، على القرن العشرين، والقرن الحادي والعشرين، أن يتعلما كثيراً من الإسلام ’’(25).
أيضا فإن الحضارة الإسلامية بتقديمها فكرة التسامي (الأخلاقي) للإنسان كواحدة من
أهم مرتكزات الإسلام العقدية، التسامي الذي يكون المؤمن فيه في حالة صيرورة متواصلة
نحو الأحسن والأعلى.. هذه الفكرة لهي واحدة من أهم ما يمكن أن يقدمه المسلمون ’’لخلق مستقبل إنساني في عالم جعل استبعاد السمو منه، وسيطرة نموذج جنوني من النمو.. لا يمكن أن يُعاش’’(26).
أما الرؤية الشمولية للحضارة الإسلامية، والمغزى الذي تضفيه على الحياة البشرية، فتكاد تكون أهم إسهاماتها المقبلة، إذا ما تذكرنا كيف يتزايد الإحساس العالمي بالعبث واللا جدوى وكيف تفقد الحياة البشرية يوماً بعد يوم طعمها ومعناها، وكيف يتحوّل السعي المعرفي إلى نشاط تجريدي منفصل عن الإنسان، نقيض ـ أحياناً ـ لمطالبه ومطامحه.. وكيف تتفكك الوشائج بين أقطاب الكون وموجوداته، فيعيش الإنسان في عزلة مخيفة قد يكفي لتذكر مراراتها وأحزانها أن نلقي مجرد نظرة سريعة على آداب العصر وفنونه وفلسفاته ’’لقد فقد الإنسان الغربي كل وحدة في علاقاته مع الطبيعة والمجتمع والله. انفصل عن الطبيعة التي اعتقد أنه سيدها ومالكها.. ولم تساعد المسيحية الإنسان مع حذرها الأول بإزاء الطبيعة ومع تراجعاتها المتتالية، منذ عصر النهضة، أمام (علموية) تدعي الإجابة على جميع مشاكل الحياة، على الحفاظ على هذا البعد الكون ، على هذا الاتحاد الحميم لجميع الكائنات .. والإسلام عندما لا يكون قد أفسدته الرؤية الغربية المباشرة التي فرضها عليه الاستعمار، يستطيع أن يساعدنا على أن نعي هذه الوحدة التي هي عقيدته المركزية الأولى’’(27).
وبإيجاز شديد فإن ’’عقيدة الإسلام وقصدياته’’ لهي الإجابة على قلق العالم الحديث الذي يصنعه ويقوده النموذج الغربي(28)، هذا النموذج الذي إن كان له أن يتباهى بما صنعته يداه فليس
له أن يشير إلاّ إلى العلم والتقنية اللتين بلغ بهماـ والحق يُقال ـ مرتقى صعباً.. ولكن حتى ها هنا، حيث لا يمكن للعلم أو التقنية أن تنفردا بمصير الإنسان بعيداً عن ارتباطاتها بفكرة ما، بفلسفة أو عقيدة تؤطر حركتهما، وتربطها بالإنسان نفسه، وتمنحها المعنى والهدف والمغزى،
حتى ها هنا فإن الإسلام وحده يمكن أن يمنحنا الجواب.. إن غارودي يتساءل: ’’ماذا يستطيع الإسلام أن يقدم لنا ليعدنا للإجابة على المسؤوليات التي تفرضها قدرة العلم والتقنية على جميع البشر اليوم؟’’ وما يلبث أن يجيب: ’’إن المشكلة كونية، ولا يمكن للجواب إلاّ أن يكون على المستوى الكوني’’(29).
إنها إذن ’’قضية مستقبلنا، قضية مستقبل جميع البشر’’ ومن ثم فإن (وعود الإسلام) ليس كتاباً في التاريخ، كما يؤكد صاحبه ’’لكنه اقتراب جديد من الإسلام، ومن وراء الإسلام كقوة حية ليس فحسب في ماضيه، وإنما في كل ما يستطيع أن يسهم به في ابتكار المستقبل’’(30).
حقا إن (الإسلام) والحضارة التي تعبر عنه بالضرورة، ليحملان ’’بذور تغيير جذري على مستوى الإنسانية ’’(31).






--------------------------------------------------------------------------------

(1) إنسانية الإسلام، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الآداب، بيروت ـ 1980 م، ص 431.
(2) المرجع نفسه، ص 439.
(3) المرجع نفسه، ص 387.
(4) المرجع نفسه، ص 330 ـ 331.
(5) المرجع نفسه، ص 369.
(6) المرجع نفسه، ص 387 ـ 388.
(7) المرجع نفسه، ص 388.
(8) المرجع نفسه، ص 388.
(9) المرجع نفسه، ص 389.
(10) المرجع نفسه، ص 323 ـ 324.
(11) المرجع نفسه، ص 376.
(12) الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، تعريب د. عمر فروخ، مكتبة المعارف، بيروت ـ 1952 م، ص 72 ـ 73.
(13) المرجع نفسه، ص 74.
(14) المرجع نفسه، ص 74 ـ 75.
(15) المرجع نفسه، ص 79.
(16) عرفات كامل العشي، رجال ونساء أسلموا، دار القلم، الكويت ـ 1973 ـ 1983 م، الطبعة الثالثة، 4/ 108 ـ 109.
(17) المرجع نفسه، 4/ 109.
(18) المرجع نفسه، 4/ 108.
(19) الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، تأليف جماعة من الباحثين، جمع وتقديم محمد خلف الله ، القاهرة ـ 1962 م، الطبعة الثانية، ص 255.
(20) حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب، القاهرة ـ 1949 م، الطبعة الثانية، ص 371 ـ 372.
(21) محمد رسول الله، بالاشتراك مع سليمان الجزائري، ترجمة د. عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم محمود، الشركة العربية ، القاهرة ـ 1959 م، الطبعة الثالثة، ص 345 ـ 346.
(22) محمد في المدينة، تعريب شعبان بركات، المكتبة العربية، صيدا ـ بيروت ـ بدون تاريخ، ص 509.
(23) وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، الوطن العربي، القاهرة ـ بيروت ـ 1984 م، ص 208 ـ 209.
(24) د. محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، سلسلة كتاب الأمة، الدوحة ـ 1404 هـ ، ص 144 ـ 145 (عن محاضرة ألقاها غارودي في جامعة قطر في كانون الثاني ـ 1983 م، بعنوان: الإسلام وأزمة الغرب).
(25) وعود الإسلام، ص 111.
(26) المرجع نفسه، ص 36.
(27) المرجع نفسه، ص 64.
(28) المرجع نفسه، ص 208 ـ 209.
(29) المرجع نفسه، ص 67.
(30) المرجع نفسه، ص 187.
(31) المرجع نفسه، ص 156.
.نوافذ
أضافة تعليق