د. عماد الدين خليل
هذا على مستوى الفكر الإسلامي عامة.. أما على مستوى الفكر التاريخي والكتابة
في حقل التاريخ الإسلامي، فإن المنهج يغدو ضربة لازب .. إذا ما أردنا بحق أن نستعيد معطيات هذا التاريخ ونجعلها أكثر قدرة على التكشف والوضوح، وأشد قرباً من البيئة التي تخلّقت فيها، وأعمق انسجاماً مع المناخ الذي تنفست فيه واستوت على سوقها.. ضربة لازب لأكثر من سبب:
أولاً: غياب الهدف وانعدام الرؤية للكثير من مؤلفاتنا التاريخية القديمة والحديثة.. أي على مستوى المصادر والمراجع على السواء، يقابل ذلك فوضى وارتجال وتخبط، كانت تعاني منها ـ ولا تزال ـ الكثير من هذه المؤلفات.
ثانياً: غياب الحسّ النقدي، أو عدم حضوره بشكل مؤكد، في معظم الأعمال التاريخية، على خلاف ما كان يحدث في ساحة المعارف الأخرى وبخاصة الحديث والمنطق والفلسفة .. إلى آخره.. يقابل ذلك استسلام عجيب وصل ببعض المؤرخين الكبار أنفسهم حدّ تقبل الكذب والخرافات والأضاليل والأوهام.
ثالثاً: طغيان النزعة (التجميعية) التي دفعت بعض المؤرخين القدماء وعدداً من
المؤرخين المحدثين إلى تحقيق نوع من التوسع الكمي الذي يُقبل، من أجل تحقيق تضخّمه المنشود، كل خبر أو رواية .. ويجيء ذلك على حساب نوعية الإنجاز التاريخي ومنهجيته وقدرته على التركيز والاختزال.
رابعاً: فقدان الأسلوب التركيبي الذي يعرف كيف يجمع الوقائع التاريخية ذات النسغ الواحد والمسار المتوحد، في نسيج تركيبي يمكن المؤرخ من إضاءة ملامحه وتعميق خطوطها وقسماتها، ومنحها المعنى والمغزى المستمد من خامة النسيج نفسه .. بدلاً من ذلك التداخل المهوّش بين الوقائع، والتقاطع بين أنماطها المتباينة، حيث يصعب على المرء أن يتبين الخطوط المميزة لهذا الحشد من التجارب التاريخية أو ذاك.
خامساً: تعرض المعطيات التاريخية لسيلٍ لا يرحم من التأثيرات (الذاتية) على حساب
(الموضوع)، أو من خلال الموضوع الذي اتخذ مركباً لعبور الأهواء والظنون والمصالح والتحزبات .. الأمر الذي غيّر من مكونات الواقعة التاريخية من جهة، وأضاف إليها ـ من جهة أخرى ـ الكثير الكثير مما لم يكن من صلب تكوينها.. فكان ذلك التزوير والتزييف الذي غطى على مجرى الرواية التاريخية في كثير من مساحاته.
سادساً: غياب المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تعضيد التأليف التاريخي وتوجيهه ووضع أولوياته، على خلاف ما كان يحدث في بعض حقول المعارف الإنسانية الأخرى، وبخاصة الفلسفة والجغرافيا.
سابعاً: انطفاء آخر شمعات الفكر التاريخي في قرون الظلام الحضاري الذي لّف عالم الإسلام قبيل انبثاق الفجر الجديد.. وظهور ذلك الانقطاع المحزن في حقل الإنجاز التاريخي، وتلك الهوة العميقة بين معطيات الأجداد والأحفاد، والتي لعبت دوراً سلبياً ولا ريب في تمكين الفكر التاريخي من مواصلة مسيرة النضج والاكتمال.
ثامناً: السبق الزمني الذي مارسه الغربيون في أعقاب هذا الانقطاع، فأخذوا بذلك زمام المبادرة في التعامل مع تاريخنا الإسلامي كشفاً وإضاءة وتحقيقاً ونقداً وتركيباً .. ولكن بمناهجهم وأساليبهم وطرائقهم التي ألحقت بمعطياتنا التاريخية كسوراً وشروخاً وتناقضات ليس من السهولة إزالة آثارها المدمرة، دون اعتماد منهج أصيل قدير على حمل الأمانة والقيام بالمهمة الصعبة.
تاسعاً: غياب الرؤية الإسلامية الأصيلة لدى معظم أبناء الجيل الأول والثاني من المؤرخين المسلمين المحدثين أنفسهم .. فلم يكونوا في حقيقة الأمر سوى امتداد للمدرسة الاستشراقية الغربية، ولم يفعلوا سوى أن أضافوا إلى الكسور التي أحدثتها في مسار التاريخ الإسلامي كسوراً .. والرؤية الإسلامية هي المفتاح الذي لابدّ منه لدخول ساحة التاريخ الإسلامي، وبدونه لن يتحقق دخول مشروع.
عاشراً: ظهور المدرسة المادية التاريخية وانتشارها وكسبها الكثير من الأتباع والمعجبين، ومحاولة إقحام مقولاتها الصارمة، الفجة، في مجرى تاريخنا الإسلامي نقداً وتركيباً ..
وثمة أسباب أخرى كثيرة، أقل أهمية، تجعل من حضور منهج للفكر والنشاط التاريخيين ضرورة ملحة ..
والآن فإن محاولات عديدة، لحسن الحظ، شهدتها العقود الأخيرة من هذا القرن، استهدفت التحقق بالمنهجية المنشودة.. على مستوى الأفراد والمؤسسات، وهذا يدل على تزايد الوعي التاريخي الذي كان يعاني في الفترة السابقة من التسطح والضحالة والغياب.
إلا أن معظم تلك المحاولات لم تأت بطائل، فما أن مضت خطوات حتى توقفت
وأعلنت، بلسان الحال أو بلسان المقال، عجزها عن مواصلة الطريق: مؤسسات حكومية، وقيادات فكرية، وجامعات عربية، ومنظمات ثقافية، وتجمعات تخصصية، وأفراد متفرقون هنا وهناك .. كلهم دعوا إلى (المنهج) .. وإلى ما أسموه إعادة كتابة التاريخ .. وقاموا ببعض المحاولات الأولية وطرحوا بعض الإضاءات.. وليس ثمة أكثر من هذا.. ومضت الدعوة إلى اعتماد المنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ تصدر من هنا أو هناك، ملحة في الطلب، مؤكدة القول .. وهي دعوة تؤكد ـ مهما كانت النيات التي تختبئ وراءها ـ حضور الوعي التاريخي، وتكشفه وانتشاره .. وتعزّز الوجهة العلمية القائلة بأن اكتشاف قدرات أمة من الأمم وتمكينها من (المعاصرة) و (الحركة) صوب المستقبل، والاستجابة للتحديات، والتفوق عليها، لا يتحقق إلا بالرجوع إلى التاريخ وكشف النقاب عن معطياته وملامحه ومؤشراته .. الأمر الذي لم يكن، في النصف الأول من القرن الماضي، على هذه الدرجة من الوضوح والتأكيد، يوم كان يُرى في الالتفات صوب الماضي، على أثر الصدمة الحضارية الغربية، نوع من الانتحار الزمني في عصر سباق الحضارات، وكان يُرى فيه نزوع رجعي ، وغياب عن العصر ، وعرقلة للتوجه المستقبلي..
ويوم أن كانت ذيول المدرسة المادية التاريخية تطرح بفجاجة وسخف مقولتها الخاطئة بضرورة تجاوز التوجه التاريخي، وقطع الجذور، وإلغاء مقولات المسيرة، والانطلاق من نقطة الصفر الزمنية صوب المستقبل!!
اليوم، غابت هذه الرؤى التي ينفيها العلم بحقائق الأشياء .. واليوم اختنقت تلك الأصوات التي لم تكن تملك سبباً للبقاء والاستمرار ..
واليوم تحل محل هذا وذاك تلك الدعوات الملحة التي تصدر ـ كما رأينا ـ عن العديد من مراكز الثقل والتوجيه والفاعلية: أكاديمياً وعقائدياً وسياسياً.. الأمر الذي يؤكد حضور
(التاريخ) في نسيج وجودنا الحاضر وحتمية اعتماد مكوناته في لحمة هذا النسيج وسداه، حيث لا يكف النول عن الذهاب والإياب ..
ترى ـ يتساءل المرء ـ: لماذا لم تستطع أية محاولة من هذه المحاولات أن تواصل الطريق وأن تحقق هدفها المنشود؟
إن الدعوة إلى التحقق بالمنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ، أو ـ بعبارة أدق ـ إعادة عرضه وتحليله، ليست طريقاً مسدوداً.. فلماذا كان هذا الذي كان؟
ثمة أسباب عديدة وقفت ـ ولا تزال ـ في طريق هذا الهدف، ونحن إن عرفناها جيداً فكأننا نكون قد عرفنا مواطن الداء فسهل علينا انتقاء الدواء ..
فمن هذه الأسباب، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: عدم وضوح الرؤية بالنسبة لطبيعة العمل. فمن قائل بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، واعتماد بنية جديدة لوقائعه وصيرورته ترفض بالكلية ما قدمه مؤرخنا القديم، ومن قائل بضرورة اعتماد صيغة انتقائية تأخذ بهذا وترفض ذاك، ومن قائل بضرورة إعادة تفسير وتحليل معطيات هذا التاريخ بدلاً من إعادة تركيبه.. وآخرون لا يعرفون على وجه الدقة واليقين ما الذي يقصدونه بالعمل المنشود؛ لأن الضباب يلّف تصورهم فلا يتيح لهم الفرصة لاستبانة ملامح الطريق ..
ثانياً: ومما يرتبط بهذا، غياب المنهج وضعف القدرة على التخطيط.. فقد تتضح الرؤية أحياناً، وتتحدد طبيعة العمل، وتتكشف أبعاده .. لكن أسلوب العمل وطرائقه.. المنهج ـ بعبارة أخرى ـ غير متحقق.. ونحن قوم ـ ولنقلها بصراحة ـ نعاني ضعفاً في قدراتنا التخطيطية، ليس هنا مجال استعراض أسبابه، ولشد ما ينعكس هذا الضعف على عدم طرح برنامج عمل محدد الخطوات، مكتمل المفردات، مثبت الأهداف والغايات.
ثالثاً: ونحن قوم نعاني ـ كذلك ـ من فقدان الروح الجماعية التي علمنا إياها هذا الدين وربانا عليها وألزمنا بها، ولكنا تخلينا عن الكثير من مقولاتها ومواضعاتها، وتجمدت تقاليدنا على صيغ فردية قد تبلغ حد الأثرة والأنانية في كثير من الأحيان، فتمحو القدرة على التوجه الجماعي الذي تتكامل فيه الطاقات، وتتضافر القدرات، ويتدفق العطاء لكي يصب في الهدف الواحد ..
والمشاريع الكبيرة في ميادين العقيدة أو الفكر أو العمران والاقتصاد، لهي بأمس الحاجة إلى هذه الروح الجماعية التي يعرف الغربيون كيف يعتمدون عليها لتحقيق الأعاجيب والمعجزات في ميادين الإنجاز .. وإعادة عرض التاريخ الإسلامي، أو تحليله، عمل كبير .. ويوم نتحقق ثانية بروح الفريق، كما أراد لنا الإسلام أن نكون، يوم نتجاوز الفرديات والحساسيات والأنانيات صوب ما هو أكبر وأشمل .. حينذاك نستطيع أن نضع خطواتنا على الطريق ..
رابعاً: غياب التوحد في الرؤية .. فليس بمقدور فريق من المؤرخين يتجه بعضهم يميناً ويمضي بعضهم الآخر شمالاً، أن يحققوا الهدف المنشود.. وكيف سيكون العمل، الذي يفترض أن يتوحد نسيجه، كيف سيكون إذا كان بعض النسّاجين ليبرالياً، وكان بعضهم الآخر مادياً وكان بعضهم الثالث إثنّياً، وكان بعضهم الرابع إقليمياً، وكان بعضهم الخامس مصلحياً؟ كيف يتحقق مشروع يُراد منه تقديم تحليل متوحّد لمجرى التاريخ الإسلامي، إذا كانت بعض مساحاته منسوجة بالقطن وأخرى بالصوف وثالثة بالديولين ورابعة بالحرير؟
إنه لأمر مستحيل .. بل هو مدعاة للسخرية يقيناً.
خامساً: وثمة ما يُراد أحياناً بمشروع كهذا: احتواؤه عقيدياً وتوظيفه من أجل هذه الأيديولوجية أو تلك .. وهذا نقيض الموضوعية .. والموضوعية شرط حاسم من شروط البحث العلمي الجاد .. ثم إن محاولات كهذه قد تملك المال والقدرة، ولكنها لا تملك النفس الطويل الذي يمكنها من المضي في الطريق حتى نهايته .. ذلك أنها رهينة بظروف مرحلية ومتغيرات زمنية.. وسرعان ما تتوقف بتحوّل صيغ معادلات الظروف المرحلية والمتغيرات الزمنية.
سادساً: وقد يرتبط بهذا انعدام النية الصادقة وتحويل الدعوة إلى عمل دعائي صرف .. والأعمال بالنيات ـ كما يقول رسولنا عليه السلام ـ ولكل امرى ما نوى .. وإذا طال الطريق بين النية والفعل، بسبب ضخامة العمل وانفساح المدى، فلا تُؤتمن العواقب، وربما يُكتفى بالمظاهر السريعة الخادعة بدلاً من الجوهر المخبوء، صعب المنال..
سابعاً: وقد تلعب الحواجز الجغرافية والسياسية بين مؤرخي عالم الإسلام، والتي يتزايد بمرور الأيام، دورها في إعاقة المهمة وعرقلة مضيّها إلى الهدف المرتجى .. فكلما تنادى حشد من المؤرخين.. هنا .. وهناك .. وهنالك، لتنفيذ هذا المطلب الملح، وجدوا
في طريقهم من الأسلاك الشائكة والعقابيل، ما يجعل تحركهم صعباً قاسياً ومهمتهم مستحيلة، فيكفون عن الإدلاج فيما لا بادرة ضوء فيه، ويعودون من حيث جاؤوا.
ثامناً: يرتبط بهذا ـ أحياناً ـ نقص ملحوظ في الاختصاصات وعدم تكاملها أحياناً .. فهي
قد تتزايد في جانب ما وتشح في جانب آخر.. تبرز وتطغى في هذه المرحلة
وتنزوي وتذوى في مرحلة أخرى.. والأعمال الجماعية، ما لم تتحقق بالتوازن
والتكامل والتغطية لكافة الجوانب والمساحات، فلن يُرجى تنفيذها.. وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، أو عرضه وتحليله مشروع كبير، فما لم تتبنه وتدعمه مؤسسة قديرة على لمّ الطاقات وتوفير الاختصاصات المتكاملة وتوازنها .. باء بالفشل المحتوم .. ولهذا كان هذا الإخفاق المحتوم مصير عدد من المحاولات التي لا تملك دعماً يمكنها من التكامل .. وسيكون ..
تاسعاً: وما يُقال عن هذا يمكن أن يُقال عن قلة الامكانات المادية والفنية لكل مشروع يدّعي القدرة على العمل بعيداً عن الدعم والإسناد .. والإمكانات المادية والفنية ضرورة من ضرورات المشاريع الفكرية الكبيرة، وإلا كنا كمن يرجو من ماكنة ضخّ لا تتجاوز العشرين حصاناً أن تسقي مزرعة تمتد مسافاتها إلى مئات الأفدنة وألوفها ..
عاشراً: وثمة أخيراً ـ وليس آخراً ـ ذلك الإحساس المتزايد بالإحباط، والذي يتراكم إثر إخفاق كل محاولة، وإخفاق كل مشروع بعد أن يمضي خطوات فحسب في الطريق .. وهو إحساس ذو تأثير سيئ غاية السوء، يوحي فيما يوحي بخطأ الفكرة واستحالة تحققها، ويكبّل الإرادة المسلمة من الداخل بالغلّ الذي يشلّها عن التهيؤ، وشحن الطاقة، والانطلاق لتنفيذ الأعمال الكبيرة.
وما لم نتداع لإنقاذ الدعوة من مزيد من الورطات والمطّبات والإخفاق، فإن الإحساس بالاحباط سينتزع المبادرة من أيدينا وسيسلمنا إلى الشلل المحتوم.
وبالتحقق بالبدائل في مقابل هذا كله يمكن أن نضع خطواتنا على الطريق ونمضي بجدّ إلى هدفنا المنشود.
أن تكون رؤيتنا لطبيعة العمل على قدر كبير من النقاء والتكشف والوضوح، وأن نملك منهجاً سليماً للعمل، وقدرات ذكية على البرمجة والتخطيط .. وأن تنمو في سلوكنا وتتغلغل في دمنا وشراييننا روح الفريق كما أراد لنا ديننا أن نكون، هنالك حيث تذوب المصالح الخاصة والتوجهات الفردية والحساسيات الذاتية والأنانيات، وحيث تكون روح الجماعة وحدها هي المؤشر والدليل.
كذلك يتوجب أن تتوحد رؤيتنا، وأن يمسك بها قاسم عقديّ مشترك يمنعها من التفتت والتناقض والتصادم والارتطام، يمنعها من أن يضرب بعضها بعضاً، وينفي بعضها بعضاً.. منطلق واحد وتوجه واحد ونسيج واحد في العطاء تركيباً وتحليلاً ..
أن يمسك العمل بتلابيب الموضوعية من بدء المسيرة حتى منتهاها.. إن الموضوعية هنا تعني (العلمية) وبدونها لن تتأتى النتائج المرجوة منبثقة عن رحم التاريخ نفسه، كما تخلقت وقائعها في الزمن والمكان .. لا كما يُراد لها أن تكون.
والنية المخلصة الصادقة، من وراء العمل، أمر ضروري، بل هي ضربة لازب إذا ما أريد للمحاولة أن تكون شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. وإلا فليس ثمة إلا الشجرة الخبيثة التي ما لها من قرار، تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال رياح التشريق والتغريب، وتتقاذفها عواصف الأهواء والنزعات والميول.
أما زوال الحواجز الجغرافية والسياسية فهو أمر يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، ولكننا إذا ما تذكرنا أننا في عصر السرعة، والاختزال، والاتصالات الخاطفة، والآلات الحاسبة، والمواصلات السريعة، والتيسيرات المدنية التي تتزايد طرداً بمرور الأيام.. وأننا في عصر الإنترنت والتواصل الثقافي والإعلامي اليومي، دقيقة بدقيقة وساعة بساعة، أدركنا أن المعادلة قد لا تكون في غير صالحنا، وأن هنالك من القدرات والإمكانات ما يمكن توظيفه لضرب الحواجز وقطع الأسلاك الشائكة وإزالة المتاريس .. هنالك حيث يمكن أن يلتقي بعضنا ببعض، وأن نعمل سوية كفريق واحد يتداعى لاعبوه المتمرسون من كل مكان من أجل تحقيق الفوز بأي ثمن كان!!
ومسألة تكامل الاختصاصات وتحقيق التغطية المتوازنة الشاملة لكافة مساحات المشروع، أمر ليس صعب المنال، ونحن في عصر (الأكاديمية) إذ يزداد الخريجون المتخصصون، سنة بعد سنة، ويوماً بعد يوم، بمعدل متواليات هندسية وليست حسابية على أية حال.. صحيح أن هذا التدفق الأكاديمي قد يطرح كميات لا تتضمن قدراً طيباً من التميز النوعي، إلا أنها ـ على أية حال ـ فرصة طيبة لتزايد العناصر الممتازة القديرة على الفعل الصادق والتنفيذ الذكي المرسوم.
أما قلة الإمكانات المادية والفنية فهي -ولا ريب- أقل الموانع شأناً؛ لأن إيجاد الشروط المادية الفنية وتوظيفها لخدمة المشروع، أمر سهل المنال يسير التحقيق في بلاد تملك الكثير وتقدر على استيراد الكثير ..
ويوم أن تتحقق هذه البدائل الإيجابية، وتوضع اللمسات الأولى، وتنطلق الخطوات على الطريق مغذّة السير صوب الهدف.. يومها لن يكون ثمة إحساس بالإحباط يشل الفاعلية ويكبل الخطا عن الانطلاق .. على العكس فإن الإنجاز الذي ستنفذه المحاولة سيحقق نوعاً من التسارع في القدرة على الفعل .. هنالك حيث تُختصر المسافات، وتُختزل حيثيات الزمان والمكان..
.نوافذ
هذا على مستوى الفكر الإسلامي عامة.. أما على مستوى الفكر التاريخي والكتابة
في حقل التاريخ الإسلامي، فإن المنهج يغدو ضربة لازب .. إذا ما أردنا بحق أن نستعيد معطيات هذا التاريخ ونجعلها أكثر قدرة على التكشف والوضوح، وأشد قرباً من البيئة التي تخلّقت فيها، وأعمق انسجاماً مع المناخ الذي تنفست فيه واستوت على سوقها.. ضربة لازب لأكثر من سبب:
أولاً: غياب الهدف وانعدام الرؤية للكثير من مؤلفاتنا التاريخية القديمة والحديثة.. أي على مستوى المصادر والمراجع على السواء، يقابل ذلك فوضى وارتجال وتخبط، كانت تعاني منها ـ ولا تزال ـ الكثير من هذه المؤلفات.
ثانياً: غياب الحسّ النقدي، أو عدم حضوره بشكل مؤكد، في معظم الأعمال التاريخية، على خلاف ما كان يحدث في ساحة المعارف الأخرى وبخاصة الحديث والمنطق والفلسفة .. إلى آخره.. يقابل ذلك استسلام عجيب وصل ببعض المؤرخين الكبار أنفسهم حدّ تقبل الكذب والخرافات والأضاليل والأوهام.
ثالثاً: طغيان النزعة (التجميعية) التي دفعت بعض المؤرخين القدماء وعدداً من
المؤرخين المحدثين إلى تحقيق نوع من التوسع الكمي الذي يُقبل، من أجل تحقيق تضخّمه المنشود، كل خبر أو رواية .. ويجيء ذلك على حساب نوعية الإنجاز التاريخي ومنهجيته وقدرته على التركيز والاختزال.
رابعاً: فقدان الأسلوب التركيبي الذي يعرف كيف يجمع الوقائع التاريخية ذات النسغ الواحد والمسار المتوحد، في نسيج تركيبي يمكن المؤرخ من إضاءة ملامحه وتعميق خطوطها وقسماتها، ومنحها المعنى والمغزى المستمد من خامة النسيج نفسه .. بدلاً من ذلك التداخل المهوّش بين الوقائع، والتقاطع بين أنماطها المتباينة، حيث يصعب على المرء أن يتبين الخطوط المميزة لهذا الحشد من التجارب التاريخية أو ذاك.
خامساً: تعرض المعطيات التاريخية لسيلٍ لا يرحم من التأثيرات (الذاتية) على حساب
(الموضوع)، أو من خلال الموضوع الذي اتخذ مركباً لعبور الأهواء والظنون والمصالح والتحزبات .. الأمر الذي غيّر من مكونات الواقعة التاريخية من جهة، وأضاف إليها ـ من جهة أخرى ـ الكثير الكثير مما لم يكن من صلب تكوينها.. فكان ذلك التزوير والتزييف الذي غطى على مجرى الرواية التاريخية في كثير من مساحاته.
سادساً: غياب المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تعضيد التأليف التاريخي وتوجيهه ووضع أولوياته، على خلاف ما كان يحدث في بعض حقول المعارف الإنسانية الأخرى، وبخاصة الفلسفة والجغرافيا.
سابعاً: انطفاء آخر شمعات الفكر التاريخي في قرون الظلام الحضاري الذي لّف عالم الإسلام قبيل انبثاق الفجر الجديد.. وظهور ذلك الانقطاع المحزن في حقل الإنجاز التاريخي، وتلك الهوة العميقة بين معطيات الأجداد والأحفاد، والتي لعبت دوراً سلبياً ولا ريب في تمكين الفكر التاريخي من مواصلة مسيرة النضج والاكتمال.
ثامناً: السبق الزمني الذي مارسه الغربيون في أعقاب هذا الانقطاع، فأخذوا بذلك زمام المبادرة في التعامل مع تاريخنا الإسلامي كشفاً وإضاءة وتحقيقاً ونقداً وتركيباً .. ولكن بمناهجهم وأساليبهم وطرائقهم التي ألحقت بمعطياتنا التاريخية كسوراً وشروخاً وتناقضات ليس من السهولة إزالة آثارها المدمرة، دون اعتماد منهج أصيل قدير على حمل الأمانة والقيام بالمهمة الصعبة.
تاسعاً: غياب الرؤية الإسلامية الأصيلة لدى معظم أبناء الجيل الأول والثاني من المؤرخين المسلمين المحدثين أنفسهم .. فلم يكونوا في حقيقة الأمر سوى امتداد للمدرسة الاستشراقية الغربية، ولم يفعلوا سوى أن أضافوا إلى الكسور التي أحدثتها في مسار التاريخ الإسلامي كسوراً .. والرؤية الإسلامية هي المفتاح الذي لابدّ منه لدخول ساحة التاريخ الإسلامي، وبدونه لن يتحقق دخول مشروع.
عاشراً: ظهور المدرسة المادية التاريخية وانتشارها وكسبها الكثير من الأتباع والمعجبين، ومحاولة إقحام مقولاتها الصارمة، الفجة، في مجرى تاريخنا الإسلامي نقداً وتركيباً ..
وثمة أسباب أخرى كثيرة، أقل أهمية، تجعل من حضور منهج للفكر والنشاط التاريخيين ضرورة ملحة ..
والآن فإن محاولات عديدة، لحسن الحظ، شهدتها العقود الأخيرة من هذا القرن، استهدفت التحقق بالمنهجية المنشودة.. على مستوى الأفراد والمؤسسات، وهذا يدل على تزايد الوعي التاريخي الذي كان يعاني في الفترة السابقة من التسطح والضحالة والغياب.
إلا أن معظم تلك المحاولات لم تأت بطائل، فما أن مضت خطوات حتى توقفت
وأعلنت، بلسان الحال أو بلسان المقال، عجزها عن مواصلة الطريق: مؤسسات حكومية، وقيادات فكرية، وجامعات عربية، ومنظمات ثقافية، وتجمعات تخصصية، وأفراد متفرقون هنا وهناك .. كلهم دعوا إلى (المنهج) .. وإلى ما أسموه إعادة كتابة التاريخ .. وقاموا ببعض المحاولات الأولية وطرحوا بعض الإضاءات.. وليس ثمة أكثر من هذا.. ومضت الدعوة إلى اعتماد المنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ تصدر من هنا أو هناك، ملحة في الطلب، مؤكدة القول .. وهي دعوة تؤكد ـ مهما كانت النيات التي تختبئ وراءها ـ حضور الوعي التاريخي، وتكشفه وانتشاره .. وتعزّز الوجهة العلمية القائلة بأن اكتشاف قدرات أمة من الأمم وتمكينها من (المعاصرة) و (الحركة) صوب المستقبل، والاستجابة للتحديات، والتفوق عليها، لا يتحقق إلا بالرجوع إلى التاريخ وكشف النقاب عن معطياته وملامحه ومؤشراته .. الأمر الذي لم يكن، في النصف الأول من القرن الماضي، على هذه الدرجة من الوضوح والتأكيد، يوم كان يُرى في الالتفات صوب الماضي، على أثر الصدمة الحضارية الغربية، نوع من الانتحار الزمني في عصر سباق الحضارات، وكان يُرى فيه نزوع رجعي ، وغياب عن العصر ، وعرقلة للتوجه المستقبلي..
ويوم أن كانت ذيول المدرسة المادية التاريخية تطرح بفجاجة وسخف مقولتها الخاطئة بضرورة تجاوز التوجه التاريخي، وقطع الجذور، وإلغاء مقولات المسيرة، والانطلاق من نقطة الصفر الزمنية صوب المستقبل!!
اليوم، غابت هذه الرؤى التي ينفيها العلم بحقائق الأشياء .. واليوم اختنقت تلك الأصوات التي لم تكن تملك سبباً للبقاء والاستمرار ..
واليوم تحل محل هذا وذاك تلك الدعوات الملحة التي تصدر ـ كما رأينا ـ عن العديد من مراكز الثقل والتوجيه والفاعلية: أكاديمياً وعقائدياً وسياسياً.. الأمر الذي يؤكد حضور
(التاريخ) في نسيج وجودنا الحاضر وحتمية اعتماد مكوناته في لحمة هذا النسيج وسداه، حيث لا يكف النول عن الذهاب والإياب ..
ترى ـ يتساءل المرء ـ: لماذا لم تستطع أية محاولة من هذه المحاولات أن تواصل الطريق وأن تحقق هدفها المنشود؟
إن الدعوة إلى التحقق بالمنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ، أو ـ بعبارة أدق ـ إعادة عرضه وتحليله، ليست طريقاً مسدوداً.. فلماذا كان هذا الذي كان؟
ثمة أسباب عديدة وقفت ـ ولا تزال ـ في طريق هذا الهدف، ونحن إن عرفناها جيداً فكأننا نكون قد عرفنا مواطن الداء فسهل علينا انتقاء الدواء ..
فمن هذه الأسباب، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: عدم وضوح الرؤية بالنسبة لطبيعة العمل. فمن قائل بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، واعتماد بنية جديدة لوقائعه وصيرورته ترفض بالكلية ما قدمه مؤرخنا القديم، ومن قائل بضرورة اعتماد صيغة انتقائية تأخذ بهذا وترفض ذاك، ومن قائل بضرورة إعادة تفسير وتحليل معطيات هذا التاريخ بدلاً من إعادة تركيبه.. وآخرون لا يعرفون على وجه الدقة واليقين ما الذي يقصدونه بالعمل المنشود؛ لأن الضباب يلّف تصورهم فلا يتيح لهم الفرصة لاستبانة ملامح الطريق ..
ثانياً: ومما يرتبط بهذا، غياب المنهج وضعف القدرة على التخطيط.. فقد تتضح الرؤية أحياناً، وتتحدد طبيعة العمل، وتتكشف أبعاده .. لكن أسلوب العمل وطرائقه.. المنهج ـ بعبارة أخرى ـ غير متحقق.. ونحن قوم ـ ولنقلها بصراحة ـ نعاني ضعفاً في قدراتنا التخطيطية، ليس هنا مجال استعراض أسبابه، ولشد ما ينعكس هذا الضعف على عدم طرح برنامج عمل محدد الخطوات، مكتمل المفردات، مثبت الأهداف والغايات.
ثالثاً: ونحن قوم نعاني ـ كذلك ـ من فقدان الروح الجماعية التي علمنا إياها هذا الدين وربانا عليها وألزمنا بها، ولكنا تخلينا عن الكثير من مقولاتها ومواضعاتها، وتجمدت تقاليدنا على صيغ فردية قد تبلغ حد الأثرة والأنانية في كثير من الأحيان، فتمحو القدرة على التوجه الجماعي الذي تتكامل فيه الطاقات، وتتضافر القدرات، ويتدفق العطاء لكي يصب في الهدف الواحد ..
والمشاريع الكبيرة في ميادين العقيدة أو الفكر أو العمران والاقتصاد، لهي بأمس الحاجة إلى هذه الروح الجماعية التي يعرف الغربيون كيف يعتمدون عليها لتحقيق الأعاجيب والمعجزات في ميادين الإنجاز .. وإعادة عرض التاريخ الإسلامي، أو تحليله، عمل كبير .. ويوم نتحقق ثانية بروح الفريق، كما أراد لنا الإسلام أن نكون، يوم نتجاوز الفرديات والحساسيات والأنانيات صوب ما هو أكبر وأشمل .. حينذاك نستطيع أن نضع خطواتنا على الطريق ..
رابعاً: غياب التوحد في الرؤية .. فليس بمقدور فريق من المؤرخين يتجه بعضهم يميناً ويمضي بعضهم الآخر شمالاً، أن يحققوا الهدف المنشود.. وكيف سيكون العمل، الذي يفترض أن يتوحد نسيجه، كيف سيكون إذا كان بعض النسّاجين ليبرالياً، وكان بعضهم الآخر مادياً وكان بعضهم الثالث إثنّياً، وكان بعضهم الرابع إقليمياً، وكان بعضهم الخامس مصلحياً؟ كيف يتحقق مشروع يُراد منه تقديم تحليل متوحّد لمجرى التاريخ الإسلامي، إذا كانت بعض مساحاته منسوجة بالقطن وأخرى بالصوف وثالثة بالديولين ورابعة بالحرير؟
إنه لأمر مستحيل .. بل هو مدعاة للسخرية يقيناً.
خامساً: وثمة ما يُراد أحياناً بمشروع كهذا: احتواؤه عقيدياً وتوظيفه من أجل هذه الأيديولوجية أو تلك .. وهذا نقيض الموضوعية .. والموضوعية شرط حاسم من شروط البحث العلمي الجاد .. ثم إن محاولات كهذه قد تملك المال والقدرة، ولكنها لا تملك النفس الطويل الذي يمكنها من المضي في الطريق حتى نهايته .. ذلك أنها رهينة بظروف مرحلية ومتغيرات زمنية.. وسرعان ما تتوقف بتحوّل صيغ معادلات الظروف المرحلية والمتغيرات الزمنية.
سادساً: وقد يرتبط بهذا انعدام النية الصادقة وتحويل الدعوة إلى عمل دعائي صرف .. والأعمال بالنيات ـ كما يقول رسولنا عليه السلام ـ ولكل امرى ما نوى .. وإذا طال الطريق بين النية والفعل، بسبب ضخامة العمل وانفساح المدى، فلا تُؤتمن العواقب، وربما يُكتفى بالمظاهر السريعة الخادعة بدلاً من الجوهر المخبوء، صعب المنال..
سابعاً: وقد تلعب الحواجز الجغرافية والسياسية بين مؤرخي عالم الإسلام، والتي يتزايد بمرور الأيام، دورها في إعاقة المهمة وعرقلة مضيّها إلى الهدف المرتجى .. فكلما تنادى حشد من المؤرخين.. هنا .. وهناك .. وهنالك، لتنفيذ هذا المطلب الملح، وجدوا
في طريقهم من الأسلاك الشائكة والعقابيل، ما يجعل تحركهم صعباً قاسياً ومهمتهم مستحيلة، فيكفون عن الإدلاج فيما لا بادرة ضوء فيه، ويعودون من حيث جاؤوا.
ثامناً: يرتبط بهذا ـ أحياناً ـ نقص ملحوظ في الاختصاصات وعدم تكاملها أحياناً .. فهي
قد تتزايد في جانب ما وتشح في جانب آخر.. تبرز وتطغى في هذه المرحلة
وتنزوي وتذوى في مرحلة أخرى.. والأعمال الجماعية، ما لم تتحقق بالتوازن
والتكامل والتغطية لكافة الجوانب والمساحات، فلن يُرجى تنفيذها.. وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، أو عرضه وتحليله مشروع كبير، فما لم تتبنه وتدعمه مؤسسة قديرة على لمّ الطاقات وتوفير الاختصاصات المتكاملة وتوازنها .. باء بالفشل المحتوم .. ولهذا كان هذا الإخفاق المحتوم مصير عدد من المحاولات التي لا تملك دعماً يمكنها من التكامل .. وسيكون ..
تاسعاً: وما يُقال عن هذا يمكن أن يُقال عن قلة الامكانات المادية والفنية لكل مشروع يدّعي القدرة على العمل بعيداً عن الدعم والإسناد .. والإمكانات المادية والفنية ضرورة من ضرورات المشاريع الفكرية الكبيرة، وإلا كنا كمن يرجو من ماكنة ضخّ لا تتجاوز العشرين حصاناً أن تسقي مزرعة تمتد مسافاتها إلى مئات الأفدنة وألوفها ..
عاشراً: وثمة أخيراً ـ وليس آخراً ـ ذلك الإحساس المتزايد بالإحباط، والذي يتراكم إثر إخفاق كل محاولة، وإخفاق كل مشروع بعد أن يمضي خطوات فحسب في الطريق .. وهو إحساس ذو تأثير سيئ غاية السوء، يوحي فيما يوحي بخطأ الفكرة واستحالة تحققها، ويكبّل الإرادة المسلمة من الداخل بالغلّ الذي يشلّها عن التهيؤ، وشحن الطاقة، والانطلاق لتنفيذ الأعمال الكبيرة.
وما لم نتداع لإنقاذ الدعوة من مزيد من الورطات والمطّبات والإخفاق، فإن الإحساس بالاحباط سينتزع المبادرة من أيدينا وسيسلمنا إلى الشلل المحتوم.
وبالتحقق بالبدائل في مقابل هذا كله يمكن أن نضع خطواتنا على الطريق ونمضي بجدّ إلى هدفنا المنشود.
أن تكون رؤيتنا لطبيعة العمل على قدر كبير من النقاء والتكشف والوضوح، وأن نملك منهجاً سليماً للعمل، وقدرات ذكية على البرمجة والتخطيط .. وأن تنمو في سلوكنا وتتغلغل في دمنا وشراييننا روح الفريق كما أراد لنا ديننا أن نكون، هنالك حيث تذوب المصالح الخاصة والتوجهات الفردية والحساسيات الذاتية والأنانيات، وحيث تكون روح الجماعة وحدها هي المؤشر والدليل.
كذلك يتوجب أن تتوحد رؤيتنا، وأن يمسك بها قاسم عقديّ مشترك يمنعها من التفتت والتناقض والتصادم والارتطام، يمنعها من أن يضرب بعضها بعضاً، وينفي بعضها بعضاً.. منطلق واحد وتوجه واحد ونسيج واحد في العطاء تركيباً وتحليلاً ..
أن يمسك العمل بتلابيب الموضوعية من بدء المسيرة حتى منتهاها.. إن الموضوعية هنا تعني (العلمية) وبدونها لن تتأتى النتائج المرجوة منبثقة عن رحم التاريخ نفسه، كما تخلقت وقائعها في الزمن والمكان .. لا كما يُراد لها أن تكون.
والنية المخلصة الصادقة، من وراء العمل، أمر ضروري، بل هي ضربة لازب إذا ما أريد للمحاولة أن تكون شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. وإلا فليس ثمة إلا الشجرة الخبيثة التي ما لها من قرار، تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال رياح التشريق والتغريب، وتتقاذفها عواصف الأهواء والنزعات والميول.
أما زوال الحواجز الجغرافية والسياسية فهو أمر يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، ولكننا إذا ما تذكرنا أننا في عصر السرعة، والاختزال، والاتصالات الخاطفة، والآلات الحاسبة، والمواصلات السريعة، والتيسيرات المدنية التي تتزايد طرداً بمرور الأيام.. وأننا في عصر الإنترنت والتواصل الثقافي والإعلامي اليومي، دقيقة بدقيقة وساعة بساعة، أدركنا أن المعادلة قد لا تكون في غير صالحنا، وأن هنالك من القدرات والإمكانات ما يمكن توظيفه لضرب الحواجز وقطع الأسلاك الشائكة وإزالة المتاريس .. هنالك حيث يمكن أن يلتقي بعضنا ببعض، وأن نعمل سوية كفريق واحد يتداعى لاعبوه المتمرسون من كل مكان من أجل تحقيق الفوز بأي ثمن كان!!
ومسألة تكامل الاختصاصات وتحقيق التغطية المتوازنة الشاملة لكافة مساحات المشروع، أمر ليس صعب المنال، ونحن في عصر (الأكاديمية) إذ يزداد الخريجون المتخصصون، سنة بعد سنة، ويوماً بعد يوم، بمعدل متواليات هندسية وليست حسابية على أية حال.. صحيح أن هذا التدفق الأكاديمي قد يطرح كميات لا تتضمن قدراً طيباً من التميز النوعي، إلا أنها ـ على أية حال ـ فرصة طيبة لتزايد العناصر الممتازة القديرة على الفعل الصادق والتنفيذ الذكي المرسوم.
أما قلة الإمكانات المادية والفنية فهي -ولا ريب- أقل الموانع شأناً؛ لأن إيجاد الشروط المادية الفنية وتوظيفها لخدمة المشروع، أمر سهل المنال يسير التحقيق في بلاد تملك الكثير وتقدر على استيراد الكثير ..
ويوم أن تتحقق هذه البدائل الإيجابية، وتوضع اللمسات الأولى، وتنطلق الخطوات على الطريق مغذّة السير صوب الهدف.. يومها لن يكون ثمة إحساس بالإحباط يشل الفاعلية ويكبل الخطا عن الانطلاق .. على العكس فإن الإنجاز الذي ستنفذه المحاولة سيحقق نوعاً من التسارع في القدرة على الفعل .. هنالك حيث تُختصر المسافات، وتُختزل حيثيات الزمان والمكان..
.نوافذ